surah_name
stringclasses
113 values
revelation_type
stringclasses
2 values
ayah
stringlengths
2
1.15k
tafsir_book
stringclasses
84 values
tafsir_content
stringlengths
0
644k
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ } الظاهر أنه جملة مرفوعة المحل على الخبرية فإن جعل الموصول الأول مفصولاً على أكثر التقادير في الثاني ويتبعه فصله بحسب الظاهر إذ لا يقطع المعطوف عليه دون المعطوف فالخبرية له وإن جعل موصولاً وأريد بالثاني طائفة مما تقدمه وجعل هو مفصولاً كان الإخبار عنه وذكر الخاص بعد العام كما يجوز أن يكون بطريق التشريك بينهما في الحكم السابق ـ أعني**{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2] ـ يجوز أن يكون بطريق إفراده بالحكم عن العام وحينئذٍ تكون الجملة المركبة من الموصول الثاني وجملة الخبر معطوفة على جملة**{ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2] الموصوفين ـ بـ**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }** [البقرة: 3] ـ والجملة الأولى وإن كانت مسوقة لمدح الكتاب والثانية لمدح الموصوفين بالإيمان بجميع الكتب إلا أن مدحهم ليس إلا باعتبار إيمانهم بذلك الكتاب فهما متناسبتان باعتبار إفادة مدحه وفائدة جعل المدح مقصوداً بالذات ترغيب أمثالهم والتعريض على ما قيل بمن ليس على صفتهم والتخصيص المستفاد من المعطوف بالقياس إلى من لم يتصف بأوصافهم فلا ينافي ما استفيد من المعطوف عليه من ثبوت الهدى للمتقين مطلقاً. نعم ليس هذا الوجه في البلاغة بمرتبة فصل الموصول الأول فهو أولى، وعليه تكون الجملة مشيرة إلى جواب سؤال إما عن الحكم أي إن المتقين هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص بالهدى أو عن السبب كأنه قيل ما سبب اختصاصهم أو عن مجموع الأمرين أي هل هم أحقاء بذلك وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك؟ فأجيب بأن هؤلاء لأجل اتصافهم بالصفات المذكورة متمكنون على الهدى الكامل الذي منحهم إياه ربهم تعالى بكتابه. ومعلوم أن العلة مختصة بهم فيكونون مستحقين للاختصاص. فالجواب مشتمل على الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه وضم نتيجة الهدى تقوية للمبالغة التي تضمنها تنكير هدى أو تحقيقاً للحكم بالبرهان الآتي أيضاً ولذا استغنى عن تأكيد النسبة أو الجملة الإسمية مؤكدة. وقد يقال إنه بين الجواب مرتباً عليه مسببيه أعني الهدى والفلاح لأن ذلك أوصل إلى معرفة السبب ولا حاجة حينئذٍ إلى التأكيد، والأمر على التقدير الثالث ظاهر وجعل الجملة مشيرة إلى الجواب على احتمال وصل الأول وفصل الثاني مما لا يخفى انفصاله عن ساحة القبول، وإذا وصل الأول وعطف الثاني تكون هذه الجملة مستأنفة استئنافاً نحوياً، والفصل لكمال الاتصال إذ هي كالنتيجة للصفات السابقة أو بيانياً والفصل لكونها كالمتصلة فكأن سائلاً يقول ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأن سبب اختصاصهم أنه سبحانه قدر في الأزل سعادتهم وهدايتهم فجبلتهم مطبوعة على الهداية والسعيد سعيد في بطن أمه لا سيما إذا انضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب، أو يقال إن الجواب بشرح/ ما انطوى عليه اسمهم إجمالاً من نعوت الكمال وبيان ما تستدعيه من النتيجة أي الذين هذه شؤونهم أحقاء بما هو أعظم من ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا المسلك يسلك تارة بإعادة من استؤنف عنه الحديث ـ كأحسنت إلى زيد ـ زيد حقيق بالإحسان وأخرى بإعادة صفته ـ كأحسنت إلى زيد صديقك القديم ـ أهل لذلك وهذا أبلغ لما فيه من بيان الموجب للحكم وإيراد اسم الإشارة هنا بمنزلة إعادة الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميزه بها وانتظامه لذاك في سلك الأمور المشاهدة مع الإيماء إلى بعد منزلته وعلو درجته. هذا وجعل { أُوْلَـٰئِكَ } وحده خبراً و { عَلَىٰ هُدًى } حال بعيد كجعله بدلاً من ـ**{ ٱلَّذِينَ }** ـ [البقرة: 3] والظرف خبراً. وإنما كتبوا واواً في { أُوْلَـٰئِكَ } للفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور كما قيل، وقيل إنه لما كان مشاراً به لجمع المذكر وكان مبنياً ومبايناً للشائع من صيغ الجموع جبر في الجملة بكتابة حرف يكون في الجمع في بعض الآنات. ومن المشهور ـ " ردوا السائل ولو بظلف محرق " ـ وفي قوله سبحانه: { عَلَىٰ هُدًى } استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك ـ وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به ـ بحال من اعتلى الشيء وركبه ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد، وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفرداً لأن المعاني الحرفية مفردة وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعهما من أمور متعددة وهو يستلزم تركبه. وأبدى قدس سره في الآية ثلاثة أوجه. الأول أنها استعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء. الثاني أن يشبه هيئة منتزعة من المتفي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة { عَلَىٰ } فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تقدر في نظم الكلام فليس في { عَلَىٰ } استعارة أصلاً بل هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها. الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريق الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة { عَلَىٰ } قرينة لها على عكس الوجه الأول. وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل، وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور ـ وكان الحكم نعمان الخوارزمي المعتزلي ـ فحكم ـ والظاهر أنه لأمر ما ـ للسيد السند والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذٍ أن يكون المدلول الحر في لكونه أمراً إضافياً كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة فلجريانها في الحرف تكون تبعية ولكون كل من الطرفين حالة إضافية منتزعة من أمور متعددة تمثيلية، ولعل اختيار القوم في تعريف التمثلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب، وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا ـ " الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية " ـ وفي هذا القدر هنا كفاية. وفي تنكير { هُدًى } إشارة إلى عظمته فلا يعرف حقيقته ومقداره إلا اللطيف الخبير وإنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه تأكيداً لذلك بإسناده إليه جل شأنه، وفيه مناسبة واضحة إذ حيث كان ربهم ناسب أن يهيَّئ لهم أسباب السعادتين ويمنّ عليهم بمصلحة الدارين وقد تكون/ ثم صفة محذوفة أي { عَلَىٰ هُدًى } أي هدى وحذف الصفة لفهم المعنى جائز. وقيل يحتمل أن يكون التنوين للإفراد أي على هدى واحد إذ لا هدى إلا هدى ما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم لنسخه ما قبله. و { مِنْ } لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف أي من هدى ربهم، ومعنى كون ذلك منه سبحانه أنه هو الموفق لهم والمفيض عليهم من بحار لطفه وكرمه وإن توسطت هناك أسباب عادية ووسائط صورية على أن تلك الوسائط قد ترتفع من البين فيتبلج صبح العيان لذي عينين. وقد قرأ ابن هرمز ـ من ربهم ـ بضم الهاء وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء وأدغم النون في الراء بلا غنة الجمهور وعليه العمل، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع الغنة ورووه عن نافع وابن كثير وأبـي عمرو وابن عامر وعاصم وأبـي جعفر ويعقوب، وأظهر النون أبو عون عن قالون، وأبو حاتم عن يعقوب، وهذه الأوجه جارية أيضاً في النون والتنوين إذ لاقت لاماً. { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الفلاح الفوز والظفر بإدراك البغية وأصله الشق والقطع ويشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو ـ فلى وفلق وفلذ ـ وفي تكرار اسم الإشارة إشارة إلى أن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال بالتمكن في الهدى والاستبداد بالفلاح والاختصاص بكل منهما ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع فيوهم تحقق كل واحد منهما بالانفراد فيمن عداهم وإنما دخل العاطف بين الجملتين لكونهما واقعتين بين كمال الاتصال والانفصال لأنهما وإن تناسبا مختلفان مفهوماً ووجوداً فإن الهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة وإثبات كل منهما مقصود في نفسه وبهذا فارقاً قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أُوْلَـئِكَ كَٱلأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ }** [الأعراف: 179] فالثانية فيه مؤكدة للأولى إذ لا معنى للتشبيه إلا بالأنعام المبالغة في الغفلة فلا مجال للعطف بينهما و { هُمْ } يحتمل أن يكون فضلاً أو بدلاً فيكون { ٱلْمُفْلِحُونَ } خبراً عن أولئك أو مبتدأ ـ والمفلحون ـ خبره والجملة خبر {..أُوْلَـٰئِكَ } وهذه الجملة لا تخلو عن إفادة الحصر كما لا يخفى. وقد ذكر غير واحد أن اللام في ـ المفلحون ـ حرف تعريف بناءً على أن المراد الثبات على الفلاح فهو حينئذٍ مما غلبت عليه الإسمية أو ألحق بالصفة المشبهة فهي إما للعهد الخارجي للدلالة على أن المتقين هم الذين بلغك أنهم مفلحون في العقبـى وضمير الفصل إما للقصر ـ أو لمجرد تأكيد النسبة ولا استبعاد في جريان القصر قلباً أو تعييناً بل إفراداً أيضاً أو للجنس ـ فتشير إلى ما يعرفه كل أحد من هذا المفهوم فإن أريد القصر كان الفصل لتأكيد النسبة ولتأكيد الاختصاص أيضاً وإن أريد الاتحاد كان لمجرد تأكيد النسبة. وتشبث المعتزلة والخوارج بهذه الآية لخلود تارك الواجب في العذاب لأن قصر جنس الفلاح على الموصوفين يقتضي انتفاء الفلاح عن تارك الصلاة والزكاة فيكون مخلداً في العذاب وهذا أوهن من بيت العنكبوت فلا يصلح للاستدلال لأن الفلاح عدم الدخول أو لأن انتفاء كمال الفلاح كما يقتضيه السياق، والسباق لا يقتضي انتفاءه مطلقاً ولا حاجة إلى حمل المتقين على المجتنبين للشرك ليدخل العاصي فيهم لأن الإشارة ليست إليهم فقط فلا يجدي نفعاً ككون الصفة مادحة كما لا يخفى، وهٰهنا سر دقيق وهو أنه سبحانه وتعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لباريه بسبب إحسانه إليه وترقى فيه ثم مدح الباري هنا عبده بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوب واحد فسبحانه من آله ماجد كم أسدى جميلاً، وأعطى جزيلاً، وشُكر قليلاً، فله الفضل بلا وعد، وله الحمد بلا حد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ }. اسم الإشارة متوجه إلى**{ المتقين }** البقرة 2 الذين أجرى عليهم من الصفات ما تقدم، فكانوا فريقين. وأصل الإشارة أن تعود إلى ذات مشاهدة معينة إلا أن العرب قد يخرجون بها عن الأصل فتعود إلى ذات مستحضرة من الكلام بعد أن يذكر من صفاتها وأحوالها ما ينزلها منزلة الحاضر في ذهن المتكلم والسامع، فإن السامع إذا وعَى تلك الصفات وكانت مهمة أو غريبة في خير أو ضده صار الموصوف بها كالمشاهد، فالمتكلم يبني على ذلك فيشير إليه كالحاضر المشاهد، فيؤتى بتلك الإشارة إلى أنه لا أوضح في تشخيصه، ولا أغنى في مشاهدته من تعرف تلك الصفات، فتكفي الإشارة إليها، هذا أصل الاستعمال في إيراد الإشارة بعد ذكر صفات مع عدم حضور المشار إليه. ثم إنهم قد يتُبِعون اسمَ الإشارة الوارد بعد تلك الأوصاف بأحكام فيدل ذلك على أن منشأ تلك الأحكام هو تلك الصفات المتقدمة على اسم الإشارة، لأنها لما كانت هي طريق الاستحضار كانت الإشارة لأهل تلك الصفات قائمة مقام الذوات المشار إليها، فكما أن الأحكام الواردة بعد أسماء الذوات تفيد أنها ثابتة للمسميات فكذلك الأحكام الواردة بعد ما هو للصفات تفيد أنها ثبتت للصفات، فكقوله { أولئك على هدى من ربهم } بمنزلة أن يقول إن تلك الأوصاف هي سبب تمكنهم من هدي ربهم إياهم. ونظيره قول حاتم الطائي | **ولله صُعْلُوكٌ يساوِر هَمَّه ويَمضي على الأحداث والدَّهرِ مُقْدِماً فَتَى طَلَبات لا يَرى الخَمص تُرْحة ولا شُبْعَةً إِنْ نالها عَدَّ مغنَماً** | | | | --- | --- | --- | إلى أن قال | **فذلك إن يَهْلِكْ فحُسْنى ثَناؤه وإن عاش لم يقْعُد ضعيفاً مذمماً** | | | | --- | --- | --- | فقوله { أولئك على هدى } جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن السامع إذا سمع ما تقدم من صفات الثناء عليهم ترقب فائدة تلك الأوصاف، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر ضميرهم والإشارة أحسن منه وقعاً لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة فقد حققه التفتزاني في باب الفصل والوصل من الشرح المطول أن الاستئناف بذكر اسم الإشارة أبلغ من الاستئناف الذي يكون بإعادة اسم المستأنف عنه. وهذا التقدير أظهر معنى وأنسب بلاغة وأسعد باستعمال اسم الإشارة في مثل هاته المواقع، لأنه أظهر في كون الإشارة لقصد التنويه بتلك الصفات المشار إليها وبما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم الناشىء عنها، وهذا لا يحصل إلا بجعل اسم الإشارة مبتدأ أول صدر جملة استئناف. فقوله { أولئك على هدى من ربهم } رجوع إلى الإخبار عنهم بأن القرآن هدى لهم والإتيان بحرف الاستعلاء تمثيل لحالهم بأن شبهت هيئة تمكنهم من الهدى وثباتهم عليه ومحاولتهم الزيادة به والسير في طريق الخيرات بهيأة الراكب في الاعتلاء على المركوب والتمكن من تصريفه والقدرة على إراضته فشبهت حالتهم المنتزعة من متعدد بتلك الحالة المنتزعة من متعدد تشبيهاً ضمنياً دل عليه حرف الاستعلاء لأن الاستعلاء أقوى أنواع تمكن شيء من شيء، ووجه جعلنا إياها مؤذنة بتقدير مركوب دون كرسي أو مسطبة مثلاً، لأن ذلك هو الذي تسبق إليه أفهامهم عند سماع ما يدل على الاستعلاء، إذ الركوب هو أكثر أنواع استعلائهم فهو الحاضر في أذهانهم، ولذلك تراهم حين يصرحون بالمشبه به أو يرمزون إليه ما يذكرون إلا المركوب وعلائقه، فيقولون جعل الغَواية مركباً وامتطى الجهل وفي «المقامة» «لما اقتعدتُ غارب الاغتراب وقالوا في الأمثال ركب متن عمياء، تخبط خبط عشواء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل الغنوي | **فإن يكُ عامر قد قال جَهْلا فإن مَطِيَّةَ الجَهْلِ الشبابُ** | | | | --- | --- | --- | فتكون كلمة «على» هنا بعض المركب الدال على الهيأة المشبه بها على وجه الإيجاز وأصله أولئك على مطية الهدى فهي تمثيلية تصريحية إلا أن المصرح به بعض المركّب الدال لا جميعه. هكذا قرر كلام «الكشاف» فيها شارحوه والطيبي، والتحتاني والتفتزاني والبيضاوي. وذهب القزويني في «الكشف» والسيد الجرجاني إلى أن الاستعارة في الآية تبعية مقيدة بأن شبه التمسك بالهدى عند المتقين بالتمكن من الدابة للراكب، وسرى التشبيه إلى معنى الحرف وهو علَى، وجوز السيد وجهاً ثالثاً وهو أن يكون هنا استعارة مكنية مفردة بأن شُبه الهدى بمركوب وحرف الاستعلاء قرينة على ذلك على طريقة السكاكي في رد التبعية للمكنية. ثم زاد الطيبي والتفتزاني فجعلا في الآية استعارة تبعية مع التمثيلية قائلين إن مجيء كلمة على يعين أن يكون معناها مستعاراً لما يماثله وهو التمكن فتكون هنالك تبعية لا محالة. وقد انتصر سعد الدين التفتزاني لوجه التمثيلية وانتصر السيد الجرجاني لوجه التبعية. واشتد السيد في إنكار كونها تمثيلية ورآه جمعاً بين متنافيين لأن انتزاع كل من طرفي التشبيه من أمور متعددة يستلزم تركبه من معان متعددة، كيف ومتعلق معنى الحرف من المعاني المفردة كالاستعلاء هنا فإذا اعتبر التشبيه هنا مركباً استلزم أن لا يكون معنى على ومتعلق معناها مشبهاً به ولا مستعاراً منه لا تبعاً ولا أصالة، وأطال في ذلك في «حاشيته للكشاف» و«حاشيته على المطول» كما أطال السعد في «حاشية الكشاف» وفي «المطول»، وتراشقا سهام المناظرة الحادة. ونحن ندخل في الحكومة بين هذين العلمين بأنه لا نزاع بين الجميع أن في الآية تشبيه أشياء بأشياء على الجملة حاصلة من ثبوت الهدى للمتقين ومن ثبوت الاستعلاء على المركوب غير أن اختلاف الفريقين هو في تعيين الطريقة الحاصل بها هذا التشبيه فالأكثرون يجعلونها طريقة التمثيلية بأن يكون تشبيه تلك الأشياء حاصلاً بالانتزاع والتركيب لهيئة، والسيد يجعلها طريقة التبعية بأن يكون المشبه والمشبه به هما فردان من تلك الأشياء ويحصل العلم ببقية تلك الأشياء بواسطة تقييد المفردين المشبه والمشبه به، ويجوز طريقة التمثيل وطريقة المكنية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فينصرف النظر هنا إلى أي الطريقتين أرجح اعتباراً وأوفى في البلاغة مقداراً. وإلى أن الجمع بين طريقتي التمثيلية والتبعية هل يعد متناقضاً في اعتبار القواعد البيانية كما زعمه السيد؟ تقرر في علم البيان أن أهله أشد حرصاً على اعتبار تشبيه الهيئة فلا يعدلون عنه إلى المفرد مهما استقام اعتباره ولهذا قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» عند ذكر بيت بشار | **كَأَنَّ مُثَار النَّقْع فوق رُؤوسنا وأسيافَنَا ليل تَهاوَى كواكبُه** | | | | --- | --- | --- | «قصد تشبيه النقع والسيوف فيه بالليل المتهاوية كواكبه، لا تشبيه النقع بالليل من جانب والسيوف بالكواكب من جانب، ولذلك وجب الحكم بأن أسيافنا في حكم الصلة للمصدر أي مثار لئلا يقع في تشبيهه تفرق، فإن نصب الأسياف على أن الواو بمعنى مع لا على العطف». إذا تقرر هذا تبين لديك أن للتشبيه التمثيلي الحظ الأوْفى عند أهل البلاغة ووجهه أن من أهم أغراض البلغاء وأولها باب التشبيه وهو أقدم فنونها، ولا شك أن التمثيل أخص أنواع التشبيه لأنه تشبيه هيئة بهيئة فهو أوقع في النفوس وأجلى للمعاني. ونحن نجد اعتبار التمثيلية في الآية أرجح لأنها أوضح وأبلغ وأشهر وأسعد بكلام «الكشاف»، أما كونها أوضح فلأن تشبيه التمثيل منزع واضح لا كلفة فيه فيفيد تشبيه مجموع هيئة المتقين في اتصافهم بالهدى بهيئة الراكب إلخ بخلاف طريقة التبعية فإنها لا تفيد إلا تشبيه التمكن بالاستعلاء ثم يستفاد ما عدا ذلك بالتقييد. وأما كونها أبلغ فلأن المقام لما سمح بكلا الاعتبارين باتفاق الفريقين لا جرم كان أولاهما بالاعتبار ما فيه خصوصيات أقوى وأعز. وأما كونها أشهر فلأن التمثيلية متفق عليها بخلاف التبعية. وأما كونه أسعد بكلام «الكشاف» فلأن ظاهر قوله «مَثَل» أنه أراد التمثيل، لأن كلام مثله من أهل هذه الصناعة لا تخرج فيه اللفظة الاصطلاحية عن متعارف أهلها إلى أصل المعنى اللغوي. فإذا صح أن التمثيلية أرجح فلننقل الكلام إلى تصحيح الجمع بينها وبين التبعية وهو المجال الثاني للخلاف بين العلامتين فالسعد والطيبي يجوزان اعتبار التبعية مع التمثيلية في الآية والسيد يمنع ذلك كما علمتم ويقول إذا كان التشبيه منتزعاً من متعدد فقد انتزع كل جزء في المشبَّه من جزئي المشبَّه به وهو معنى التركيب فكيف يعتبر بعض المشبه به مستعاراً لبعض المشبه فينتقض التركيب. وهذا الدليل ناظر إلى قول أئمة البلاغة إن أصل مفردات المركب التمثيلي أن تكون مستعملة في معانيها الحقيقية وإنما المجاز في جملة المركب أي في إطلاقه على الهيئة المشبهة، فكلام السيد وقوف عندها. ولكن التفتزاني لم ير مانعاً من اعتبار المجاز في بعض مفردات المركب التمثيلي إذا لم يكن فيه تكلف، ولعله يرى ذلك زيادة في خصوصيات إعجاز هذه الآية، ومن شأن البليغ أن لا يفيت ما يقتضيه الحال من الخصوصيات، وبهذا تفاوتت البلغاء كما تقرر في مبحث تعريف البلاغة وحد الإعجاز هو الطرف الأعلى للبلاغة الجامع لأقصى الخصوصيات كما بيناه في موضعه وهو المختار فلما وجد في الهيئة المشبهة والهيئة المشبه بها شيئان يصلحان لأن يشبه أحدهما بالآخر تشبيهاً مستقلاً غير داخل في تشبيه الهيئة كان حق هذا المقام تشبيه التمكن بالاستعلاء وهو تشبيه بديع وأشير إليه بكلمة على وأما غير هذين من أجزاء الهيأتين فلما لم يحسن تشبيه شيء منها بآخر أُلْغي التشبيه المفرد فيها إذ لا يحسن تشبيه المتقي بخصوص الراكب ولا الهُدى بالمركوب فتكون «على» على هذا الوجه بعضاً من المجاز المركب دليلاً عليه باعتبار ومجازاً مفرداً باعتبار آخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والذي أَخْتاره في هذه الآية أن يكون قوله تعالى { أولئك على هدى } استعارة تمثيلية مكنية شبهت الحالة بالحالة وحذف لفظ المشبه به وهو المركب الدال على الركوب كأن يقال رَاكِبِين مطية الهدى وأبقى ما يدل على المشبه وهو { أولئك } والهدى، ورمز للمركب الدال على المشبه به بشيء من لوازمه وهو لفظ على الدال على الركوب عرفاً كما علمتم، فتكمل لنا في أقسام التمثيلية الأقسام الثلاثة الاستعارة كما في الاستعارة المفردة فيكون التمثيل منه مجاز مرسل كاستعمال الخبر في التحسر ومنه استعارة مصرحة " نحو أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى " ومنه مكنية كما في الآية على رأينا، ومنه تبعية كما في قول الحماسي | **وفارسٍ في غمار الموت منغمسٍ إذا تألَّى على مكروهة صدقا** | | | | --- | --- | --- | فإن منغمس تمثيل لهيئة إحاطة أسباب الموت به من كل جانب بهيئة من أحاطت به المياه المهلكة من كل جانب ولفظ منغمس تبعية لا محالة. وإنما نكر هدى ولم يعرف باللام لمساواة التعريف والتنكير هنا إذ لو عُرِّف لكان التعريف تعريفَ الجنس فرجح التنكير تمهيداً لوصفه بأنه من عند ربهم، فهو مغاير للهدى السابق في قوله { هدى للمتقين } مغايرةً بالاعتبار إذ القصد التنويه هنا بشأن الهدى وتوسلاً إلى إفادة تعظيم الهدى بقرينة مقام المدح وبذكر ما يدل على التمكن فتعين قصد التعظيم. فقوله { من ربهم } تنويه بهذا الهدى يقتضي تعظيمه وكل ذلك يرجع إلى تعظيم المتصفين بالتمكن منه. وإنما وصف الهدى بأنه من ربهم للتنويه بذلك الهدى وتشريفه مع الإشارة بأنهم بمحل العناية من الله وكذلك إضافة الرب إليهم هي إضافة تعظيم لشأن المضاف إليه بالقرينة. { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. مرجع الإشارة الثانية عين مرجع الأولى، ووجه تكرير اسم الإشارة التنبيه على أن كلتا الأثرتين جديرة بالاعتناء والتنويه، فلا تذكر إحداهما تبعاً للأخرى بل تخص بجملة وإشارة خاصة ليكون اشتهارهم بذلك اشتهاراً بكلتا الجملتين وأنهم ممن يقال فيه كلا القولين. ووجه العطف بالواو دون الفَصْلِ أن بين الجملتين توسطاً بين كمالي الاتصال والانقطاع لأنك إن نظرت إلى اختلاف مفهومهما وزمن حصولهما فإن مفهوم إحداهما وهو الهدى حاصل في الدنيا ومفهوم الأخرى وهو الفلاح حاصل في الآخرة كانتا منقطعتين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن نظرت إلى تسبب مفهوم إحداهما عن مفهوم الأخرى، وكون كل منهما مقصوداً بالوصف كانتا متصلتين، فكان التعارض بين كمالي الاتصال والانقطاع منزلاً إياهما منزلة المتوسطتين، كذا قرر شراح «الكشاف» ومعلوم أن حالة التوسط تقتضي العطف كما تقرر في علم المعاني، وتعليله عندي أنه لما تعارض المقتضيان تعين العطف لأنه الأصل في ذكر الجمل بعضها بعد بعض. وقوله { هم المفلحون } الضمير للفصل، والتعريف في " المفلحون " للجنس وهو الأظهر إذ لا معهود هنا بحسب ظاهر الحال، بل المقصود إفادة أن هؤلاء مفلحون، وتعريف المسند بلام الجنس إذا حمل على مسندٍ إليه معرفٍ أفاد الاختصاص فيكون ضمير الفصل لمجرد تأكيد النسبة، أي تأكيداً للاختصاص. فأما إذا كان التعريف للجنس وهو الظاهر فتعريف المسند إليه مع المسند من شأنه إفادة الاختصاص غالباً لكنه هنا مجرد عن إفادة الاختصاص الحقيقي، ومفيد شيئاً من الاهتمام بالخبر، فلذلك جلب له التعريف دون التنكير وهذا مثَّله عبد القاهر بقولهم هو البطل الحامي، أي إذا سمِعْت بالبطل الحامي وأحطت به خبراً فهو فلان. وإليه أشار في «الكشاف» هنا بقوله «أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم» والسكاكي لم يتابع الشيخين على هذا فعدل عنه في «المفتاح» ولله دره. والفلاح الفوز وصلاح الحال، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، والمراد به في اصطلاح الدين الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة. والفعل منه أفلح أي صار ذا فلاح، وإنما اشتق منه الفعل بواسطة الهمزة الدالة على الصيرورة لأنه لا يقع حدثاً قائماً بالذات بل هو جنس تحف أفراده بمن قدرت له، قال في «الكشاف» انظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره وتعريف " المفلحين " ، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين { أولئك } ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير المنتخب في تفسير القرآن الكريم / لجنة القرآن و السنة
5- هؤلاء الموصوفون بما سبق من صفات، متمكنون من أسباب الهداية الإلهية، مستقرون عليها، أولئك هم وحدهم الفائزون بمطلوبهم ومرغوبهم ثواباً لسعيهم واجتهادهم وامتثالهم الأوامر واجتنابهم النواهى. 6- هذا شأن المهتدين، أما الجاهلون الذين فقدوا الاستعداد للإيمان إعراضاً منهم وعناداً، فلن يستجيبوا لله، فيستوى عندهم تخويفك لهم وعدم تخويفك. 7- هؤلاء قد تمكن الكفر منهم حتى كأن قلوبهم مختوم عليها بحجاب لا يدخلها غير ما فيها، وكأن أسماعهم مختوم عليها كذلك، فلا تسمع وعده الحق، وكأن أبصارهم قد غشيها غطاء فهى لا تدرك آيات الله الدالة على الإيمان، ولذلك استحقوا أن ينالهم العذاب الشديد. 8- ومن الكافرين قوم آخرون من الناس يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم، يظهرون الإيمان فيقولون: إننا آمنا بالله وبيوم القيامة، وليسوا بصادقين فى قولهم، فلا يدخلون فى جماعة المؤمنين. 9- إنهم يخدعون المؤمنين بما يصنعون، ويظنون أنهم يخادعون الله، إذ يتوهمون أنه غير مطلع على خفاياهم، مع أنه يعلم السر والنجوى، وهم فى الواقع يخدعون أنفسهم لأن ضرر عملهم لا حق بهم، عاجلاً وآجلاً، ولأن من يخدع غيره ويحسبه جاهلاً - وهو ليس كذلك - إنما يخدع نفسه. 10- هؤلاء فى قلوبهم مرض الحسد والحقد على أهل الإيمان مع فساد العقيدة، وزادهم الله على مرضهم مرضاً بنصره للحق، إذ كان ذلك مؤذياً لهم بسبب حسدهم وحقدهم وعنادهم، ولهؤلاء عذاب أليم فى الدنيا والآخرة بسبب كذبهم وجحودهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ أُوْلَـٰئِكَ } (5) - فَهؤُلاءِ المُتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ: مِنْ إِيمَانٍ باللهِ، وَإِيمَانٍ بِالبَعْثِ وَالحِسَابِ، وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وَتَأْدِيةِ الزَّكَاةِ... هُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ، وَهُمُ المُفْلِحُونَ الفَائِزُونَ الذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوهُ بعدَ السَّعيِ الحَثِيثِ فِي الحُصُولِ عَليهِ، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا اجْتَنَبُوهُ. عَلَى هُدًى - تَعْبِيرٌ يُفِيدُ التَّمَكُّنَ مِنَ الهُدَى، وَكَمَالَ الرُّسُوخِ فِيهِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
قوله تعالى: أولئك إشارة إلى الذين تنطبق عليهم كل الصفات التي يبينها الله سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين، فأولئك الذين تنطبق عليهم هذه الصفات وصلوا الى الهدى أي: إلى الطريق الموصل للإيمان، ووصلوا إلى الفلاح، وهو الهدف من الإيمان. وقوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5] تشمل الجميع. ولكن لماذا استخدم الله تبارك وتعالى { أُوْلَـٰئِكَ } مرتين؟ تلك من بلاغة القرآن الكريم، ولماذا دمج الخبرين مع بعضهما؟ حتى نعرف أنه ليس في الإسلام إيمانان، بل إيمان واحد يترتب عليه جزاء واحد.. وسيلته الهدى، وغايته الفلاح.. ولو نظر إلى التكليفات التي هي الهدى الموصلة إلى الغاية نجد أن الله سبحانه وتعالى رفع المهتدي على الهدى.. لنعرف أن الهدى لم يأت ليقيد حركتك في الحياة ويستذلك، وانما جاء ليرفعك. إن السطحيّين يعتقدون أن الهدى يقيد حركة الإنسان في الحياة ويمنعه من تحقيق شهواته العاجلة.. ولكن الهدى في الحقيقة يرفع الإنسان ويحفظه من الضرر، ومن غضب الله، ومن إفساد المجتمع الذي سيكون هو أول من يعاني منه.. لذلك قال تبارك وتعالى: { عَلَىٰ هُدًى.. } [البقرة: 5]. و على تفيد الاستعلاء. فإذا قلت أنت على الجواد فإنك تعلوه.. كأن المهتدي حين يلزم نفسه بالمنهج لا يذل.. ولكنه يرتفع إلى الهدى ويصبح الهدى يأخذه من خير إلى خير، وذلك بعكس الضلالة التي تأخذ الإنسان إلى أسفل.. وذلك حين تقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:**{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }** [سبأ: 24]. ترى ما يفيد الارتفاع والعلو في الهداية، وما يفيد الانخفاض والنزول في الضلالة وإنما كان العلوّ في الهدى، لأن المنهج قَيَّدَ حركة حياتك إعزازاً لك لعلوك وسمو مقامك في أنك لا تأخذ من بشر تشريعاً.. ولا تأخذ من ذاتك حركة.. وإنما يرتفع بك لتتلقى عن الله سبحانه وتعالى.. وهذا علو كبير، ولكن عند الضلال قال: " في ضلال ".. وفي تدل على الظرفية المحيطة.. وهو كما وصفه الله سبحانه وتعالى في آية أخرى بقوله جل جلاله:**{ بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }** [البقرة: 81]. أحاطت به الخطيئة.. أي لا يستطيع أن يفلت منها لأنه مظروف في الضلال.. وما دامت الخطيئة محيطة به فلا يجد منفذاً لأنها تحكمه.. وما دامت تحكمه فلا يمكن أن يصل إلى هدى مطلقاً.. فالحق سبحانه وتعالى حينما قال: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5].. اختار لفظاً عليه دلالة دنيوية تقرب المعنى إلى السامع. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ما هو الفلاح؟.. المعنى العام هو الفوز والْمُفْلِحُ هو الفائز. ومعنى الآية الكريمة أولئك هم الفائزون وقال: " هم المفلحون ".. لأن الفلاح مأخوذ من شق الأرض للبذر.. ومنه سُمِّيَ الفلاح الذي صفته شق الأرض ورمي البذور فيها. والحق سبحانه تعالى جاء بهذا اللفظ بالنسبة للآخرة لآنه يريد أن يأتي لنا مع الشيء بدليله.. وهناك فرق بين أمر غيبي عنا لا نعرفه، وأمر غيبي يستدل عليه بمشهود. فالدين يقيد حريتك في الحياة في أن تفعل ولا تفعل.. ومنهج الله جاء ليقول لك: افعل كذا ولا تفعل كذا. وكثير من الناس يظن أن ذلك تقييد لحركة حياة المؤمن وإثقال عليه.. لأنه أخذ منه حرية حركته فقيَّدها. إن الله تبارك وتعالى حين يقول لك: لا تفعل.. معناها عند السطحيين أنه ضيَّقَ عليك ما تريد أن تفعله.. وحين يقول لك افعل.. معناها يكون قد ضيق عليك في شيء لا تريد أن تفعله.. فمثلاً: حين يطلب منك الزكاة، فالزكاة في ظاهرها نقص المال، وإن كانت في حقيقتها بركة ونماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه "** فالحق سبحانه وتعالى إذا قيد حركتك في الحياة.. لا تظن أن هذا تضييق عليك، بل إن هذا لفائدتك.. لأنه لم يأمرك وحدك، ولكن الأمر للناس جميعاً حين يقول جل جلاله: لا تسرق.. فقد قالها للناس جميعاً ولذلك تكون أنت الرابح.. لأنه قيدك وأنت فرد من أن تسرق من غيرك.. ولكنه قيد ملايين الناس من أن يسرقوا منك.. إذن فالله لم يضيق عليك، ولكنه حمى مالك من الناس كل الناس.. قيدك وأنت فرد أن تسرق من مال غيرك، وقيد ملايين أن يسرقوا من مالك.. فمن الفائز؟.. أنت طبعاً. وقوله تعالى: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5] المفلحون من مادة فلح.. فإذا كانت الأرض صمّاء فحينما نشقَّها ونبذرها تعطي محصولاً عظيماً، العملية أخذناها أباً عن جد.. فالأرض حين تشق وتُبذر تُعطي محصولاً وافراً.. وإذا كانت هذه العملية أُخذت أباً عن جد.. يأتي السؤال مَنْ الذي علم آدم البذر والزرع؟.. نقول علمه الله سبحانه وتعالى كما علمه الأسماء.. وكما علمه ما يمكنه به أن يباشر مهمته في الأرض. والحق جل جلاله لم يكن يترك آدم في حياته على الأرض دون أن يعلمه ما يضمن استمرار حياته وحياة أولاده.. يعلمه على الأقل بدايات.. ثم بعد ذلك تتطور هذه البدايات بما يكشفه الله من علمه لخلقه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | . وبعد ذلك جاءت القرون المتقدمة فاستطعنا أن نستخدم آلات حديثة متطورة تقوم بعملية الحرث والبذر. ولكن الحقيقة الثابتة التي لم تتغير منذ بداية الكون ولن تتغير حتى نهايته.. هي أن مهمة الانسان أن يحرث ويضع البذرة في الأرض ويسقيها.. أما نمو الزرع نفسه فلا دخل للإنسان فيه، وكذلك الثمر الذي ينتجه لا عمل للإنسان فيه. ولقد نبهنا الله تبارك وتعالى إلى هذه الحقيقة حتى لا نغتر بحركتنا في الحياة ونقول إننا نحن الذين نزرع.. واقرأ قول الحق جل جلاله في سورة الواقعة:**{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ \* أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ \* لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ \* إِنَّا لَمُغْرَمُونَ \* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ }** [الواقعة: 63-67]. وهكذا ظلت مهمة الفلاحة في الأرض مقصورة على الحرث والسقي والبذر، وحينما تلقى الحبة في الأرض يخلق الله في داخلها الغذاء الذي يكفيها حتى تستطيع أن تأخذ غذاءها من الأرض، وإذا جئت بحبة وبللتها تجد أنها قد نبت لها ساق وجذور.. من أين جاء هذا النمو؟. من تكوين الحبة نفسها، والله تبارك وتعالى قد قدَّر في كل حبة من الغذاء ما يكفيها حتى تستطيع أن تتغذى من الأرض.. وعلى قدر كمية الغذاء المطلوبة يكون حجم الحبة.. وحين تضعها في الأرض فإنها تبدأ أولاً بأن تغذِّي نفسها.. بحيث ينبت لها ساق وجذور وورقتان تتنفس منهما.. كل هذا لا دخل لك فيه ولا عمل لك فيه.. وتبدأ الحبة تأخذ غذاءها من الأرض والهواء، لتنمو حتى تصبح شجرة كبيرة تنتج الثمر من نوع البذرة نفسه. ومن هنا جاءت كلمة المفلحون.. ليعطينا الحق جل جلاله من الأمور المادية المشهودة ما يعين عقولنا المحدودة على فهم الغيب.. فيشبه التكليف وجزاءه في الآخرة بالبذور والفلاحة.. أولا لأنك حين ترمي بذرة في الأرض تعطيك بذوراً كثيرة. واقرأ قول الله سبحانه وتعالى:**{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }** [البقرة: 261]. وإذا كانت الأرض وهي المخلوقة من الله تهبك أضعاف أضعاف ما أعطيتها.. فكيف بالخالق؟.. وكم يضاعف لك من الثواب في الطاعة؟.. هذا هو السبب في أن الحق تبارك وتعالى يقول: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5].. حتى يلفتنا بمادة الفلاحة.. وهي شيء موجود نراه ونشهده كل يوم. وكما أن التكليف يأخذ منك أشياء ليضاعفها لك.. كذلك الأرض أخذت منك حبة ولم تعطك مثل ما أخذت، بل أعطتك بالحبة سبعمائة حبة.. وهكذا نستطيع أن نصل بشيء مشهود يُفَصِّلُ لنا شيئاً غيبياً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ }: مبتدأٌ، خبرهُ الجارُّ والمجرورُ بعده أي كائنون على هدى، وهذه الجملة: إمَّا مستأنفةٌ وإمّا خبرٌ عن قوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } إمَّا الأولى وإمَّا الثانية، ويجوز أن يكون " أولئك " وحدَه خبراً عن { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } أيضاً إمَّا الأولى أو الثانية، ويكون " على هدى " في هذا الوجهِ في محلِّ نصب على الحالِ، هذا كلُّه إذا أعربنا { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } مبتدأ، أمَّا إذا جعلناه غيرَ مبتدأ فلا يَخْفَى حكمه مِمّا تقدم. ويجوز أن يكونَ { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } مبتدأ، و " أولئك " بدلٌ أو بيانٌ، و " على هدى " الخبرُ، و " مِنْ ربهم " في محلِّ جرٍّ صفةً لهُدى، ومِنْ لابتداء الغاية. ونَكَّر " هُدَى " ليفيدَ إبهامُه التعظيم كقوله: | **129ـ فلا وأبي الطيرِ المُرِبَّة بِالضُّحى** | | **على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ** | | --- | --- | --- | ورُوِيَ " مِنْ ربهم " بغير غُنَّة وهو المشهورُ، وبغنَّة ويُروى عن أبي عمرو. و " أولئك ": اسمُ إشارةٍ يشترك فيه جماعةُ الذكور والإِناث، وهو مبنيٌّ على الكسر لشبِهْه بالحرفِ في الافتقار، وفيه لغتان: المدُّ والقَصْر، ولكنَّ الممدود للبعيد، وقد يقال: أولا لِك، قال: | **130ـ أُولا لِك قومي لم يكونوا أُشَابَةً** | | **وهل يَعِظُ الضِّلِّيلَ إلا أُولا لِكَا** | | --- | --- | --- | وعند بعضهم: المقصودُ للقريب والممدودُ للمتوسط وأولا لك للبعيد، وفيه لغاتٌ كثيرة. وكتبوا " أولئك " بزيادةِ واو قبل اللام، قيل للفرقِ بينها وبين " إليك ". { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }: " أولئك " مبتدأ و " هم " مبتدأ ثانٍ، و " المفلحون " خبره، والجملةُ خبر الأول، ويجوز أن يكونَ " هم " فصلاً أو بدلاً، والمفلحون: الخبر. وفائدةُ الفصل: الفرقُ بين الخبرِ والتابعِ، ولهذا سُمِّيَ فَصْلاً، ويفيدُ أيضاً التوكيدَ، وقد تقدَّم أنه يجوز أن يكون " أولئك " الأولى أو الثانية خبراً عن " الذين يؤمنون " ، وتقدَّم تضعيفُ هذين القولين. وكَرَّرَ " أولئك " تنبيهاً أنهم كما ثَبَتَت لهم الأُثْرَةُ بالهُدَى ثَبَتت لهم بالفلاح، فجُعِلت كلُّ واحدةٍ من الأُثْرَتَيْنِ في تميُّزِهم بها عن غيرِهم بمثابةِ لو انفردت لَكَفَتْ مُمَيِّزة على حِدَتها. وجاء هنا بالواو بين جملةِ قوله: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } بخلافِ قوله تعالى في الآية الأخرى:**{ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ }** [الأعراف: 179] لأن الخبرَيْن هنا متغايران فاقتضى ذلك العطفَ، وأما تلك الآيةُ الكريمةُ فإن الخبريْن فيها شيءٌ واحدٌ، لأن التسجيلَ عليهم بالغفلةِ وتشبيهَهم بالأنعام معنى واحدٌ وكانَتْ عن العطف بِمَعْزِل، قال الزمخشري: " وفي اسم الإِشارة الذي هو " أولئك " إيذانٌ بأنَّ ما يَرِد عقيبَه والمذكورين قبله أهلٌ لاكتسابِه من أجل الخصال التي عُدِّدَت لهم، كقول حاتم: " وللهِ صعلوكٌ " ، ثمَ عَدَّد له خِصالاً فاضلة، ثم عقَّبَ تعديدها بقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | **131ـ فذلك إن يَهْلِكْ فَحُسْنى ثناؤُه** | | **وإن عاش لم يَقْعُدْ ضعيفاً مُذَمَّماً** | | --- | --- | --- | والفلاحُ أصله الشَّقُّ، ومنه قوله: " إن الحديد بالحديد يفلح " ومنه قول بكر بن النطاح: | **132ـ لاَ تَبْعَثَنَّ إلى ربيعةَ غيرَها** | | **إن الحديدَ بغيرِه لا يُفْلِح** | | --- | --- | --- | ويُعَبَّرُ به عن الفوز والظفر بالبُغْيَة وهو مقصودُ الآيةِ، ويُراد به البَقاءُ، قال: | **133ـ لو أن حَيَّاً مُدْرِكُ الفَلاحِ** | | **أَدْرَكه مُلاعِبُ الرِّماحِ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **134ـ نَحُلُّ بلاداً كلُّها حَلَّ قبلَنا** | | **ونرجو الفَلاَح بعد عادٍ وحِمْيَرِ** | | --- | --- | --- | وقال: | **135ـ لكلِّ هَمٍّ من الهُموم سَعَهْ** | | **والمُسْيُ والصُّبْحُ لا فَلاَح معه** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **136ـ أَفْلِحْ بما شِئْت فقد يُبْلَغُ بالـ** | | **ضَّعْفِ وقد يُخْدَعُ الأَريب** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
يقول تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ } أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى الرسول، والإيقان بالآخرة { عَلَىٰ هُدًى } أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى، { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي في الدنيا والآخرة، وقال ابن عباس { عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي على نورٍ من ربهم واستقامة على ما جاءهم به { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما هربوا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير غريب القرآن / زيد بن علي (ت 120 هـ)
وقولهُ تعالى: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } والمُفلحُ: المُصيبُ للخَيرِ الظَّافِرُ بِهِ. والاسمُ الفَلاحُ، والفَلاَحُ: الخَيْرُ والفَلاحُ: التُّقَى، والمُفْلِحُ: المُتّقي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. أي أهلُ هذه الصفةِ على رشدٍ وثباتٍ وصواب من ربهم. والمفلحونَ: الناجونَ الفائزون بالجنةِ، ونَجَوا من النار. وَقِيْلَ: هُمْ الباقونَ بالثواب والنعيمِ المقيمِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي على هداية ورشد وبيان. قال محمد بن إسحاق: " على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم ". و " أولاء " جمع " ذا " المبهم من غير لفظه، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين. وعلة بنائه مشابهته للحروف، وإنما شابه الحروف لمخالفته لجميع الأسماء إذ لا يستقر على مسمى، فلما خالف جميع الأسماء والحروف أيضاً مخالفة لجميع الأسماء إذ لا تفيد معنى في نفسها، إنما تفيده في غيرها، والأسماء تفيد المعاني بأنفسها، فاتفقا في مخالفة الأسماء فبنيت هذه الأسماء لذلك. وحق البناء السكون، لكن اجتمع في آخر " أولاء " ألفان فأبدل من الثانية همزة وكسرت لسكونها وسكون ما قبلها والكاف لا موضع لها، إنما هي للمخاطب ككاف " ذلك ". وقوله: { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. { هُمُ }: مبتدأ و { ٱلْمُفْلِحُونَ }: الخبر، والجملة: خبر عن { أُوْلَـٰئِكَ } ويجوز أن تكون { هُمُ }: فاصلة لا موضع لها من الإعراب وهي وأخواتها يدخلن فواصل بين الابتداء والخبر دخل عليه عامل أم لم يدخل، ولا تكون إلا إذا كان الخبر معرفة أو ما قارب المعرفة، فإن كان الخبر نكرة أو فعلاً أو جملة لم تكن إلا مبتدأة. فهذا أصل الفاصلة فاعرفه، وهي تكون فاصلة على أحد ثلاثة أوجه: - إما أن تكون فصلاً بين المعرفة والنكرة، فيكون دخولها يدل على أن الخبر معرفة أو ما قرب من المعرفة. - والثاني: أن تدخل فصلاً بين النعت والخبر، فدخولها فاصلة يدل على أن ما بعدها خبر لما قبلها، وليس بنعت لما / قبلها، فإذا قلت: " إن زيداً هو الظريف " علم بدخول " هو " أن " الظريف " خبر، وليس بنعت لزيد. - والثالث: أن تدل بدخولها مع " كان " ، على أن " كان " هي الناقصة التي تحتاج إلى خبر، وليست بـ " كان " التامة التي لا تحتاج إلى خبر، ولا تكون الفاصلة إلا وهي الأولى. في المعنى تقول: " كان زيد هو العاقل ". " فهو ": هو / زيد في المعنى، ولو قلت: " كان زيد أنت الضارب إياه " ، لم تكن " أنت " فاصلة، لأنها ليست هي الأولى في المعنى، ولا تكون هنا إلا مبتدأة. وأصل الفلاح البقاء في الخير، فالمعنى: وأولئك هم الباقون في النعيم المقيم، والمؤمن مفلح لبقائه في الجنة، ثم اتسع فيه، فقيل لكل من قال خيراً: مفلح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
{ أُوْلَـٰئِكَ } أي: المتصفون بما تقدّم. { عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي: على نورٍ من ربهم، وبرهانٍ، واستقامةٍ، وسدادٍ - بتسديده إياهم وتوفيقه لهم -. { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي: المنجحون، المدركون ما طلبوا عند الله - بإيمانهم - من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعدّ الله لأعدائه من العقاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ)
هاهنا إشارتان، والمشار إليه عند الجمهور واحد: وهو ما في الآيتين السابقتين من المؤمنين من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم، وكرّر الإشارة للإعلام بأنّه لا بدّ من تحقّق الوصفين لتحقّق الحكم بأنّهم على هدىً وأنّهم هم المفلحون. كذا قال بعضهم - وهو تكلّف ظاهر، وكذا قولهم: إنّ تنكير هدىً هنا للتعظيم. وشيخنا قد جعل الإشارتين لنوعي المؤمنين المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللفّ والنشر المرتّب. قال: إنّ الإشارة الأولى { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [البقرة: 5] في هذه الآية للفرقة الأولى: وهم الذين ينتظرون الحقّ لأنّهم على شيء منه - كما يدلّ عليه تنكير " هدىً " الدالّ على النوع - وينتظرون بياناً من الله تعالى ليأخذوا به، ولذلك تقبّلوه عندما جاءهم. فقد أشعر الله قلوبهم الهداية، بما آمنوا به من الغيب، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذي سبق، وأنفقوا ممّا رزقهم الله. وأمّا الفرقة الثانية وهم المؤمنون بما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم فعلى هدىً تشرك فيه تلك الفرقة الأولى؛ لكن على وجه أكمل؛ لأنّها مؤمنة بالقرآن وعاملة به. وقوله: " على هدىً " تعبير يفيد التمكّن من الشيء كتمكّن المستقرّ عليه، كقولهم: " ركب هواه " ولقد كان أفراد تلك الفرقة (أي الأولى) على بصيرة وتمكّن من نوع الهدى الذي كانوا عليه، فإن كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم، فهو كاف لإعدادهم وتأهيلهم لهما بالإيمان التفصيليّ المنزّل، ولذلك قبلوه عندما بلغتهم دعوته. وإلى الفرقة الثانية وقعت الإشارة الثانية { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } كما هو ظاهر، وهم المفلحون بالفعل لاتّصافهم بالإيمان الكامل بالقرآن، وبما تقدّمه من الكتب السماويّة، واليقين بالآخرة - لا مطلق الإيمان بالغيب إجمالا. ويرشد إلى التغاير بين مرجع الإشارتين ترك ضمير الفصل " هم " في الأولى وذكره في الثانية، ولو كان المشار إليه واحداً لذكر الفصل في الأولى؛ لأنّ المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التامّ، فهو خاصّ بهم دون سواهم، لكنّه اكتفى عن التنصيص على تمكّنهم من الهدى بحصر الفلاح فيهم. ومادّة الفلح تفيد في الأصل معنى الشقّ والقطع، ومثلها مادّة الفلج بالجيم، والفلخ بالخاء، والفلذ والفلع والفلغ والفلق، والفلّ والفلم، ويطلق الفلاح والفلج على الفوز بالمطلوب، ولكن لا يقال: أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفواً من غير تعب ولا معاناة، بل لا بدَّ في تحقيق المعنى اللغويّ لهذه المادّة من السعي إلى الرغيبة، والاجتهاد لإدراكها. فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلاّ بالإيمان بما أنزل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، وباتّباع هذا الإيمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم، مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | ويدخل في هذا كلّه ترك الكذب والزور وتزكية النفس من سائر الرذائل، كالشره والطمع والجبن والهلع والبخل والجور والقسوة وما ينشأ عن هذه الصفات من الأفعال الذميمة، وارتكاب الفواحش والمنكرات، والانغماس في ضروب اللذّات. كما يدخل فيه الفضائل التي هي أضداد هذه الرذائل المتروكة وجميع ما سمّاه القرآن عملا صالحاً من العبادات وحسن المعاملة مع الناس [والسعي في توفير منافعهم العامة والخاصّة، مع التزام العدل والوقوف عند ما حدّه الشرع القويم، والإستقامة على صراطه المستقيم]. وجملة القول: إنّ الإيمان بما أنزل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الإيمان بالدين الإسلاميّ جملةً وتفصيلا، فما علم من ذلك بالضرورة ولم يخالف فيه مخالف يعتدّ به، فلا يسع أحداً جهله، فالإيمان به إيمان، والإسلام لله به إسلام، وإنكاره خروج من الإسلام. وهو الذي يجب أن يكون معقد الارتباط الإسلاميّ وواسطة الوحدة الإسلاميّة، وما كان دون ذلك في الثبوت ودرجة العلم، فموكول إلى اجتهاد المجتهدين، ولا يصحّ أن يكون شيء من ذلك مثار اختلاف في الدين. زاد الأستاذ هنا بخطّه عند قولنا: اجتهاد المجتهدين ما نصّه: [أو ذوق العارفين أو ثقة الناقلين بمن نقلوا عنه ليكون معتمدهم فيما يعتقدون بعد التحرّي والتمحيص، وليس لهؤلاء أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم؛ فإنّ ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون له مع المنقول عنه في الحال، مثل ما للناقل معه، فلا بدّ أن يكون عارفاً بأحواله وأخلاقه ودخائل نفسه، ونحو ذلك ما يطول شرحه ويحصل الثقة للنفس بما يقول القائل]. وأقول: معنى هذا أنّ بعض أحاديث الآحاد تكون حجّة على من ثبتت عنده واطمأنّ قلبه بها، ولا تكون حجّة على غيره، يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها، مع دعوتهم إلى اتّباع القرآن والعمل به، وبالسنّة العمليّة المتّبعة، المبيّنة له، إلاّ قليلاً من بيان السنّة، كصحيفة عليّ - كرّم الله وجهه - المشتملة على بعض الأحكام، كالديّة، وفكاك الأسير، وتحريم المدينة كمكّة. ولم يرضَ الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتّى الموطّأ. وإنّما يجب العمل بأحاديث الآحاد على مَنْ وثق بها روايةً ودلالة. وعلى مَنْ وثق برواية أحد، وفهمه لشيء منها: أن يأخذه عنه، ولكن لا يجعل ذلك تشريعاً عاماً. وأمّا ذوق العارفين، فلا يدخل شيء منه في الدين، ولا يعدّ حجّة شرعيّة بالإجماع، إلاّ ما كان من استفتاء القلب في الشبهات، والإحتياط في تعارض البيّنات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
* تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ)
{ هُدًى } رشد { ٱلْمُفْلِحُونَ } الفلاح هو البقاء والظفر أيضا؛ ثم قيل لكل من عقل وجزم وتكاملت فيه خلال الخير: قد أفلح. وقوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الظافرون بما طلبوا الباقون في الجنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ \* اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بهذه الآية، وفـيـمن نزلت، فكان ابن عبـاس يقول، كما: حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي بـما أنزل إلـيك من ربك، وإن قالوا إنا قد آمنا بـما قد جاءنا من قبلك. وكان ابن عبـاس يرى أن هذه الآية، نزلت فـي الـيهود الذين كانوا بنواحي الـمدينة علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم توبـيخاً لهم فـي جحودهم نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به، مع علـمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـيهم وإلـى الناس كافة. حدثناابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن اسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان صدر سورة البقرة إلى المائة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وقد روى عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر وهو: ما حدثنا به المثنى بن ابراهيم قال حدثنا عبد الله ابن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يؤمن جميع الناس، ويتابعوه على الهدى فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الاول ولا يضل الا من سبق الله الشقاء في الذكر الاول وقال آخرون بما حدثت به عن عمار بن الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس قال آيتان في قادة الاحزاب { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } إلى قوله { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } قال وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار قال فهم الذين قتلوا يوم بدر وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد،عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عنه، وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب من تأول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون، وأن الانذار غير نافعهم، ثم كان من الكفار من قد نفعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم اياه لايمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة، لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذ كان ذلك كذلك وكانت قادة الاحزاب لا شك أنهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم اياه حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدر، علم أنهم ممن عنى الله جل ثناؤه بهذه الآية وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك، فهي أن قول الله جل ثناؤه { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب، وعقيب نعتهم، وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله فأولى الامور بحكمة أن يتلى ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم وذم أسبابهم وأحوالهم واظهار شتمهم والبراءة منهم لأن مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم، فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو اسرائيل. وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني اسرائيل الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الاحبار منهم وتكتمه فيجهله عظم اليهود وتعلمه الاحبار منهم ليعلموا ان الذي أطلعه على علم ذلك هو الذي أنزل الكتاب على موسى، اذ كان ذلك من الامور التي لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم، فيمكنهم ادعاء البس في أمره عليه السلام أنه نبي، وأن ما جاء به من عند الله وأنى يمكنهم ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب، ولا يقرأ، ولا يحسب، فيقال: قرأ الكتب فعلم أو حسب فنجم، وانبعث على أحبار قرّاء كتب، قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم يخبرهم عن مستور عيوبهم، ومصون علومهم، ومكتوم أخبارهم، وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم؟! ان أمرمن كان كذلك لغير مشكل، وأن صدقه لبين. ومما ينبىء عن صحة ما قلنا من ان الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه اقتصاص الله تعالى ذكرنبأهم وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود،والمواثيق من أمر محمد صلى الله عليه وسلم بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن ابليس وآدم في قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }** [البقرة: 40] الآيات واحتجاجه لنبيه عليهم بما احتج عليهم فيها بعد جحودهم نبوّته، فإذا كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب وآخر عن مشركيهم، فأولى أن يكون وسطاً عنهم، إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع،الا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدىء به من معانيه، فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه. وأما معنى الكفر في قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فإنه الجحود، وذلك ان الاحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس وكتموا أمره، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأصل الكفر عند العرب تغطية الشيء، ولذلك سمو الليل كافر التغطية ظلمته ما لبسته، كما قال الشاعر | **فتذكرا ثقلا رثيدا بعدما** | | **ألقت ذكاء يمينها في كافر** | | --- | --- | --- | وقال لبيد بن ربيعة | **في ليلة كفر النجوم غمامها** | | | | --- | --- | --- | يعني عطاها فكذلك الاحبار من اليهود غطوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وكتموه الناس مع علمهم بنبوته ووجودهم صفته في كتبهم،فقال الله جل ثناؤه فيهم**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ }** [البقرة: 159] وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }. القول في تأويل قوله جل ثناؤه: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وتأويل سواء معتدل مأخوذ من التساوي، كقولك متساو هذان الامران عندي، وهما عندي سواء:أي هما متعادلان عندي. ومنه قول الله جل ثناؤه " فانبذ اليهم على سواء " ، يعني أعلمهم وآذنهم بالحرب، حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر، فكذلك قوله: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ } معتدل عندهم أي الامرين كان منك اليهم الإنذارأم ترك الإنذار لأنهم كانوا لا يؤمنون، وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم، ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات: | **تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر** | | **سواء عليها ليلها ونهارها** | | --- | --- | --- | يعني بذلك معتدل عندها في السير الليل والنهار، لأنه لا فتور فيه. ومنه قول الآخر: | **وليل يقول المرء من ظلماته** | | **سواء صحيحات العيون وعورها** | | --- | --- | --- | لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته. وأما قوله { ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبر لأنه وقع موقع أي، كما تقول لا نبالي أقمت أم قعدت، وأنت مخبر لا مستفهم لوقوع ذلك موقع أي،وذلك أن معناه إذا قلت ذلك ما نبالي أي هذين كان منك، فكذلك ذلك في قوله { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } لما كان معنى الكلام: سواء عليهم أي هذين كان منك اليهم حسن في موضعه مع سواء أفعلت أم لم تفعل، وقد كان بعض نحوبي البصرة يزعم أن حرف الاستفهام إنما دخل مع سواه وليس باستفهام، لأن المستفهم إذا استفهم غيره فقال: أزيد عندك أم عمرو ومستثبت صاحبه أيهما عنده فليس أحدهما أحق بالاستفهام من الآخر، فلما كان قوله: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بمعنى التسوية أشبه ذلك الاستفهام إذ ؤشبهه في التسوية،وقد بينا الصواب في ذلك، فتأويل الكلام إذا معتدل يا محمد على هؤلاء الذين جحدوا نبوتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها،وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك وأن يبينوه للناس ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم فأنهم لا يؤمنون ولا يرجعون إلى الحق ولا يصدقون بك وبما جئتهم به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | كما:حدثنا محمد بن حميد، قال:حدثنا سلمة بن الفضل،عن محمد بن إسحاق،عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت،عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي إنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر وجحد، ما أخذ عليهم من اليثاق لك فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك،فكيف يسمعون منك إنذار وتحذيرا وقد كفروا بما عندهم من علمك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
لما قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يجدي عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وسكوته. فإن قلت لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله**{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ \* وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }** الانفطار 13- 14 وغيره من الآي الكثيرة؟ قلت ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى للمتقين، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حدّ لا مجال فيه للعاطف. فإن قلت هذا إذا زعمت أن الذين يؤمنون جار على المتقين، فأمّا إذا ابتدأته وبنيت الكلام لصفة المؤمنين، ثم عقبته بكلام آخر في صفة أضدادهم، كان مثل تلك الآي المتلوّة. قلت قد مرّ لي أن الكلام المبتدأ عقيب المتقين سبيله الاستئناف، وأنه مبنيّ على تقدير سؤال، فذلك إدراج له في حكم المتقين، وتابع له في المعنى وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في الحقيقة كالجاري عليه. والتعريف في { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولاً كلّ من صمم على كفره تصميماً لا يرعوي بعده وغيرهم، ودل على تناوله للمصرين الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم، و { سَوَآءٌ } اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر. ومنه قوله تعالى**{ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }** آل عمران 64،**{ فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ }** فصلت 10 بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لإنّ، و { ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ َ } في موضع المرتفع به على الفاعلية كأنه قيل إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. كما تقول إنّ زيداً مختصم أخوه وابن عمه أو يكون { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } في موضع الابتداء، { وسواء } خبراً مقدّماً بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر لإنّ. فإن قلت الفعل أبداً خبر لا مخبر عنه فكيف صحّ الإخبار عنه في هذا الكلام؟ قلت هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلاً بيناً، من ذلك قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل. والهمزة وأم مجرّدتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قال سيبويه جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولك اللهمّ اغفر لنا أيتها العصابة، يعني أنّ هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء. ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن، إمّا الإنذار وإمّا عدمه، ولكن لا بعينه، فكلاهما معلوم بعلم غير معين. وقرىء «أأنذرتهم» بتحقيق الهمزتين، والتخفيف أعرب وأكثر، وبتخفيف الثانية بين بين، وبتوسيط ألف بينهما محققتين، وبتوسيطها والثانية بين بين، وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله، كما قرىء «قد أفلح». فإن قلت ما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً؟ قلت هو لاحن خارج عن كلام العرب خروجين أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حدّه ـــ وحدّه أن يكون الأوّل حرف لين والثاني حرفاً مدغماً نحو قوله الضالين، وخويصة والثاني إخطاء طريق التخفيف لأن طريق تخفيف الهمزة المتحرّكة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين فأما القلب ألفاً فهو تخفيف الهمزة الساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس. والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي. فإن قلت ما موقع { لاَ يُؤْمِنُونَ }؟ قلت إمّا أن يكون جملة مؤكدة للجملة قبلها، أو خبراً لإنّ والجملة قبلها اعتراض. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
القراءة: قولـه تعالى: { أنذرتهم } فيه ثلاث قراءات قرأ عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق بهمزتين وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو بالهمزة والمد وتليين الهمزة الثانية والباقون يجعلونها بين بين وكذلك قراءة الكسائي إذا خففت وأبو عمرو أطول مدَّاً من ابن كثير واختلف في المد عن نافع وقرأ ابن عامر بألف بين همزتين ويجوز في العربية ثلاثة أوجه غيرها أأنذرتهم بتحقيق الهمزة الأولى وتخفيف الثانية بجعلها بين بين وأنذرتهم بهمزة واحدة وعليهم أنذرتهم على إلقاء حركة الهمزة على الميم نحو قد أفلح فيما روي عن نافع. الحجة: أما وجه الهمزتين فهو أنه الأصل لأن الأولى همزة الإستفهام والثانية همزة أفعل وأما إدخال الألف بين الهمزتين فمن قرأه أراد أن يفصل بين الهمزتين استثقالاً لاجتماع المثلين كما فصل بين النونين في نحو اضربنانّ استثقالاً لاجتماع لنونات ومنه قول ذي الرمة: | **فَيا ظَبْيَةَ الوَعْساءِ بَيْنَ جُلاْجِلٍ** | | **وبينَ النَّقَاء أَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمِ** | | --- | --- | --- | وأما من فصل بين الهمزتين وليّن الثانية فوجهه التخفيف من جهتين الفصل والتليين لأنك إِذا لينتها فقد أمتَّها وصار اللفظ كأنه لا استفهام فيه ففي المد توكيد الدلالة على الاستفهام كما في تحقيق الهمزة وأما من حقق الأولى ولين الثانية من غير فصل بالألف فهو القياس لأنه جعل التليين عوضاً عن الفصل وأما من اكتفى بهمزة واحدة فإنه طرح همزة الاستفهام وهو ضعيف وقد جاء في الشعر قال عمر بن أبي ربيعة: | **لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِياً** | | **بِسَبْعٍ رَمينَ الْجَمْرَ أَمْ بِثمانِ** | | --- | --- | --- | وأما من ألقى حركة الهمزة على الميم فإنه على تليين الأولى وتحقيق الثانية والعرب لذا لينوا الهمزة المتحركة وقبلها ساكن ألقوا حركتها على ما قبلها قالوا مَنَ بوك ومنُ مُّك وكم بلك. اللغة: الكفر خلاف الشكر كما أن الحد خلاف الذم فالكفر ستر النعمة وإخفاؤها والشكر نشرها وإظهارها وكل ما ستر شيئاً فقد قال لبيد: | **في لَيْلَةٍ كَفَرَ النُجومَ غمَامُها** | | | | --- | --- | --- | أي سترها وسواء مصدر أقيم مقام الفاعل كقولك زور وصوم ومعناه مستو والاستواء الاعتدال والسواء العدل قال زهير: | **أَرُونِيَ خطَّةً لاَ خَسْفَ فِيها** | | **يُسَوِّي بَيْنَنا فِيهَا السَّوَاءُ** | | --- | --- | --- | وقالوا سي بمعنى سواء كما قالوا قي وقواء وسيان أي مثلان والإنذار إعلام معه تخويف فكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً ويوصف القديم تعالى بأنه منذر لأن الإعلام يجوز وصفه به والتخويف أيضاً كذلك لقولـه يُخوّف الله به عباده فإِذا جاز وصفه بالمعنيين جاز وصفه بما يشتمل عليهما وأنذرت يتعدى إلى مفعولين كقولـه:**{ إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً }** [النبأ: 40] وقد ورد إلى المفعول الثاني بالباء في قولـه:**{ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ }** [الأنبياء: 45] وقيل الإنذار هو التحذير من مُخوّف يتسع زمانه للإحتراز منه فإِن لم يتسع فهو إشعار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | الإعراب: إِنَّ حرف توكيد وهي تنصب الاسم وترفع الخبر وإنما نصبت ورفعت لأنها تشبه الفعل لكونها على وزنه ولأنها توكيد والتوكيد من معاني الفعل وتشبهه في اتصال ضمير المتكلم نحو إنني وهي مبنية على الفتح كالفعل الماضي وإنما الزمت تقديم المنصوب على المرفوع ليعلم أنها إنما عملت على جهة التشبيه فجعلت كفعل قُدّم مفعوله على فاعله والذين كفروا في موضع نصب لكونه أيم إنّ وكفروا صلة الذين وأما خبرها ففيه وجهان أحدهما: أن يكون الجملة التي هي سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم فعلى هذا يكون سواء يرتفع بالابتداء وكما بعده مما دخل عليه حرف الاستفهام في موضع الخبر والجملة في موضع رفع بأنها خبر أنّ ويكون قولـه لا يؤمنون حالاً من الضمير المنصوب على حد معه صقر صائداً به وبالغ الكعبة ويستقيم أن يكون أيضاً استئنافاً. والوجه الثاني: أن يكون لا يؤمنون خبر إِنّ ويكون قولـه سواءٌ عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم اعتراضاً بين الخبر والاسم فلا يكون له موضع من الإعراب كما حكم على موضعه بالرفع بالوجه الأول فأما إِذا قَدّرت هذا الكلام على ما عليه المعنى فقلت سواءٌ عليهم الإنذار وتركه كان سواء خبر المبتدأ لأنه يكون تقديره الإنذار وتركه مستويان عليهم وإنما قلنا إنه مرفوع بالابتداء على ما عليه التلاوة لأنه لا يجوز أن يكون خبراً فإنه ليس في ظاهر الكلام مخبر عنه وإِذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبراً فإِذا فسد ذلك ثبت أنه مبتدأ وأيضاً فإنه قبل الاستفهام لا يكون داخلاً في حَيّز الاستفهام فلا يجوز إِذاً أن يكون الخبر عما في الاستفهام متقدماً على الاستفهام ونظير ما في الآية من أنّ خبر المبتدأ ليس المبتدأ ولا له فيه ذكر ما أنشده أبو زيد: | **فَإِنَّ حَرَاماً أَرى الدَّهرَ باكياً** | | **عَلى شَجْوَةٍ إِلاَّ بَكَيْتُ عَلى عَمْرو** | | --- | --- | --- | وقولـه: { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر وهذه الهمزة تسمى ألف التسوية والتسوية آلتها همزة الاستفهام وأم تقول أَزيد عندك أم عمرو تريد أيهما ولا يجوز في مكانها أو لأنّ أو لا يكون معادلة الهمزة وتفسير المعادلة أن تكون أم مع الهمزة بمنزلة أي فإِذا قلت أزيد عندك أو عمرو كان معناه أحد هذين عندك ويدل على ذلك أن الجواب مع زيد أم عمرو يقع بالتعيين ومع أزيد أو عمرو يقع بنعم أو لا وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام وإن كان خبراً لأن فيه التسوية التي في الاستفهام ألا ترى أنك إِذا قلت سواء عَليّ أقمت أم قعدت فقد سويت الأمرين عليك كما أنك إِذا استفهمت فقلت أقام زيد أم قعد فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه فلما عمتهما التسوية جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته له في الإبهام فكل استفهام تسوية وإن لم يكن كل تسوية استفهاماً وقال النحويون: إِنَّ نظير سواء في هذا قولك ما أبالي أقبلت أم أدبرت لأنه وقع موقع أيّ فكأنك قلت ما أبالي أيّ هذين كان منك وما أدري أحسنت أم أسأت وليت شعري أقام أم قعد وقال حسان: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **مَا أُبَالي أَنَبَّ بِالَحَزْنِ تَيسٌ** | | **أَم لَحَانِي بِظَهْرِ غَيْبٍ لَئِيمُ** | | --- | --- | --- | ومثله في أنه في صورة الاستفهام وهو خبر قول جرير: | **أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المْطَايا** | | **وَأَنْدَى الْعَالَمينَ بُطُونَ رَاحِ** | | --- | --- | --- | ولو كان استفهاماً لم يكن مدحاً وقول الآخر: | **سَوَاءٌ عَلَيْهِ أيَّ حينٍ أَتَيتَهُ** | | **أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقى أمْ بِأسْعَدِ** | | --- | --- | --- | النزول: قيل نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته قتلوا يوم بدر عن الربيع بن أنس واختاره البلخي وقيل نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود ممن كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم عناداً وكتم أمره حسداً عن ابن عباس وقيل نزلت في أهل الختم والطبع الذين علم الله أنهم لا يؤمنون عن أبي علي الجبائي وقيل نزلت في مشركي العرب عن الأصم وقيل هي عامة في جميع الكفار أخبر تعالى بأن جميعهم لا يؤمنون ويكون كقول القائل لا يقدم جميع إخوتك اليوم فلا ينكر أن يقدم بعضهم واختار الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه أن يكون على الاختصاص وتجويز كل واحد من الأقوال الآخر وهذا أظهر وأسبق إلى الفهم. المعنى: لمّا بين تعالى حال المؤمنين وصله بذكر الكافرين والكفر في الشرع عبارة عن جحد ما أوجب الله تعالى معرفته من توحيد وعدله ومعرفة نبيه وما جاء به من أركان الشرع فمن جحد شيئاً من ذلك كان كافراً. وهذه الآية تدل على أن في المكلفين من لا لطف له لأنه لو كان لفَعَل ولآمنوا فلما أخبر أنهم لا يؤمنون علم لا لطف لهم وتدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بأنهم لا يؤمنون فكان كما أخبر وتدلّ أيضاً على أنه يجوز أن يخاطب الله تعالى بالعام والمراد به الخاص في قول من قال الآية عامة لأنا نعلم أن في الكفار من آمن وانتفع بالإنذار. سؤال: إن قال قائل إذا علم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون وكانوا قادرين على الإيمان عندكم فلما أنكرتم أن يكونوا قادرين على إبطال علم الله بأنهم لا يؤمنون؟ الجواب: إنه لا يجب ذلك كما أنه لا يجب إذا كانوا مأمورين بالإيمان أن يكونوا مأمورين بإبطال علم الله كما لا يجب إذا كان الله تعالى قادراً على أن يقيم القيامة الساعة أن يكون قادراً على إبطال علمه بأنه لا يقيمها الساعة. والصحيح أن نقول إن العلم يتناول الشيء على ما هو به ولا يجعله على ما هو به فلا يمتنع أن يعلم حصول شيء بعينه وإن كان غيره مقدوراً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
اعلم أن في الآية مسائل نحوية، ومسائل أصولية، ونحن نأتي عليها إن شاء الله تعالى، أما قوله: { إن } ففيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن { إن } حرف والحرف لا أصل له في العمل، لكن هذا الحرف أشبه الفعل صورة ومعنى، وتلك المشابهة تقتضي كونها عاملة، وفيه مقدمات: المقدمة الأولى: في بيان المشابهة، واعلم أن هذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى، أما في اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال، ويدخلها نون الوقاية نحو إنني وكأنني، كما يدخل على الفعل نحو: أعطاني وأكرمني، وأما المعنى فلأنها تفيد حصول معنى في الاسم وهو تأكد موصوفيته بالخبر، كما أنك إذا قلت: قام زيد، فقولك قام أفاد حصول معنى في الاسم المقدمة الثانية: أنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل وذلك ظاهر بناءً على الدوران المقدمة الثالثة: في أنها لم نصبت الاسم ورفعت الخبر؟ وتقريره أن يقال: إنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ والخبر معاً، أو تنصبهما معاً، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر وبالعكس، والأول باطل لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول { إن } عليهما مرفوعين، فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر ألبتة، ولأنها أعطيت عمل الفعل، والفعل لا يرفع الإسمين فلا معنى للاشتراك والفزع لا يكون أقوى من الأصل، والقسم الثاني: أيضاً باطل لأن هذا أيضاً مخالف لعمل الفعل، لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خلوه عما يرفعه. والقسم الثالث: أيضاً باطل، لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع، فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أولاً بالرفع ثم في المفعول بالنصب، فلو جعل الحرف ههنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع. ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعين القسم الرابع: وهو أنها تنصب الاسم وترفع الخبر، وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصلية، لأن تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل فذلك يدل ههنا على أن العمل لهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض. المسألة الثانية: قال البصريون: هذا الحرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، وقال الكوفيون لا أثر له في رفع الخبر بل هو مرتفع بما كان مرتفعاً به قبل ذلك. حجة البصريين: أن هذه الحروف تشبه الفعل مشابهة تامة على ما تقدم بيانه، والفعل له تأثير في الرفع والنصب، فهذه الحروف يجب أن تكون كذلك. وحجة الكوفيين من وجهين: الأول: أن معنى الخبرية باقٍ في خبر المبتدأ وهو أولى باقتضاء الرفع فتكون الخبرية رافعة، وإذا كانت الخبرية رافعة استحال ارتفاعه بهذه الحروف، فهذه مقدمات ثلاثة: إحداها: قولنا: الخبرية باقية، وذلك ظاهر، لأن المراد من الخبرية كون الخبر مسنداً إلى المبتدأ، وبعد دخول حرف «إن» عليه فذاك الإسناد باقٍ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثانيها: قولنا: الخبرية ههنا مقتضية للرفع: وذلك لأن الخبرية كانت قبل دخول «إن» مقتضية للرفع ولم يكن عدم الحرف هناك جزءاً من المقتضي. لأن العدم لا يصلح أن يكون جزء العلة، فبعد دخول هذه الحروف كانت الخبرية مقتضية للرفع، لأن المقتضي بتمامه لو حصل ولم يؤثر لكان ذلك لمانع وهو خلاف الأصل. وثالثها: قولنا: الخبرية أولى بالاقتضاء، وبيانه من وجهين: الأول: أن كونه خبراً وصف حقيقي قائم بذاته، وذلك الحرف أجنبي مباين عنه وكما أنه مباين عنه فغير مجاور له لأن الاسم يتخللهما. الثاني: أن الخبر يشابه الفعل مشابهة حقيقية معنوية وهو كون كل واحد منهما مسنداً إلى الغير، أما الحرف فإنه لا يشابه الفعل في وصف حقيقي معنوي، فإنه ليس فيه إسناد، فكانت مشابهة الخبر للفعل أقوى من مشابهة هذا الحرف للفعل، فإذا ثبت ذلك كانت الخبرية باقتضاء الرفع لأجل مشابهة الفعل أولى من الحرف بسبب مشابهته للفعل ورابعها: لما كانت الخبرية أقوى في اقتضاء الرفع استحال كون هذا الحرف رافعاً، لأن الخبرية بالنسبة إلى هذا الحرف أولى، وإذا كان كذلك فقد حصل الحكم بالخبرية قبل حصول هذا الحرف، فيعد وجود هذا الحرف لو أسند هذا الحكم إليه لكان ذلك تحصيلاً للحاصل، وهو محال. الوجه الثاني: أن سيبويه وافق على أن الحرف غير أصل في العمل فيكون إعماله على خلاف الدليل، وما ثبت على خلاف الدليل يقدر بقدر الضرورة. والضرورة تندفع بأعمالها في الاسم، فوجب أن لا يعملها في الخبر. المسألة الثالثة: روى الأنباري أن الكندي المتفلسف ركب إلى المبرد وقال: إني أجد في كلام العرب حشوا، أجد العرب تقول: عبد الله قائم، ثم تقول إن عبد الله قائم، ثم تقول إن عبد الله لقائم، فقال المبرد: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه، وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل، وقولهم إن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر لقيامه، واحتج عبد القاهر على صحة قوله بأنها إنما تذكر جواباً لسؤال السائل بأن قال إنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كان جواباً للقسم نحو والله إن زيداً منطلق ويدل عليه من التنزيل قوله:**{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ٱلأرْضِ }** [الكهف: 83] وقوله في أول السورة:**{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ }** [الكهف: 13] وقوله:**{ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ }** [الشعراء: 216] وقوله:**{ قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ }** [الأنعام: 56] وقوله:**{ وَقُلْ إِنّى أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [الحجر: 89] وأشباه ذلك مما يعلم أنه يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا ونظروا فيه، وعليه قوله:**{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** [الشعراء: 16] وقوله:**{ وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** [الأعراف: 104] وفي قصة السحرة**{ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ }** [الأعراف: 125] إذ من الظاهر أنه جواب فرعون عن قوله:**{ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لكم }** [طه: 71 الشعراء: 49] وقال عبد القاهر: والتحقيق أنها للتأكيد وإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه لم يحتج هناك إلى «إن» وإنما يحتاج إليها إذا كان السامع ظن الخلاف، ولذلك تراها تزداد حسناً إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله كقول أبي نواس: | **عليك باليأس من الناس** | | **إن غنى نفسك في الياس** | | --- | --- | --- | وإنماحسن موقعها لأن الغالب أن الناس لا يحملون أنفسهم على اليأس. وأما جعلها مع اللام جواباً للمنكر في قولك: «إن زيداً لقائم» فجيد لأنه إذا كان الكلام مع المنكر كانت الحاجة إلى التأكيد أشد، وكما يحتمل أن يكون الإنكار من السامع احتمل أيضاً أن يكون من الحاضرين. واعلم أنها قد تجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لا يوجد مثل قولك: إنه كان مني إليه إحسان فعاملني بالسوء، فكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ في الذي توهمت، وعليه قوله تعالى حكاية عن أم مريم**{ قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ }** [آل عمران: 36] وكذلك قول نوح عليه السلام:**{ قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ }** [الشعراء: 117]. أما قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ففيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه صعب على المتكلمين ذكر حد الكفر، وتحقيق القول فيه أن كل ما ينقل عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إليه وقال به فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة أو بالاستدلال أو بخبر الواحد. أما القسم الأول: وهو الذي عرف بالضرورة مجيء الرسول عليه السلام به فمن صدقه في كل ذلك فهو مؤمن، ومن لم يصدقه في ذلك، فإما بأن لا يصدقه في جميعها أو بأن لا يصدقه في البعض دون البعض، فذلك هو الكافر، فإذن الكفر عدم تصديق الرسول في شيء مما علم بالضرورة مجيئه به، ومثاله من أنكر وجود الصانع، أو كونه عالماً قادراً مختاراً أو كونه واحداً أو كونه منزهاً عن النقائص والآفات، أو أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو صحة القرآن الكريم أو أنكر الشرائع التي علمنا بالضرورة كونها من دين محمد صلى الله عليه وسلم كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر، فذلك يكون كافراً لأنه ترك تصديق الرسول فيما علم بالضرورة أنه من دينه. فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دينه مثل كونه عالماً بالعلم أو لذاته وأنه مرئي أو غير مرئي، وأنه خالق أعمال العباد أم لا فلم ينقل بالتواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السلام بأحد القولين دون الثاني، بل إنما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثاني بالاستدلال، فلا جرم لم يكن إنكاره، ولا الإقرار به داخلاً في ماهية الإيمان فلا يكون موجباً للكفر، والدليل عليه أنه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنه هل يعرف الحق في تلك المسألة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمة، ولنقل ذلك على سبيل التواتر، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه عليه السلام ما وقف الإيمان عليها، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجباً للكفر، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من هذه الأمة ولا نكفر أرباب التأويل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد فظاهر أنه لا يمكن توقف الكفر والإيمان عليه. فهذا قولنا في حقيقة الكفر. فإن قيل يبطل ما ذكرتم من جهة العكس بلبس الغيار وشد الزنار وأمثالهما فإنه كفر مع أن ذلك شيء آخر سوى ترك تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما علم بالضرورة مجيئه به، قلنا هذه الأشياء في الحقيقة ليست كفراً لأن التصديق وعدمه أمر باطن لا اطلاع للخلق عليه، ومن عادة الشرع أنه لا يبني الحكم في أمثال هذه الأمور على نفس المعنى، لأنه لا سبيل إلى الاطلاع، بل يجعل لها معرفات وعلامات ظاهرة ويجعل تلك المظان الظاهرة مداراً للأحكام الشرعية، وليس الغيار وشد الزنار من هذا الباب، فإن الظاهر أن من يصدق الرسول عليه السلام فإنه لا يأتي بهذه الأفعال، فحيث أتى بها دل على عدم التصديق فلا جرم الشرع يفرع الأحكام عليها، لا أنها في أنفسها كفر، فهذا هو الكلام الملخص في هذا الباب والله أعلم. المسألة الثانية: قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي والأخبار عن الشيء بصيغة الماضي يقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الإخبار، إذا عرفت هذا فنقول: احتجت المعتزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماضٍ مثل قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أو**{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ }** [الحجر: 9]،**{ إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْر }** [القدر: 1]،**{ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحا }** [نوح: 1] على أن كلام الله محدث سواء كان الكلام هذه الحروف والأصوات أو كان شيئاً آخر. قالوا لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلا إذا كان مسبوقاً بالخبر عنه، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً فيجب أن يكون محدثاً، أجاب القائلون بقدم الكلام عنه من وجهين: الأول: أن الله تعالى كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي ولم يلزم حدوث علم الله تعالى، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال: إن خبر الله تعالى في الأزل كان خبراً بأنهم سيكفرون فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثاني: أن الله تعالى قال:**{ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ }** [الفتح: 27] فلما دخلوا المسجد لا بدّ وأن ينقلب ذلك الخبر إلى أنهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا مثله؟ أجاب المستدل أولاً عن السؤال الأول فقال: عند أبي الحسين البصري وأصحابه العلم يتغير عند تغير المعلومات، وكيف لا والعلم بأن العالم غير موجود وأنه سيوجد لو بقي حال وجود العالم لكان ذلك جهلاً لا علماً، وإذا كان كذلك وجب تغير ذلك العلم، وعلى هذا سقطت هذه المعارضة. وعن الثاني: أن خبر الله تعالى وكلامه أصوات مخصوصة، فقوله تعالى: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } معناه أن الله تعالى تكلم بهذا الكلام في الوقت المتقدم على دخول المسجد لا أنه تكلم به بعد دخول المسجد، فنظيره في مسألتنا أن يقال إن قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } تكلم الله تعالى به بعد صدور الكفر عنهم لا قبله إلا أنه متى قيل ذلك كان اعترافاً بأن تكلمه بذلك لم يكن حاصلاً في الأزل وهذا هو المقصود، أجاب القائلون بالقدم بأنا لو قلنا إن العلم يتغير بتغير المعلوم لكنا إما أن نقول بأن العالم سيوجد كان حاصلاً في الأزل أو ما كان، فإن لم يكن حاصلاً في الأزل كان ذلك تصريحاً بالجهل. وذلك كفر، وإن قلنا إنه كان حاصلاً فزواله يقتضي زوال القديم، وذلك سد باب إثبات حدوث العالم والله أعلم. المسألة الثالثة: قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } صيغة للجمع مع لام التعريف وهي للاستغراق بظاهره ثم إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر، لأن كثيراً من الكفار أسلموا فعلمنا أن الله تعالى قد يتكلم بالعام ويكون مراده الخاص، إما لأجل أن القرينة الدالة على أن المراد من ذلك العموم ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فحسن ذلك لعدم التلبيس وظهور المقصود، ومثاله ما إذا كان للإنسان في البلد جمع مخصوص من الأعداء، فإذا قال «إن الناس يؤذونني» فهم كل أحد أن مراده من الناس ذلك الجمع على التعيين، وإما لأجل أن التكلم بالعام لإرادة الخاص جائز وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق لاحتمال أن المراد منها هو الخاص وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا جرم حسن ذلك، وأقصى ما في الباب أن يقال: لو وجدت هذه القرينة لعرفناها وحيث لم نعرفها علمنا أنها ما وجدت إلا أن هذا الكلام ضعيف، لأن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود من أضعف الإمارات المفيدة للظن فضلاً عن القطع، وإذا ثبت ذلك ظهر أن استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف والله أعلم ومن المعتزلة من احتال في دفع ذلك فقال إن قوله: إن الذين كفروا لا يؤمنون كالنقيض لقوله: إن الذين كفروا يؤمنون، وقوله: إن الذين كفروا يؤمنون لا يصدق إلا إذا آمن كل واحد منهم، فإذا ثبت أنه في جانب الثبوت يقتضي العموم وجب أن لا يتوقف في جانب النفي على العموم بل يكفي في صدقه أن لا يصدر الإيمان عن واحد منهم لأنه متى لم يؤمن واحد من ذلك الجمع ثبت أن ذلك الجمع لم يصدر منهم الإيمان، فثبت أن قوله: إن الذين كفروا لا يؤمنون يكفي في إجرائه على ظاهره أن لا يؤمن واحد منهم فكيف إذا لم يؤمن الكثير منهم والجواب: أن قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } صيغة الجمع وقوله: { لاَ يُؤْمِنُونَ } أيضاً صيغة جمع والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد فمعناه أن كل واحد منهم لا يؤمن وحينئذٍ يعود الكلام المذكور. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | المسألة الرابعة: اختلف أهل التفسير في المراد ههنا بقوله: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فقال قائلون: إنهم رؤساء اليهود المعاندون الذين وصفهم الله تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وقال آخرون: بل المراد قوم من المشركين، كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وهم الذين جحدوا بعد البينة، وأنكروا بعد المعرفة ونظيره ما قال الله تعالى:**{ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }** [فصلت: 4، 5] وكان عليه السلام حريصاً على أن يؤمن قومه جميعاً حيث قال الله تعالى له:**{ فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً }** [الكهف: 6] وقال:**{ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِين }** [يونس: 99] ثم إنه سبحانه وتعالى بين له عليه السلام أنهم لا يؤمنون ليقطع طمعه عنهم ولا يتأذى بسبب ذلك، فإن اليأس إحدى الراحتين. أما قوله تعالى: { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ففيه مسائل: المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف { سَوَآء } اسم بمنعى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى:**{ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [آل عمران: 64]**{ فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ }** [فصلت: 10] بمعنى مستوية، فكأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. المسألة الثانية: في ارتفاع سواء قولان: أحدهما: أن ارتفاعه على أنه خبر لأن و { ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } في موضع الرفع به على الفاعلية، كأنه قيل، إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول: إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه. الثاني: أن تكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبره مقدماً بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن، واعلم أن الوجه الثاني أولى لأن «سواء» اسم، وتنزيله بمنزلة الفعل يكون تركاً للظاهر من غير ضرورة وأنه لا يجوز، وإذا ثبت هذا فنقول: من المعلوم أن المراد وصف الإنذار وعدم الإنذار بالاستواء، فوجب أن يكون سواء خبراً فيكون الخبر مقدماً. وذلك يدل على أن تقديم الخبر على المبتدأ جائز، ونظيره قوله تعالى:**{ سَوَاء مَّحْيَـٰهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ }** [الجاثية: 21] وروى سيبويه قولهم: «تميمي أنا» / «ومشنوء من يشنؤك» أما الكوفيون فإنهم لا يجوزونه واحتجوا عليه من وجهين: الأول: المبتدأ ذات، والخبر صفة، والذات قبل الصفة بالاستحقاق، فوجب أن يكون قبلها في اللفظ قياساً على توابع الإعراب والجامع التبعية المعنوية. الثاني: أن الخبر لا بدّ وأن يتضمن الضمير، فلو قدم الخبر على المبتدأ لوجد الضمير قبل الذكر، وأنه غير جائز، لأن الضمير هو اللفظ الذي أشير به إلى أم معلوم، فقبل العلم به امتنعت الإشارة إليه، فكان الإضمر قبل الذكر محالاً، أجاب البصريون على الأول بأن ما ذكرتم يقتضي أن يكون تقدم المبتدأ أولى، لا أن يكون واجباً وعن الثاني: أن الإضمار قبل الذكر واقع في كلام العرب، كقولهم: «في بيته يؤتى الحكم» قال تعالى:**{ فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ }** [طه: 67] وقال زهير: | **فمن يلق يوماً على علاته هرما** | | **يلق السماحة منه والندى خلقا** | | --- | --- | --- | والله أعلم. المسألة الثالثة: اتفقوا على أن الفعل لا يخبر عنه، لأن من قال: خرج ضرب لم يكن آتياً بكلام منتظم، ومنهم من قدح فيه بوجوه: أحدها: أن قوله: { ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } فعل وقد أخبر عنه بقوله: { سَوَاء عَلَيْهِمْ } ونظيره قوله:**{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَـٰتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ }** [يوسف: 35] فاعل «بدا» هو «ليسجننه» وثانيها: أن المخبر عنه بأنه فعل لا بدّ وأن يكون فعلاً، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل فإن قيل: المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة، وتلك الكلمة اسم قلنا فعلى هذا: المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل إسماً كان هذا الخبر كذباً، والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً، لأن الاسم لا يكون فعلاً، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه وثالثها: أنا إذا قلنا: الفعل لا يخبر عنه فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أنا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه، وهذا خطأ وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه ثم قال هؤلاء: لما ثبت أنه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجة إلى ترك الظاهر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أما جمهور النحويين فقد أطبقوا على أنه لا يجوز الإخبار عن الفعل، فلا جرم كان التقدير: سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك، فإن قيل العدول عن الحقيقة إلى المجاز لا بدّ وأن يكون لفائدة زائدة إما في المعنى أو في اللفظ فما تلك الفائدة ههنا؟ قلنا قوله: { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } معناه سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لهم بعد ذلك لأن القوم كانوا قد بلغوا في الإصرار واللجاج والإعراض عن الآيات والدلائل إلى حالة ما بقي فيهم البتة رجاء القبول بوجه. وقبل ذلك ما كانوا كذلك، ولو قال سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لما أفاد أن هذا المعنى إنما حصل في هذا الوقت دون ما قبله، ولما قال: { ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } أفاد أن هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم، وقد بينا أن المقصود من هذه الآية ذلك. المسألة الرابعة: قال صاحب الكشاف: «الهمزة» و «أم» مجردتان لمعنى الاستفهام وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً، قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء كقوله: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء. المسألة الخامسة: في قوله: { ءأَنذَرْتَهُمْ } ست قراءات: إما بهمزتين محققتين بينهما ألف، أولا ألف بينهما، أو بأن تكون الهمزة الأولى قوية والثانية بين بين بينهما ألف، أولا ألف بينهما وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله كما قرىء «قد أفلح» فإن قيل: فما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً؟ قال صاحب الكشاف: هو لاحن خارج عن كلام العرب. المسألة السادسة: الإنذار هو التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن تأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى من تأثير البشارة لأن اشتغال الإنسان بدفع الضرر أشد من اشتغاله بجلب المنفعة، وهذا الموضع موضع المبالغة وكان ذكر الإنذار أولى. أما قوله: { لاَ يُؤْمِنُونَ } ففيه مسألتان: المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: هذه إما أن تكون جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبراً «لأن» والجملة قبلها اعتراض. المسألة الثانية: احتج أهل السنّة بهذه الآية وكل ما أشبهها من قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ }** [يۤس: 7] وقوله:**{ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً }** [المدثر: 11] إلى قوله:**{ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً }** [المدثر: 17] وقوله:**{ تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ }** [المسد: 1] على تكليف ما لا يطاق، وتقريره أنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قط، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر لله تعالى الصدق كذباً، والكذب عند الخصم قبيح وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة، وهما محالان على الله، والمفضي إلى المحال محال، فصدور الإيمان منه محال فالتكليف به تكليف بالمحال، وقد يذكر هذا في صورة العلم، هو أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله تعالى جهلاً، وذلك محال ومستلزم المحال محال. فالأمر واقع بالمحال. ونذكر هذا على وجه ثالث: وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بعدم الإيمان لأنه إنما يكون علماً لو كان مطابقاً للمعلوم، والعلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقاً لو حصل عدم الإيمان، فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان لزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً وهو محال، فالأمر بالإيمان مع وجود علم الله تعالى بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضدين، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود، وكل ذلك محال ونذكر هذا على وجه رابع: وهو أنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون بالإيمان ألبتة، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات، ونذكر هذا على وجه خامس: وهو أنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله:**{ يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ }** [الفتح: 15] فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله تعالى، وذلك منهي عنه. ثم ههنا أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله، وذلك منهي عنه، وترك محاولة الإيمان يكون أيضاً مخالفة لأمر الله تعالى، فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل، فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع، وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال. ولقد كان السلف والخلف من المحققين معولين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم، ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع، وأنا أذكر أقصى ما ذكروه بعون الله تعالى وتوفيقه: قالت المعتزلة: لنا في هذه الآية مقامان: المقام الأول: بيان أنه لا يجوز أن يكون علم الله تعالى وخبر الله تعالى عن عدم الإيمان مانعاً من الإيمان، والمقام الثاني: بيان الجواب العقلي على سبيل التفصيل، أما المقام الأول فقالوا: الذي يدل عليه وجوه: أحدها: أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ ٱلْهُدَىٰ }** [الإسراء: 94] وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومعلوم أن رجلاً لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثم يقول ما منعك من التصرف في حوائجي كان ذلك منه مستقبحاً وكذا قوله:**{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ }** [الأعراف: 12] وقوله لإبليس:**{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ }** [النساء: 39] وقول موسى لأخيه:**{ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ }** [طه: 92] وقوله:**{ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }** [الانشقاق: 20]**{ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }** [المدثر: 49]**{ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }** [التوبة: 43]**{ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ }** [التحريم: 1] قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب: كيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أنى تصرفون؟ ويخلق فيهم الإفك ثم يقول أنى تؤفكون؟ وأنشأ فيهم الكفر ثم يقوم لم تكفرون؟ وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول**{ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ }** [آل عمران: 71] وصدهم عن السبيل ثم يقول:**{ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّه }** [آل عمران: 99] وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال: { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ } وذهب بهم عن الرشد ثم قال:**{ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ }** [التكوير: 26] وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال:**{ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }** [المدثر: 49] وثانيها: أن الله تعالى قال:**{ رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ }** [السناء: 165] وقال:**{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَـٰهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَـٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ }** [طه: 134] فلما بين أنه ما أبقي لهم عذراً إلا وقد أزاله عنهم، فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مانعاً لهم عن الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عنهم فلما لم يكن كذلك علمنا أنه غير مانع. وثالثها: أنه تعالى حكى عن الكفار في سورة «حۤم السجدة» أنهم قالوا: قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر، وإنما ذكر الله تعالى ذلك ذماً لهم في هذا القول، فلو كان العلم مانعاً لكانوا صادقين في ذلك فلم ذمهم عليه؟ ورابعها: أنه تعالى أنزل قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } إلى آخره ذماً لهم وزجراً عن الكفر وتقبيحاً لفعلهم، فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه لما استحقوا الذم البتة، بل كانوا معذورين كما يكون الأعمى معذوراً في أن لا يمشي. وخامسها: القرآن إنما أنزل ليكون حجة لله ولرسوله عليهم، لا أن يكون لهم حجة على الله وعلى رسوله، فلو كان العلم والخبر مانعاً لكان لهم أن يقولوا: إذا علمت الكفر وأخبرت عنه كان ترك الكفر محالاً منا، فلم تطلب المحال منا ولم تأمرنا بالمحال؟ ومعلوم أن هذا مما لا جواب لله ولا لرسوله عنه لو ثبت أن العلم والخبر يمنع وسادسها: قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }** [الأنفال: 40] ولو كان مع قيام المانع عن الإيمان كلف به لما كان نعم المولى، بل كان بئس المولى ومعلوم أن ذلك كفر، قالوا: فثبت بهذه الوجوه أنه ليس عن الإيمان والطاعة مانع البتة، فوجب القطع بأن علم الله تعالى بعدم الإيمان وخبره عن عدمه لا يكون مانعاً عن الإيمان. المقام الثاني: قالوا إن الذي يدل على أن العلم بعدم الإيمان لا يمنع من وجود الإيمان وجوه: أحدها: أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يكون الله تعالى قادراً على شيء لأن الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع، والذي علم عدم وقوعه يكون ممتنع الوقوع، والواجب لا قدرة له عليه لأنه إذا كان واجب الوقوع، لا بالقدرة فسواء حصلت القدرة أو لم تحصل كان واجب الوقوع، والذي يكون كذلك لم يكن للقدرة فيه أثر، وأما الممتنع فلا قدرة عليه، فيلزم أن لا يكون الله تعالى قادراً على شيء أصلاً، وذلك كفر بالاتفاق فثبت أن العلم بعدم الشيء لا يمنع من إمكان وجوده. وثانيها: أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فإن كان ممكناً علمه ممكناً وإن كان واجباً علمه واجباً، ولا شك أن الإيمان والكفر بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود، فلو صار واجب الوجود بسبب العلم كان العلم مؤثراً في المعلوم، وقد بينا أنه محال. وثالثها: لو كان الخبر والعلم مانعاً لما كان العبد قادراً على شيء أصلاً لأن الذي علم الله تعالى وقوعه كان واجب الوقوع، والواجب لا قدرة عليه والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع، والممتنع لا قدره عليه، فوجب أن لا يكون العبد قادراً على شيء أصلاً، فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى حركات الجمادات، والحركات الاضطرارية للحيوانات، لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك، فإن رمى إنسان إنساناً بالآجرة حتى شجه فإنا نذم الرامي ولا نذم الآجرة، وندرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه، وبين ما إذا لكمه إنسان بالاختيار: ولذلك فإن العقلاء ببداءة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء، ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ويقولون لم فعلت ولم تركت؟ فدل على أن العلم والخبر غير مانع من الفعل والترك. ورابعها: لو كان العلم بالعدم مانعاً للوجود لكان أمر الله تعالى للكافر بالإيمان أمراً بإعدام علمه، وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بأن يعدموه فكذلك لا يليق به أن يأمرهم، بأن يعدموا علمه لأن إعدم ذات الله وصفاته غير معقول، والأمر به سفه وعبث، فدل على أن العلم بالعدم لا يكون مانعاً من الوجود. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وخامسها: أن الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات الجائزات نظراً إلى ذاته وعينه، فوجب أن يعلمه الله تعالى من الممكنات الجائزات، إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم جهلاً، وهو محال، وإذا علمه الله تعالى من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها البتة، فلو صار بسبب العلم واجباً لزم أن يجتمع على الشيء الواحد كونه من الممكنات، وكونه ليس من الممكنات وذلك محال. وسادسها: أن الأمر بالمحال سفه وعبث، فلو جاز ورود الشرع به لجاز وروده أيضاً بكل أنواع السفه، فما كان يمتنع وروده بإظهار المعجزة على يد الكاذبين ولا إنزال الأكاذيب والأباطيل، وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء ولا بصحة القرآن، بل يجوز أن يكون كله كذباً وسفهًا، ولما بطل ذلك علمنا أن العلم بعدم الإيمان والخبر عن عدم الإيمان لا يمنع من الإيمان. وسابعها: أنه لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة لجاز ورود أمر الأعمى بنقط المصاحف. والمزمن بالطيران في الهواء، وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه وألقي من شاهق جبل: لم لا تطير إلى فوق؟ ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال، فثبت أن العلم بالعدم لا يمنع من الوجود، وثامنها: لو جاز ورود الأمر بذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات وإنزال الكتب عليها، وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالاً بعد حال، ومعلوم أن ذلك سخرية وتلاعب بالدين. وتاسعها: أن العلم بوجود الشيء لو اقتضى وجوبه لأغنى العلم عن القدرة والإرادة، فوجب أن لا يكون الله تعالى قادراً مريداً مختاراً، وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب. وعاشرها: الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم يوجد، قال الله تعالى:**{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }** [البقرة: 286] وقال:**{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ }** [الحج: 78] وقال:**{ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلاْغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ }** [الأعراف: 157] وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال المقام الثالث الجواب على سبيل التفصيل، للمعتزلة فيه طريقان: الأول: طريقة أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار، فإنا لما قلنا: لو وقع خلاف معلوم الله تعالى لانقلب علمه جهلاً قالوا خطأ: قول من يقول: إنه ينقلب علمه جهلاً، وخطأ أيضاً قول من يقول: إنه لا ينقلب، ولكن يجب الإمساك عن القولين: والثاني: طريقة الكعبي واختيار أبي الحسين البصري: أن العلم تبع المعلوم، فإذا فرضت الواقع من العبد من الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلاً عن الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلاً عن الإيمان، فهذا فرض علم بدلاً عن علم أخر، لا أنه تغير العلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة. واعلم أن هذا المبحث صار منشأ لضلالات عظيمة: فمنها أن منكري التكاليف والنبوات قالوا: قد سمعنا كلام أهل الجبر فوجدناه قوياً قاطعاً، وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ولا يلتفت العاقل إليهما، وسمعنا كلام المعتزلة في أن مع القول بالجبر لا يجوز التكليف ويقبح، والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جداً فصار مجموع الكلامين كلاماً قوياً في نفي التكاليف، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات. ومنها أن الطاعنين في القرآن قالوا: الذي قاله المعتزلة من الآيات الكثيرة الدالة على أنه لا منع من الإيمان ومن الطاعة فقد صدقوا فيه، والذي قاله الجبرية: من أن العلم بعدم الإيمان مانع منه فقد صدقوا فيه، فدل على أن القرآن ورد على ضد العقل وعلى خلافه، وذلك من أعظم المطاعن وأقوى القوادح فيه، ثم من سلم من هؤلاء أن هذا القرآن هو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم توسل به إلى الطعن فيه، وقال قوم من الرافضة: إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد بل غير وبدل. والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب هذه المناظرة الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر. ومنها أن المقلدة الطاعنين في النظر والاستدلال احتجوا بهذه المناظرة وقالوا: لو جوزنا التمسك بالدلائل العقلية لزم القدح في التكليف والنبوة بسبب هذه المناظرة، فإن كلام أهل الجبر في نهاية القوة في إثبات الجبر، وكلام أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل التكليف بالكلية في نهاية القوة، فيتولد من مجموع الكلامين أعظم شبهة في القدح والتكليف والنبوة، فثبت أن الرجوع إلى العقليات يورث الكفر والضلال، وعند هذا قيل من تعمق في الكلام تزندق. ومنها أن هشام بن الحكم زعم أنه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل وقوعها وجوز البداء على الله تعالى وقال: إن قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } إنما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة، ويجوز له أن يظهر خلاف ما ذكره، وإنما قال بهذا المذهب فراراً من تلك الإشكالات المتقدمة. واعلم أن جملة الوجوه التي رويناها عن المعتزلة كلمات لا تعلق لها بالكشف عن وجه الجواب. بل هي جارية مجرى التشنيعات. فأما الجوابان اللذان عليهما اعتماد القوم ففي نهاية الضعف. أما قول أبي علي وأبي هشام والقاضي: خطأ قول من يقول إنه يدل، وخطأ قول من يقول: إنه لا يدل: إن كان المراد منه الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكماً بفساد النفي والإثبات وذلك لا يرتضيه العقل وإن كان معناه أن أحدهما حق لكن لا أعرف أن الحق هو أنه يدل أو لا يدل كفى في دفعه تقرير وجه الاستدلال، فإنا لما بينا أن العلم بالعدم لا يحصل إلا مع العدم، فلو حصل الوجود معه لكان قد اجتمع العدم والوجود معاً ولا يتمكن العقل من تقرير كلام أوضح من هذا وأقل مقدمات فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما قول الكعبي ففي نهاية الضعف، لأنا وإن كنا لا ندري أن الله تعالى كان في الأزل عالماً بوجود الإيمان أو بعدمه لكنا نعلم أن العلم بأحد هذين الأمرين كان حاصلاً، وهو الآن أيضاً حاضر، فلو حصل مع العلم بأحد النقيضين ذلك النقيض الآخر لزم اجتماع النقيضين، ولو قيل بأن ذلك العلم لا يبقى كان ذلك اعترافاً بانقلاب العلم جهلاً، وهذا آخر الكلام في هذا البحث. واعلم أن الكلام المعنوي هو الذي تقدم، وبقي في هذا الباب أمور أخرى إقناعية ولا بدّ من ذكرها وهي خمسة: أحدها: روى الخطيب في كتاب تاريخ بغداد عن معاذ بن معاذ العنبري قال: كنت جالساً عند عمرو بن عبيد فأتاه رجل فقال: يا أبا عثمان سمعت والله اليوم بالكفر، فقال: لا تعجل بالكفر، وما سمعت؟ قال: سمعت هاشماً الأوقص يقول: إن**{ تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ }** [المسد: 1] وقوله:**{ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً }** [المدثر: 11] إلى قوله:**{ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ }** [المدثر: 26] إن هذا ليس في أم الكتاب والله تعالى يقول:**{ حـم وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ }** الزخرف 1، 2 إلى قوله:**{ وَإِنَّهُ فِى أُمّ ٱلْكِتَـٰبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ }** [الزخرف: 4] فما الكفر إلا هذا يا أبا عثمان، فسكت عمرو هنيهة ثم أقبل عليّ فقال والله لو كان القول كما يقول ما كان على أبي لهب من لوم، ولا على الوليد من لوم، فلما سمع الرجل ذلك قال أتقول يا أبا عثمان ذلك، هذا والله الذي قال معاذ فدخل بالإسلام وخرج بالكفر. وحكي أيضاً أنه دخل رجل على عمرو بن عبيد وقرأ عنده:**{ بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ }** [البروج: 22] فقال له أخبرني عن { تبت } أكانت في اللوح المحفوظ؟ فقال عمرو: ليس هكذا كانت، بل كانت: تبت يدا من عمل بمثل ما عمل أبو لهب فقال له الرجل، هكذا ينبغي أن تقرأ إذا قمنا إلى الصلاة: فغضب عمرو وقال: إن علم الله ليس بشيطان، إن علم الله لا يضر ولا ينفع. وهذه الحكاية تدل على شك عمرو بن عبيد في صحة القرآن. وثانيها: روى القاضي في كتاب طبقات المعتزلة عن ابن عمر، أن رجلاً قام إليه فقال: يا أبا عبد الرحمن إن أقواماً يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويقولون كان ذلك في علم الله فلم نجد منه بداً، فغضب ثم قال سبحان الله العظيم، قد كان في علمه أنهم يفعلونها فلم يحملهم على الله على فعلها. حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم، والأرض التي أقلتكم، فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض فكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله تعالى، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها ".** واعلم أن في الأخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة، والغرض من رواية هذا الحديث بيان أنه لا يليق بالرسول أن يقول مثل ذلك، وذلك لأنه متناقض وفاسد، أما المتناقض فلأن قوله: «وكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله» صريح في الجبر وما قبله صريح في القدر فهو متناقض، وأما أنه فاسد، فلأنا بينا أن العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان متنافيان، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدم الإيمان تكليف بالجمع بين النفي والإثبات، أما السماء والأرض فإنهما لا ينافيان شيئاً من الأعمال، فظهر أن تشبيه إحدى الصورتين بالأخرى لا يصدر إلا عن جاهل أو متجاهل، وجل منصب الرسالة عنه. وثالثها: الحديثان المشهوران في هذا الباب: أما الحديث الأول: فهو ما روي في الصحيحين عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: **" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها "** وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن عمرو بن عبيد أنه قال: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أحببته، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله عزّ وجلّ يقول هذا لقلت ليس على هذا أخذت ميثاقنا. وأما الحديث الثاني: فهو مناظرة آدم وموسى عليهما السلام، فإن موسى قال لآدم: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال آدم: أنت الذي اصطفاك الله لرسالاته ولكلامه وأنزل عليك التوراة فهل تجد الله قدره علي؟ قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى، والمعتزلة طعنوا فيه من وجوه: أحدها: أن هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى قد ذم آدم على الصغيرة وذلك يقتضي الجهل في حق موسى عليه السلام، وأنه غير جائز. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثانيها: أن الولد كيف يشافه والده بالقول الغليظ. وثالثها: أنه قال: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، وقد علم موسى أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة لم يكن من جهة آدم، بل الله أخرجه منها، ورابعها: أن آدم عليه السلام احتج بما ليس بحجة إذ لو كان حجة لكان لفرعون وهامان وسائر الكفار أن يحتجوا بها، ولما بطل ذلك علمنا فساد هذه الحجة. وخامسها: أن الرسول عليه السلام صوب آدم في ذلك مع أنا بينا أنه ليس بصواب. إذا ثبت هذا وجب حمل الحديث على أحد ثلاثة أوجه. أحدها: أنه عليه السلام حكى ذلك عن اليهود لا أنه حكاه عن الله تعالى أو عن نفسه، والرسول عليه السلام كان قد ذكر هذه الحكاية إلا أن الراوي حين دخل ما سمع إلا هذا الكلام، فظن أنه عليه السلام ذكره عن نفسه لا عن اليهود. وثانيها: أنه قال: فحج آدم منصوباً أي أن موسى عليه السلام غلبه وجعله محجوباً وأن الذي أتى به آدم ليس بحجة ولا بعذر. وثالثها: وهو المعتمد أنه ليس المراد من المناظرة الذم على المعصية، ولا الاعتذار منه بعلم الله بل موسى عليه السلام سأله عن السبب الذي حمله على تلك الزلة حتى خرج بسببها من الجنة، فقال آدم: إن خروجي من الجنة لم يكن بسبب تلك الزلة، بل بسبب أن الله تعالى كان قد كتب عليّ أن أخرج من الجنة إلى الأرض وأكون خليفة فيها، وهذا المعنى كان مكتوباً في التوراة، فلا جرم كانت حجة آدم قوية وصار موسى عليه السلام في ذلك كالمغلوب واعلم أن الكلام في هذه المسألة طويل جداً والقرآن مملوء منه وسنستقصي القول فيها في هذا التفسير إن قدر الله تعالى ذلك وفيما ذكرنا ههنا كفاية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
لما ذكر المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم. والكفر ضدّ الإيمان وهو المراد في الآية. وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان ومنه قوله عليه السلام في النساء في حديث الكسوف: **" ورأيت النار فلم أر منظراً كاليوم قطّ أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء» قيل: بِمَ يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن» قيل أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العَشِير ويكفرن الإحسان لو أحسنتَ إلى إحداهن الدهرَ كلّه ثم رأتْ منك شيئاً قالت ما رأيت منك خيراً قط "** أخرجه البخاري وغيره. وأصل الكَفْر في كلام العرب: الستر والتغطية ومنه قول الشاعر: | **في ليلة كَفَر النُّجُومَ غَمَامُها** | | | | --- | --- | --- | أي سترها. ومنه سُميَ الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده قال الشاعر: | **فَتَذَكَّرَا ثَقَلاً رَثيداً بَعْدَمَا** | | **ألقَتْ ذُكاءُ يَمينَها في كافر** | | --- | --- | --- | ذكاء بضم الذال والمدّ: اسم للشمس ومنه قول الآخر: | **فوردَتْ قبل ٱنبلاج الفجرِ** | | **وٱبنُ ذُكاءٍ كَامِنٌ في كَفْر** | | --- | --- | --- | أي في ليل. والكافر أيضاً: البحر والنهر العظيم. والكافر: الزارع، والجمع كُفّار، قال الله تعالى:**{ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ }** [الحديد:20] يعني الزُّراع لأنهم يغطون الحب. ورماد مكفور: سفت الريح عليه التراب. والكافر من الأرض: ما بَعُد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمرّ به أحد ومَن حلّ بتلك المواضع فهم أهل الكفور. ويقال الكفور: القُرَى. قوله تعالى: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ } معناه معتدل عندهم الإنذار وتركه أي سواء عليهم هذا. وجيء بالاستفهام من أجل التسوية ومثله قوله تعالى:**{ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ }** [الشعراء:136]. وقال الشاعر: | **وليلٍ يقول الناسُ من ظلماته** | | **سواء صحيحات العيون وعورها** | | --- | --- | --- | قوله تعالى: { أَأَنذَرْتَهُمْ } الإنذار الإبلاغ والإعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتّسع زمانه للاحتراز، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان إشعاراً ولم يكن إنذاراً قال الشاعر: | **أنذرتَ عَمراً وهو في مَهَلٍ** | | **قبلَ الصباح فقد عصى عَمْرُو** | | --- | --- | --- | وتَناذَر بنو فلان هذا الأمر إذا خَوَّفه بعضُهم بعضاً. وٱختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقّت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعيّن أحداً. وقال ٱبن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود، منهم حُيَيُّ بن أَخْطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما. وقال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب والأوّل أصح، فإن من عيّن أحداً فإنما مثّل بمن كشف الغيب عنه بموته على الكفر، وذلك داخل في ضمن الآية. قوله تعالى: { لاَ يُؤْمِنُونَ } موضعه رفعٌ خبر «إنّ» أي إن الذين كفروا لا يؤمنون. وقيل: خبر «إنّ» «سواء» وما بعده يقوم مقام الصلة قاله ٱبن كَيسان. وقال محمد بن يزيد: «سواء» رفع بالابتداء، { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } الخبر، والجملة خبر «إنَّ». | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قال النحاس: أي إنهم تَبالَهُوا فلم تغن فيهم النذارة شيئاً. وٱختلف القراء في قراءة { أَأَنذَرْتَهُمْ } فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو والأعمش وعبد اللَّه بن أبي إسحٰق: { آنذرتهم } بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وٱختارها الخليل وسيبويه، وهي لغة قريش وسعد بن بكر، وعليها قول الشاعر: | **أيَا ظَبْية الوَعْساءِ بين جُلاَجِلٍ** | | **وبَيْن النَّقا ٱنْت أمْ أمُّ سالِم** | | --- | --- | --- | هجاء «آنت» ألفٌ واحدة. وقال آخر: | **تطالَلْتُ فاستَشْرَفْتُه فعرفتُه** | | **فقلت له آنتَ زَيْدُ الأرانِبِ** | | --- | --- | --- | وروي عن ٱبن مُحَيْصِن أنه قرأ: { أَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } بهمزة لا ألف بعدها، فحذف لالتقاء الهمزتين، أو لأن أم تدل على الاستفهام كما قال الشاعر: | **تَرُوح مِن الْحَيّ أم تَبْتَكِرْ** | | **وماذا يَضيرُك لو تَنْتَظِر** | | --- | --- | --- | أراد: أتروح فاكتفى بأمْ من الألف. وروي عن ٱبن أبي إسحٰق أنه قرأ " أاأنذرتهم " فحقّق الهمزتين وأدخل بينهما ألفا لئلا يجمع بينهما. قال أبو حاتم: ويجوز أن تدخل بينهما ألفا وتخَفّفَ الثانية وأبو عمرو ونافع يفعلان ذلك كثيراً. وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين: " ءأنذرتهم " وهو ٱختيار أبي عبيد وذلك بعيد عند الخليل. وقال سيبويه: يشبه في الثقل ضَنِنُوا. قال الأخفش: ويجوز تخفيف الأولى من الهمزتين وذلك رديء لأنهم إنما يخفِّفون بعد الاستثقال، وبعد حصول الواحدة. قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزتين جميعاً. فهذه سبعة أوجه من القراءات، ووجه ثامن يجوز في غير القرآن لأنه مخالف للسّواد. قال الأخفش سعيد: تبدل من الهمزة هاء تقول: هأنذرتهم كما يقال هيّاك وإياك وقال الأخفش في قوله تعالى:**{ هَا أَنْتُمْ }** [آل عمران:66] إنما هو أاأنتم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } لما ذكر خاصة عباده، وخلاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح، عقبهم بأضدادهم العتاة المردة، الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر، ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ }** [الإنفطار: 13-14] لتباينهما في الغرض، فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه والأخرى مسوقة لشرح تمردهم، وانهماكهم في الضلال، و (إن) من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء وإعطاء معانيه، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين. ولذلك أعملت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذاناً بأنه فرع في العمل دخيل فيه. وقال الكوفيون: الخبر قبل دخولها كان مرفوعاً بالخبرية، وهي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف. وأجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف. وفائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها، ولذلك يُتَلَقَّى بها القَسَم ويصدر بها الأجوبة، وتذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى:**{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً \* إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ٱلأَرْضِ }** [الكهف: 83-84]،**{ وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنَ إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** [الأعراف: 104] قال المبرد: " قولك: عبد الله قائم، إخبار عن قيامه، وإن عبد الله قائم، جواب سائل عن قيامه، وإن عبد الله لقائم، جواب منكر لقيامه ". وتعريف الموصول: إما للعهد، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأحبار اليهود. أو للجنس، متناولاً من صمم على الكفر، وغيرهم. فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه. والكفر لغة: ستر النعمة، وأصله الكَفْر بالفتح وهو الستر، ومنه قيل للزارع ولليل كافر، ولكمام الثمرة كافور. وفي الشرع: إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به، وإنما عُدَّ لبس الغيار وشد الزنار ونحوهما كفراً لأنها تدل على التكذيب، فإن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجترىء عليها ظاهراً لا أنها كفر في أنفسها. واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه، وأجيب بأنه مقتضى التعلق وحدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم. { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } خبر إن وسواء اسم بمعنى الاستواء، نعت به كما نعت بالمصادر قال الله تعالى:**{ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }** [آل عمرآن: 64] رفع بأنه خبر إن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه، أو بأنه خبر لما بعده بمعنى: إنذارك وعدمه سيان عليهم، والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له، أما لو أطلق وأريد به اللفظ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمناً على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة، والإسناد إليه كقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ }** [البقرة: 13] وقوله:**{ يَوْمَ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ }** [المائدة: 119] وقولهم: تَسْمَعُ بِالْمِعيديِّ خَيرٌ مِنْ أَنْ تَراَه. وإنما عدل ههنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة، وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء، كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. والإنذار: التخويف أريد به التخويف من عذاب الله، وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيراً في النفس، من حيث إن دفع الضر أهم من جلب النفع، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى، وقرىء { ءَأَنذَرْتَهُمْ } بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين، وقلبها ألفاً وهو لحن لأن المتحركة لا تقلب، ولأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده، وبتوسيط ألف بينهما محققتين، وبتوسيطها والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها. { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة. أو بدل عنه. أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم. والآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان، فلو آمنوا انقلب خبره كذباً. وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان، والحق أن التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلاً من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضاً سيما الامتثال، لكنه غير واقع للاستقراء، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره، وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجح إلزام الحجة، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ، ولذلك قال { سَوَاء عَلَيْهِمْ } ولم يقل سواء عليك. كما قال لعبدة الأصنام { سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَـٰمِتُونَ }. وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
يقول تعالى { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي غطوا الحق وستروه، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به. كما قال تعالى**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاَْلِيمَ }** يونس 96 ـ 97 وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب**{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ }** البقرة 145 الآية، أي إن من كتب الله عليه الشقاوة، فلا مسعد له، ومن أضله، فلا هادي له، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلغهم الرسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن عليهم، ولا يهمنك ذلك**{ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ }** هود 12 وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد ابن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي بما أنزل إليك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، وقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟ قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين قال الله فيهم**{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا }** إبراهيم 28 ـ 29 والمعنى الذي ذكرناه أولاً، وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة، أظهر، ويفسر ببقية الآيات التي في معناها، والله أعلم. وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً فقال حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا ابن لهيعة حدثني عبد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم عن عبد الله بن عمرو قال قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن، فنرجو، ونقرأ فنكاد أن نيأس، فقال **" ألا أخبركم "** ثم قال « { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } » **" هؤلاء أهل النار "** قالوا لسنا منهم يا رسول الله قال **" أجل "** وقوله تعالى { لاَ يُؤْمِنُونَ } محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } أي هم كفار في كلا الحالين، فلهذا أكد ذلك بقوله تعالى { لاَ يُؤْمِنُونَ } ويحتمل أن يكون لا يؤمنون خبراً لأن تقديره إن الذين كفروا لا يؤمنون. ويكون قوله تعالى { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } جملة معترضة، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } كأبي جهل وأبي لهب ونحوهما { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ } بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفاً وتسهيلها وإدخال ألف بين المسهَّلة والأخرى وتركه { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } لعلم الله منهم ذلك فلا تطمع في إيمانهم والإنذار إعلام مع تخويف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
ذكر سبحانه فريق الشرّ بعد الفراغ من ذكر فريق الخير، قاطعاً لهذا الكلام عن الكلام الأوّل، معنوناً له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم، وأنه لا يترتب عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان، وأن وجود ذلك كعدمه. و { سواء } اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر، " والهمزة وأم " مجرّدتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام، وصحّ الابتداء بالفعل والإخبار عنه بقوله سواء، هجراً لجانب اللفظ إلى جانب المعنى، كأنه قال الإنذار وعدمه سواء، كقولهم تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه أي سماعك. وأصل الكفر في اللغة الستر والتغطية، قال الشاعر | **في ليلة كفر النجوم غمامها** | | | | --- | --- | --- | أي سترها، ومنه سمي الكافر كافراً لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان. والإنذار الإبلاغ والإعلام. قال القرطبي واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً. وقال ابن عباس والكلبي نزلت في رؤساء اليهود حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما. وقال الربيع بن أنس نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب، والأول أصح، فإن من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى. وقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ } خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر كأنه قيل هؤلاء الذين استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم؟ فقيل لا يؤمنون أي هم لا يؤمنون. وقال في الكشاف إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض. انتهى. والأولى ما ذكرناه، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم، وأنه لا يجدي شيئاً بل بمنزلة العدم، فهذه الجملة هي التي وقعت خبراً لأن، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود. وقد قال بمثل قول الزمخشري القرطبي. وقال ابن كيسان إن خبر إن { سواء } ، وما بعده يقوم مقام الصلة. وقال محمد بن يزيد المبرّد { سواء } رفع بالابتداء، وخبره { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، والجملة خبر " إن ". والختم مصدر ختمت الشيء، ومعناه التغطية على الشيء، والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه ختم الكتاب، والباب، وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غيره. والغشاوة الغطاء، ومنه غاشية السرج، والمراد بالختم والغشاوة هنا هما المعنويان لا الحسيان، أي لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختماً حسياً، والمستوثق منها استيثاقاً حقيقياً، والمغطاة بغطاء مدرك، استعارة أو تمثيلاً، وإسناد الختم إلى الله قد احتجّ به أهل السنة على المعتزلة، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف، والكلام على مثل هذا متقرّر في مواطنه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقد اختلف في قوله تعالى { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } هل هو داخل في حكم الختم، فيكون معطوفاً على القلوب؟ أو في حكم التغشية، فقيل إن الوقف على قوله { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } تامّ، وما بعده كلام مستقلّ، فيكون الطبع على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة، وقد قرىء " غِشَـٰوَةً " بالنصب. قال ابن جرير يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محلّ { وعلى سمعهم } ، كقوله تعالى**{ وَحُورٌ عِينٌ }** الواقعة 22 وقول الشاعر | **علفتها تبناً وماءً بارداً** | | | | --- | --- | --- | وإنما وحد السمع مع جمع القلوب والأبصار لأنه مصدر يقع على القليل والكثير والعذاب هو ما يؤلم، وهو مأخوذ من الحبس والمنع، يقال في اللغة أعذبه عن كذا حبسه ومنعه، ومنه عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ } قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس، ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أيضاً في تفسير الآية أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً، وقد كفروا بما عندهم من علمك { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ }. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية**{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا }** إبراهيم 28 قال فهم الذين قتلوا يوم بدر، ولم يدخل القادة في الإسلام إلا رجلان أبو سفيان والحكم بن العاص. وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله { ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } قال أوعظتهم أم لم تعظهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في هذه الآية قال أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون، وجعل على أبصارهم يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون. وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى**{ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ }** الشورى 24 وقال**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً }** الجاثية 23. قال ابن جرير في معنى الختم والحق عندي في ذلك ما صحّ نظيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر إسناداً متصلاً بأبي هريرة، قال قال رسول الله **" إنّ المؤمن إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه "** فذلك الران الذي قال الله**{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }** المطففين 14. وقد رواه من هذا الوجه الترمذي وصححه، والنسائي. ثم قال ابن جرير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع، فلا يكون إليها مسلك، ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الختم الذي ذكره الله في قوله { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } نظير الطبع، والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفضّ ذلك عنها ثم حلها، فلذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فضّ خاتمه، وحلّ رباطه عنها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ الفيروز آبادي (ت817 هـ)
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وثبتوا على الكفر { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ } العظة { ءَأَنذَرْتَهُمْ } خوفتهم بالقرآن { أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } لم تخوفهم { لاَ يُؤْمِنُونَ } لا يريدون أن يؤمنوا ويقال لا يؤمنون في علم الله { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبهِمْ } طبع الله على قلوبهم { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } غطاء { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } شديد في الآخرة وهم اليهود كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وجدي بن أخطب ويقال هم مشركو أهل مكة عتبة وشيبة والوليد { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ } في السر وصدقنا بإيماننا بالله { وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } وبالبعث بعد الموت الذي فيه جزاء الأعمال { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } في السر ولا مصدقين في إيمانهم { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } يخالفون الله ويكذبونه في السر ويقال اجترعوا على الله حتى ظنوا أنهم يخادعون الله { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أبا بكر وسائر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم { وَمَا يَخْدَعُونَ } يكذبون { إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } وما يعلمون أن الله يطلع نبيه على سر قلوبهم { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك ونفاق وخلاف وظلمة { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } شكاً ونفاقاً وخلافاً وظلمة { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } وجيع في الآخرة يخلص وجعه الى قلوبهم { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } في السر وهم المنافقون عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } يعني اليهود { لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بتعويق الناس عن دين محمد صلى الله عليه وسلم { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } لها بالطاعة { أَلاۤ إِنَّهُمْ } بلى إنهم { هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } لها بالتعويق { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } لا يعلم سفلتهم أن رؤساءهم هم الذين يضلونهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } لليهود { آمِنُواْ } بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآن { كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } عبد الله بن سلام وأصحابه { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ } بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآن { كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } الجهال الخرقى { أَلاۤ إِنَّهُمْ } بلى إنهم { هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } الجهال الخرقى { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } ذلك { وَإِذَا لَقُواْ } يعني المنافقين { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } يعني أبا بكر وأصحابه { قَالُوۤا آمَنَّا } في السر وصدقنا بإيماننا كما آمنتم له في السر وصدقتم به { وَإِذَا خَلَوْاْ } رجعوا { إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } كهنتهم ورؤسائهم وهم خمسة نفر كعب بن الأشرف بالمدينة وأبو بردة الأسلمي في بني أسلم وابن السوداء بالشام وعبد الدار في جهينة وعوف بن عامر في بني عامر { قَالُوۤاْ } لرؤسائهم { إِنَّا مَعَكُمْ } على دينكم في السر { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بمحمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه بلا إله إلا الله { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } في الآخرة يعني يفتح لهم باباً إلى الجنة ثم يغلق دونهم فيستهزىء بهم المؤمنون { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يتركهم في الدنيا في كفرهم وضلالتهم يعمهون يمضون عمهة لا يبصرون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } إن ها هنا للتأكيد وهو حرف من حروف القسم. والكفر في اللغة: هو الستر، يقال: ليلة كافرة إذا كانت شديدة الظلمة، وإنما سمي الكافر كافراً، لأنه يستر نعم الله تعالى. وقوله عز وجل: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ } قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي أأنذرتهم بهمزتين وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في رواية هشام بهمزة واحدة مع المد (آنذرتهم) وتفسير القراءتين لا يختلف. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في مشركي قريش، منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل وغيرهم. وقال الكلبي: نزلت في رؤساء اليهود منهم: كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب. قال الكلبي: وليس هو بأخي حيي. وقال بعضهم هو أخو حيي، دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث سألوه عن { الم } و { المص } ثم خرجوا من عنده فنزل قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي جحدوا بالقرآن سواء عليهم أأنذرتهم { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } يعني خوفتهم أو لم تخوفهم { لاَ يُؤْمِنُونَ } أي لا يصدقون. فإن قيل: إذا علم أنهم لا يؤمنون، فما معنى دعوتهم إلى الإسلام؟ قيل له: لأن في الدعوة زيادة الحجة عليهم، كما أن الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام وعلم أنه لا يؤمن. وجواب آخر: إن الآية خاصة، وليست بعامة، وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم، كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت: رجع أبي وعمي من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما لصاحبه: ما ترى في هذا الرجل؟ فقال: إنه نبي، فقال: ما رأيك في اتباعه؟ فقال: رأيي أن لا أتبعه، وأن أظهر له العداوة إلى الموت. فلم نزلت الآية في شأن مثل هؤلاء الذين قد ظهر لهم الحق وكانوا لا يؤمنون. فقال: { ءَأَنذَرْتَهُمْ }. وأصل الإنذار هو الإعلام، يعني خوفتهم بالنار، وأعلمتهم بالعذاب أو لم تعلمهم، فهو سواء ولا يصدقونه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَروا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ } وأصل الكفر عند العرب التغطية، ومنه قوله تعالى: { أَعْجَبَ الكُفَّار نَبَاتُهُ } يعني الزُّرَّاع لتغطيتهم البذر في الأرض، قال لبيد: | **في لَيْلَةٍ كَفَّرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا** | | **..............................** | | --- | --- | --- | أي غطَّاها، فسمي به الكافر بالله تعالى لتغطيته نعم الله بجحوده. وأما الشرك فهو في حكم الكفر، وأصله في الإشراك في العبادة. واختلف فِيمَنْ أُرِيدَ بذلك، على ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم اليهود الذين حول المدينة، وبه قال ابن عباس، وكان يسميهم بأعيانهم. والثاني: أنهم مشركو أهل الكتاب كلهم، وهو اختيار الطبري. والثالث: أنها نزلت في قادة الأحزاب، وبه قال الربيع بن أنس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ)
قوله { إِنَّ الَّذينَ كَفَرُواْ } يعني مشركي العرب قال الكلبي: يعني اليهود. والكفر هو الجحود وأصله من الكفر وهو الستر ومنه: سمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء بظلمته وسمي الزراع كافراً لأنه يستر الحب بالتراب، والكافر يستر الحق بجحوده. والكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق، فكفر الإنكار: أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به، وكفر الجحود هو: أن يعرف الله تعالى بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس وكفر اليهود. قال الله تعالىٰ:**{ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }** [البقرة: 89]، وكفر العناد هو: أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول: | **وَلَقد عَلمْتُ بأنَّ ديْنَ مُحمَّدٍ** | | **مِن خَيْر أَدْيَانِ البَريَّة دينا** | | --- | --- | --- | | **لولا المَلامَةُ أو حِذارُ مَسَبَّةٍ** | | **لَوَجَدتَنِي سَمْحاً بذاَكَ مُبِينَاً** | وأما كفر النفاق فهو أن يقرّ باللسان ولا يعتقد بالقلب، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله تعالىٰ بواحد منها لا يغفر له. قوله: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ }: أي متساوٍ لديهم { ءَأَنذَرْتَهُمْ } خوّفتهم وحذرتهم، والإِنذار إعلام مع تخويف وتحذير، فكل منذر مُعْلِم وليس كل مُعْلِم منذراً، وحقق ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي الهمزتين في { ءَأَنذَرْتَهُمْ } ، وكذلك كل همزتين تقعان في أول الكلمة، والآخرون يليِّنون الثانية { أَمْ } حرف عطف على الاستفهام { لَمْ } حرف جزم لا يلي إلا الفعل، لأن الجزم يختص بالأفعال { تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنوُنَ } وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله، ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال: { خَتَمَ ٱللَّهُ } طبع الله { عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } فلا تعي خيراً ولا تفهمه. وحقيقة الختم الاستيثاق من الشيء كيلا يدخله ما خرج منه ولا يخرج عنه ما فيه، ومنه الختم على الباب. قال أهل السنة: أي: حكم على قلوبهم بالكفر، لما سبق من علمه الأزلي فيهم، وقال المعتزلة: جعل على قلوبهم علامة تعرفهم الملائكة بها. { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ }: أي: على موضع سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وأراد على أسماعهم كما قال: على قلوبهم، وإنما وحَّده لأنه مصدر، والمصدر لا يُثنى ولا يُجمع. { وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ } هذا ابتداء كلام. غشاوة أي: غطاء، فلا يرون الحق. وقرأ أبو عمرو الكسائي أبصارهم بالامالة وكذا كل ألف بعدها راء مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها، ويميل حمزة منها ما يتكرر فيه الراء كالقرار ونحوه. زاد الكسائي إمالة جبارين والجوار والجار وبارئكم ومن أنصاري ونسارع وبابه. وكذلك يُميل هؤلاء كل ألف بمنزلة لام الفعل، أو كان علماً للتأنيث، إذا كان قبلها راء، فعلم التأنيث مثل: الكبرى والأخرى. ولام الفعل مثل: ترى، وافترى، يكسرون الراء فيها. { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي: في الآخرة، وقيل: القتل والأسر في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | والعذاب:كل ما يعنيِّ الإنسان ويشق عليه. قال الخليل: العذاب ما يمنع الانسان عن مراده، ومنه الماء العذب، لأنه يمنع العطش. قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ } نزلت في المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول، ومعتب بن قشير، وجدِّ بن قيس وأصحابهم حيث أظهروا كلمة الإِسلام ليسلموا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود، والناس جمع انسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي، كما قال الله تعالىٰ:**{ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ }** [طه: 115]، وقيل: لظهوره من قولهم آنست أي أبصرت، وقيل: لأنه يستأنس به { وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } ، أي بيوم القيامة. قال الله تعالىٰ: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } أي يخالفون الله وأصل الخدع في اللغة الإِخفاء، ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر والخدع من الله في قوله**{ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142]، أي يظهر لهم ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة. وقيل: أصل الخدع: الفساد، معناه يفسدون ما أظهروا من الإِيمان بما أضمروا من الكفر. وقوله: وهو خادعهم أي: يُفسد عليهم نعيمهم في الدنيا بما يصيِّرهم إليه من عذاب الآخرة فإن قيل ما معنى قوله: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } والمفاعلة للمشاركة وقد جلَّ الله تعالىٰ عن المشاركة في المخادعة؟ قيل: قد ترد المفاعلة لا على معنى المشاركة كقولك عافاك الله وعاقبت فلاناً، وطارقت النعل. وقال الحسن: معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالىٰ:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ }** [الأحزاب: 57]، أي أولياء الله، وقيل: ذِكْرُ الله هاهنا تحسين والقصد بالمخادعة الذين آمنوا كقوله تعالىٰ:**{ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ }** [الأنفال: 41] وقيل معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع في دينهم { وَٱلَّذِينَ ءَامَنوُا } أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم آمنا وهم غير مؤمنين، { وَمَا يَخْدَعُونَ } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وما يخادعون كالحرف الأول وجعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد. وقرأ الباقون: وما يخدعون على الأصل. { إلاَّ أَنفُسَهُمْ } لأن وبال خداعهم راجع إليهم لأن الله تعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم { فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك ونفاق وأصل المرض الضعف. وسمي الشك في الدين مرضاً لأنه يضعف الدين كالمرض يضعف البدن. { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } لأن الآيات كانت تنزل تترى، آية بعد آية، كلما كفروا بآية ازدادوا كفراً ونفاقاً وذلك معنى قوله تعالىٰ:**{ وأمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ }** [التوبة: 125] وقرأ ابن عامر وحمزة فزادهم بالإمالة وزاد حمزة إمالة زاد حيث وقع وزاغ وخاب وطاب وحاق وضاق، والآخرون لا يميلونها { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } ما للمصدر أي بتكذيبهم الله ورسوله في السر. قرأ الكوفيون يكذبون بالتخفيف أي: بكذبهم إذ قالوا: آمنا وهم غير مؤمنين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ)
معنى الكفر مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر، ومنه قول الشاعر لبيد بن ربيعة: [الكامل] | **في ليلة كفر النجوم غمامها** | | | | --- | --- | --- | أي سترها ومنه سمي الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده قال الشاعر: [ثعلبة بن صغيرة]: [الكامل]. | **فتذكر ثقلاً رثيداً بعدما** | | **ألقت ذكاءَ يمينها في كافر** | | --- | --- | --- | ومنه قيل للزراع كفار، لأنهم يغطون الحب، فـ " كفر " في الدين معناه غطى قلبه بالرِّين عن الإيمان أو غطى الحق بأقواله وأفعاله. واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها. فقال قوم: " هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس في هذه حاله دون أن يعين أحد ". وقال ابن عباس: " نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب، وأبي ياسر وابن الأشرف ونظارائهم " وقال الربيع بن أنس: " نزلت في قادة الأحزاب وهم أهل القليب ببدر ". قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هكذا حكي هذا القول، وهو خطأ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم، وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب، والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه، وكل من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر أنه في ضمن الآية. وقوله: { سواء عليهم } معناه معتدل عندهم، ومنه قول الشاعر: [أعشى قيس]: [الطويل]. | **وليل يقول الناس من ظلماتِهِ** | | **سواء صحيحاتُ العيونِ وعورُها** | | --- | --- | --- | قال أبو علي: في اللفظة أربع لغات: سوى بكسر السين، وسواء بفتحها والمد، وهاتان لغتان معروفتان، ومن العرب من يكسر السين ويمد، ومنهم من يضم أوله ويقصره، وهاتان اللغتان أقل من تينك. ويقال سي بمعنى سواء كما قالوا: " قي، وقواء " ، و { سواء } رفع على خبر { إن } ، أو رفع على الابتداء وخبره فيما بعده، والجملة خبر { إن } ، ويصح أن يكون خبر { إن } { لا يؤمنون }. وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع: " آنذرتهم " بهمزة مطولة، وكذلك ما أشبه ذلك في جميع القرآن، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خففت، غير أن مد أبي عمرو أطول من مد ابن كثير، لأنه يدخل بين الهمزتين ألفاً، وابن كثير لا يفعل ذلك. وروى قالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية. وروى عنه ورش تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين، فأما عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق وابن عامر: فبالهمزتين " أأنذرتهم " ، وما كان مثله في كل القرآن. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقرأ الزهري وابن محيصن " أنذرتهم " بحذف الهمزة الأولى، وتدل { أم } على الألف المحذوفة، وكثر مكي في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء. والإنذار إعلام بتخويف، هذا حده، وأنذرت فعل يتعدى إلى مفعولين. قال الله عز وجل:**{ فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }** [فصلت: 13] وقال:**{ إنا أنذرناكم عذاباً قريباً }** [النساء: 40] وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى عليه. وقوله تعالى: { آنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً سواء عليّ أقعدت أم ذهبت، وإذا قلت مستفهماً أخرج زيد أم قام، فقد استوى الأمران عندك، هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما التسوية جرى عل هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام، وكل استفهام تسوية، وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً. وقوله تعالى: { ختم الله } مأخوذ من الختم وهو الطبع، والخاتم الطابع، وذهبت طائفة من المتأولين إلى أن ذلك على الحقيقة، وأن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال والإعراض إصبعاً إصبعاً. وقال آخرون: ذلك على المجاز، وإن ما اخترع له في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سماه ختماً. وقال آخرون ممن حمله على المجاز: " الختم هنا أسند إلى الله تعالى لما كفر الكافرون به وأعرضوا عن عبادته وتوحيده، كما يقال أهلك المال فلاناً وإنما أهلكه سوء تصرفه فيه ". وقرأ الجمهور: { وعلى سمعهم }. وقرأ ابن أبي عبلة: " وعلى أسماعهم " ، وهو في قراءة الجمهور مصدر يقع للقليل والكثير، وأيضاً فلما أضيف إلى ضمير جماعة دل المضاف إليه على المراد، ويحتمل أن يريد على مواضع سمعهم فحذف وأقام المضاف إليه مقامه. والغشاوة الغطاء المغشي الساتر، ومنه قول النابغة: [البسيط] | **هلا سألت بني ذبيان ما حسبي** | | **إذا الدخان تغشى الأشمط البرما** | | --- | --- | --- | وقال الآخر: [الحارث بن خالد المخزومي]: [الطويل] | **تبعتك إذ عيني عليها غشاوة** | | **فلما انجلتْ قطعت نفسي ألومها** | | --- | --- | --- | ورفع غشاوة على الابتداء وما قبله خبره. وقرأ عاصم فيما روى المفضل الضبي عنه " غشاوة " بالنصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة، والختم على هذا التقدير في القلوب والأسماع، والغشوة على الأبصار، والوقف على قوله { وعلى سمعهم }. وقرأ الباقون " غشاوةٌ " بالرفع. قال أبو علي: " وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن تحمله على ختم الظاهر فيعترض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به " وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وإما أن تحمله على فعل يدل عليه { ختم } تقديره وجعل على أبصارهم، فيجيء الكلام من باب: " متقلداً سيفاً ورمحاً " وقول الآخر: [الرجز]: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **علفتها تبناً وماءً بارداً** | | | | --- | --- | --- | ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار. فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة ". قال: " ولم أسمع من الغشاوة فعلاً مصرفاً بالواو، فإذا لم يوجد ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم الغشيان فالغشاوة من غشي كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء، إذ لم يصرف منه فعل كما لم يصرف من الجباوة ". وقال بعض المفسرين: الغشاوة على الأسماع والأبصار، والوقف في قوله { على قوبهم }. وقال آخرون: " الختم في الجميع، والغشاوة هي الخاتم ". قال القاضي أبو محمد: وقد ذكرنا اعتراض أبي عليّ هذا القول. وقرأ أبو حيوة " غَشوة " ، بفتح الغين والرفع، وهي قراءة الأعمش. وقال الثوري: " كان أصحاب عبد الله يقرؤونها " غَشيةٌ " بفتح الغين والياء والرفع ". وقرأ الحسن: " غُشاوة " بضم الغين، وقرئت " غَشاوة " بفتح الغين، وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة الأشياء التي هي أبداً مشتملة، فهكذا يجيء وزنها كالضمامة والعمامة والكنابة والعصابة والربابة وغير ذلك. قوله تعالى: { ولهم عذاب عظيم } معناه بمخالفتك يا محمد وكفرهم بالله استوجبوا ذلك، و { عظيم } معناه بالإضافة إلى عذاب دونه يتخلله فتور، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى: { إِن الذين كفروا } في نزولها أربعة أقوال. أحدها: أنها نزلت في قادة الأحزاب، قاله أبو العالية. والثاني: أنها نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك. والثالث: أنها نزلت في طائفة من اليهود، ومنهم حيي بن أخطب، قاله ابن السائب. والرابع: أنها نزلت في مشركي العرب، كأبي جهل وأبي طالب، وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم. قال مقاتل: فأما تفسيرها، فالكفر في اللغة: التغطية. تقول: كفرت الشيء إذا غطيته، فسمي الكافر كافراً، لأنه يغطي الحق. قوله تعالى: { سواء عليهم } أي: متعادل عندهم الانذار وتركه، والانذار: إِعلام مع تخويف، وتناذر بنو فلان هذا الأمر: إذا خوفه بعضُهم بعضاً. قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية وردت بلفظ العموم، والمراد بها الخصوص، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم، ولو كانت على ظاهرها في العموم، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ الَّذِينَ كَفَرُواْ }: نزلت في قادة الأحزاب، أو في مشركي أهل الكتاب، أو في معينين من اليهود حول المدينة أو مشركو العرب، والكفر: التغطية. | **.........................** | | **في ليلة كفرَ النجومَ غمامُها** | | --- | --- | --- | والزارع، كافر، لتغطيته البذر في الأرض، فالكافر مغطي نعم الله تعالى بجحوده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل/ النسفي (ت 710 هـ)
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الكفر ستر الحق بالجحود، والتركيب دال على الستر ولذا سمي الزراع كافراً وكذا الليل. ولم يأت بالعاطف هنا كما في قوله:**{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ \* وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ }** [الأنفطار: 13، 14] لأن الجملة الأولى هنا مسوقة بياناً لذكر الكتاب لا خبراً عن المؤمنين وسيقت الثانية للإخبار عن الكفار بكذا، فبين الجملتين تفاوت في المراد وهما على حد لا مجال للعطف فيه، ولئن كان مبتدأ على تقرير فهو كالجاري عليه، والمراد بالذين كفروا أناس بأعيانهم علم الله أنهم لا يؤمنون كأبي جهل وأبي لهب وأضرابهما. { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } بهمزتين كوفي، وسواء بمعنى الاستواء، وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى:**{ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء }** [آل عمران: 64]، أي مستوية، وارتفاعه على أنه خبر لإن و«أأنذرتهم أم لم تنذرهم» مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه. أو يكون «سواء» خبراً مقدماً و«أأنذرتهم أم لم تنذرهم» في موضع الابتداء أي سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر لـ «إن» وإنما جاز الإخبار عن الفعل مع أنه خبر أبداً لأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى. والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً. قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما جرى ذلك على صورة النداء ولا نداء. والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر على المعاصي { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبر لـ «إن»، والجملة قبلها اعتراض أو خبر بعد خبر. والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة وليكون الإرسال عاماً وليثاب الرسول صلى الله عليه وسلم. { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } قال الزجاج: الختم التغطية لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلع عليه. وقال ابن عباس: طبع الله على قلوبهم فلا يعقلون الخير. يعني أن الله طبع عليها فجـعلها بحيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان. وحاصل الختم والطبع خلق الظلمة والضيق في صدر العبد عندنا فلا يؤمن ما دامت تلك الظلمة في قلبه. وعند المعتزلة أعلام محض على القلوب بما يظهر للملائكة أنهم كفار فيلعنونهم ولا يدعون لهم بخير. وقال بعضهم: إن إسناد الختم إلى الله تعالى مجـاز والخاتم في الحقيقة الكافر، إلا أنه تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب فيقال: بنى الأمير المدينة، لأن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له، فإسناده إلى الفاعل حقيقة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد يسند إلى هذه الأشياء مجازاً لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له إسمه وهذا فرع مسألة خلق الأفعال { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } وحد السمع كما وحد البطن في قوله: كلوا من بعض بطنكم تعفوا لأمن اللبس ولأن السمع مصدر في أصله يقال: سمعت الشيء سمعاً وسماعاً، والمصدر لا يجمع لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير فلا يحتاج فيه إلى التثنية والجمع فلمح الأصل. وقيل: المضاف محذوف أي وعلى مواضع سمعهم وقرىء «وعلى أسماعهم». { وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ } بالرفع خبر ومبتدأ، والبصر: نور العين وهو ما يبصر به الرائي، كما أن البصيرة نور القلب وهي ما به يستبصر ويتأمل وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله تعالى فيهما آلتين للإبصار والاستبصار. والغشاوة: الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة والقلادة. والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية لقوله:**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً }** [الجاثية: 23]، ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. ونصب المفضل وحده غشاوة بإضمار «جعل» وتكرير الجار في قوله «وعلى سمعهم» دليل على شدة الختم في الموضعين. قال الشيخ الإمام أبو منصور بن علي رحمه الله: الكافر لما لم يسمع قول الحق ولم ينظر في نفسه وفي غيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث فيعلم أن لا بد من صانع، جعل كأن على بصره وسمعه غشاوة، وإن لم يكن ذلك حقيقة وهذا دليل على أن الأسماع عنده داخلة في حكم التغشية. والآية حجة لنا على المعتزلة في الأصلح فإنه أخبر أنه ختم على قلوبهم ولا شك أن ترك الختم أصلح لهم. { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } العذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول نكل عنه، والفرق بين العظيم والكبير أن العظيم يقابل الحقير والكبير يقابل الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثة والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من التغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب لا يعلم كنهه إلا الله. { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، ثم ثنى بالكافرين قلوباً وألسنة، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاءً وخداعاً ولذا نزل فيهم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ }** [النساء: 145] وقال مجاهد: أربع آيات من أول السورة في نعت المؤمنين، وآيتان في ذكر الكافرين، وثلاث عشرة آية في المنافقين، نعى عليهم فيها نكرهم وخبثهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفاً وحذفها كاللازم مع لام التعريف لا يكاد يقال الأناس ويشهد لأصله إنسان وأناسي وإنس، وسموا به لظهروهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول فإنك تقول وزن قه افعل وليس معك إلا العين، وهو من أسماء الجمع ولام التعريف فيه للجنس ومن موصوفة ويقول صفة لها كأنه قيل ومن الناس ناس يقولون كذا. وإنما خصوا الإيمان بالله وباليوم الآخر وهو الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، وإنما سمي بالآخر لتأخره عن الأوقات المنقضية أو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنهم أوهموا في هذا المقال أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى مسائل المبدأ وهي العلم بالصانع وصفاته وأسمائه، ومسائل المعاد وهي العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة. وفي تكرير الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. وإنما طابق قوله { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } وهو في ذكر شأن الفاعل لا الفعل، قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهو في ذكر شأن الفعل لا الفاعل لأن المراد إنكار ما ادعوه ونفيه على أبلغ وجه وآكده وهو إخراج ذواتهم من أن تكون طائفة من المؤمنين، ونحوه قوله تعالى:**{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنْهَا }** [المائدة: 37]، فهو أبلغ من قولك «وما يخرجون منها». وأطلق الإيمان في الثاني بعد تقييده في الأول لأنه يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، ويحتمل أن يراد نفي أصل الإيمان وفي ضمنه نفي المذكور أولاً. والآية تنفي قول الكرامية: إن الإيمان هو الإقرار باللسان لا غير لأنه نفى عنهم اسم الإيمان مع وجود الإقرار منهم، وتؤيد قول أهل السنة إنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان. ودخلت الباء في خبر «ما» مؤكدة للنفي لأنه يستدل به السامع على الجحد إذا غفل عن أول الكلام، ومن موحد اللفظ فلذا قيل يقول وجمع «وما هم بمؤمنين» نظراً إلى معناه. { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ } أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذف المضاف كقوله**{ وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ }** [يوسف: 82] كذا قاله أبو علي رحمه الله وغيره، أي يظهرون غير ما في أنفسهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فالخداع إظهار غير ما في النفس، وقد رفع الله منزلة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل خداعه خداعه وهو كقوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }** [الفتح: 10] وقيل: معناه يخادعون الله في زعمهم لأنهم يظنون أن الله ممن يصح خداعه، وهذا المثال يقع كثيراً لغير اثنين نحو قولك «عاقبت اللص». وقد قرىء «يخدعون الله» وهو بيان ليقول أو مستأنف كأنه قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين وما منفعتهم في ذلك؟ قيل: يخادعون الله، ومنفعتهم في ذلك متاركتهم عن المحاربة التي كانت مع من سواهم من الكفار وإجراء أحكام المؤمنين عليهم ونيلهم من الغنائم وغير ذلك. قال صاحب الوقوف: الوقف لازم على «بمؤمنين» لأنه لو وصل لصار التقدير وما هم بمؤمنين مخادعين فينتفي الوصل كقولك «ما هو برجل كاذب» والمراد نفي الإيمان عنهم وإثبات الخداع لهم. ومن جعل «يخادعون» حالاً من الضمير في يقول والعامل فيها «يقول» والتقدير يقول آمنا بالله مخادعين أو حالاً من الضمير في «بمؤمنين» والعامل فيها اسم الفاعل والتقدير وما هم بمؤمنين في حال خداعهم لا يقف والوجه الأول: { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي يخادعون رسول الله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإضمار الكفر. { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } أي وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم، لأن ضررها يلحقهم. وحاصل خداعهم وهو العذاب في الآخرة يرجع إليهم فكأنهم خدعوا أنفسهم وما يخادعون. أبو عمرو ونافع ومكي للمطابقة وعذر الأولين أن خدع وخادع هنا بمعنى واحد، والنفس ذات الشيء وحقيقته. ثم قيل للقلب والروح النفس لأن النفس بهما، وللدم نفس لأن قوامها بالدم، وللماء نفس لفرط حاجتها إليه، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم، والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم. { وَمَا يَشْعُرُونَ } أن حاصل خداعهم يرجـع إليهم والشعور علم الشيء علم حس من الشعار وهو ثوب يلي الجسد، ومشاعر الإنسان حواسه لأنها آلات الشعور، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس وهم، لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي شك ونفاق لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد. في الحديث **" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين "** والمريض متردد بين الحياة والموت، ولأن المرض ضد الصحة والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسماً لكل فساد والشك والنفاق فساد في القلب. { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } أي ضعفاً عن الانتصار وعجزاً عن الاقتدار. وقيل: المراد به خلق النفاق في حالة البقاء بخلق أمثاله كما عرف في زيادة الإيمان. { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } كوفي. أي بكذبهم في قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، فما مع الفعل بمعنى المصدر، والكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به يكذبون غيرهم أي بتكذيبهم النبي عليه السلام فيما جاء به. وقيل: هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل صدق ونظيرهما بان الشيء وبين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ)
{ إن الذين كفروا سواء عليهم } ، إن: حرف توكيد يتشبث بالجملة المتضمنة الإسناد الخبري، فينصب المسند إليه، ويرتفع المسند وجوباً عند الجمهور، ولها ولأخواتها باب معقود في النحو. وتأتي أيضاً حرف جواب بمعنى نعم خلافاً لمن منع ذلك. الكفر: الستر، ولهذا قيل: كافر للبحر، ومغيب الشمس، والزارع، والدافن، والليل، والمتكفر، والمتسلح. فبينها كلها قدر مشترك وهو الستر، سواء اسم بمعنى استواء مصدر استوى، ووصف به بمعنى مستو، فتحمل الضمير. قالوا: مررت برجل سواء، والعدم قالوا: أصله العدل، قال زهير: يسوي بينها فيها السواء. ولإجرائه مجرى المصدر لا يثني، قالوا: هما سواء استغنوا بتثنية سي بمعنى سواء، كقي بمعنى قواء، وقالوا: هما سيان. وحكى أبو زيد تثنيته عن بعض العرب. قالوا: هذان سواآن، ولذلك لا تجمع أيضاً، قال: | **وليل يقول الناس من ظلماته** | | **سواء صحيحات العيون وعورها** | | --- | --- | --- | وهمزته منقلبة عن ياء، فهو من باب طويت. وقال صاحب اللوامح: قرأ الجحدري سواء بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز، فيجوز أنه أخلص الواو، ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين، وهو أن يكون بين الهمزة والواو. وفي كلا الوجهين لا بد من دخول النقص فيما قبل الهمزة الملينة من المد، انتهى. فعلى هذا يكون سواء ليس لامه ياء بل واواً، فيكون من باب قواء. وعن الخليل: سوء عليهم بضم السين مع واو بعدها مكان الألف، مثل دائرة السوء على قراءة من ضم السين، وفي ذلك عدول عن معنى المساواة إلى معنى القبح والسب، ولا يكون على هذه القراءة له تعلق إعراب بالجملة بعدها بل يبقى. { أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } إخبار بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك وعدم إنذارك، وأما سواء الواقع في الاستثناء في قولهم قاموا سواك بمعنى قاموا غيرك، فهو موافق لهذا في اللفظ، مخالف في المعنى، فهو من باب المشترك، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء. الهمزة للنداء، وزيد وللاستفهام الصرف، وذلك ممن يجهل النسبة فيسأل عنها، وقد يصحب الهمزة التقرير: { أأنت قلت للناس }؟ والتحقيق، ألستم خير من ركب المطايا. والتسوية { سواء عليهم أأنذرتم } ، والتوبيخ**{ أذهبتم طيباتكم }** [الأحقاف: 20]، والإنكار أن يدنيه لمن قال جاء زيد، وتعاقب حرف القسم الله لأفعلن. الإنذار: الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف، وإن لم تسع سمي إعلاماً وإشعاراً أو إخباراً، ويتعدى إلى اثنين:**{ إنا أنذرناكم عذاباً قريباً }** [النبأ: 40]،**{ فقل أنذرتكم صاعقة }** [فصلت: 13]، والهمزة فيه للتعدية، يقال: نذر القوم إذا علموا بالعدو. وأم حرف عطف، فإذا عادل الهمزة وجاء بعده مفرداً أو جملة في معنى المفرد سميت أم متصلة، وإذا انخرم هذان الشرطان أو أحدهما سميت منفصلة، وتقرير هذا في النحو، ولا تزاد خلافاً لأبي زيد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | لم حرف نفي معناه النفي وهو مما يختص بالمضارع، اللفظ الماضي معنى، فعمل فيه ما يخصه، وهو الجزم، وله أحكام ذكرت في النحو. { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } الختم: الوسم بطابع أو غيره مما يوسم به. القلب: مصدر قلب، والقلب: اللحمة الصنوبرية المعروفة سميت بالمصدر، وكنى به في القرآن وغيره عن العقل، وأطلق أيضاً على لب كل شيء وخالصه. السمع: مصدر سمع سمعاً وسماعاً وكنى به في بعض المواضع عن الأذن. البصر: نور العين، وهو ما تدرك به المرئيات. الغشاوة: الغطاء، غشاه أي غطاه، وتصحح الواو لأن الكلمة بنيت على تاء التأنيث، كما صححوا اشتقاقه، قال أبو علي الفارسي: لم أسمع من الغشاوة فعلاً متصرفاً بالواو، وإذا لم يوجد ذلك كان معناها معنى ما اللام منه الياء، غشي يغشى بدلالة قولهم: الغشيان والغشاوة من غشي، كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء إذا لم يصرف منه فعل، كما لم يصرف من الجباوة، انتهى كلامه. العذاب: أصله الاستمرار، ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه فقالوا: عذبته، أي داومت عليه الألم، وقد جعل الناس بينه وبين العذاب: الذي هو الماء الحلو، وبين عذب الفرس: استمر عطشه، قدراً مشتركاً وهو الاستمرار، وإن اختلف متعلق الاستمرار. وقال الخليل: أصله المنع، يقال عذب الفرس: امتنع من العلف. عظيم: اسم فاعل من عظم غير مذهوب به مذهب الزمان، وفعيل اسم، وصفة الاسم مفرد نحو: قميص، وجمع نحو: كليب، ومعنى نحو: صهيل، والصفة مفرد فعله كقرى، وفعله كسرى، واسم فاعل من فعل ككريم، وللمبالغة من فاعل كعليم، وبمعنى أفعل كشميط، وبمعنى مفعول كجريح، ومفعل كسميع وأليم، وتفعل كوكيد، ومفاعل كجليس، ومفتعل كسعير، ومستفعل كمكين، وفعل كرطيب، وفعل كعجيب، وفعال كصحيح، وبمعنى الفاعل والمفعول كصريح، وبمعنى الواحد والجمع كخليط وجمع فاعل كغريب. مناسبة اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر، وهو أنه لما ذكر صفة من الكتاب له هدى وهم المتقون الجامعون للأوصاف المؤدية إلى الفور، ذكر صفة ضدهم وهم الكفار المحتوم لهم بالوفاة على الكفر، وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم، ولذلك لم يدخل في قصة المتقين، لأن الحديث إنما جاء فيهم بحكم الانجرار، إذ الحديث إنما هو عن الكتاب ثم أنجز ذكرهم في الإخبار عن الكتاب، وعلى تقدير إعراب الذين يؤمنون، الأول والثاني مبتدأ، فإنما هو في المعنى من تمام صفة المتقين الذين كفروا، يحتمل أن يكون للجنس ملحوظاً فيه قيد، وهو أن يقضي عليه بالكفر والوفاة عليه، وأن يكون لمعينين كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما. وسواء وما بعده يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون لا موضع له من الإعراب، ويكون جملة اعتراض من مبتدأ وخبر، بجعل سواء المبتدأ والجملة بعده الخبر أو العكس، والخبر قوله: لا يؤمنون، ويكون قد دخلت جملة الاعتراض تأكيداً لمضمون الجملة، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والوجه الثاني: أن يكون له موضع من الإعراب، وهو أن يكون في موضع خبر إن، فيحتمل لا يؤمنون أن يكون له موضع من الإعراب، إما خبر بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون، وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال وهو بعيد، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب فتكون جملة تفسيرية لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه، كقوله تعالى:**{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة }** [الفتح: 29] أو يكون جملة دعائية وهو بعيد، وإذا كان لقوله تعالى: { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } موضع من الإعراب فيحتمل أن يكون سواء خبر إن، والجملة في موضع رفع على الفاعلية، وقد اعتمد بكونه خبر الذين، والمعنى إن الذين كفروا مستو إنذارهم وعدمه. وفي كون الجملة تقع فاعلة خلاف مذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسماً أو ما هو في تقديره، ومذهب هشام وثعلب وجماعة من الكوفيين جواز كون الجملة تكون فاعلة، وأجازوا تعجبني يقوم زيد، وظهر لي أقام زيد أم عمرو، وأي قيام أحدهما، ومذهب الفراء وجماعة: أنه إن كانت الجملة معمولة لفعل من أفعال القلوب وعلق عنها، جاز أن تقع في موضع الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله وإلا فلا، ونسب هذا لسيبويه. قال أصحابنا: والصحيح المنع مطلقاً وتقرير هذا في المبسوطات من كتب النحو. ويحتمل أن يكون قوله: { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } مبتدأ وخبراً على التقديرين اللذين ذكرناهما إذا كانت جملة اعتراض، وتكون في موضع خبر إن، والتقديران المذكوران عن أبي علي الفارسي وغيره. وإذا جعلنا سواء المبتدأ والجملة الخبر، فلا يحتاج إلى رابط لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل، وأكثر ما جاء سواء بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بأم**{ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا }** [إبراهيم: 21]،**{ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون }** [الأعراف: 193]، وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها،**{ اصبروا أو لا تصبروا، سواء عليكم }** [الطور: 16] أي أصبرتم أم لم تصبروا، وتأتي بعده الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام، نحو: سواء على أي الرجال ضربت، قال زهير: | **سواء عليه أي حين أتيته** | | **أساعة نحس تتقي أم بأسعد** | | --- | --- | --- | وقد جاء بعده ما عري عن الاستفهام، وهو الأصل، قال: | **سـواء صحيحـات العيـون وعورهـا** | | | | --- | --- | --- | وأخبر عن الجملة بأن جعلت فاعلاً بسواء أو مبتدأة، وإن لم تكن مصدره بحرف مصدري حملاً على المعنى وكلام العرب منه ما طابق فيه اللفظ المعنى، نحو: قام زيد، وزيد قائم، وهو أكثر كلام العرب، ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى، نحو: علمت أقام زيد أم قعد، لا يجوز تقديم الجملة على علمت، وإن كان ليس ما بعد علمت استفهاماً، بل الهمزة فيه للتسوية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية نحو: | **على حين عاتبت المشيب على الصبا** | | | | --- | --- | --- | أذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه، لكن لوحظ المعنى، وهو المصدر، فصحت الإضافة. قال ابن عطية: { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً سواء علي أقمت أم قعدت أم ذهبت؟ وإذا قلت مستفهماً أخرج زيد أم قام؟ فقد استوى الأمران عندك، هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عممتهما التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام، وكل استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاماً، انتهى كلامه. وهو حسن، إلا أن في أوله مناقشة، وهو قوله: { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وليس كذلك لأن هذا الذي صورته صورة الاستفهام ليس معناه الخبر لأنه مقدر بالمفرد إما مبتدأ وخبره سواء أو العكس، أو فاعل سواء لكون سواء وحده خبراً لأن، وعلى هذه التقادير كلها ليس معناه معنى الخبر وإنما سواء، وما بعده إذا كان خبراً أو مبتدأ معناه الخبر. ولغة تميم تخفيف الهمزتين في نحو أأنذرتهم، وبه قرأ الكوفيون، وابن ذكوان، وهو الأصل. وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلباً للتخفيف، فقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وهشام: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، إلا أن أبا عمرو، وقالون، وإسماعيل بن جعفر، عن نافع، وهشام، يدخلون بينهما ألفاً، وابن كثير لا يدخل. وروي تحقيقاً عن هشام وإدخال ألف بينهما، وهي قراءة ابن عباس، وابن أبي إسحاق. وروي عن ورش، كابن كثير، وكقالون وإبدال الهمزة الثانية ألفاً فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين، وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري، وزعم أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين: أحدهما: الجمع بين ساكنين على غير حده. الثاني: إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفاً، لأن ذلك هو طريق الهمزة الساكنة، وما قاله هو مذهب البصريين، وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون. وقراءة ورش صحيحة النقل لا تدفع باختيار المذاهب ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة القرآن. وقرأ الزهري، وابن محيصن: أنذرتهم بهمزة واحدة، حذف الهمزة الأولى لدلالة المعنى عليها، ولأجل ثبوت ما عاد لها، وهو أم، وقرأ أبي أيضا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم الساكنة قبلها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والمفعول الثاني لأنذر محذوف لدلالة المعنى عليه، التقدير أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه؟ وفائدة الإنذار مع تساويه مع العدم أنه قاطع لحجتهم، وأنهم قد دعوا فلم يؤمنوا، ولئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت، وأن فيه تكثير الأجر بمعاناة من لا قبول له للإيمان ومقاساته، وإن في ذلك عموم إنذاره لأنه أرسل للخلق كافة. وهل قوله: لا يؤمنون خبر عنهم أو حكم عليهم أو ذم لهم أو دعاء عليهم؟ أقوال، وظاهر قوله تعالى: { ختم الله } أنه إخبار من الله تعالى بختمه وحمله بعضهم على أنه دعاء عليهم، وكنى بالختم على القلوب عن كونها لا تقبل شيئاً من الحق ولا تعيه لإعراضها عنه، فاستعار الشيء المحسوس والشيء المعقول، أو مثل القلب بالوعاء الذي ختم عليه صوناً لما فيه ومنعاً لغيره من الدخول إليه. والأول: مجاز الاستعارة، والثاني: مجاز التمثيل. ونقل عمن مضى أن الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه، قال مجاهد: إذا أذنبت ضم من القلب هكذا، وضم مجاهد الخنصر، ثم إذا أذنبت ضم هكذا، وضم البنصر، ثم هكذا إلى الإبهام، وهذا هو الختم والطبع والرين. وقيل: الختم سمة تكون فيهم تعرفهم الملائكة بها من المؤمنين. وقيل: حفظ ما في قلوبهم من الكفر ليجازيهم. وقيل: الشهادة على قلوبهم بما فيها من الكفر ونسبة الختم إلى الله تعالى بأي معنى فسر إسناد صحيح، إذ هو إسناد إلى الفاعل الحقيقي، إذ الله تعالى خالق كل شيء. وقد تأول الزمخشري وغيره من المعتزلة هذا الإسناد، إذ مذهبهم أن الله تعالى لا يخلق الكفر ولا يمنع من قبول الحق والوصول إليه، إذ ذاك قبيح والله تعالى يتعالى عن فعل القبيح، وذكر أنواعاً من التأويل عشرة، ملخصها: الأول: أن الختم كنى به عن الوصف الذي صار كالخلقي وكأنهم جبلوا عليه وصار كأن الله هو الذي فعل بهم ذلك. الثاني: أنه من باب التمثيل كقولهم: طارت به العنقاء، إذا أطال الغيبة، وكأنهم مثلت حال قلوبهم بحال قلوب ختم الله عليها. الثالث: أنه نسبه إلى السبب لما كان الله هو الذي أقدر الشيطان ومكنه أسند إليه الختم. الرابع: أنهم لما كانوا مقطوعاً بهم أنهم لا يؤمنون طوعاً ولم يبق طريق إيمانهم إلا بإلجاء وقسر وترك القسر عبر عن تركه بالختم. الخامس: أن يكون حكاية لما يقوله الكفار تهكماً كقولهم: { قلوبنا في أكنة }. السادس: أن الختم منه على قلوبهم هو الشهادة منه بأنهم لا يؤمنون. السابع: أنها في قوم مخصوصين فعل ذلك بهم في الدنيا عقاباً عاجلاً، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا. الثامن: أن يكون ذلك فعله بهم من غير أن يحول بينهم وبين الإيمان لضيق صدورهم عقوبة غير مانعة من الإيمان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | التاسع: أن يفعل بهم ذلك في الآخرة لقوله تعالى:**{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً }** [الإسراء: 97]. العاشر: ما حكى عن الحسن البصري، وهو اختيار أبي علي الجبائي، والقاضي، أن ذلك سمة وعلامة يجعلها الله تعالى في قلب الكافر وسمعه، تستدل بذلك الملائكة على أنهم كفار وأنهم لا يؤمنون. انتهى ما قاله المعتزلة. والمسألة يبحث عنها في أصول الدين. وقد وقع قوله: { وعلى سمعهم } بين شيئين: يمكن أن يكون السمع محكوماً عليه مع كل واحد منهما، إذ يحتمل أن يكون أشرك في الختم بينه وبين القلوب، ويحتمل أن يكون أشرك في الغشاوة بينه وبين الأبصار. لكن حمله على الأول أولى للتصريح بذلك في قوله:**{ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة }** [الجاثية: 23]. وتكرير حرف الجر يدل على أن الختم ختمان، أو على التوكيد، إن كان الختم واحداً فيكون أدل على شدة الختم. وقرأ ابن أبي عبلة أسماعهم فطابق في الجمع بين القلوب والأسماع والأبصار. وأما الجمهور فقرؤوا على التوحيد، إما لكونه مصدراً في الأصل فلمح فيه الأصل، وإما اكتفاء بالمفرد عن الجمع لأن ما قبله وما بعده يدل على أنه أريد به الجمع، وإما لكونه مصدراً حقيقة وحذف ما أضيف إليه لدلالة المعنى أي حواس سمعهم. وقد اختلف الناس في أي الحاستين السمع والبصر أفضل، وهو اختلاف لا يجدي كبير شيء. والإمالة في أبصارهم جائزة، وقد قرىء بها، وقد غلبت الراء المكسورة حرف الاستعلاء، إذ لولاها لما جازت الإمالة، وهذا بتمامه مذكور في النحو. وقرأ الجمهور: غشاوة بكسر الغين ورفع التاء، وكانت هذه الجملة ابتدائية ليشمل الكلام الإسنادين: إسناد الجملة الفعلية وإسناد الجملة الابتدائية، فيكون ذلك آكد لأن الفعلية تدل على التجدد والحدوث، والإسمية تدل على الثبوت. وكان تقديم الفعلية أولى لأن فيها أن ذلك قد وقع وفرغ منه، وتقديم المجرور الذي هو على أبصارهم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، مع أن فيه مطابقة بالجملة قبله لأنه تقدم فيها الجزء المحكوم به. وهذه كذلك الجملتان تؤول دلالتهما إلى معنى واحد، وهو منعهم من الإيمان، ونصب المفضل غشاوة يحتاج إلى إضمار ما أظهر في قوله: { وجعل على بصره غشاوة } ، أي وجعل على أبصارهم غشاوة، أو إلى عطف أبصارهم على ما قبله ونصبها على حذف حرف الجر، أي بغشاوة، وهو ضعيف. ويحتمل عندي أن تكون اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم، لأن معنى ختم غشي وستر، كأنه قيل تغشيه على سبيل التأكيد، وتكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة. وقال أبو علي: وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن يحمله على ختم الظاهر فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وما أن تحمله على فعل يدل عليه ختم تقديره وجعل على أبصارهم فيجيء الكلام من باب: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **متقلـداً سيفـاً ورمحـاً** | | | | --- | --- | --- | وقول الآخر: | **علفتهـا تبنـاً ومـاء بـارداً** | | | | --- | --- | --- | ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار، فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. انتهى كلام أبي علي، رحمه الله تعالى. ولا أدري ما معنى قوله: لأن النصب إنما يحمله على ختم الظاهر، وكيف تحمل غشاوة المنصوب على ختم الذي هو فعل؟ هذا ما لا حمل فيه اللهم إلا إن أراد أن يكون قوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم } دعاء عليهم لا خبراً، فإن ذلك يناسب مذهبه لاعتزاله، ويكون غشاوة في معنى المصدر المدعو به عليهم القائم مقام الفعل فكأنه قيل: وغشى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على ختم عطف المصدر النائب مناب فعله في الدعاء، نحو قولك: رحم الله زيداً وسقياً له، وتكون إذ ذاك قد حلت بين غشاوة المعطوف وبين ختم المعطوف عليه بالجار والمجرور. وأما إن جعلت ذلك خبراً محضاً وجعلت غشاوة في موضع المصدر البدل عن الفعل في الخبر فهو ضعيف لا ينقاس ذلك بل يقتصر فيه على مورد السماع، وقرأ الحسن باختلاف عنه وزيد بن علي: غشاوة بضم الغين ورفع التاء، وأصحاب عبد الله بالفتح والنصب وسكون الشين، وعبيد بن عمير كذلك، إلا أنه رفع التاء. وقرأ بعضهم غشوة بالكسر والرفع، وبعضهم غشوة وهي قراءة أبي حيوة، والأعمش قرأ بالفتح والرفع والنصب. وقال الثوري: كان أصحاب عبد الله يقرأونها غشية بفتح الغين والياء والرفع. اهـ. وقال يعقوب: غشوة بالضم لغة، ولم يؤثرها عن أحد من القراء. قال بعض المفسرين: وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة، والأشياء التي هي أبداً مشتملة، فهذا يجيء وزنها: كالصمامة، والعمامة، والعصابة، والريانة، وغير ذلك. وقرأ بعضهم: غشاوة بالعين المهملة المكسورة والرفع من العشي، وهو شبه العمى في العين. وتقديم القلوب على السمع من باب التقديم بالشرف وتقديم الجملة التي انتظمتها على الجملة التي تضمنت الأبصار من هذا الباب أيضاً. وذكر أهل البيان أن التقديم يكون باعتبارات خمسة: تقدم العلة والسبب على المعلول والمسبب، كتقديم الأموال على الأولاد في قوله تعالى:**{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة }** [التغابن: 15]، فإنه إنما يشرع في النكاح عند قدرته على المؤنة، فهي سبب إلى التزوج، والنكاح سبب للتناسل. والعلة: كتقدم المضيء على الضوء، وليس تقدم زمان، لأن جرم الشمس لا ينفك عن الضوء. وتقدم بالذات، كالواحد مع الإثنين، وليس الواحد علة للاثنين بخلاف القسم الأول. وتقدم بالشرف، كتقدم الإمام على المأموم. وتقدم بالزمان، كتقدم الوالد على الولد بالوجود، وزاد بعضهم سادس وهو: التقدم بالوجود حيث لا زمان. ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا، أخبر بما يؤول إليه أمرهم في الآخرة من العذاب العظيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولما كان قد أعد لهم العذاب صير كأنه ملك لهم لازم، والعظيم هو الكبير. وقيل: العظيم فوق، لأن الكبير يقابله الصغير، والعظيم يقابله الحقير. قيل: والحقير دون الصغير، وأصل العظم في الجثة ثم يستعمل في المعنى، وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما شع من الآخر، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد. وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى: { إن الذين كفروا } إلى قوله: { عظيم } ، أقوالاً: أحدها: أنها نزلت في يهود كانوا حول المدينة، قاله ابن عباس، وكان يسميهم. الثاني: نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش، قاله أبو العالية. الثالث: في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك. الرابع: في أصحاب القليب: وهم أبو جهل، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة. الخامس: في مشركي العرب قريش وغيرها. السادس: في المنافقين، فإن كانت نزلت في ناس بأعيانهم وافوا على الكفر، فالذين كفروا معهودون، وإن كانت لا في ناس مخصوصين وافوا على الكفر، فيكون عاماً مخصوصاً. ألا ترى أنه قد أسلم من مشركي قريش وغيرها ومن المنافقين ومن اليهود خلق كثير بعد نزول هاتين الآيتين؟. وذكروا أيضاً أن في هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعاً. الأول: الخطاب العام للفظ الخاص المعنى. الثاني: الاستفهام الذي يراد به تقرير المعنى في النفس، أي يتقرر أن الإنذار وعدمه سواء عندهم. الثالث: المجاز، ويسمى: الاستعارة، وهو قوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } ، وحقيقة الختم وضع محسوس على محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم، والختم هنا معنوي، فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير له اسم المختوم عليه فبين أنه من مجاز الاستعارة. الرابع: الحذف، وهو في مواضع: منها: أن الذين كفروا، أي أن القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به. ومنها: لا يؤمنون بالله وبما أخبرتهم به عنه. ومنها: ختم الله على قلوبهم فلا تعي وعلى أسماعهم فلا تصغي. ومنها: وعلى أبصارهم غشاوة على من نصب، أي وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون سبيل الهداية. ومنها: ولهم عذاب، أي ولهم يوم القيامة عذاب عظيم دائم، ويجوز أن يكون التقدير: ولهم عذاب عظيم في الدنيا بالقتل والسبي أو بالإذلال ووضع الجزية وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم. الخامس: التعميم: وهو في قوله: { ولهم عذاب عظيم } ، فإنه لو اقتصر على قوله عذاب ولم يقل عظيم لاحتمل القليل والكثير، فلما وصفه بالعظيم تمم المعنى وعلم أن العذاب الذي وعدوا به عظيم، إما في المقدار وإما في الإيلام والدوام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | السادس: الإشارة، فإن قوله: { سواء عليهم } إشارة إلى أن السواء الذي أضيف إليهم وباله ونكاله عليهم ومستعل فوقهم، لأنه لو أراد بيان أن ذلك من وصفهم فحسب لقال: سواء عندهم، فلما قال: سواء عليهم، نبه على أنه مستعل عليهم، فإن كلمة على للاستعلاء وهو الذي قاله هذا القائل من أن على تشعر بالاستعلاء صحيح، وأما أنها تدل على أن الكلام تضمن معنى الوبال والنكال عليهم فليس بصحيح، بل المعنى في قولك سواء عليك وعندك كذا وكذا واحد، وإن كان أكثر الاستعمال بعلى، قال تعالى:**{ سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين }** [الشعراء: 136]،**{ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا }** [إبراهيم: 21]، سواء عليها رحلتي ومقامي، وكل هذا لا يدل على معنى الوبال والنكال عليهم. السابع: مجاز التشبيه شبه قلوبهم لتأبيها عن الحق، وأسماعهم لإضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية بالوعاء المختوم عليه المسدود منافذه المغشي بغشاء يمنع أن يصل إليه ما يصلحه، لما كانت مع صحتها وقوة إدراكها ممنوعة عن قبول الخير وسماعه وتلمح نوره، وهذا كله من مجاز التشبيه، إذ الختم والغشاوة لم يوجدا حقيقة، وهو بالاستعارة أولى، إذ من شرط التشبيه أن يذكر المشبه والمشبه به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ... } قال ابن عرفة: لما كان المخاطب في مادة (أن ينكر) مساواة (حالة) إنذارهم لحالة عدم الإنذار بل (نقول): إنّها مظنة الانزجار والفلاح (والنجاح) احتيج إلى تأكيد المساواة بأن قال ابن عطية: قيل: (للزارع) كافر لأنه يغطي الحب ويقال: إذا غطى قلبه بالدين عن (الإيمان) أو غطى الحق بأقواله وأفعاله. قال ابن عرفة: أما الأول فظاهر لأنّ الدّين يجامع القلب فيصح تغطيته إياه، واعتقاد الحق لا يجامع اعتقاد الباطل، بل هو نقيضه وستره (له) لا يكون إلا مع اجتماعه معه: والفرض أنه لا يجامعه وأما باعتبار الأفعال فظاهر. قيل لابن عرفة: يصحّ اجتماعهما باعتبار اختلاف المتعلق؟ فقال: تحول المسألة وما (كلامه) إلا فيما إذا كان متعلق الكفر هو متعلق الإيمان، (فحينئذ) (تتعلق) التغطية. قيل له: تكون التغطية مجازا، عبر به عن (معاندة) أحد الاعتقادين للآخر؟ فقال: إنما هو مخبر عن أصل العقيدة أي هذه اللفظة ممّاذَا هي مشتقة؟ فما حقه أن يأتي إلاّ الحقيقة اللّغوية، وأما المجاز فليس بأصلي. واختلف الأصوليون في الألف واللام الداخلة على الموصول فقيل: إنها للجنس ويكون عاما مخصوصا كأكثر عمومات القرآن. وقيل: إنها مطلقة فتكون للحقيقة أعني الماهية، فلا يحتاج إلى تخصيص، ويحتمل أن تكون للعهد. ابن عطية: وقال الرّبيع بن أنس: (إنّ) الآية نزلت في قادة الأحزاب وهم أهمّ أهل القليب ببدر، وفي بعض النسخ وأهل القليب ببدر. قال ابن عرفة: وهو الصحيح فإن غزوة الأحزاب متأخرة عن بدر، وأهل القليب ببدر قتلوا فلم يبق منهم أحد للأحزاب. قال ابن عرفة: إلاّ أن يريد بالأحزاب الجماعة ولا يريد به الغزوة. قال الإمام ابن الخطيب: والآية دليل على جواز تأخير البيان (عن) وقت الحاجة، فإنها لم (تبين) متعلقها. ورده ابن عرفة بأنها ليس المراد بها التكليف (فيحتاج) إلى بيان وإنما هي تخويف وإنذار، والعموم أدعى (لحصول) التخويف من الخصوص. قوله تعالى: { ءَأَنذَرْتَهُمْ... } أنكر الزمخشري هنا قراءة ورش وجعلها لحنا وكفره الطيبي. وظاهر كلام الطيبي هذا أن (السّبع) (قراءات) أخبار آحاد وليس بمتواتر. قال ابن عرفة: وحاصل (كلام) (الناس) فيها أنها على وجهين: فأما ما يرجع إلى آحاد الكلم كملك ومالك ويخدعون ويخادعون فهو متواتر اتفاقا من غير خلاف منصوص، إلا أن ظاهر كلام الدّاودي على ما نقل عنه (الأنباري) أنها غير متواترة. وأما ما يرجع إلى كيفية النطق بها من إعراب وإمالة وكيفية وقف ففيه ثلاثة أقوال: الأول نقل (الأنباري) شارح البرهان عن أبي المعالي أنها متواترة وأنكره عليه وهو اختيار الشيخ أبي عبد الله محمد بن سلامة من أشياخنا. (الثاني) أنّها متواترة عند القراء فقط (نقله المازري في شرح البرهان واختاره شيخنا ابن عرفة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | الثالث: أنها غير متواترة) قاله ابن العربي في العواصم والقواصم (والأنباري) وابن رشد في كتاب الصلاة الأول وفي كتاب (الجامع) الرابع من البيان والتحصيل. قال ابن عرفة: وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق إبراهيم (الجزري) وشيخنا القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام وصاحبنا الفقيه أبي العباس أحمد بن إدريس (البجائي). ءَأنذَرْتَهُمْ: استفهام في معنى الخبر أو معنى المصدر أي إنذارك وعدم إنذارك سواء. قال: (وسَوَاءٌ) مبتدأ وءَأَنذرْتَهُمْ إما فاعل وإما خبره (ويصح) أن يكون مبتدأ لأنه يكون الخبر أفاده المبتدأ، فلا فائدة (فيه). ورده ابن عرفة: بأنه يفيد التسوية إذْ لَعلّ المراد إنذارك وعدم إنذارك مختلفان. قال ابن عرفة: والصواب أنه على/ حذف مضاف أي سواء عليهم جواب { ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ }. ويكون استفهاما حقيقة لأن الاستفهام في قوله مجاز (والمصدر) يحتاج إلى (أداة) (تصيّر) الفعل مقدرا بالمصدر وهو (بمنزلة) قول. قيل: يشتمل على إنذار وجوابه (إمّا معه) أو قبله ولذلك هنا جواب (الأمرين) عندهم سواء. قوله تعالى: { لاَ يُؤْمِنُونَ }. هو احتراز لأنه قد يكون الاختيار (باستواء) الحالتين عندهم يقتضي مبادرتهم إلى الإيمان وعدم (توقّفهم) على الإنذار فاحترز من ذلك (ببيان) أنهم على العكس. قيل لابن عرفة: إن (ابن فورك) أبطل بهذه الآية قاعدة التحسين والتقبيح؟ قال: لأن الله تعالى أخبر أن الإنذار لا ينفع فيهم، وقد أمر بإنذارهم، ومراعاةُ الأصلح (تقتضي) عدم تكليفهم وعدم إنذارهم. (فقال): (تقدم) ذلك في جواز تكليف ما لا يطاق وهذا متفق عليه فإنّ هؤلاء المخبر عنهم بذلك غير معيّنين فليست هذه كقضية أبي لهب وإنّما الخلاف يخبر عن معينين (بعدم) الإيمان وتكليفهم بالإيمان كقضية أبي لهب فليس في هذه الآية دليل بوجه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ)
القراءات: " أأنذرتهم " بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان. وروى الحلواني عن هشام " آءنذرتهم " بهمزتين بينهما مدة، والباقون يهمزون الأولى ويلينون الثانية. والتليين جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركة الهمزة. " وعلى أبصارهم " ممالة: أبو عمرو وعلي غير ليث وابن حمدون وحمدويه وحمزة، وفي رواية ابن سعدان وأبي عمرو. كذلك قوله عز وجل { بقنطار } و { بالأسحار } و { كالفخار } و { الغار } و { من أنصار } و { أشعارها } وأشباه ذلك حيث كان يعني إذا كان قبل الألف حرف مانع وبعدها راء مكسورة في موضع اللام، لأن الراء المكسورة تغلب الحروف المستعلية. " غشاوة " بالفصل. وقرأ حمزة في رواية خلف وابن سعدان وخلف لنفسه. وأبو إسحق إبراهيم بن أحمد عن أبي الحرث عن علي وورش من طريق البخاري مدغمة النون والتنوين في الواو في جميع القرآن. " عظيم " بالإشمام في الوقف، وكذلك إذا كانت الكلمة مكسورة: حمزة وعلي وخلف وهو الاختيار عندنا. الوقوف: " لا يؤمنون " (ه) " على سمعهم " (ط) لأن الواو للاستئناف. " غشاوة " (ز) لأن الجملتين وإن اتفقتا نظماً فالأولى بيان وصف موجود، والثانية إثبات عذاب موعود. " عظيم " (ه) التفسير: وفيه مسائل: الأولى: فيما يتعلق بأن أما عمله من نصب الاسم ورفع الخبر فمعلوم من علم النحو. وأما فائدته فما ذكره المبرد في جواب الكندي من أن قولهم " عبد الله قائم " إخبار عن قيامه، وقولهم: " إن عبد الله قائم " جواب عن سؤال سائل، وقولهم: " إن عبد الله لقائم " جواب عن إنكار منكر لقيامه. وقد يضاف إليه القسم أيضاً نحو " والله إن عبد الله لقائم. قال أبو نواس: | **عليك باليأس من الناس** | | **إن غنى نفسك في اليأس** | | --- | --- | --- | حسن موقع " إن " لأن الغالب على الناس خلاف هذا الظن، وقد يجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لم يوجد كقولك " إنه كان مني إليه إحسان فقابلني بالسوء " وكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ فيما توهمت كقوله تعالى حكاية عن أم مريم**{ قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت }** [آل عمران: 36] وكذلك قول نوح**{ رب إن قومي كذبون }** [الشعراء: 117]. الثانية: لما قدم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم الموجبة لامتداحه إياهم بها، عقب ذلك بذكر أضدادهم وهم المردة من الكفار الذين لا ينجع فيهم الهدى وسواء عليهم الإنذار وعدمه. وإنما فقد العاطف بين القصتين خلاف ما في نحو قوله تعالى**{ إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [الانفطار: 13 - 14] لتباين الجملتين ههنا في الغرض والأسلوب، إذ الأولى مسبوقة بذكر الكتاب وإنه هدى للمتقين، والثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت، وذلك إذا جعلت " الذين يؤمنون " مبتدأ و " أولئك " خبره، لأن الكلام المبتدأ على سبيل الاستئناف مبني على تقدير سؤال، وذلك إدراج له في حكم المتقين وتصييره تبعاً له في المعنى، فحكمه حكم الأول. وكذا إذا جعلت الموصول الثاني مبتدأ و " أولئك " خبره، لأن الجملة برأسها من مستتبعات " هدى للمتقين " لارتباط بينهما من حيث المعنى. الثالثة: التعريف في " الذين " إما أن يراد به ناس معهودون بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وإما أن يراد به الجنس متناولاً كل من صمم على كفره تصميماً لا يرعوي بعده فقط دون من عداهم من الكفار الذين أسلموا بدليل الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم. الرابعة: الكفر نقيض الإيمان فيختلف تعريفه باختلاف تعريف الإيمان، وقد تقدم. وأصل الكفر الستر والتغطية ومنه الكافر لأنه يستر الحق ويجحده، والزارع كافر لأنه يستر الحب، والليل المظلم كافر لأنه بظلمته يستر كل شيء، والكافر الذي كفر درعه بثوب أي غطى ولبسه فوقه. قال في التفسير الكبير: " كفروا " إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي فيقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الإخبار. فللمعتزلة أن يحتجوا بهذا على أن كلام الله محدث، فإن القديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير. قلت: التحقيق في هذا وأمثاله أن كلامه تعالى أزلي إلا أن حكمته في باب التفهيم والتعليم اقتضت أن يكون كلامه على حسب وصوله إلى السامعين ضرورة كونهم متزمنين، فكل ما هو متقدم على زمان الوصول وقع الإخبار عنه في الأزل بلفظ الماضي، وكل ما هو متأخر عن زمان الوصول وقع الإخبار عنه بلفظ المستقبل نحو**{ لتدخلن المسجد الحرام }** [الفتح: 27]**{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب }** [آل عمران: 151] وإلا اختل نظام التفاهم والتخاطب. ومن هذا يعلم أن قوله { سنلقي } ليس كونه مستقبلاً بالنظر إلى الأزل مقصوداً بالنسبة إلى المخاطبين، وإنما المقصود استقباله بالنظر إلى زمان نزول الآية فافهم. الخامسة: " سواء " اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر**{ تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }** [آل عمران: 64]**{ في أربعة أيام سواء للسائلين }** [فصلت: 10] يعني مستوية، وارتفاعه على أنه خبر " إن " و " أأنذرتهم أم لم تنذرهم " في موضع الفاعل أي مستو عليهم إنذارك وعدمه نحو: إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه. ويحتمل أن يكون أأنذرتهم أم لم تنذرهم " في موضع الابتداء، و " سواء " خبر مقدم، والجملة خبر " إن ". و إنما صح وقوع الفعل مخبراً عنه مع أنه أبداً خبر نظراً إلى المعنى كقولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل، فإن " أن " مع الفعل في تقدير المصدر على الفعل وهو النهي، وقد جردت الهمزة. و " أم " لمعنى الاستواء وسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً. قال سيبويه: هذا مثل قولهم " اللهم اغفر لنا أيتها العصابة " يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء. ومعنى الاستواء في الداخل عليهما " الهمزة " و " أم " استواؤهما في علم المستفهم، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن لكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين. والحاصل أن الاستفهام يلزمه معنيان: أحدهما استواء طرفي الحكم في ذهن المستفهم، والثاني طلب معرفة أحدهما فجرد هذا الترتيب لمعنى الاستواء وسلخ عنه الطلب. وفائدة العدول عن العبارة الأصلية وهي سواء عليهم الإنذار وعدمه، أن يعلم أن قطع الرجاء وحصول اليأس عنهم إنما حصل بعد إصرارهم وكانوا قبل ذلك مرجواً منهم الإيمان، لا في علم الله تعالى بل في علمنا، فنزلت الآية بحسب ما يليق بحالنا في باب التقرير والتصوير. أو نقول: فائدته أن يعلم أن استواء الطرفين بلغ مبلغاً يصح أن يستفهم عنه لكونه خالياً عن شوب التخمين وترجيح أحد الطرفين بوجه، فإن قول القائل " الإنذار وعدمه مستويان عليهم " يمكن أن يحمل على التقريب لا التحقيق، بخلاف ما لو أخبر عن الأمرين بطريق الهمزة وأم فافهم. والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن المقام مقام المبالغة، وتأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع. وقوله " لا يؤمنون " إما جملة مؤكدة للتي قبلها، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض. السادسة: الختم والكتم أخوان، لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه. والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل عليه كالعصابة والعمامة. والقلب يراد به تارة اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس والحركة وينبعث منه إلى سائر الأعضاء بتوسط الأوردة والشرايين، ويراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنساناً وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي والقيام بمواجب التكاليف**{ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب }** [ق: 37]. وهي من عالم الأمر الذي لا يتوقف وجوده على مادة ومدة بعد إرادة موجده له**{ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [النحل: 40]. كما أن البدن بل اللحم الصنوبري من عالم الخلق الذي هو نقيض ذلك**{ ألا له الخلق والأمر }** [الأعراف: 54]. وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة**{ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها }** [الشمس: 7، 8] وبالروح**{ قل الروح من أمر ربي }** [الإسراء: 85]**{ ونفخت فيه من روحي }** [ص: 72] والسمع قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ، تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطاً بعنف يحدث منه تموّج فاعل للصوت، فيتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموّجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة تلك العصبة فتسمع قاله ابن سينا. ولعل هذا في الشاهد فقط، وأما البصر فقال ابن سينا: هي قوة مرتبة في العصبة ا لمجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصيقلية. وزعم غيره أن البصر يخرج منه شيء فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج ويكون من ذلك إبصار. وفي الأكثر يسمون ذلك الخارج شعاعاً. والحق عندي أن نسبة البصر إلى العين نسبة البصيرة إلى القلب، ولكل من العين والقلب نور. أما نور العين فمنطبع فيها لأنه من عالم الخلق، فهو نور جزئي ومدركه جزئي، وأما نور القلب فمفارق لأنه من عالم الأمر، وهو نور كلي ومدركه كلي. وإدراك كل منهما عبارة عن وقوع مدركه في ذلك النور، ولكل منهما بل لكل فرد من كل منهما حد ينتهي إليه بحسب شدته وضعفه. ويتدرج في الضعف بحسب تباعد المرئي حتى لا يدركه، أو يدركه أصغر مما هو عليه. ولا يلزم من قولنا " إن للبصر نوراً يقع في المرئي " أن يشتد النور إذا اجتمع بصراء كثيرة في موضع واحد قياساً على أنوار الكواكب والسرج، فإن ذلك الانضمام من خواص الأنوار المحسوسات، والملزومات المختلفة لا تستدعي الاشتراك في اللوازم. وهذا القدر من التحقيق في تفسير القلب والسمع والبصر كافٍ بحسب المقام. ثم اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى**{ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة }** [الجاثية: 23] ولهذا يوقف على " سمعهم " دون " قلوبهم ". وفي تكرير الجار إيذان باستقلال الختم على كل من القلب والسمع، وإنما وحد السمع لوجوه منها: أمن اللبس كما في قوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا. فإن زمانكم زمن خميص. إذ لا يلتبس أن لكل واحد بطناً، ولهذا إذا لم يؤمن نحو فرسهم وثوبهم والمراد الجمع رفضوه. ومنها أن السمع في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فلمح الأصل، ولهذا جمع الأذن في قوله**{ وفي آذاننا وقر }** [فصلت: 5]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنها أن يقدر مضاف محذوف أي على حواس سمعهم، ومنها الاستدلال بما قبله وبما بعده على أن المراد به الجمع مثل**{ عن اليمين والشمائل }** [النحل: 48]**{ يخرجهم من الظلمات إلى النور }** [البقرة: 257]. السابعة: من الناس من قال: السمع أفضل من البصر، لتقديمه في اللفظ ولأنه شرط النبوة. فما بعث رسول أصم بخلاف البصر فمن الأنبياء من كان مبتلى بالعمى، ولأن السمع سبب وصول المعارف ونتائج العقول إلى الفهم، والبصر سبب وصول المحسوسات إلى المبصر. ولأن السمع يتصرف في الجهات الست دون البصر، ولأن فاقد السمع في الأصل فاقد النطق، بخلاف فاقد البصر. ومنهم من فضل البصر لأن متعلق الأبصار النور، ومتعلق الأسماع الريح. والبصر يرى من بعيد دون السمع، ولأن عجائب الله تعالى في تخليق العين أكثر منها في تخليق السمع. وقد أسمع الله كلامه موسى من غير سبق سؤال ونوقش في الرؤية وفي المثل " ليس وراء العيان بيان ". وفي العين جمال الوجه دون السمع. والحق أن من فقد حساً فقد فقد علماً وهو المتوقف على ذلك الحس. ولا ريب أن معظم العلوم يتوقف تحصيلها على البصر والإرشاد، والتعليم على الإطلاق يتوقف على السمع. فكل من الحواس في موضعه ضروري، وتفضيل البعض على البعض تطويل بلا طائل، فسبحان من دقت في كل مصنوع حكمته وأحسن كل شيء خلقه. الثامنة: الآية الأولى فيها الإخبار بأن الذين كفروا لا يؤمنون، والإنذار وعدمه عليهم سيان. والآية الثانية فيها بيان السبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والتغشية، فاحتج أهل السنة بالآيتين ونظائرهما على تكليف ما لا يطاق، وعلى أن الله تعالى هو الذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر وختم على قلوبهم وسمعهم ومنعهم عن قبول الحق والصدق، وكل بتقديره ولا يسأل عما يفعل. وأما المعتزلة وأمثالهم فيقولون: كيف ينشئ فيهم الكفر ثم يقول: لم تكفرون؟ وخلق فيهم ما به لبس الحق بالباطل ثم يقول لم تلبسون الحق بالباطل؟ ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الكفر باختيار العبد وقدرته. فتأولوا الآية على انها جارية مجرى قولهم " فلان مجبول على كذا أو مفطور عليه " يريدون أنه بليغ في الثبات عليه، أو على أنها تمثيل لحال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليه حتى دخلوا في زمرة الأنعام لا تعي شيئاً ولا تفقه كقولهم " سال به الوادي " إذا هلك، و " طارت به العنقاء " إذا أطال الغيبة. وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته، وإنما مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء، والشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم " بنى الأمير المدينة " أو أنهم لما ترقى أمرهم في التصميم على الكفر إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء، ثم لم يقسرهم الله ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض من التكليف، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم. أو يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً بهم من قولهم**{ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب }** [فصلت: 5] ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال: لا، لأنهم نزهوه عما يشبه الظلم والقبيح ولا يليق بالحكمة. وسئل عن أهل الجبر فقال: لا، لأنهم عظموه حتى لا يكون لغيره قدرة وتأثير وإيجاد. وزعم الإمام فخر الدين أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع، وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدر لأنه لو لم يقدر العبد على الفعل فأيّ فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب؟ أو نقول: لما رجعنا إلى الفطرة السليمة وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه يترجح أحدهما على الآخر إلا المرجح، وهذا يقتضي الجبر. ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان الاختيارية وبين حركات الجمادات والحركات الاضطرارية، وذلك يقتضي مذهب الاعتزال فلذلك بقيت هذه المسألة في حيز الإشكال. قلت - وبالله تعالى التوفيق -: عندي أن المسألة في غاية الاستنارة والسطوع إذا لوحظت المبادئ ورتبت المقدمات، فإن مبدأ الكل لو لم يكن قادراً على كل الممكنات وخرج شيء من الأشياء عن علمه وقدرته وتأثيره وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة لم يصلح لمبدئية الكل. فالهداية والضلالة، والإيمان والكفر، والخير والشر، والنفع والضر، وسائر المتقابلات، كلها مستندة ومنتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإردته. والآيات الناطقة بصحة هذه القضية كقوله تعالى**{ ولو شاء لهداكم أجمعين }** [النحل: 9]**{ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها }** [السجدة: 13]**{ قل كل من عند الله }** [النساء: 78] كثيرة. وكذا الأحاديث **" اعملوا فكل ميسر لما خلق له "** **" كل شيء بقدر حتى العجز والكيس "** **" احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى "** الحديث. فهذه القضية مطابقة للعقل والنقل، وبقي الجواب عن اعتراضات المخالف. أما حكاية التنزيه عن الظلم والقبائح فأقول: لا ريب أنه تعالى منزه عن جميع القبائح، ولكن لا بالوجه الذي يذكره المخالف إذ يلزم منه النقص من جهة أخرى وهو الخلل في مبدئيته للكل وفي كونه مالك الملك. بل الوجه أن يقال: إن لله تعالى صفتي لطف وقهر، ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك. ولا سيما ملك الملوك، كذلك، إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر، ومن منع ذلك كابر وعاند. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولا بد لكل من الوصفين من مظهر، فالملائكة ومن ضاهاهم من الأخيار مظاهر اللطف، والشياطين ومن والاهم من الأشرار مظاهر القهر، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستتبعة لها، ومظاهر القهر هم أهل النار والأفعال المعقبة إياها. وههنا سر وهو أن اللطف والقهر والجنة والنار إنما يصح وجود كل من كل منهما بوجود الآخر، فلولا القهر لم يتحقق اللطف، ولولا النار لم تثبت الجنة، كما أنه لولا الألم لم تتبين اللذة، ولولا الجوع والعطش لم يظهر الشبع والري. ولله در القائل: " وبضدها تتبين الأشياء ". فخلق الله تعالى للجنة خلقاً يعملون بعمل أهل الجنة، وللنار خلقاً يعملون بعمل أهل النار. ولا اعتراض لأحد عليها في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به فإنه لو عكس الأمر لكان الاعتراض بحاله. وههنا تظهر حقيقة الشقاوة والسعادة**{ فمنهم شقي وسعيد }** [هود: 105] الآية: وقال صلى الله عليه وسلم: **" إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد "** الحديث. وإذا تؤمل فيما قلت، ظهر أن لا وجه بعد ذلك لإسناد الظلم والقبائح إليه تعالى، لأن هذا الترتيب والتمييز من لوازم الوجود والإيجاد كما يشهد به العقل الصريح، ولا سيما عند المخالف القائل بالتحسين والتقبيح العقليين. وليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازي حيث يجعل بعض من تحت تصرفه وزيراً قريباً وبعضهم كناساً بعيداً لأن كلاً منهما من ضرورات المملكة، وينسب الظلم إليه تعالى في تخصيص كل من عبيده بما خصص به، مع أن كلاً منهم ضروري في مقامه؟! فهذا القائل بهدم بناء حكمته، تعالى، ويدعي أنه يحفظه فأفسد حين أصلح. وأما قوله " أي فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب " ففي غاية السخافة، لأنا لما بينا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فكيف يبقى للمعترض أن يقول: لما جعل الله تعالى الشيء الفلاني سبباً وواسطة للشيء الفلاني؟ كما أنه ليس له أن يقول مثلاً لم جعل الشمس سبباً لإنارة الأرض؟ غاية ما في الباب أن يقول إذا علم الله تعالى أن الكافر لا يؤمن فلم يأمره بالإيمان ويبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأقول: فائدة بعث الأنبياء وإنزال الكتب بالحقيقة ترجع إلى المؤمنين الذين جعل الله بعثهم وإنزالها سبباً وواسطة لاهتدائهم**{ إنما أنت منذر من يخشاها }** [النازعات: 45] كما أن فائدة نور الشمس تعود إلى أصحاب العيون الصحاح. وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى المختوم على قلوبهم فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمه | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون }** [التوبة: 125] غاية ذلك إلزام الحجة وإقامة البينة عليهم ظاهراً**{ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }** [النساء: 165]**{ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً }** [طه: 134] وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء. وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضاً لغاية نقصانهم كما أن الأكمة ربما لا يصدق البصراء ولا يعرف أن التقصير والنقصان منه، وأن سائر الشرائط من محاذاة المرئي وظهور النير موجودة وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار. وأما حديث التفرقة الضرورية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية كالرعشة مثلاً فأقول: لا ريب أن للإنسان إرادات وقوى بها يتم له حصول الملائم واجتناب المنافي، إلا أن تلك الإرادات والقوى مستندة إلى الله تعالى، فكأنه لا اختيار له. والتفرقة المذكورة سببها في أن الرعشة نقصت واسطة هي الداعية، وفي الحركة المسماة بالاختيارية زادت واسطة فافهم هذه الحقائق والإشارات واستعن بها في سائر ما يقرع سمعك من هذا القبيل، فلعلنا لا نكررها في كل موضع حذراً من التطويل. ومن لم يستضئ بمصباح لا يستفيد بإصباح**{ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل }** [الأحزاب: 4]. التاسعة: العذاب مثل النكال؛ بناء ومعنى، لأنك تقول: أعزب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول: نكل عنه. ومنه العذاب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده. ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة. والفرق بين العظيم والكبير، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، ويستعملان في المعاني والأعيان جميعاً. تقول: رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله. ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله نعوذ بالله منه. العاشرة:اتفق المسلمون أكثرهم على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار. وقال بعضهم: لا يحسن، وفسروا قوله " ولهم عذاب عظيم " وكذا كل وعيد ورد في القرآن بأنهم يستحقون ذلك، لكن كرمه يوجب عليه العفو. وذكروا أيضاً دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح كقولهم: التعذيب ضرر خالٍ عن المنفعة لأن الله تعالى منزه عن ذلك والعبد يتضرر به، ولو سلم أنه ينتفع به فالله قادر على إيصال النفع إليه من غير توسط ذلك العذاب، والضرر خال عن المنافع قبيح بالبديهة. وكقولهم: علم أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان، فتكليفه أمراً متى لم يفعل ترتب عليه العذاب، وما كان مستعقباً للضرر من غير نفع كان قبيحاً، فلم يبق إلا أن يقال: لم يوجد هذا التكليف، أو وجد لكنه لا يستعقب العقاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكقولهم: إنه سبحانه هو الخالق لداعية المعصية، فيقبح أن يعاقب عليها. وكقولهم: إن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه. أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة، أو سلبت عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون عن معاصيهم، وإذا تابوا فلم لا يقبل الله منهم توبتهم؟ ولم كان في الدنيا بحيث قال:**{ ادعوني أستجب لكم }** [غافر: 60] وفي الآخرة بحيث لا يجيب دعاءهم إلا بقوله**{ اخسئوا فيها ولا تكلمون }** [المؤمنون: 108] وأجيب بأن تعذيبهم نقل إلينا بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مصير إلى إنكاره، والشبه التي تمسكتم بها تنهدم بانهدام قاعدة الحسن والقبح. وأقول: قد بينت بالبرهان النير في المسألة الثامنة أن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى، وكل ما تقتضيه حكمته وكماله كان حسناً. ومن ظن أنه قبيح كان الخلل في عقله وقصور في فهمه، فلا قبيح في النظر إلا وهو حسن من جهات أخرى لا يعلمها إلا منشئها وموجدها. وهل يستقبح أحد وقوع بعض الأحجار للملوك تيجاناً وبعضها للحشوش جدراناً، أو وقوع بعض من الحديد سيفاً يتقلده الناس وبعضه نعلاً يطؤها الأفراس، حيث يرى كلاً منهما في مصالح الوجود ضرورياً؟ ثم العذاب وهو بالحقيقة البعد من الله تعالى لازم للكفر والعصيان، والملزوم لا ينفك من اللازم. وأما سبب عدم انتفاع الكافر والعاصي بالإيمان والتوبة بعد المفارقة، فذلك أن محل الكسب هو الدنيا، والتكليف بامتثال الأوامر والنواهي إنما وقع فيها. فليس لأحد أن يؤخر الامتثال إلى الآخرة. ألا ترى أنه لو قال طبيب حاذق لمريض: اشرب الدواء الفلاني في اليوم الفلاني فقصر وأخر حتى إذا مضى وقته وأشرف على الهلاك قال: إني أشرب الآن، لم ينفعه ذلك الدواء ولا يسعه إلا الهلاك؟ وكذا لو قال ملك لواحد: افعل الأمر الفلاني في هذا الوقت ففعله في وقت آخر لم يعد ممتثلاً ولا ينفعه الائتمار به لأن غرض الامتثال قد فات، ولا سيما إذا فعل بعد أن يرى أمارات الغضب وعلامات العذاب**{ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون }** [غافر: 85]. صدق الله العظيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
اعلم أن الحروف لا أَصْلَ لها في العمل، لكن هذا الحرف أشبه الفعل صورة ومعنى، فاقتضى كونه عاملاً. أما المُشَابهة في اللفظ فلأنه تركّب من ثلاثة أحرف انفتح آخرها، ولزمت الأسماء كالأفعال، وتدخل نون الوقاية نحو " إنّني وكأنّني " كما تدخل على الفعل نحو: " أعطاني وأكرمني " ، وأما المعنى فلأنه يفيد معنى في الاسم، فلما اشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل. روى ابن الأنباري " أن الكِنْدِيّ " المتفلسف ركب إلى المبرد وقال: إني أجد في كلام العرب حشواً، أجد العرب تقول: " عبد الله قائم " ، ثم يقولون: " إنَّ عبد الله قائم " ثم يقولون: " إِنّ عبد الله لقائم ". فقال المبرد: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ: فقولهم: " عبد الله قائم " إخبار عن قيامه، وقولهم: " إن عبد الله قائم " جواب عن سؤال سائل، وقولهم: " إن عبد الله لقائم " جواب عن إنكار منكر لقيامه. واحتج عبد القاهر على صحّة قوله بأنها إنما تذكر جواباً لسؤال سائلٍ بقوله تعالى:**{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ }** [الكهف: 83] إلى أن قال:**{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ }** [الكهف: 84]، وقوله:**{ نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ }** [الكهف: 13]، وقوله:**{ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيۤءٌ }** [الشعراء: 216]. قال عبد القاهر: والتحقيق أنّها للتأكيد، فإذا كان الخبر ليس يظنّ المخاطب خلافه لم يحتج إلى " أن " ، وإنما يحتاج إليها إذا ظنّ السامع الخلاف، فأما دخوله اللاّم معها في جواب المنكر، فلأن الحاجة إلى التأكيد أشد. فإن قيل: فلم لا دخلت " اللام " في خبرها في قوله تعالى:**{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }** [المؤمنون: 16]، وأدخل " اللام " في خبرها في قوله قبل ذلك:**{ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ }** [المؤمنون: 15]، وهم كانوا يتيقنون الموت، فلا حاجة إلى التأكيد، فكانوا ينكرون البعث فكانت الحاجة لدخول " اللام " على البعث أشد ليفيد التأكيد. فالجواب: أن التأكيد حصل أولاًَ بقوله:**{ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }** [المؤمنون: 12- 14]. فكان ذكر هذه السبع مراتب في خلق الإنسان أبلغُ في التأكيد من دخول " اللام " على خبر " إن " ، فلذلك استغنى عن دخول " اللام " على خبر " إن " ، وهي تنصب الاسم، وترفع الخبر خلافاً للكوفيين بأن رفعه بما كان قبل دخولها. وتقرير الأول أنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ أو الخبر معاً، وتنصبهما معاً، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول باطل؛ لأنهما كانا مرفوعين قبل دخولهما، فلم يظهر للعمل أثر ألبتة، ولأنها أعطيت عمل الفعل، والفعل لا يرفع الاسمين، فلا معنى للاشتراك، والفرع لا يكون أقوى من الأصل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والثاني - أيضاً - باطل، لأنه مخالف لعمل الفِعْلِ، لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خُلُوه عما يرفعه. والثالث - أيضاً - باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع؛ لأن الفعل يعمل في الفاعل أولاً بالرفع؛ ثم في المفعول بالنصب، فلو جعل الحرف ها هنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع. ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعيّن الرابع، وهي أنها تنصب الاسم، وترفع الخبر، وهذا مما ينبّه على أن هذه الحروف لَيْسَتْ أصلية في العمل؛ لأنّ تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل. وتخفّف " إن " فتعمل وتهمل، ويجوز فيها أن تباشر الأفعال، لكن النواسخ غالباً تختص بدخول " لام " الابتداء في خبرها، أو معمولة المقدم عليها، أو اسمها المؤخّر، ولا يتقدم خبرها إلا ظرفاً أو مجروراً، وتختص - أيضاً - بالعَطْفِ على محل اسمها، ولها ولأخواتها أحكام كثيرة. و " الذين " اسمها و " كفروا " صلة وعائد، و " لا يؤمنون " خبرها، وما بينهما اعتراض، و " سواء " مبتدأ، و " أنذرتهم " وما بعده في قوة التَّأويل بمفرد هو الخبر، والتقدير: سواء عليهم الإنذار وعدمه، ولم يحتج هنا إلى رَابِطٍ؛ لأنّ الجملة نفس المبتدأ، ويجوز أن يكون " سواء " خبراً مقدماً، و " أنذرتهم " بالتأويل المذكور مبتدأ مؤخر تقديره: الإنذار وعدمه سواء. قال ابن الخَطِيْبِ: اتفقوا على أنّ الفِعْل لا يخبر عنه؛ لأن قوله: " خرج ضرب " ليس بكلام منتظم، وقد قدحوا فيه بوجوه: أحدها: أنّ قوله: { أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } فعل، وقد أخبر عنه بقوله:**{ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ } ، ونظيره { ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ }** [يوسف:35] فاعل " بَدَا " هو " يسجننه ". وثانيها: أن المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكون فعلاً، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل. فإن قيل: المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة، وتلك الكلمة اسم. قلنا: فعلى هذا المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل اسماً كان هذا الخبر كذباً؛ والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً؛ لأن الاسم لا يكون فعلاً، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه. وثالثها: أنا إذا قلنا: الفعل لا يخبر عنه، فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أَنَّا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه، وهذا خطأ، وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم قال هؤلاء: لما ثبت أنه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجةٌ إلى ترك الظاهر. أما جمهور النحويين فقالوا: لا يجوز الإخبار عن الفعل، فلا جرم كان التقدير: سواء عليهم إنذارك وعدمه. وهذه الجملة يجوز أن تكون معترضة بين اسم " إن " وخبرها، وهو " لا يؤمنون " كما تقدم، ويجوز أن تكون هي نفسها خبراً لـ " إن " ، وجملة " لا يؤمنون " في محل نصب على الحال، أو مستأنفة، أو تكون دعاءً عليهم بعد الإيمان - وهو بعيد - أو تكون خبراً بعد خبر على رأي من يجوز ذلك. ويجوز أن يكون " سواء " وحده خبر " إن " ، و " أأنذرتهم " وما بعده بالتأويل المذكور في محل رفع بأنه فاعل له، والتقدير: استوى عندهم الإنذار وعدمه. و " لا يؤمنون " على ما تقدّم من الأوجه أعني: الحال والاستئناف والدعاء والخبرية. والهمزة في " أأنذرتهم " الأصل فيها الاستفهام، وهو - هنا - غير مراد، إذ المراد التسوية، و " أنذرتهم " فعل وفاعل ومفعول. و " أم " - هنا - عاطفة وتسمى متصلةً، ولكونها متصلة شرطان: أحدهما: أن يتقدمها همزة استفهام أو تسوية لفظاً أو تقديراً. والثاني: أن يكون ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية، فإن الجملة فيها بتأويل مفرد كما تقدم، وجوابها أحد الشَّيئين أو الأشياء، ولا تجاب بـ " نعم " ولا بـ " لا " ، فإن فقد الشرط سميت منقطعة ومنفصلة، وتقدر بـ " بل والهمزة " ، وجوابها " نعم " أو " لا " ولها أحكام أخر. و " لم " حرف جزم معناه نفي الماضي مطلقاً خلافاً لمن خصَّها بالماضي المنقطع، ويدلّ على ذلك قوله تعالى:**{ وَلَمْ أَكُن بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً }** [مريم: 4]**{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }** [الإخلاص: 3]. وهذا لا يتصور فيه الانقطاع، وهي من خواصّ صيغ المضارع إلاّ أنها تجعله ماضياً في المعنى كما تقدم. وهل قلبت اللفظ دون المعنى أو المعنى دون اللفظ؟ قولان: أظهرهما الثاني: وقد يحذف مجزومها كقوله: [الكامل] | **145- إِحْفَظْ وَدِيعَتَك الَّتِي اسْتُودِعْتَهَا** | | **يَوْمَ الأَعَازِبِ، إِنْ وَصَلْتَ، وَإِنْ لَمِ** | | --- | --- | --- | و " الكفر " أصله: الستر؛ ومنه: " الليل الكَافِرُ "؛ قال: [الرجز] | **146- فَوَرَدَتْ قَبْلَ انْبِلاَجِ الْفَجْرِ** | | **وَابْنُ ذُكَاءٍ كَامِنٌ فِي كَفْرِ** | | --- | --- | --- | وقال [الكامل] | **147- فَتَذَكَّرَا ثَقَلاً رَثِيداً بَعْدَما** | | **أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي كَافِرِ** | | --- | --- | --- | والكفر - هنا - الجحود. وقال آخر: [الكامل] | **148-.......................** | | **فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا** | | --- | --- | --- | قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ " الكفر " في القرآن على أربعة أَضْرُبٍ: الأول: الكُفْر بمعنى ستر التوحيد وتغطيته قال تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ }؟ | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثاني: بمعنى الجُحُود قال تعالى:**{ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }** [البقرة: 89]. الثالث: بمعنى كفر النّعمة، قال تعالى:**{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ }** [إبراهيم: 7] أي: بالنعمة، ومثله:**{ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }** [البقرة: 152] وقال تعالى:**{ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ }** [النمل: 40]. الرابع: البراءة، قال تعالى:**{ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ }** [الممتحنة: 4] أي: تبرأنا منكم، وقوله:**{ ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ }** [العنكبوت: 25]. و " سواء " اسم معنى الاستواء، فهو اسم مصدر، ويوصف على أنه بمعنى مستوٍ، فيحتمل حينئذ ضميراً، ويرفع الظاهر، ومنه قولهم: " مررت برجل سواء والعدم " برفع " العدم " على أنه معطوفٌ على الضمير المستكنّ في " سواء " ، وشذ عدم بمعنى: " مثل " ، تقول: " هما سِيّان " بمعنى: مِثْلان، قال: [البسيط] | **149- مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا** | | **وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ سِيَّانِ** | | --- | --- | --- | على أنه قد حكي سواءان. وقال الشاعر: [الطويل] | **150- وَلَيْلٍ تَقُولُ النَّاسُ فِي ظُلُماتهِ** | | **سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ الْعُيُونِ وَعُورُهَا** | | --- | --- | --- | فـ " سواء " خبر عن جمع هو " صحيحات " ، وأصله: العدل؛ قال زهير: [الوافر] | **151- أَرُونَا سُبَّةً لا عَيْبَ فِيهَا** | | **يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيْها السَّوَاءُ** | | --- | --- | --- | أي: يعدل بيننا العدل. وليس هو الظرف الذي يستثنى به في قولك: " قاموا سواء زيد " وإن شاركه لفظاً. ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغات الأربع المشهورة في " سوى " المستثنى به، وهذا عجيب فإن هذه اللغات في الظرف لا في " سواء " الذي بمعنى الاستواء. وأكثر ما تجيء بعده الجملة المصدرية بالهمزة المُعَادلة بـ " أم " كهذه الآية، وقد تحذف للدلالة كقوله تعالى:**{ فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ }** [الطور: 16] أي: أصبرتم أم لم تصبروا، وقد يليه اسم الاستفهام معمولاً لما بعده كقول علقمة: [الطويل] | **152- سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ حِينٍ أَتَيْتَهُ** | | **أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقى أَمْ بأَسْعَدِ** | | --- | --- | --- | فـ " أي حين " منصوب بـ " أتيته " ، وقد يعرى عن الاستفهام، وهو الأصل؛ نحو: [الطويل] | **153-.................** | | **سَوَاءٌ صَحِيْحاتُ الْعُيُونِ وَعُورُهَا** | | --- | --- | --- | فصل في استعمالات " سواء " وقد ورد لفظ " سواء " على وجوه: الأول: بمعنى: الاستواء كهذه الآية. الثاني: بمعنى: العَدْل، قال تعالى:**{ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }** [آل عمران: 64] أي: عدل؛ ومثله:**{ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }** [الممتحنة: 1] أي: عدل الطريق. الثالث: بمعنى: وسط، قال تعالى:**{ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ }** [الصافات: 55] أي: وسط الجحيم. الرابع: بمعنى: البَيَان؛ قال تعالى:**{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ }** [الأنفال: 58] أي: على بيان. الخامس: بمعنى: شرع، قال تعالى:**{ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً }** [النساء: 89] يعني: شرعاً. السادس: بمعنى: قصد، قال تعالى:**{ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }** [القصص: 22] أي: قصد الطريق. و " الإنذار ": التخويف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال بعضهم: هو الإبلاغ، ولا يكاد يكون إلاَّ في تخويف يسع زمانه الاحتراز، فإن لم يسع زمانه الاحتراز، فهو إشعار لا إنذار؛ قال: [الكامل] | **154- أَنْذَرْتُ عَمْراً وَهُوَ فِي مَهَلٍ** | | **قَبْلَ الصَّبَاحِ فقَدْ عَصَى عَمْرُو** | | --- | --- | --- | ويتعدّى لاثنين، قال تعالى:**{ إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً }** [النبأ: 40]،**{ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً }** [فصلت: 13] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديره: أأنذرتهم العذاب أم لم تنذرهم إياه، والأحسن ألا يقدر له مفعول، كما تقدم في نظائره. والهمزة في " أنذر " للتعدية، وقد تقدّم أن معنى الاستفهام هنا غير مراد؛ لأن التسوية هنا غير مرادة. فقال ابن عَطيَّةَ: لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام؛ لأنّ فيه التسوية التي هي الاسْتِفْهَام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً: " سواء علي أَقُمْت أم قعدت " ، وإذا قلت مستفهماً: " أخرج زيد أم قام "؟ فقد استوى الأمران عندك؟ هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام؛ لمشاركته إيَّاه في الإبهام، فكلّ استفهام تسوية وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً، إلاَّ أن بعضهم ناقشه في قوله: " أأنذرتهم أم لم تنذرهم " لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه " الخبر " بما معناه: أن هذا الذي صورته صورة استفهام ليس معناه الخبر؛ لأنه مقدر بالمفرد كما تقدم، وعلى هذا فليس هو وحده في معنى الخبر؛ لأن الخبر جملة، وهذا في تأويل مفرد، وهي مناقشة لفظية. وروي الوقف على قوله: " أَمْ لَمْ تُنْذرْ " والابتداء بقوله: " هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ " على أنها جملة من مبتدأ وخبر. وهذا ينبغي ألا يلتفت إليه، وإنْ كان قد نقله الهُذَلِيّ في " الوقف والابتداء " له. وقرىء " أأنذرتهم " بهمزتين محقّقتين بينهما ألف، وبهمزتين، محقّقتين بلا ألف بينهما وهي لغة " بني تميم " ، وأن تكون الأولى قوية، والألف بينهما، وتخفيف الثانية بين بين، وهي لغة " الحجاز " وبتقوية الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية، وبينهما ألف. فمن إدخال الألف بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً قوله: [الطويل] | **155- أَيَا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ** | | **وبَيْنَ النَّقَا آأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمِ؟** | | --- | --- | --- | وقال آخر: [الطويل] | **156- تَطَالَلْتُ فَاسْتَشْرَفْتُهُ فَعَرَفْتُهُ** | | **فَقُلْتُ لَهُ آأَنْتَ زَيْدُ الأَرَانِبِ؟** | | --- | --- | --- | وروي عن وَرْش إبدال الثَّانية ألفاً محضة. ونسب الزمخشري هذه القراءة لِلَّحْنِ، قال: لأنه يؤدي إلى الجمع بين ساكنين على غير حدّهما، ولأن تخفيف مثل هذه الهمزة إنما هو بَيْنَ بَيْنَ. وهذا منه ليس بصواب، لثبوت هذه القراءة تواتراً. وقرأ ابن محيصن بهمزة واحدةٍ على لفظ الخبر، وهمزة الاستفهام مرادة، ولكن حذفها تخفيفاً، وفي الكلام ما يدلّ عليها، وهو قوله: " أم لم "؛ لأن " أم " تُعَادل الهمزة، وللقراء في مثل هذه الآية تفصيل كثير. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فصل في المراد بالكافرين في الآية المراد من " الذين كفروا " يعني مشركي العرب كأبي لَهَبٍ؛ وأبي جهل، والوليد بن المغيرة وأضرابهم. وقال الكلبي: " هم رؤساء اليَهُودِ والمُعَاندون " وهو قول ابن عباس. والكفر - هنا - الجحود، وهو على أربعة أضرب: كفر إنكار، وكفر جُحُود، وكفر عِنَادٍ، وكفر نفاق: فـ " كفر الإنكار ": هو ألا يعرف الله أصلاً، ولا يعترف به. وكفر الجُحُود: هو أن يعرف الله بقلبه، ولا يقر بلسانه، ككفر إبليس؛ قال تعالى:**{ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }** [البقرة: 89]. وكفر العناد: هو أن يعرف الله بقلبه، ويعترف بلسانه، ولا يدين به؛ ككفر أبي طَالِبٍ؛ حيث يقول: [الكامل] | **157- وَلقَدْ عَلِمْتُ بَأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ** | | **مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا** | | --- | --- | --- | | **لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ** | | **لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا** | وكفر النفاق: هو أن يقر باللسان، ولا يعتقد بالقلب، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله - تعالى - بواحد منها؛ لا يغفر له. فصل في تحقيق حد الكفر قال ابن الخطيب: تحقيق القول في حد الكفر أن كل ما نقل عن محمد - عليه الصلاة والسلام - أنه ذهب إليه، وقال به، فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة، أو بالاستدلال، أو بخبر الواحد الذي علم بالضرورة، فمن صدق به جميعه، فهو مؤمن، ومن لم يصدق بجميعه، أو لم يصدق ببعضه، فهو كافر، فإذن الكفر عدم تصديق الرسول في شيء مما علم بالضرورة أنه ليس من دين محمد عليه الصلاة والسلام. ومثاله من أنكر وجود الصّانع، أو كونه عالماً مختاراً، أو كونه واحداً، أو كونه منزهاً عن النَّقَائص والآفات، أو أنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ كوجوب الصَّلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر، فذلك يكون كافراً. فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دين محمد مثل كونه عالماً بالعلم أو بذاته، وأنه مرئي أو غير مرئي، وأنه خالق أعمال العباد أم لا، فلم ينقل بالتواتر القاطع للعُذْرِ، فلا جرم لم يكن إنكاره والإقرار به داخلاً في ماهيّة الإيمان، فلا يكون موجباً للكفر، والدليل عليه أنه لو كان جزءاً من ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول ألا يحكم بإيمان أحد إلاّ بعد أن يعرف أنه عرف الحق في تلك المسألة بين جميع الأمّة؛ ولنقل ذلك على سبيل التواتر، فلمَّا لم ينقل ذلك دلّ على أنه - عليه الصلاة والسلام - ما وقف الإيمان عليها، ولما لم يكن كذلك وجب ألا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجباً للكفر، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من الأمة من أرباب التأويل، وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد، فظاهر أنه لا يمكن توقّف الكفر والإيمان عليه، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فصل في الردّ على المعتزلة احتجت المُعْتَزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماض مثل قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ،**{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ }** [الحجر: 9]،**{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ }** [القدر: 1]،**{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً }** [نوح: 1] على أن كلام الله محدث، سواء كان الكلام هذه الحروف، أو الأصوات، أو كان شيئاً آخر. قالوا: لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلاّ إذا كان مسبوقاً بالمخبر عنه، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير، فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً، فيجب أن يكون محدثاً. أجاب القائلون بقدم الكلام عنه بوجهين: الأول: أن الله - تعالى - كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي، ولم يلزم حدوث علم الله تَعَالَى، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال: إن خبر الله - تعالى - في الأزل كان خبراً بأنهم سيكفرون، فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا، ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى؟. الثاني: أن الله - تعالى - قال:**{ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ }** [الفتح: 27]، فلما دخلوا المسجد الحرام، ولا بد أن ينقلب ذلك الخبر إلى أنهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول، فإذا أجاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا؟ فإن قلت: قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } صيغة جمع مع " لام " التعريف، وهي للاستغراق بظاهره، ثم إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر؛ لأن كثيراً من الكفار أسلموا، فعلمنا أن الله - تعالى - قد تكلّم بالعام وأراد الخاص، إما لأجل أنَّ القرينة الدالّة على أن المراد من ذلك العام ذلك الخصوص كانت ظاهرةً في زمان الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - فحسن ذلك لعدم اللّبس، وظهور المقصود، وإمّا لأجل أنّ المتكلّم بالعام لإرادة الخاص جائز، وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بَيَان التخصيص عن وقت الخِطَاب، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسُّك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق، لاحتمال أن المراد منها هو الخاص، وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا جَرَمَ حسن ذلك، وعدم العلم بوجود قرينة لا يدلّ على العدم. وإذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف، والله أعلم. فصل في المذهب الحق في " تكليف ما لا يطاق " قال ابن الخطيب: احتج أهل السُّنة بهذه الآية وما أشبهها على تكليف ما لا يطاق وتقريره: أنه - تعالى - أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قطّ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله - تعالى - الصدق كذباً، والكذب عند الخصم قبيح، وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة، وهما مُحَالان على الله تعالى، والمفضي إلى المُحَال محال، فصدور الإيمان منه مُحَال، فالتكليف به تكليف بالمحال، وقد يذكر هذا في صورة العلم، وهو أنه - تعالى - لما علم منه أنه لا يؤمن، فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله جهلاً، وذلك محال، ويستلزم من المُحَال محال، فالأمر واقع بالمحال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ونذكر هذا على وجهٍ ثالثٍ: وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بأنه لا يؤمن؛ لأنه إنما يكون علماً لو كان مطابقاً للمعلوم، والعلم بعدم الإيمان يلزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً، وهذا مُحَال، والأمر بالإيمان مع وجود علم الله بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضِّدِّين، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود، وكل ذلك مُحَال. ونذكر هذا على وَجْه رابع: وهو أنه - تعالى - كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة [والإيمان يعتبر فيه تصديق الله - تعالى - في كل ما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط] وقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط، وهو مكلّف بالجمع بين النفي والإثبات. ونذكر هذا على وجه خامس: وهو أنه - تعالى - عاب الكُفّار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر عنه في قوله:**{ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ }** [الفتح: 15]، فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله، وذلك منهي عنه. ثم ها هنا أخبر الله - تعالى - عنهم أنهم لا يؤمنون ألبتة، فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله، وذلك منهي عنه وترك محاولة الإيمان يكون - أيضاً - مخالفة لأمر الله، فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل. فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع وهي هادمة لأصول الاعتزال، وكل ما استدلّ به المعتزلة من الآيات الواردة، فيأتي الجواب عنها عند ذكر كل آية منها إن شاء الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج ابن جريج وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير في السنة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } ونحو هذا من القرآن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ، ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأوّل ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال **" قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ فنكاد نيأس فقال: ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال { الۤمۤ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } إلى قوله { المفلحون } هؤلاء أهل الجنة قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال: { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم } إلى قوله { عظيم } هؤلاء أهل النار. قلنا لسنا هم يا رسول الله؟ قال أجل ".** وأخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { إن الذين كفروا } أي بما أنزل إليك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاء من قبلك { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } أي أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذاراً وتخويفاً، وقد كفروا بما عندهم من نعتك { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } أي عن الهدى أن يصيبوه أبداً بغير ما كذبوا به من الحق الذي جاءك من ربك، حتى يؤمنوا به وإن آمنوا بكل ما كان قبلك، ولهم بما عليه من خلافك { عذاب عظيم } فهذا في الأحبار من يهود. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله { إن الذين كفروا } قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية**{ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً }** [إبراهيم: 28] قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر، ولم يدخل من القادة أحد في الإِسلام إلا رجلان. أبو سفيان، والحكم بن أبي العاص. وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } قال: وعظتهم لم لم تعظهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } قال: أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم، فختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لايبصرون هدى، ولا يسمعون، ولا يفقهون، ولا يعقلون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: الختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، والغشاوة على أبصارهم. وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود قال { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } فلا يعقلون، ولا يسمعون، وجعل على أبصارهم يقول: أعينهم { غشاوة } فلا يبصرون. وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل { ختم الله على قلوبهم } قال: طبع الله عليها قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: أما سمعت الأعشى وهو يقول: | **وصهباء طاف يهود بها** | | **فابرزها وعليها ختم** | | --- | --- | --- | وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن وأبي رجاء قرأ أحدهما { غشاوة } والآخر { غشوة }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
[من أحوال الكفار] { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } كلامٌ مستأنف سيق لشرح أحوالِ الكَفَرة الغواة المَرَدة العُتاة، إثرَ بـيانِ أحوالِ أضدادِهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمباغيهم في الحال والمآل، وإنما تُرك العاطفُ بـينهما ولم يُسلك به مسلكَ قولِه تعالى:**{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ \* وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ }** [الانفطار، الآية 13و 14]لِمَا بـينهما من التنافي في الأسلوب، والتبايُن في الغرض، فإن الأولى مَسوقةٌ لبـيان رفعةِ شأنِ الكتاب في باب الهداية والإرشاد، وأما التعرضُ لأحوال المهتدين به فإنما هو بطريق الاستطراد، سواءٌ جُعل الموصولُ موصولاً بما قبله، أو مفصولاً عنه، فإن الاستئنافَ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من الكلام المتقدم، فهو من مستتبِعاته لا محالة. وأما الثانيةُ فمسوقةٌ لبـيان أحوالِ الكفرة أصالةً، وترامي أمرِهم في الغَواية والضلالِ إلى حيث لا يُجديهم الإنذارُ والتبشير، ولا يؤثّر فيهم العِظةُ والتذكير، فهم ناكبون في تيهِ الغيِّ والفساد عن منهاج العقول، وراكبون في مسلك المكابرة والعِناد متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلول، وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ ولم يؤسَّس الكلامُ على بـيان أن الكتابَ هادٍ للأولين وغيرُ مُجدٍ للآخَرِين لأن العنوانَ الأخيرَ ليس مما يورثُه كمالاً حتى يُتعرَّضَ له في أثناء تعدادِ كمالاتِه. و(إن) من الحروف التي تشابه الفعلَ في عدد الحروف والبناءِ على الفتح ولزومِ الأسماءِ ودخولِ نون الوقاية عليها، كإنني ولعلني ونظائرهما، وإعطاءِ معانيه، والتعدي خاصةً في الدخول على اسمين، ولذلك أُعملت عملَه الفرْعيَّ، وهو نصبُ الأول ورفعُ الثاني إيذاناً بكونه فرعاً في العمل دخيلاً فيه، وعند الكوفيـين لا عملَ لها في الخبر، بل هو باقٍ على حاله بقضية الاستصحاب. وأجيب بأن ارتفاعَ الخبر مشروطٌ بالتجرد عن العوامل، وإلا لما انتصب خبرُ كان وقد زال بدخولها، فتعين إعمالُ الحرف، وأثرُها تأكيدُ النسبة وتحقيقُها، ولذلك يُتلقىٰ بها القسمُ، وتُصدَّر بها الأجوبة، ويؤتىٰ بها في مواقع الشكِ والإنكارِ لدفعه وردِّه، قال المبّرِد: قولُك عبدُ اللَّه قائمٌ إخبارٌ عن قيامه، وإن عبدَ اللَّه قائمٌ جوابُ سائلٍ عن قيامه شاكٍ فيه، وإن عبدَ اللَّه لقائمٌ جوابُ منكرٍ لقيامه. وتعريف الموصولُ إما للعهد والمرادُ به ناسٌ بأعيانهم كأبـي لهبٍ وأبـي جهلٍ والوليدِ بن المغيرة وأضرابِهم وأحبارِ اليهود، أو للجنس، وقد خُص منه غيرُ المُصرِّين بما أسند إليه من قوله تعالى: { سَوَاء عَلَيْهِمْ } الخ، والكُفْرُ في اللغة سترُ النعمة، وأصلُه الكَفْرُ بالفتح أي الستر. ومنه قيل للزارع والليلِ كافرٌ، قال تعالى:**{ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ }** [الحديد، الآية: 20] وعليه قول لبـيد: [الكامل] | **يعلوا الطريقة متنها متواترٌ** | | **في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها** | | --- | --- | --- | ومنه المتكفِّرُ بسلاحه وهو الشاكي الذي غطّىٰ السلاحُ بدنه، وفي الشريعة إنكارُ ما عُلم بالضرورة مجيءُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام به، وإنما عُدَّ لبسُ الغيارُ وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرُهما كفراً لدلالته على التكذيب، فإن مَنْ صدق النبـي عليه السلام لا يكاد يجترىء على أمثال ذلك، إذ لا داعيَ إليه كالزنى وشربِ الخمر، واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه بلفظ الماضي على وجه الإخبار، فإنه يستدعي سابقةَ المُخبَرِ عنه لا محالة، وأُجيب بأنه من مقتضيات التعلقِ وحدوثِه لا يستدعي حدوثَ الكلام، كما أن حدوثَ تعلّقِ العلم بالمعلوم لا يستدعي حدوثَ العلم { سَوَآء } هو اسمٌ بمعنى الاستواء، نُعت به كما يُنعت بالمصادر مبالغةً، قال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }** [آل عمران، الآية 64] وقوله تعالى: { عَلَيْهِمْ } متعلق به، ومعناه عندهم، وارتفاعُه على أنه خبر، لأن قوله تعالى: { أأنذرتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } مرتفعٌ به على الفاعلية لأن الهمزةَ وأَمْ مجردتان عن معنى الاستفهام، لتحقيق الاستواء بـين مدخوليهما، كما جُرِّد الأمر والنهي لذلك عن معنيـيهما في قوله تعالى:**{ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ }** [التوبة، الآية 80] وحرفُ النداء في قولك: اللهم اغفرْ لنا أيتها العِصابة عن معنى الطلب لمجرد التخصيص، كأنه قيل: إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارُك وعدمُه. كقولك: إن زيداً مختصمٌ أخوه وابنُ عمه، أو مبتدأ، و { سَوَاء عَلَيْهِمْ } خبرٌ قُدم عليه اعتناء بشأنه، والجملة خبرٌ لإن، والفعل إنما يمتنعُ الإخبار عنه عند بقائه على حقيقته. وأما لو أريد به اللفظُ أو مطلقُ الحدث المدلولِ عليه ضمناً على طريقة الاتساع فهو كالاسم في الإضافة والإسناد إليه، كما في قوله تعالى:**{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ }** [المائدة، الآية 119] وقوله تعالى:**{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ }** [البقرة، الآية 11] وفي قولهم: (تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ)، كأنه قيل: إنذارُك وعدمه سيان عليهم، والعدول إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدُّد، والتوصّلُ إلى إدخال الهمزة ومُعادلِها عليه لإفادة تقرير معنى الاستواء وتأكيده، كما أشير إليه وقيل: (سواء) مبتدأ وما بعده خبره وليس بذاك لأن مقتضىٰ المقام بـيانُ كونِ الإنذار وعدمِه سواءً، لا بـيان كون المستوي الإنذارَ وعدمَه، والإنذارُ إعلامُ المَخوفِ للاحتراز عنه، إفعال من نذر بالشيء إذا علِمه فحذِره، والمراد هٰهنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصي، والاقتصارُ عليه لما أنهم ليسوا بأهل للبشارة أصلاً، ولأن الإنذار أوقعُ في القلوب، وأشدُّ تأثيراً في النفوس، فإن دفع المضارِّ أهم من جلب المنافع، فحيث لم يتأثروا به فَلألاّ يرفعوا للبشارة رأساً أولى، وقرىء بتوسيط ألفٍ بـين الهمزتين مع تحقيقهما، وبتوسيطها والثانية بَـيْنَ بـين، وبتخفيف الثانية بـين بـين بلا توسيط، وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله، كما قرىء قدَ أفلح، وقرىء بقلب الثانية ألفاً، وقد نسب ذلك إلى اللحن. { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملةٌ مستقلةٌ مؤكدة لما قبلها، مبـينة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء، فلا محلَّ لها من الإعراب، أو حال مؤكدةٌ له، أو بدل منه أو خبرٌ لأن، وما قبلها اعتراضٌ بما هو عِلة للحكم، أو خبرٌ ثانٍ على رأي من يجوِّزه عند كونه جملة، والآية الكريمة مما استدل به على جواز التكليف بما لا يطاق، فإنه تعالى قد أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون، فظهر استحالةُ إيمانهم لاستلزامه المستحيلَ الذي هو عدمُ مطابقةِ إخباره تعالى للواقع مع كونهم مأمورين بالإيمان، باقين على التكليف، ولأن من جملة ما كُلفوه الإيمانَ بعدم إيمانهم المستمر، والحق أن التكليفَ بالممتنع لذاته وإن جاز عقلاً من حيث إن الأحكامَ لا تستدعي أغراضاً لا سيما الامتثالُ، لكنه غيرُ واقع للاستقراء، والإخبارُ بوقوعِ الشيء أو بعدمه لا ينفي القُدرة عليه، كإخباره تعالى عما يفعله هو، أو العبدُ باختياره، وليس ما كلفوه الإيمانَ بتفاصيل ما نطق به القرآن حتى يلزم أن يُكلفوا الإيمان بعدم إيمانهم المستمر، بل هو الإيمانُ بجميع ما جاء به النبـي عليه السلام إجمالاً، على أن كون الموصولِ عبارةً عنهم ليس معلوماً لهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وفائدةُ الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزامَ الحجةِ وإحرازَ الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الإبلاغ، ولذلك قيل: سواء عليهم، ولم يقل: عليك، كما قيل لعبَدة الأصنام**{ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَـٰمِتُونَ }** [الأعراف، الآية 193] وفي الآية الكريمة إخبارٌ بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ } الآية. معناه: إن الذين ضلوا عن رؤية منتى عليهم فى السبق سواء عليهم من شاهد الأعواض فى خدمتى ومن شاهد العوض لأخلص سرائرهم، ولا يثبت لهم الإيمان الغيبى، وإنما إيمانهم على العادة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
من كان في غطاء وصفه محجوباً عن شهود حقه فالإشارة لنعته أنه سيان عنده قول من دلَّه على الحق، وقول من أعانه على استجلاب الحظ، بل هو إلى دواعي الغفلة أميل، وفي الإصغاء إليها أرغب. كيف لا؟ وهو بِكَيِّ الفرقة موسوم، وفي سجن الغيبة محبوس، وعن محل القربة ممنوع، لا يحصل منهم إيمان، لأنه ليس لهم من الحق أمان؛ فلمَّا لم يؤمنوا لم يؤمِنوا. حكم سبق من الله حتم، وقول له فصل، وإن القدرة لا تُعارَض، ومن زاحم الحق في القضية كبسته سطوات العزة، وقَصَمتهْ بواده الحكم. ويقال إن الكافر لا يرعوي عن ضلالتهِ لِمَا سَبَق من شقاوته، وكذلك المربوط بأغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه، فهو لا يبصر رشده، ولا يسلك قصده. ويقال إن الذي بقي في ظلمات رعونته سواء عنده نصح المرشدين وتسويلات المُبْطِلين، لأن الله سبحانه وتعالى نزع عن أحواله بركاتِ الإنصاف، فلا يدرك بسمع القبول، ولا يُصغي إلى داعي الرشاد، كما قيل: | **وعلى النصوح نصيحتي** | | **وعليَّ عصيان النصوح** | | --- | --- | --- | ويقال من ضلَّ عن شهود المِنَّةِ عليه في سابق القسمة تَوَهَّمَ أن الأمر من حركاته وسَكَنَاته فاتَّكَلَ على أعماله، وتعامى عن شهود أفضاله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ)
{ إن الذين كفروا } - إلى قوله - { عظيم } هم الفريق الأول من الأشقياء الذين هم أهل القهر الإلهي لا ينجح فيهم الإنذار ولا سبيل إلى خلاصهم من النار، أولئك حقّت عليهم كلمة ربّك أنهم لا يؤمنون، وكذلك حقّت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار، سدّت عليهم الطرق، وأغلقت عليهم الأبواب، إذ القلب هو المشعر الإلهيّ الذي هو محلّ الإلهام، فحجبوا عنه بختمه. والسمع والبصر هما المشعران الأنسيان، أي الظاهران اللذان هما بابا الفهم والاعتبار، فحرموا عن جدواهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما إلى القلب، فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلم الذوقيّ الكشفيّ ولا في الظاهر إلى العلم التعلميّ والكسبيّ، فحبسوا في سجون الظلمات، فما أعظم عذابهم. { ومن الناس من يقول آمنا } هم الفريق الثاني من الأشقياء، سُلِبَ عنهم الإيمان مع ادّعائهم له بقولهم { آمنا بالله } لأنّ محلّ الإيمان هو القلب لا اللسان.**{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }** [الحجرات، الآية: 14]. ومعنى قولهم: { آمنا بالله وباليوم الآخرِ } ادّعاء على التوحيد والمعاد اللذين هما أصل الدين- وأساسه أي لسنا من المشركين المحجوبين عن الحق ولا من أهل الكتاب المحجوزين عن الدين والمعاد، لأن اعتقاد أهل الكتاب في باب المعاد ليس مطابقاً للحق. واعلم أن الكفر هو الاحتجاب، والحجاب إما عن الحق كما للمشركين وإمّا عن الدين كما لأهل الكتاب، والمحجوب عن الحق محجوب عن الدين الذي هو طريق الوصول إليه ضرورة، وأما المحجوب عن الدين فقد لا يحجب عن الحق، فهؤلاء ادّعوا رفع الحجابين معاً فكذبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم، أي ليسوا بمؤمنين ما داموا إياهم يخادعون. والمخادعة استعمال الخدع من الجانبين، وهو إظهار الخير واستبطان الشرّ. ومخادعة الله مخادعة رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله:**{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ }** [النساء، الآية: 80]، وقوله تعالى:**{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ }** [الأنفال، الآية: 17] ولأنه حبيبه. وقد ورد في الحديث: **" لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر، ولسانه الذي به يتكلم، ويده التي بها يبطش، ورجله التي بها يمشي "** فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة، واستبطان الكفر والعداوة، وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم وإجراء أحكام الإسلام عليهم بحقن الدماء وحصن الأموال وغير ذلك، وادّخار العذاب الأليم والمآل الوخيم، وسوء المغبة لهم وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم لكن الفرق بين الخداعين أنّ خداعهم لا ينجح إلا في أنفسهم بإهلاكها وتحسيرها وإيراثها الوبال والنكال بازدياد الظلمة والكفر والنفاق واجتماع أسباب الهلكة والبعد والشقاء عليها، وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير ويوبقهم أشدّ إيباق، كقوله تعالى:**{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }** [آل عمران، الآية: 54] وهم من غاية تعمقهم في جهلهم لا يحسون بذلك الأمر الظاهر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ ان الذين كفروا } لما ذكر خاصة عباده وخالصة اوليائه بصفاتهم التى اهلتهم للهدى والفلاح عقبهم اضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا يغنى عنهم الآيات والنذر وتعريف الموصول اما للعهد والمراد به ناس باعيانهم كابى لهب وابى جهل والوليد ابن المغيرة واحبار اليهود او للجنس مناولا كل من صمم على كفره تصميما لا يرعوى بعده وغيرهم فخص منهم غير المصرين بما اسند اليه. والكفر لغة الستر والتغطية وفى الشريعة انكار ما علم بالضرورة مجيئ الرسول صلى الله عليه وسلم به وانما عد لباس الغيار وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرها كفرا لدلالته على التكذيب فان من صدق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكاد يجترئ على امثال ذلك اذ لا داعى اليه كالزنى وشرب الخمر لا لانه كفر فى نفسه. والكافر فى القرآن على اربعة اوجه. احدها نقيض المؤمن قال الله تعالى**{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله }** محمد 1 والثانى الجاحد قال تعالى**{ ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين }** آل عمران 97. اى جحد وجوب الحج. والثالث نقيض الشاكر قال تعالى**{ واشكروا لى ولا تكفرون }** البقرة 152 والرابع المتبرى قال تعالى { ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } اى يتبرأ بعضكم من بعض كذا فى التيسير. وقال فى البغوى الكفر على اربعة اوجه كفر الانكار وهوان لا يعرف الله اصلا ولا يعترف به وكفر الجحود وهو ان يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر ابليس قال الله تعالى**{ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }** البقرة 89 وكفر العناد وهو ان يعرف بقلبه ولا يعترف بلسانه ولا يدين به ككفر ابى طالب حيث يقول | **ولقد علمت بان دين محمد من خير اديان البرية دينا لولا الملامة او حذرا مسبة لوجدتنى سمحا بذاك مبينا** | | | | --- | --- | --- | وكفر النفاق وهو ان يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الانواع سواء فى ان من لقى الله بواحد منها لا يغفر له انتهى كلام البغوى لكن الكلام فى ابى طالب سيجئ عند قوله تعالى**{ ولا تسئل عن أصحاب الجحيم }** البقرة 119**{ سواء عليهم }** البقرة 6 اى عندهم وهو اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت بالمصادر مبالغة قال الله تعالى**{ تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }** آل عمران 64 وارتفاعه على انه خبر لان وقوله تعالى { ءانذرتهم } يا محمد { أم لم تنذرهم } مرتفع على الفاعلية لان الهمزة وما مجردتان عن معنى الاستفهام لتحقيق معنى الاستواء بين مدخوليهما كما جرد الامر والنهى لذلك عن معنييهما فى قوله عز وجل**{ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم }** التوبة 80. وحرف النداء فى قولك اللهم اغفر لنا ايتها العصابة وعن معنى الطلب لمجرد التخصيص كانه قيل ان الذين كفروا مستو عليهم انذارك وعدمه كقولك ان زيدا مختصم اخوه وابن عمه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | واصل الانذار الاعلام بامر مخوف وكل منذر معلم وليس كل معلم منذرا كما فى تفسير ابى الليث والمراد ههنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصى وانما اقتصر عليه لما انهم ليسوا باهل للبشارة اصلا ولا الانذار اوقع فى القلوب واشد تأثيرا فى النفوس فان دفع المضار أهم من جلب المنافع فحيث لم يتأثروا به فلأن لا يرفعوا للبشارة رأسا اولى. وانما لم يقل سواء عليك كما قال لعبدة الاصنام**{ سواء عليكم ادعوتموهم أم أنتم صامتون }** الأعراف 193. لان انذارك وترك انذارك ليسا سواء فى حقك لانك تثاب على الانذار وان لم يؤمنوا فاما فى حقهم فهما سواء لانهم لا يؤمنون فى الحالين وهو نظير الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فانه يثاب به الآمر وان لم يعمل به المأمور وكان هؤلاء القوم كقوم هود الذين قالوا لهود عليه السلام**{ سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين }** الشعراء 136 وقال تعالى فى حق هؤلاء { سواء عليهم } الخ ويقال لهم فى القيامة**{ اصلوها فاصبروا او لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون }** الطور 16. واخبر عنهم انهم يقولون**{ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص }** إبراهيم21 فلما كان الوعظ وتركه سواء كان صبرهم فى النار وتركه سواء وجزعهم فيها وتركه سواء وانت اذا كان عصيانك فى الشباب والشيب سواء وتماديك فى الصحة والمرض سواء واعراضك فى النعمة والمحنة سواء وقسوتك على القريب والبعيد سواء وزيغك فى السر والعلانية سواء اما تخشى ان تكون توبتك عند الموت واصرارك عند النزع وسكوتك سواء وزيارة الصالحين لك وامتناعهم سواء وقيام الشفعاء بامرك وتركهم سواء كذا فى تفسير التيسير { لا يؤمنون } جملة مستقلة مؤكدة لما قبلها مبينة لما فيه من اجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الاعراب ثم هذا تخفيف للنبى عليه السلام وتفريغ لقلبه حيث اخبره عن هؤلاء بما اخبر به نوحا صلوات الله عليه وعلى سائر الانبياء فى الانتهاء فانه قال تعالى لنوح عليه السلام بعد طول الزمان ومقاساة الشدائد والاحزان**{ إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن }** هود 36. فدعا بهلاكهم بعد ذلك وكذلك سائر الانبياء. فى الآية الكريمة اخبار بالغيب على ما هو به ان اريد بالموصول اشخاص باعيانهم فهى من المعجزات الباهرة وفى الآية اثبات فعل العباد فانه قال لا يؤمنون فيه اثبات الاختبار ونفى الاكراه والاجبار فانه لم يقل لا يستطيعون بل قال لا يؤمنون. فان قلت لما علم الله انهم لا يؤمنون فلم امر النبى عليه السلام بدعائهم. قلت فائدة الانذار بعد العلم بانه لا ينجع الزام الحجة كما ان الله تعالى بعث موسى الى فرعون ليدعوه الى السلام وعلم انه لا يؤمن قال الله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }** النساء 165 وقال**{ ولو انا اهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا ارسلت الينا رسولا فنتبع آياتك }** طه 134. فان قلت لما اخبر الله رسوله انهم لا يؤمنون فهلا الهكهم كما اهلك قوم نوح بعدما اخبرانهم لا يؤمنون. قلت لان النبى عليه السلام كان رحمة للعالمين كما ورد به الكتاب وقد قال الله تعالى**{ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون }** الأَنفال 33 ثم ان الاخبار بوقوع الشئ او عدمه لا ينفى القدرة عليه كاخباره تعالى عما يفعله هو او العبد باختياره فلا يلزم جواز تكليف ما لا يطاق. قال الامام القشيرى من كان فى غطاء صفته محجوبا عن شهود حقه فسيان عنده قول من دله على الحق وقول من اعانه على استجلاب الحظ بل هو الى داعى الغفلة اميل وفى الاصغاء اليه ارغب وكما ان الكافر لا يرعوى عن ضلالته لما سبق من شقاوته فكذلك المربوط باغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه فهو لا يبصر رشده ولا يسلك قصده. وقال ايضا ان الذى بقى فى ظلمات دعاويه سواء عنده نصح الراشدين وتسويلات المبطلين لان الله تعالى نزع من احواله. بركات الانصاف فلا يصغى الى داعى الرشاد كما قيل | **وعلى النصوح نصيحتى وعلى عصيان النصوح** | | | | --- | --- | --- | وفى التأويلات النجمية { ان الذين كفروا } اى جحدوا ربوبيتى بعد اقرارهم فى عهد الست بربكم باجابة بلى وستروا صفاء قلوبهم برين ما كسبوا من اعمالهم الطبيعية النفسانية وافسدوا حسن استعدادهم من فطرة الله التى فطر الناس عليها باكتساب الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية كما قال تعالى**{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }** المطففين 14 وذلك بان ارواحهم النفسية لما نظروا بروزنة الحواس الخمس الى عالم الصورة الخسيسة حجبت عن مألوفاتها ومحابها ثم ابتليت بصحبة النفوس الحيوانية واستأنست بها ولهذا يسمى الانسان انسانا لانه انيس فبمجاورة النفس الخسيسة صار الروح النفيس خسيسا فاستحسن ما استحسنت النفس واستلذ به ما استلذ به النفس واستمتع من المراتع الحيوانية فانقطع عند الاغذية الروحانية ونسى حظائر القدس وجوار الحق فى رياض الانس ولهذا سمى الناس ناسا لانه ناس فتاه فى اودية الخسران واستهوته الشياطين فى الارض حيران ولما نسوا الله بالكفران نسيهم بالخذلان حتى غلب عليهم الهوى واوقعهم فى مهالك الردى فاصبحوا بنفوس احياء وقلوب موتى { سواء عليهم ءانذرتهم } بالوعد والوعيد وخوفتهم بالعذاب الشديد { ام لم تنذرهم لا يؤمنون } بما اخبرتهم ودعوتهم اليه وانذرتهم عليه لان روزنة قلوبهم الى عالم الغيب منسدة بقساوة حلاوة الدنيا وقلوبهم مغلوقة بحب الدنيا وشهواتها مقفول عليها بمتابعة الهوى كما قال تعالى**{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }** محمد 24. فما تنسموا روائح الانس من رياض القدس بل هب عليهم صرصر الشقاوة من مهب حكم السابقة وادركهم بالختم على أقفا لها كما قال تعالى**{ ختم الله }** البقرة 7 الآية انتهى ما فى التأويلات. ومن امثال الانجيل قلوبكم كالحصاة لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الريح قال السعدى | **جون بو داصل جوهرى قابل تربيت را دراواثر باشد هيج صيقل نكو نداند كرد آهنى راكه بد كهر باشد** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ)
قلت: { سواء } خبر مقدم، و { أنذرتهم } مبتدأ لسبك همزة التسوية، أي: الإنذار وعدمه سواء في حق هؤلاء الكفرة، والجملة خبر إن، و { غشاوة } مبتدأ، والجار قبله خبره، والغشاوة: ما يغشى الشيء ويغطيه، كنى به عن مانع قهرهم عن الإيمان. يقول الحقّ جلّ جلاله: يا محمد { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } بما أنزل إليك جهراً، وسبقت لهم مني الشقاوة سرّاً، لا ينفع فيهم الوعظ والإنذار، ولا البشارة والتذكار، فإنذارك وعدمه في حقهم سواء، لما سبق لهم مني الطرد والشقاء، فالتذكير في حقهم عناء، والغيبة عن أحوالهم راحة وهناء، لأني ختمتُ على قلوبهم بطابع الكفران، فلا يهتدون إلى إسلام ولا إيمان، ومنعت أسماعهم أن تصغي إلى الوعظ والتذكير، فلا ينجع فيهم تخويف ولا تحذير، وغشيت أبصارهم بظلمة الحجاب فلا يبصرون الحق والصواب، قد أعددتُهم لعذابي ونقمتي، وطردتهم عن ساحة رحمتي ونعمتي. وإنما أمرتك بإنذارهم لإقامة الحجة عليهم، وإني وإن حكمت عليهم أنهم من أهل مخالفتي وعنادي فإني لا أظلم أحداً من خلقي وعبادي،**{ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }** [الأنعَام: 149]. فما ظلمتُهم لأني بعثتُ الرسلَ مبشرين ومنذرين، ولكن ظلموا أنفسهم فكانوا هم الظالمين، فحكمتي اقتضيت الإنذار، وقدرتي اقتضت القهر والإجبار، فالواجب عليك أيها العبد أن تكون لك عينان: عين تنظر لحكمتي وشريعتي فتتأدب، وعينٌ تنظر لقدرتي وحقيقتي فتُسلم، وتكون بي الأمن والرّهْب، فلا تأمَنْ مَكْرِي وإن أمَّنتُك، ولا تيأس من حلمي وإن أبعدتك، فعلمي لا يحيط به محيط، إلا من هو بكل شيء محيط. الإشارة: إن الذين أنكروا وجود الخصوصية، جحدوا أهل مشاهدة الربوبية من أهل التربية النبوية، لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير، بما سبق لهم في علم الملك القدير، فسواء عليهم أأنذرتهم وبال القطيعة والحجاب، أم لم تنذرهم لعدم فتح الباب، قد ختم الله على قلوبهم بالعوائد والشهوات، أو حلاوة الزهد والطاعات، أو تحرير المسائل والمشكلات، وعلى سمع قلوبهم بالخواطر والغفلات، وجعل على أبصارهم غشاوة الحجاب، فلا يبصرون إلا المحسوسات، غائبون عن أسرار المعاني وأنوار التجليات، بخلاف قلوب العارفين، فإنها ترى من أسرار المعاني ما لا يُرى للناظرين، وفي ذلك يقول الشاعر: | **قلوبُ العَارفِينَ لَهَا عُيُونٌ تَرى ما لا يُرى للناظرينا وألسنةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي تغيبُ عَنَ الكِرَام الكَاتِبِينَا وأجنحةٌ تَطِيرُ بغير ريشٍ إلى ملكُوتٍ ربِّ العَالَمِينَا** | | | | --- | --- | --- | فسبحان من حجب العالمين بصلاحهم عن مصلحهم، وحجب العلماء بعلمهم عن معلومهم، واختصّ قوماً بنفوذ عزائمهم إلى مشاهدة ذات محبوبهم، فهم في رياض ملكوته يتنزهون، وفي بحار جبروته يسبحون،**{ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ }** [الصَّافات: 61]. ولما ذكر الحق - جلّ جلاله - من أعلن بالإنكار، ذكر من أسَرَّ بالجحود وأظهر الإقرار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير القرآن/ علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ)
قوله: { إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } فإن حدثني أبي عن بكر بن صالح عن أبي عمر الزبيدي (الزبيري ط) عن أبي عبد الله عليه السلام قال الكفر في كتاب الله على خمسة وجوه فمنه كفر بجحود وهو على وجهين جحود بعلم وجحود بغير علم فأما الذين جحدوا بغير علم فهم الذين حكاه الله عنهم في قوله { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } وقوله { إن الذين كفروا سواء عليهم أانذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } فهؤلآء كفروا وجحدوا بغير علم وأما الذين كفروا وجحدوا بعلم فهم الذين قال الله تبارك وتعالى وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاء‌هم ما عرفوا كفروا به فهؤلآء كفروا وجحدوا بعلم قال وحدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى بقول الله تبارك وتعالى { الذين آتيناهم الكتاب - يعني التورية والإِنجيل - يعرفونه - يعني رسول الله صلى الله عليه وآله - كما يعرفون أبناء‌هم } لأن الله عز وجل قد أنزل عليهم في التوراة والزبور والإنجيل صفة محمد صلى الله عليه وآله وصفة أصحابه ومبعثه وهجرته وهو قوله { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله رضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإِنجيل } هذه صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه في التوراة والإِنجيل فلما بعثه الله عرفه أهل الكتاب كما قال جل جلاله { فلما جاء‌هم ما عرفوا كفروا به } فكانت اليهود يقولون للعرب قبل مجيء النبي أيها العرب هذا أوان نبي يخرج بمكة ويكون هجرته بالمدينة وهو آخر الأنبياء وأفضلهم، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة يلبس الشملة ويجتزي بالكسرة والتميرات ويركب الحمار عرية وهو الضحوك القتال يضع سيفه على عاتقه ولا يبالي بمن لاقى يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر وليقتلنكم الله به يا مشعر العرب قتل عاد، فلما بعث الله نبيه بهذه الصفة حسدوه وكفروا به كما قال الله { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاء‌هم ما عرفوا كفروا به } ومنه كفر البراء‌ة وهو قوله { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } أي يتبرأ بعضكم من بعض، ومنه كفر الشرك لما امر الله وهو قوله { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر } أي ترك الحج وهو مستطيع فقد كفر، ومنه كفر النعم وهو قوله { ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر } - أي ومن لم يشكر - نعمة الله فقد كفر فهذه وجوه الكفر في كتاب الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
النزول ـ نزلت في أبي جهل وفي خمسة من قومه من قادة الاحزاب قتلوا يوم بدر في قول الربيع بن أنس، واختاره البلخي والمغربي. وقال ابن عباس: نزلت في قوم باعيانهم من أحبار اليهود ذكرهم باعيانهم، من اليهود الذين حول المدينة. وقال قوم: نزلت في مشركي العرب، واختار الطبري قول ابن عباس. والذي نقوله إنه لا بد أن تكون الآية مخصوصة لأن حملها على العموم غير ممكن، لأنا علمنا أن في الكفار من يؤمن فلا يمكن العموم، وأما القطع على واحد مما قالوه فلا دليل عليه، ويجب تجويز كل واحد من هذه الاقوال، ومن مات منهم على كفره يقطع على أنه مراد بالآية، فعلى هذه قادة الاحزاب مرادون على ما قال ربيع بن انس ومن قتل يوم بدر كذلك ومن قال ان الآية مخصوصة بكفار اهل الكتاب قال: لأن ما تقدمها مختص بمؤمنيهم فيجب ان يكون ما يعقبها مختصاً بكفارهم وقد قلنا إن الآية الاولى حملها على عمومها اولى ولو كانت خاصة بهم لم يجب حمل هذه الآية على الخصوص لما تقدم فيما مضى. والذين نصب بأن. والكفر هو الجحود والستر ولذلك سمي الليل كافراً لظلمته قال الشاعر: | **فتذكرا نقلا رشيداً بعد ما** | | **القت ذكاء يمينها في كافر** | | --- | --- | --- | وقال لبيد: | **في ليلة كفر النجوم غمامها** | | | | --- | --- | --- | يعني غطاها. والكافور اكمام الكرم الذي يكون فيه والكفري وِعاءُ الطلعة لأنه يستر اللب ومنه قوله تعالى:**{ كمثل غيث أعجب الكفار نباته }** وسمي الزارع كافراً لتغطيته البذر ويقال فلان متكفر بالسلاح اذا تغطى به. وفي الشرع عبارة عمن جحد ما اوجب الله عليه معرفته من توحيده وعدله ومعرفة نبيه والاقرار بما جاء به من اركان الشرع فمن جحد شيئاً من ذلك كان كافراً وربما تعلقت به احكام مخصوصة من منع الموارثة والمناكحة والمدافنة والصلاة عليه وربما لم يتعلق بحسب الدليل عليه. قوله تعالى: { سواء عليهم ءأنذرتهم } جمع بين الهمزتين أهل الكوفة وابن عامر إلا الحلواني وكذلك في كل همزتين في كلمة واحدة اذا كانت الاولى للاستفهام إلا في مواضع مخصوصه نذكرها فيما بعد الباقون بتخفيف الاولى وتليين الثانية وفصل بينهما بالألف أهل المدينة إلا ورشاً وابا عمرو والحلواني عن هشام. ومعنى قوله { سواء } أي معتدل مأخوذ من التساوي كقولك متساو وتقول: هذان الأمران عندي سواء أي معتدلان، ومنه قوله:**{ فانبذ إليهم على سواء }** يعني بذلك اعلمهم وآذنهم للحرب ليستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منكم للاخر ومعناه: أي الامرين كان منك اليهم الانذار أم ترك الانذار فانهم لا يؤمنون. وقال عبد الله بن قيس الرقيات: | **تعدت بي الشهباء نحو ابن جعفر** | | **سواء عليها ليلها ونهارها** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | يعني بدلك عندها معتدل في السير الليل والنهار، لأنها لا فتور فيه ومنه قول الآخر: | **وليل يقول المرء من ظلماته** | | **سواء صحيحات العيون وعورها** | | --- | --- | --- | لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصراً ضعيفاً من ظلمته، وهذا لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر، وله نظائر في القرآن، كما تقول ما أبالي أقمت أم قعدت، وانت مخبر لا مستفهم لأنه وقع موقع أي، كأنك قلت لا أبالي أيّ الامرين كان منك وكذلك معنى الآية: سواء عليهم أيّ هذين منك اليهم حسن في موضعه، سواء فعلت أم لم تفعل. وقال بعض النحويين ان حرف الاستفهام انما دخل مع سواء وليس باستفهام؛ لأن المستفهم اذا استفهم غيره قال: أزيد عندك أم عمرو ويستفهم صاحبه ايهما عنده وليس احدهما احق بالاستفهام من الآخر فلما كان قوله: { سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم } بمعنى التسويه أشبه ذلك الاستفهام اذ شبهه بالتسوية، وقال جرير: | **الستم خير من ركب المطايا** | | **واندى العالمين بطون راح** | | --- | --- | --- | فهذا في صورة الاستفهام وهو خبر، لأنه لو أراد الاستفهام لما كان مدحاً وقال آخر: | **سواء عليه أي حين أتيته** | | **أساعة نحس تتقى أم باسعد** | | --- | --- | --- | ولا يجوز أن تقع أو في مثل هذا مكان أم لأن أم هي التي تعادل بها الهمزة لا أو. والفرق بينهما ان أو يستفهم بها عند أحد الامرين هل حصل أم لا وهو لا يعلمها معاً كقول القائل: أذَّن أو أقام؟ اذ المراد تعلمهما، فاذا علم واحداً منهما ولم يعلمه بعينه قال أذن أم اقام؟ يستفهم عن تعيين أحدهما هذا في الاستفهام. وفي الخبر تقول: لا أبالي أقمت أم قعدت. أي هما عندي سواء ولا يجوز ان تقول لا أبالي أقمت أو قعدت لأنك ليت بمستفهم من شيء. وحكي عن عاصم الجحدري انه قرأ سواو بواو مضمومة لا بهمزة وهذا غلط لأن العرب كلها تهمز ما بعده مده يقولون: كساء ورداء وهواء وجزاء وغير ذلك. وأما الانذار فهو اعلام وتخويف، وكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً وقد سمى الله نفسه بذلك فقال:**{ إنا أنذرناكم عذاباً قريباً }** لأن الاعلام يجوز وصفه به والتخويف أيضاً كذلك في قوله: { ذلك يخوف الله به عباده } فاذا جاز وصفه بالمعنيين جاز وصفه بلفظ يشتمل عليهما وانذرت فعل متعد إلى مفعولين كقوله تعالى: { أنذرتكم صاعقة } و { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } وقد ورد معداً بالباء في قوله تعالى:**{ قل إنما أنذركم بالوحي }** وقيل الانذار هو التحذير من مخوف يتسع زمانه الاحتراز، فان لم يتسع زمانه للاحتراز كان اشعاراً ولم يكن انذاراً. قال الشاعر: | **انذرت عمراً وهو في مهل** | | **قبل الصباح فقد عصى عمرو** | | --- | --- | --- | فان قيل الذين علم الله منهم انهم لا يؤمنون، هل كانوا قادرين على الايمان أم لا؟ فان قلتم ما كانوا قادرين، وقد كلفهم الله تعالى الايمان، فقد كلفهم ما لا يقدرون عليه، وهذا لا يجوز ـ وان كانوا قادرين ـ فقد قلتم: انهم كانوا قادرين على تجهيل الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | قلنا: هذا يلزم المخالف مثله، فانه لا خلاف أنهم مأمورون بالايمان، فيقال لهم: انه لا يجب ذلك كما لا يجب اذا كانوا مأمورين بالايمان، ان يكونوا مأمورين (بابطال ما علم الله) أليس الله قد علم انه لا يقيم القيامة اليوم؟ ايقولون: انه قادر على اقامتها أم لا؟ فان قلتم: انه لا يقدر، فقد عجّزتم الله وان قلتم: انه يقدر، فقد قلتم: انه يقدر على ان يجهّل نفسه. والجواب الصحيح عن ذلك: أن العلم يتناول الشيء على ما هو به، ولا يجعله على ما هو به، فليس يمتنع ان يعلم حصول شيء بعينه، وان كان غيره مقدورا ألا ترى أن من خُيرّ بين الصدق والكذب وقد علم أن كل واحد منهما يقوم مقام صاحبه في باب الغرض وقد علم قد علم قبح الكذب وحسن الصدق لا يجوز أن يختار الكذب على الصدق ـ وان كان قادراً على الكذب ـ فبان بذلك صحة ما قلناه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
" إنّ " من الحروف، والحروفُ بما هي حروفٌ، لا أصل لها في العلم، إلاّ انَّ " إنَّ " وأخواتها لمّا شابهت الفعلَ - في عدد بسائطها، وبنائها على الفتح، ولزوم الأسماء، وإعطاء معانيه وخصوصاً المتعدّي في دخولها على اسمين - عملت عملَه الفرعي، وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني ايذاناً بأنّه فرعٌ في العمل دخيل فيه. ومعناها؛ تأكيد النسبة وتحقيقها، ولذلك يتلقّى بها القسم، وتصدّر بها الأجوبة، وتذكر في معرض الشكّ. روى الأنباري: انّ الكندي المتفلسِف ركب الى المبرّد وقال: إنّي أجد في كلام العرب حشواً؛ أجد العربيَّ يقول: عبدُ الله قائم، ثمّ يقول: إنّ عبد الله قائمٌ، ثمّ يقول؛ إنّ عبد الله لقائم، فقال المبرّد: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ. ففي الأول: إخبارٌ عن قيامه، وفي الثاني: جوابٌ عن سؤال سائل، وفي الثالث: جوابٌ عن إنكار منكرٍ لقيامه. وتعريف الموصول إمّا للعهد، إذا كان إشارة الى جماعة معيّنة كأبي جهل وأبي لهب والوليد بن مغيرة وأحبار اليهود، أو للجنس، إذا أُريد به المتناول للمصمّمين على الكفر وغيرهم، فخصّ عنهم غير المصرّين بما اسند إليه. والكُفْر في اللغة: إخفاء حقّ النعمة. وهو منقولٌ لغويٌ عن الكَفر بالفتح، وهو الستر، ولهذا يقال للزارع: الكافر، وكذا الليل. ولكمام الثمرة: كافور. وفي عرف الشريعة: إنكار ما عُلم بالضرورة من دين نبيّنا (صلّى الله عليه وآله)، وذلك أنّ كل ما نقل عنه (صلّى الله عليه وآله) انّه ذهب اليه وقال به، فإمّا أن يعرف صحّة ذلك النقل بالضرورة، أو بالاستدلال، أو بخبرٍ الواحد. أما القِسم الأول - هو الذي علم بالضرورة مجيء الرسول (صلّى الله عليه وآله) به - فمَن صدّقه في جميع ذلك فهو مؤمنٌ، ومن لم يصدّقه في كل ذلك، فإمّا بأن لا يصدّقه في جميعها، أو بأن لا يصدّقه في البعض دون البعض، فذلك هو الكافر، إذا الكفر عدم تصديق الرسول (صلّى الله عليه وآله) في شيء مما علم بالضرورة مجيئُه به. ومثاله من أنكر وجودَ الصانع، أو كونه عالِماً قادراً مختاراً، أو كونه واحداً منزّهاً عن النقائص والآفات، أو أنكر صحّة نبوّة النبي (صلّى الله عليه وآله)، أو صحة القرآن، أو الشرائع التي علم كونها من دين نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) كوجوب الصلاة والزكاة، وحُرمة الزنا والخمر، فهو كافرٌ لإنكاره ضروريّاً من هذا الدين. فأما الذي يعرف بالدليل انّه من الدين، مثل عينيّة الصفات له تعالى، أو زيادتها، وكونه تعالى جائز الرؤية أم لا، وكون كلام الله قديماً أو محدَثاً، وكونه خالق أفعال العباد أم لا مما لم ينقل بالتواتر القاطع أحدُ طرفَيه، فليس إنكاره ولا الإقرار به داخلاً في ماهية الإيمان، ولا موجباً للكفر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والدليل عليه؛ انّه لو كان جزءاً لماهية الإيمان، لوجب أن لا يحكم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بايمان أحدٍ إلاّ بعد أن يعرف انّه هل يعرف الحق في تلك المسألة؛ ولو كان كذلك، لاشتهر قول النبي (صلّى الله عليه وآله) في تلك المسألة بين جميع الأمّة، ولكانَ منقولاً بالتواتر، وليس الأمر كذلك، ونفيُ التالي يوجب نفي المقدّم، فوجب أن لا تكون معرفتها من أجزاء الإيمان ولا إنكارها موجباً للكفر. وأما المنقول بخبر الواحد، فالأمر فيه أظهر. فهذا تحقيق ماهية الكُفر على قاعدة الإستدلالات الكلاميّة، وظهَر منه انّه يرجع الى الإنكار الباطني، أو عدم التصديق القلبي، فيكون من أعمال القلب كالإيمان، لكونهما متقابلان إما تقابل التضاد، أو تقابل العدَم والمَلَكة كالعلْم والجهْل، فعلى هذا لبس الغبار وشد الزنّار ونحوهما إنّما يسمّى كفراً، لأنّها تدل على تكذيب الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فإنّ من آمن بالله وصدّق الرسول، لا يجترئ عليها ظاهراً لا أنها كفر في نفسها كما انّ التزّيي بشعار المسلمين دالٌّ على الإيمان، لا أنّه إيمان. وأما تحقيق حقيقة الكفر عند العرفاء الذين يعرفون الأمور بالبصيرة الباطنيّة لا بالاستدال الكلامي، فهو انّه عبارة عن الاحتجاب عن نور الإيمان، لما علمت انّ الإيمان الحقيقي نور فائض من الله على القلب، به تنكشف أحوال المبدأ وأسرار المعاد، ولهذا الإيمان قشرٌ وهو إيمان المتكلّم، ولقشرة قشرٌ وهو إيمان العوامّ. فالكفر الذي يقابله، هو الستر والاحتجاب عن ذلك النور بالكليّة، وهو على ضربين: لأن هذا الاحتجاب: إمّا بأمر وجودي كالظلمة التي تضادّ ذلك النور، وهو الجحود للحقّ والانكار له عدواناً وعناداً، للجهل المركّب الراسخ في النفس، أو بأمر عدمي، هو عبارةٌ عن عدم الإيمان، للجهل البسيط المقابل للعلم تقابُل العدم للمَلَكة. وقد وقع الفرقُ بين القسمين في كلام الله كثيراً، كما في هذه الآية، والآية التي تتلوها، ولهذا قيل: إنّ المراد ها هنا بقوله: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } مشركو مكّة، وصناديد قريش من الذين غلظت طبائِعُهم، وغلبت الكثافةُ والجسميّة على نفوسهم، والختمُ على قلوبهم، فقلوبهم في أكنّة ونفوسهم لم تخرج بعد من القوّة الى الفعل، لعدم المسع الباطني والبصر الباطني لهم. ونظيره ما قال تعالى:**{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }** [يس:9] الآية. وقوله:**{ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ }** [فصّلت:4 - 5]. والمراد بقوله:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }** [البقرة:8] رؤساء اليهود وأحبارهم، الذين عانَدوا الحقَّ وأنكروا الآيات وجحَدوها، وكانوا يُخادعون الله ورسوله، وهؤلاء أسوأ حالاً وأردأ مآلاً من المشركين، وسنزيدك ايضاحاً إنشاء الله. فصل [الأقوال في حدوث كلامه تعالى] احتجّت المعتزلة على حدوث كلامه تعالى - سواء كان ألفاظاً بهذه الحروف والأصوات أو شيئاً آخر - بالإخبارات الواقعة في القرآن بصيغة الماضي، الدالّة على تقدّم الواقعة المخبَر عنها بهذه الصيغة عليه، اذ القديم لا يكون مسبوقاً بغيره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأجابت الأشاعرة عنه بما هو المشهور عنهم بأنّ التجدّد والمضيَّ والانقضاء وغيرها، كلّها صفة تعلّق الكلام، وحدوث التعلّق لا يوجب حدوثَ الشيء المتعلّق، نظيره في صفة العلم، أنّ الله تعالى كان في الأزل عالماً بأنّ العالَم سيوجد، فلمّا أوجده انقلب العلم بأنّه سيوجد في المستقبل علماً بأنّه قد وجد في الماضي. ولم يلزم حدوث علم الله، فكذا ها هنا بأن يقال أخبر الله تعالى في الأزل بأنّهم سيكفرون فلمّا وجد كُفرهم صار ذلك خبراً عن أنّهم قد كفَروا ولم يلزم حدوثٌ. وكلمات الفريقين في هذه المسألة كثيرة ممّا لا طائل تحتها، ولا يزيد الخوضُ فيها إلاّ بُعداً عن الحقّ وقساوة في القلب، والصوابُ الرجوعُ عنها الى طريقة أهل الله، والاقتباس عن مشكاة النبوّة بحقّ المتابعة للرسول وآله عليهم السلام. فصل قوله: سواء عليهم، هو اسم بمعنى الاستواء. وصف به كما وصف بالمصادر، ومنه قوله تعالى:**{ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }** [آل عمران:64] وقوله:**{ فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }** [فصّلت:10]. بمعنى مستوية وهو مرفوع إمّا بأنّه خبر لإنّ وانذَرْتَهُمْ امْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ في موضع المرتفع به على الفاعليّة، كأنّه قيل: إنّ الكافرين مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه. أو بأنّه خبر لأَنذَرْتَهُمْ امْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، وانذَرْتَهُمْ امْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ في موضع المبتدإ المقدم عليه خبُره، والجملة خبر لإنّ، بمعنى إنذارك وعدمه سيّان عليهم. والثاني أَوْلىٰ، لأنّ " سواء " اسم، فتنزيله منزلة الفعْل تركٌ للظاهر بلا ضرورة، فأمّا صيروة الفعل مبتدأ مخبَراً عنه ها هنا - مع انّهم اتّفقوا على أنّ الفعل لا يكون مخبِراً ولا مخبَراً عنه - فمن قال: (ضرب خرج) لم يكن آتياً بكلام منتظم، فالوجه في صحّته: انّ الفعلَ إنّما يمتنع الإخبار عنه إذا كان على صرافة حاله وتمام مفهومه الموضوع له من حيث اشتماله على المعنى النسبيّ الممتنع الحكم عليه وبه. وأمّا لو أُطلق واريد به اللفظ كما في قولك: " ضربَ على وزن فعَل " أو مطلق المعنى الحدَثي الدالّ عليه الفعل ضمناً على سبيل الاتّساع، فهو كالاسم فيما يختصّ به من الإضافة والإسناد اليه كما في قوله تعالى:**{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ }** [البقرة:13]، وقوله:**{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ }** [يوسف:35]. وقوله:**{ يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }** [المائدة:119]. وقولهم: تسمعُ بالمُعَيْدي خيرٌ من أن تراه. ولأنا إذا قلنا الفعلُ لا يخبر عنه، فهذا خطأ، إذ قد صار الفعل مخبَراً عنه، ولأن المخبَر عنه بأنه فعل، لا بدّ وأن يكون فعلاً، فالفعل قد أخبر عنه بأنّه فعل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قيل: المخبَر عنه تلك الكلمة، وتلك الكلمة اسم، قلنا: إذا كان اسماً كان الإخبار عنه بأنّه فعل، كذِباً. والتحقيق: انّ المخبَر عنه بأنّه فعلٌ لا يخلو، إمّا أن يكون اسماً، أو فِعلاً فإن كان اسماً، فقد حكمت على الاسم بأنّه فِعل، فيكون كاذباً، وإن كان فِعلاً فقد وقع الإخبار عن الفعلِ، وهو المطلوب. وهذا الوجه الأخير الذي قلته ممّا ذكره صاحب التفسير الكبير. وأقول: هذه شبهة كشبهة المجهول المطلق، لا يجوز التمسّك بها في هذا المقام ونظائره، لأنها منحلّة العقدة بما حُقّق في الحكمة الميزانيّة، وهو أنّ الحَمل - أي الحكم العقلي بالاتّحاد بين شيئين بهو هو - على ضربين: أحدهما: الحمل الشائع، كما في قولك: زيدٌ حيوان، في الذاتيات وزيدٌ كاتب، في العرَضيات، ومفاده ومصداقه كون الموضوع من أفراد المحمول، سواء كان فرده بالذات أو بالعرَض، وسواء كان الحكْم على أفراد الموضوع كما في القضيّة المحصورة، أو على نفس مفهومه، كما في القضية الطبيعيّة. وثانيهما: الحمل الذاتي الأولى، ومفاده: كون أحد المفهومين عنواناً للآخر سواء كان نفسه، كما في حمل المترادفين أحدهما على الآخر كقولك: الإنسانُ بشَر، أو كان بينهما تفاوت بالإجمال والتفصيل، كما في قولك: الإنسان حيوان ناطق، إذا حكمت على نفس المفهوم في المثالين. فإذا تقررّ هذا فنقول: كل شيء فهو يصدق على نفسه بالحمل الأولي، لاستحالة سلب الشيء عن نفسه؛ وإنّ بعض الأشياء مما لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع، بل نقيضه يصدق عليه بهذا الحمل، وبعضه يصدق على نفسه بكِلا الحملين. فالأول: كالجزئي، فإنّه ليس بجزئيٍّ، لأنّ مقهومَه كلي، وكاللامفهوم، فإنّه مفهوم، والثاني: كالكليّ والمفهوم ونظائرهما. فقولك: الجزئيُّ جزئيٌّ. والجزئيُّ ليس بجزئيٍّ، كلاهما صحيح صادق من غير تناقض عند اختلاف الحملَين. ولهذا اعتبر في شرائط التناقض بين القضيّتين، وحدةُ الحمْل، سوى الوحَدات الثمان المشهورات ثمّ إنّ جملة الأشياء التي يصدق ويكذب على نفسها وعينها مفهوم الفِعْل ومفهم الحَرف، فإن كلاً منهما يصدق على نفسه ويكذب عنها أيضاً من غير تناقضٍ، فمفهومُ الحَرفِ مفهُوم الحرَف بأحد الحملين، بمعنى انّه عين مفهوم ما دلّ على معنى في غيره، كعينية الحدّ مع المحدود وغيره بالحمل الآخر، إذ يصدق عليه حدّ الإسم. وكذا لفظ " الحرْف " حرفٌ واسمٌ باعتبارين: باعتبار انّه بعينه لفظ الحرف، وباعتبار انّه يصدق عليه حدُّ الإسم، أي كلمةُ دلّت على معنى في نفسه، وعلى هذا فقِس الفعْل. فقد ثبت وتحقّق بما ذكرنا، أنّ الفعل إذا أريد به المفهوم العنواني، يجوز الحكم عليه وبه بالاتّفاق من أفراد الإسم، كقولك: الفعلُ ما دلّ على معنى مقترن بالزمان، وهذا غير ما نحن فيه، إذ لا بحث عنه ها هنا ولم ينقل خلافٌ لأحد فيه، إنّما الكلام في أفراد هذا المعنى، وهي التي يصدق عليها حدُّ الفعل ومفهومه - كضرَبَ وعَلِم وأمثالهما-، هل يصح الإخبار عنها أم لا؟ وهذا هو محل البحْث وموضع الخلاف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وبما ذكره لم يثبت صحّة الإخبار عن ما يصدق عليه الفعْل، فالوجه كما ذكر أولاً من جواز ذلك عند الضرورة، وعلى سبيل التجوّز، أو الحكاية لكن بقي ان يقال: ما الفائدة في العدول ها هنا عن الحقيقية؟ فنقول: قد عدل من المصدر الى الفعل تنبيهاً على التجدّد، لأن القوم كانوا قد بلغوا في الاصرار واللجاج والإنكار للحق، والإعراض عن الآيات والنُّذُر، الى حالة ما بقي منهم رجاءُ القبول ألبتّة، وقبل ذلك ما كانوا كذلك، ولو قال: " سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك " لم يفد تجدّد هذه الحالة في هذا الوقت دون ما قبله. واعلم أنّ " الهمزة " و " أم " ها هنا عاريتان عن معنى الاستفهام، وإنّما هما لتقرير معنى الاستواء وتأكيده فقط، قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك: اللهم اغفر لنا، أيّتها العصابة، فإنَها لمجرد الاختصاص. ومعنى الإنذار: هو التخويف عن عقاب الله وإنّما اقتصر عليه دون البشارة، لأنّ تأثيره أوقع في القلب وأشدّ من جهة انّ دفع المضرّة أهمّ من جلب المنفعة. وفي " أَأَنذَرْتَهُمْ " ستّ قراءات: تحقيق الهمزتين بينهما ألف أوْلا، وتخفيف الثانية بين بين، وبينهما ألف أَوْلا، وحذف الاستفهاميّة والقاء حركته على الساكن، وقرئ بتخفيف الأولىٰ وإبدالها هاءً، وهو شاذّ. وقوله: { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مفسرة لما قبلها لإجماله في ما فيه الاستواء، فلا محلّ لها من الإعراب، أو حال مؤكِّدة له، أو بدل عنه، أو خبر إنّ وما قبلها، اعتراض بما هو سبب الحكم. فصل [احتجاجات الأشاعرة والمعتزلة بهذه الآية ونظائرها] وممّا احتجّ به أهل السّنّة على صحّة القول بالتكليف بما لا يطاق عليه، هذه الآية ونظائرها. كقوله:**{ لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ }** [يس:7] وقوله:**{ وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }** [يوسف:103]. وقوله:**{ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً }** [المدثر:17]. وقوله:**{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ }** [المسد:1]. وبيانه من جهة الكلام: أنّه تعالى أخبر عن شخصٍ معيّن انّه لا يؤمن قطّ، فلو صدر منه الإيمان، يلزم الكذب على الله في كلامه. ومن جهة العلم، أنّه تعالى علم منه في الأزل أنّه لا يؤمن. فلو آمن يلزم انقلاب علمه جهلاً وذلك محال؛ فكذا ما يستلزمه فصدور الإيمان منه محالٌ وقد كلّف به. وأيضاً: الإيمان يُعتبر فيه التصديق بكلّ ما اخبر الله عنه، ومن جملته: أنّهم لا يؤمنون، فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنّهم لا يؤمنون، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات. فهذه عمدة الوجوه التي تمسّك بها السلفُ من الأشاعرة في دفع أصول المعتزلة وهدم قوانينهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهم تفصَّوا عن هذه الاحتجاجات إجمالاً وتفصيلاً. أمّا المقام الأول: فبيان أنّ علم الله تعالى وخبَره عن عدم الايمان، لا يجوز أن يكون مانعاً من الإيمان لوجوه: الأول: أن القرآن مملوء من الآيات على أن لا مانع لأحد من الإيمان، كما قال تعالى:**{ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ }** [الإسراء:94]. والكلام إنكار بصورة الاستفهام، دالّ على أن المانع من أن يؤمنوا منتفٍ في الواقع. وكقوله لإبليس:**{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ }** [ص:75]. وقوله:**{ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }** [الانشقاق:20]**{ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }** [المدثر:49]. والثاني: أن الله تعالى قال:**{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ }** [النساء:165]. وقال:**{ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ }** [طه:134]. فقد تبيّن انه ما أبقى لهم عذراً إلا وقد أزاله عنهم. فلو كان علمه تعالى بكفرهم مانعاً لهم عن الإيمان، لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة لاستقحاقهم للعقاب. والتالي باطل، فكذا المقدّم. والثالث: انه ذكر في مقام الذم والزجر والتقبيح قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ } الآية، فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه، لما استحقوا التقبيح البتة، بل كانوا معذورين كالأعمى في أن لا يرى. والرابع: إنّ القرآن إنّما أُنزل ليكون حجّة لله ولرسوله عليهم، لا أن يكون حجّة لهم على الله وعلى رسوله، فلو كان العلمُ والخبر مانعين، لكان لهم أن يقولوا: إنّما كفَرنا لسبْق القضاء على كُفرِنا، وتركُ المقضيّ مستحيل، فلِمَ يُطلب المحالُ مِنّا ولِمَ يأمرنا بالمحال؟! والخامس: إنّه لو كان علمُه السابق بعدم الإيمان مانعاً عن الإيمان، لوجَب أن لا يكون الله قادراً على شيء أصلاً. والتالي باطل فكذا المقدم بيان الملازمة: أنّ الذي علم وقوعه واجب والذي علم عدم وقوعه ممتنع، وشيء من الواجب والممتنع لا يكون مقدوراً، إذ المصحّح للمقدوريّة هو الإمكان، دون قسيميه. والسادس: إنّ الأمر بالمحال سفَه وعبث، فلو جاز ورود الشرع به، لجاز وروده بكلّ أنواع السفَه، فما كان يمنع وروده باظهار المعجزة على يد الكاذب، فلا يبقى وثوقٌ بصحّة النبوّات ولا بصحّة القرآن وسائر الكتب، بل يجوز أن يكون الكلُّ سفَهاً وباطلاً. والسابع: لو جاز ورود الأمر بالمحال، لجازَ الأمر للأعمىٰ برؤية النجوم في السماء، والزمِن بالطيران في الهواء، ولو جاز ذلك، لجازَ بعثةُ الأنبياء (عليهم السلام) الى الجمادات والعجماوات، وإنزال الكتب والملائكة عليها لتبليغ التكاليف حالاً بعد حال، ومعلومٌ أنّ ذلك سخريّة وتلاعب بالدين. قال الصاحب بن عبّاد في فصل له في هذا الباب: كيف يأمره بالإيمان وقد منعَه منه؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه؟ وكيف يصرفهم عن الإيمان ثمّ يقول:**{ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ }** [غافر:69]. ويخلق فيهم الإفك ثمّ يقول:**{ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ }** [المائدة:75]. وأنشأ فيهم الكفر ثمّ يقول: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لِمَ تَكْفُرُونَ }** [آل عمران:98]. وخلق فيهم لبس الحق بالباطل، ثمّ يقول:**{ وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ }** [البقرة:42]. وصدّهم عَن السبيل ثمّ يقول:**{ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }** [آل عمران:99]. وحالَ بينهم وبين الإيمان ثمّ قال:**{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ }** [النساء:39]. وذهب بهم عن الرشد ثمّ قال:**{ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ }** [التكوير:26]. وأضلّهم عن الدين حتّى أعرضوا ثمّ قال:**{ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }** [المدثر:49]. والثامن: من الآيات الدالّة على أنّ التكليف بما لا يطاق لم يقعْ قال سبحانه:**{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }** [البقرة:286]. وقال:**{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }** [الحج:78]. وقال:**{ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }** [الأعراف:157]. وأيّ حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال. أما المقام الثاني، فهو الجواب على سبيل التفصيل فللمعتزلة فيه طريقان: أحدهما: طريقة أبي هاشم، وأبي علي الجبائي، والقاضي عبد الجبّار: قالوا لمن قال: " لو وقع خلافُ عِلْمِ الله، لانقلبَ علمُه جهلاً " إنّه قد أخطأ من قال: " إنّه لانقَلَب علمُه جهلاً " ، وأخطأ أيضاً من قال: " إنَ علمَه لا ينقلب جهلاً " ولكن يجب الإمساك عن القولين. وثانيهما: طريق الكعبي، واختيار أبي الحسين البصري والمتأخرين منهم: انّ العلمَ تبعُ للمعلوم، فإذا فرَضت الواقعُ من العبد هو الايمان؛ عرفت أنّ الحاصِلَ في الأزل لله تعالى العلمُ بالإيمان ومتى فرضت الواقع منه هو الكفْر بدلاً عن الإيمان؛ عرفت أنّ الحاصلَ في الأزل هو العلم بالكفر بدلاً عن الإيمان، فهذا فرض علمٍ بدلاً من علْم آخر، لا انّه انقلابٌ في العلم وتغيّر له. تبصرة مشرقية [الجبر والتفويض] إعلم أنّ مسألة الجبر والاختيار من المسائل العظيمة المهمّة في الاسلام، وهي ممّا لم تتنقّح بعدُ الى الآن بين جمهور أهل الكلام، مع أنّهم صرفوا عمرَهم في تحرير الدلائل والمناقضات، وتقدير المباحث والمناظرات، وتطويل الكلام وكثرة الردّ والإحكام والنقض والإبرام، حتّى صارت معارك للآراء ومصادم للأهواء، ولم يبق لأحد من الجانبين منزعة في كان فكره إلاّ ورماها الى صاحبه في ميدان المجادلة والمناظرة، ومع ذلك لم يأت أحد منهما بحاصل في الدين، ولم يظفر بطائلٍ في سلوك طريق اليقين. بل ما زادتهم هذه إلاّ استكبارً وجحوداً وعناداً، ولم تزدهم إلاّ نفرة عن الحقّ وبعاداً، وذلك لاشتغالهم بالفروع عن الأصول، واهتمامهم عن الواجب المهمّ بالفضول، واستغراقهم في المجادلة بالردّ والقبول، ولذلك حُرموا عن الوصول، ومُنعوا عن معاينة المعاني، لا بفكر ونظم قياسي، ويئسوا عن مشاهدة الحقائق لا باعتمال ونصْب تعريف حدّي أو رسمي، بل بأنوار شارقة متفاوتة، وإلهامات بارقة متتالية، تزيد في العمر والبقاء، وتطلق الروح عن المهوى، وتسلب النفس عن هذه القوى وترغبها عن الدنيا، وتسوقها الى العُقبى، وتشوّقها الى لقاء الربّ تعالى. واعلم أنّ أكثر أصحاب البحوث، قد تركوا وصيةَ ربّهم ونصيحةَ نبيّهم سلام الله عليه وآله فيما أُمروا، من تزكية نفوسهم، وتصفية بواطنهم، وإصلاح قلوبهم، وتعديل قُواهم، وتهديب أخلاقهم، وتصقيل، مرآة قلوبهم لتتجلّى فيها خبايا عالَم الملكوت، وتنكشف لديها خفايا أسرار الجبروت، وادركوا الأشياء كما هي، كما وقع دعاء نبيّهم (صلّى الله عليه وآله) له ولأمته: " اللّهم أرنا الأشياء كما هي ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فرفضوا طريق الهداية والسعي في بلوغ النهاية، ولم يقرؤوا صحيفةَ الملكوت من كتابها، ولم يأتوا البيوت من أبوابها، فاغترّوا من حقائق الدين بلوامع سرابها، وقنعوا فيه من أنوار وجوه الحكمة واليقين بظلمات نقابها، فاشتَغلوا بما قد نُهوا عنه بذكر عيوب بعضهم بعضاً، وشنعة بعضهم على بعض، فصاروا فِرقاً ومذاهب وشِيَعاً وأحزاباً، كلّ حزبٍ بما لديهم فرِحُون، وهم في العذاب مشتركون، إلاّ مَن آمنَ منهم بالله واليوم الآخر ببصيرة صافية عن غشاوة الشكّ والامتراء، وقلبٍ فارغ عن مرَض العناد والمراء. ولما تركوا وصيّة ربّهم، ونصيحةَ رسولهم، ونسوا يومَ الآخرة، وركَنوا الى الدنيا، توقّدت بينهم نيرانُ العداوة والبغضاء الى يوم القيامة، فيلعنُ بعضُهم بعضاً، ويكفّر بعضُهم بعضاً، ويطعن بعضه على بعض، بحرقة في قلوبهم، وألم في نفوسهم، كما حكى الله عن أهل الجحيم بقوله:**{ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا }** [الأعراف:38 - 39]. وقالوا:**{ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا }** [الأعراف:38 - 39] يعني: من كان بينهم رئيساً ومقتدىً في رأيهم في الضلال، وقيل لَهُمْ:**{ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }** [الأعراف:38 - 39]. وبظهور هذه الآراء الفاسدة، والبِدع الخبيثة، والأهواء الرديّة، انطمَس أهل الحقّ وضاعت السَيرُ الفاضلة، وغابت العلوم الإلٰهية من بين الخلْق، وصارت كأنْ لم تكن شيئاً مذكوراً. وهذه الآراء والأهواء كثيرة كلّها من هذا القبيل، وستعلم وجهَ بطلانها مع هذه الشهرة العظيمة للقائلين بها، والرواج لها، حيث ترى الكتب الكلامية وغيرها مشحونة بذكرها وذكر نظائرها، ونسبة قائلها الى الفضل والبراعة، والخوض في تحقيق أُصول الشريعة وفروعها بهذه الكلمات الواهية والآراء العاطلة. فكانوا يتصدّون في المجالس، ويتفاخَرون على الأماثل، ويُعيَّنون بالأنامل، وبضاعتهم في العلم والمعرفة، ورأس مالهم في الفضيلة أمور لا تفيد علماً ولا تنتج فائدة. مثل كلامهم في الطفرة والتفكيك، وسكون المتحرّك، والتداخل، وشيئية المعدوم وإعادته، ونفي الجزء وإثبات الخلاء، وإنكار الروح، ونفي التوحيد، وإثبات الكثرة على الله، وتجويز الرؤية له، وخلْق الأعمال، ونفي القدرة عن العبد، ونفي الوجود الذهني؛ وانكار عالَم الملكوت والنشأة الباقية، وجوهرية الطعوم والروائح بل رؤيتها، الى غير ذلك من المسائل المموّهة المزخرفة التي لا حقيقة لها ولا وجود إلا في الأوهام الكاذبة، لا تصحّ لمدع فيها حجة ولا لسائل عنها برهان. وثلّة من الأولين منهم قد بقوا في هذا الزمان، شاهَدناهم يخوضون في الثواني والمعقولات، وهم لا يعرفون الأوائل والمحسوسات، ويتعاطون البراهين من غير ممارسة علم المنطقيّات، ويتكلّمون في الإلٰهيّات، وهم يجهلون الطبيعيّات، وإذا سئلوا عن أشياء مقرون بها عند أكثر الناس، لا يُحسنون أن يجيبوا عنها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذا استقصى عليهم السؤال والبحث، فكلامهم فيها أوهن من بيوت العنكبوت، ويأبون أن يقولوا: لا ندري، الله ورسوله وأولياؤه أعلم، بل يلجّون في خيالاتهم الواهية وهي طغيانهم يعمهون. فلنرجع الى تحقيق القول في هذه المسألة، وتوهين ما قرّروه، والجواب عمّا ذكروه وكشف الفضيحة عما تصوّروه، في فصلين نذكر فيهما فساد القولين وبطلان المذهبين: الجبر والاختيار. فصل [رد احتجاجات المجبرة] أما قول المجبّرة بجواز تكليف المحال، والجبر للعبد في الأفعال من جهة علم الله بحقيقة الأحوال، أو إخباره عن كفر طائفة ونكالهم في الآخرة والمآل، ففي غاية السخافة والوهْن، فإنّ العلم والجَبر لا يسلبان عن العباد القُوى والقُدرة، بل القدرة ثابتة للعبد، والتمكّن من أفعاله وأقواله مبذولٌ له، والتصرّف في قواه الإدراكية - كالمسع والبصر - وأعضائه التحريكيّة - مثل اليد والرِّجل - متى شاء وكيف شاء مفوَّضٌ إليه ميسّر له، والعلم بوجوه النفع والضرّ، والخير والشرّ ممنون عليه من قِبَل الله، لأنّ هذه المبادي والقوى القريبة خلقتْ موجبةً لأفاعيله وحركاته، مقتضيةً لآثاره وتبعاته، جعلها الله خادمةً للقلب، مسخرةً له، وهو المتصرّفُ فيها بقوتّه المدبّرة، وهي مجبولة على طاعة القلب، لا يستطيع له خلافاً ولا عليه تمرّداً. وفائدة التكليف له والإنذار كالابتلاء وغيره، عائدة إليه ولو قليلاً، وإلى غيره كثيراً، ولا يلزم أن تكون فائدة التكليف لأحد بشيءٍ، نفس ذلك الشي؛ إذ ربما يترتّب على التكليف فائدة اخرى، غير ما كلّف به، فلي لهم أن يقولوا بنفي الأعراض وبطلان الدواعي واثبات التعطيل، والعبَث في فعل العبد، ذلك ظنّ الذين كفروا من المجوس والثنويّة، النافين لاختيار العبد، المثبتين لإجباره، ولهذا المعنى قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): **" القدرَيّة مجوس هذه الأمّة ".** ومن الحكايات المأثورة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في ذلك، ما رواه جماعة من علماء الإسلام أنّه قال (صلّى الله عليه وآله): **" لُعنت القدَرية على لسان سبعين نبيّاً، قيل: ومَن القدَرية يا رسول الله؟ قال: قومٌ يزعمون انّ الله سبحانَه قدَّر عليهم المعاصي وعذّبهم عليها ".** ومنها أيضاً ما رواه صاحب الفائق محمود الخوارزمي وغيره من العلماء، عن محمد بن علي المكّي باسناده قال: **" إنّ رجلاً قدِم على النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أخبرني بأعجب شيء رأيته، قال: رأيت قوماً ينحكون أمَهاتهم وأخواتهم، فإذا قيل لهم: لِمَ تفعلون؟ قال: قضى الله تعالى وقدَّره. فقال: سيكون في أُمّتي أقوام يقولون مثلَ مقالتهم، أُولئك مجوس أمتي ".** ومنها أيضاً ما ذكره صاحب الفائق وغيره من علماء الاسلام، عن جابر بن عبد الله أنّه قال: يكون في آخر الزمان قومٌ يعملون بالمعاصي ويقولون: إن الله قد قدَّرها عليهم، الرادّ عليهم كشاهر سيفه في سبيل الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن الحكايات في هذا الباب ما يروى من انّ أبا حنيفة اجتاز على موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام) فقال سائلاً: المعصيةُ ممّن؟ فقال له موسى الكاظم (عليه السلام): اجلس حتّى اخبرك، فجلس أبو حنيفة، فقال (عليه السلام): لا بدّ أن تكون المعصية من العبد أو من الله تعالى أو منهما جميعاً، فإن كانت من الله تعالى، وهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده الضعيف، ويؤاخذه بما لم يفعله، وإن كانت المعصية منهما، فهو شريكه، والقويّ أَوْلىٰ بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت المعصية من العبد وحده؛ فعليه وقعَ الأمر وإليه توجّه النهي، وله حقّ الثواب والعقاب، ووجبت له الجنّة والنار، فقال أبو حنيفة: ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم. وقد نظم هذا بعض شعرائهم: | **لم تخلُ أفعالُنا اللاتي نلام بها** | | **إحدى ثلاث خصالٍ حين نأتيها** | | --- | --- | --- | | **إمّا نفرّدَ بارينا بصنعتها** | | **فيسقط اللوم منّا حين نُبديها** | | **أو كان يُشركنا فيها، فيلحقه** | | **ما سوف يلحقه من لائمٍ فيها** | | **أولم يكن لإلٰهي في جنايتها** | | **ذنبٌ، فما الذنب إلاّ ذنب جانيها** | ومنها ما رواه جماعة من العلماء، أنّ الحجاج بن يوسف كتبَ الى الحسن البصري والى عمرو بن عبيد والى واصل بن عطاء والى عامر الشعبي: أن يذكروا ما عندهم وما وصل اليهم في القضاء والقدَر. فكتب اليه الحسن البصري: إنّ مِن أحسن ما انتهى الينا ما سمعتُ عن امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه قال: أتظنّ أنّ الذي نهاك دهاك؟ إنّما دهاك أسفلك وأعلاك، والله بريٌّ من ذاك. وكتب إليه عمرو بن عبيد: أحسن ما سمعت في القضاء والقدَر، قولُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): لو كان الوِزْر في الأصل محتوماً، كان الوزر في القصاص مظلوماً. وكتب إليه واصلُ بن عطاء: أحسن ما سمعت في القضاء والقَدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): أيدلّك على الطريق ويأخذ عليك المضيق؟ وكتب إليه الشعبي: أحسن ما سمعت في القضاء والقدَر قول أمير المؤمنين علي يبن أبي طالب (عليه السلام): كلّما استغفرتَ الله منه فهو منك، وكلّما حمدتَ الله تعالى عليه فهو منه، فلما وصلت كتبُهم الى الحجّاج ووقَف عليها قال: لقد أخذوها عن عينٍ صافيةٍ. هذا مع ما كان عنده من الفضاضة والأمور الواهية. ومما روي أيضاً أن رجلاً سأل جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) عن القضاء والقَدر؟ فقال: ما استطعت أن تلوم العبدَ عليه فهو فِعلُه، وما لم تستطع أن تلومَ العبدَ عليه، فهو فعلُ الله يقول الله للعبد: لِمَ عصيتَ لِمَ فسقتَ لِمَ شربتَ الخمرَ لِمَ زنيتَ؟ فهذا فعل العبد، ولا يقول: لِمَ مرضتَ؟ لِمَ قَصُرتَ؟ لِمَ ابيضضت؟ لِمَ اسوددت؟ لأنه من فِعل الله في العبد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن الحكايات أيضاً: أنّ الفضل بن سهل سأل علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) بين يدي المأمون؛ فقال: يا أبا الحسن، الخَلقُ مجبورون؟ فقال: الله تعالى أعدل من أن يجبر خَلقَه ثمّ يعذبهم، قال فمُطْلَقون؟ قال: الله تعالى أحكم من يهمل عبدَه ويُكله الى نفسه. ومنها: أنّ رجلاً وقَف على جماعة من المجبّرة فقال لهم: أنا ما أعرف المجادلَة والإطالَة في الكلام؛ لكنّي أسمعُ في القرآن قوله تعالى:**{ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ }** [المائدة:64]. ومفهوم هذا الكلام عند كلّ عاقل، أنّ الموقِد للنار غير المطفئ. فانقطعوا ولم يردّوا جواباً. وقيل لجبري: نرى الله يقول:**{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا }** [الشمس:9 - 10] مَن هذا الذي قد خاب؟ فلم يكن له من ذلك جواب. وقال معتزلي لجبري: ممّن الحقُّ؟ فقال: من الله. قال له: فمَن المحقّ؟ قال: هو الله قال له: فممّن الباطلُ؟ قال: من الله. فقال له: فمن هو المبِطلُ؟ فانقطع المجبّر ولم يقدم على أن يقول: إن الله - تعالى عن ذلك علواً كبيراً- هو المبطِل. وكان يلزمه ذلك على مذهبه. ومن عجائب ما يعتقده المجبّرة ويلزمهم أيضاً، أنّه يجوز من الله في عقولهم مع عدله وحكمته، أن يجمع الأنبياءَ والمرسلين والملائكةَ المقرّبين وعباده الصالحين، فيخلّدهم في الجحيم والعذاب الأليم أبد الآبدين، ويجمع الكفّار والملحدين والزنادقة والمنافقين وإبليس والشياطين، ويخلّدهم في الجنة والنعيم دهر الداهرين، وزعموا ذلك إنصافاً منه وعدلاً، وركبوا في ذلك مكابرةً وجهلاً ولعلّه قد كان لهم سلَفٌ صدرت منهم كلماتٌ على سبيل الزمر والإشارة وما بلغت عقول هؤلاء على كنْه أقوال أولئك الأوائل، أو كان في عقول طائفة من رؤسائهم جهلٌ وسفَه أوجبَ مثلَ هذا الاعتقاد، وجاء الخلفُ مقلّداً للسلف، محبّاً للمنشأة وسنّة الآباء، كما حكى الله عن أشباههم من الأخلاف الذين قلّدوا آراء الأشياخ والأسلاف، حيث ذكر:**{ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }** [الزخرف:22]**{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }** [البقرة:170]. وإن كان ذلك كذلك، فأيّ عذرٍ بقيَ للمتأخّرين من الأحياء والأبناء في اتّباع السلَف والآباء على الضلال في أمرٍ لا يخفى على أدنى العقلاء؟ فما أحسن ما يقرؤونه في كتابهم:**{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }** [الأنعام:91] لا والله ما قدَروا الله حقَّ قدره، ولا هذا قدْرُ جلالته وعظمته، ولا جزاء إحسانه ونعمته. والعجب، أنّهم زعموا أنّ هذا ما عليه أكابر العرفاء ومحقّقو الصوفيّة من القول بالتوحيد الأفعالي، وليس كذلك، كما يظهر من تتبّع كلماتهم وتصفّح مقالاتهم، قال الشيخ العظيم محيي الدين الأعرابي في الباب التاسع عشر وثلاثمأة من الفتوحات المكيّة: " إنّ رافعَ الأسباب سّيء الأدب مع الله، ومَن عزلَ مَن ولاّه الله تعالى فقد أساء الأدبَ وكذّب في عزْل ذلك الوالي، فانظر ما أجهلَ من كفَر بالأسباب وقال بتركِها، ومَن تَرك ما قرّره الحقُّ، فهو منازعٌ لا عبد، وجاهل لا عالم واني أعظِك أن تكون من الجاهلين، وأراك في مذهب الجبر تكذب نفسك في ترك الأسباب، فإنّي أراك في وقت حديثك معي في تركِها ورمْيها يأخذكَ العطشُ، فتترك كلامي وتجري الى لماء فتشرب منه لتدفعَ بذلك المَ العطش، وكذلك إذا جِعتَ تناولتَ الخبزَ، وغايتك أن لا تتناوله بيدك حتى تجعل في فيك، فما حصل في فَمِك مضغته وابتلعته فما اسرَع ما اكذبتَ به نفسك بين يدي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكذلك إذا أردتَ أن تنظر الى شيء افتقرتَ الى فتح عينك، فهل فَتَحها إلاّ سبب، فكيف تنفي الأسبابَ بالأسباب؟ أترضى لنفسك بهذه الجهالة؟ فالأديب الإلٰهي العالِم مَن اثبتَ ما اثبتَه الله في الموضع الذي أثبته، وعلى الوجه الذي أثبته، ثمّ تكذب نفسَك في عبادة ربّك. أليست عبادتُك سبباً في سعادتك وأنت تقولُ بترك الأسباب؟ فلِمَ لا تقطع العملَ. أرأيت أحداً من رسولٍ ولا نبيّ ولا وليٍّ ولا مؤمنٍ ولا كافرٍ ولا شقيٍّ خرجَ قطّ عن رقِّ الأسباب مطلقاً، أدناها التنفّس؟ فيا تارك السببِ لا تتنفّس؛ فإنّ التنفّس سببٌ لحياتك فأمسِكْ نفسَك حتّى تموتَ فتكونَ قاتلَ نفسك فتحرُم عليك الجنة. وإذا فعلتَ هذا فأنت تحت حكم السبب... " " فما اظنّك عاقلاً إن كنتَ تزعم أن ترفعَ ما نصبَه الله وأقامه علماً مشهوداً، ودعْ عنكَ ما تسمعُ من كلام أهل الله، فإنّهم لم يردوا بذلك ما توهّمته، بل جهلتَ ما أرادوا بقطع الأسباب، كما جهلتَ ما أراد الحقُّ بوضع الأسباب، ولقد ألقيتُ بكَ على مدرجة الحقّ، واتيتُ لكَ الطريقة التي وضعَها لعباده وأمرهم بالمشي عليها فاسلُكْ:**{ وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }** [النحل:9]. وقال في الباب السادس والتسعين ومائتين: " ولقد نبّهني الولدُ العزيز العارف شمسُ الدين إسماعيل بن سودكين التوري على أمرٍ كان عندي من غير الوجه الذي نبَّهنا عليه هذا الولد؛ وهو التجلّي في الفعل، هل يصحّ أو لا يصحّ؟ فوقْتاً كنتُ أنفيه بوجهٍ، ووقْتاً كنتُ اثبته بوجهٍ يقتضيه التكليفُ، إذ كان التكليفُ بالعمل لا يمكن أن يكون من حكيمٍ يقول: " اعمَلْ وافعل " لمَن يعلم انّه لا يعملُ ولا يفعلُ، إذ لا قدْرة له عليه. وقد ثبت الأمرُ الإلٰهي بالعمل للعبد، مثل قوله تعالى:**{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ }** [البقرة:43] و**{ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ }** [آل عمران:200]**{ وَجَاهِدُواْ }** [التوبة:41]. فلا بدّ أن يكونَ له في المنفعل عنه تعلّق من حيث الفعل فيه، فيسمّى به فاعلاً وعاملاً، وإذا كان هذا، فبهذا القدر من النسبة يقع التجلّي فيه، فبهذا الطريق كنتُ أثبته، وهو طريقٌ مرضيٌّ في غاية الوضوح، يدلّ على أنّ القدْرةَ الحادثة لها نسبةُ تعلّقٍ بما كُلّفت عليه لا بدّ من ذلك، ورأيتُ حجّة المخالف واهية في غاية من الضعف والاختلال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولمّا كان يوماً فاوضَني في هذه المسألة هذا الولدُ فقال لي: وأيّ دليلٍ أقوى على نسبة الفعل إليه والتجلّي فيه، إذا كان من صفته من كون الحقّ خلَق الإنسانَ على صورته، فلو جرّد عنه الفعْلَ، لما صحَّ أن يكون على صورته، ولما قَبِل التخلّقَ بالأسماء، وقد صحّ عندكم وعند أهل الطريق بلا خلاف، أنّ الإنسان مخلوق على الصورة، وقد صح التخلُّق بالأسماء؟ فلا يقدر أحد أن يعرف ما يدخل عليّ من السرور بهذا التنبيه، فقد يستفيد الاستاذ من التلميذ أشياء من مواهب الحقّ تعالى لم يقض الله للاستاذ أن ينالَها إلاّ من التلميذ، كما يعلم قطعاً انّه قد يفتح للإنسان الكبير في أمر يسأله عنه بعض العامّة، فيرزق العالِم في ذلك الوقت لصدْق اللسان علم تلك المسألة، ولم يكن عنده قبل ذلك عناية من الله بالسائل ان حصل للمسؤول علماً لم يكن عنده، ومن راقَب يجدُ ما ذكرناه. فالحمد لله استفَدنا من أولادنا مثل ما استفاد منّا شيوخنا أموراً كانت أشكلت عليهم " انتهى كلامه. فصل فيما يرد على المعتزلة القائلين باستقلال العبد في أفعاله وحركاته فممّا يرد عليهم أنّهم اشركوا بالله في أفعاله، ولم يتّفق لهم التوحيد الأفعالي، كما لم يبق للأشاعرة - المثبتين للصفات - التوحيد الوصفي. ويرد عليهم أيضاً؛ انّهم منكرون لقضاء الله وقدَره في كلّ شيء، ولم يذعنوا انّ الخيرات والشرور كلّها بقضائه وقدَره. أمّا الخيرُ فهو مقضيٌّ بالذات، وأما الشرّ فهو مقضيٌّ بالعرَض. ومذهبهم في صدور الأفاعيل من العباد قريبٌ من مذهب بعض الطبيعيّين والأطبّاء الذين جعلوا مبدأ فعل الآدمي طبيعتَه ومزاجَه، ولم يرتفع نظرُهم الى ما فوق الدهر والطبيعة من الملكوت الأعلى والأسباب القُصوى، ولم يعلموا أنّ كل ما يقع في هذا العالَم من الحوادث والأكوان والأفعال والإرادات والحركات والسكَنات، مقدّر بهيئته وزمانه في عالم آخر قبل؛ كما دلّت عليه البراهين العقليّةُ والمشاهدات الذوقيّةُ والمناماتُ الصادقة، والإلهامات، والكلمات الإلٰهيّة، والأحاديث النبويّة، منها قوله تعالى:**{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ }** [القمر:52-53]. ومنها قوله تعالى:**{ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }** [الأنعام:59]. ومنها قوله تعالى:**{ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ }** [يس:12]. وكذا قوله:**{ هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }** [الجاثية:29]. وقوله:**{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ }** [الحديد:22]. الى غير ذلك من الآيات. ومن الأحاديث النبويّة قوله عليه وآله الصلاة والتحيّة: **" جفَّ القلمُ بما هو كائن "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" اعلموا فالكلُّ ميسّر لما خُلق ".** ومنها قوله: **" إنّ أحدَكم يجمَع في بطنِ أمّه أربعين يوماً، ثمّ يكون علقةً مثل ذلك، ثمّ يكون مضْغةً مثل ذلك، ثمّ يُرسل الله مَلكاً فينفخ فيه الروحَ فيؤمَر بأربع كلماتٍ فيكتبُ رزقَه، وأجلَه، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إلٰه غيره، إنّ أحدكم ليعملُ عملَ أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبين الجنّة إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم الله له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدَكم ليعلمُ بعمل أهل النار حتّى [ما] يكون ما بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيختم الله له بعمل أهل الجنّة فيدخلها ".** وقريبٌ من هذا ما ورَد من طريق أهل البيت (عليهم السلام)، رواه رئيس المحدّثين محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله عن عدّة من أصحابه، مسنداً الى أبي عبد الله (عليه السلام)، أنّه قال: " يُسلك بالسعيد في طريق الأشقياء حتّى يقولَ الناسُ ما أشبهه بهم بل هو منهم، ثمّ تتداركه السعادة. وقد يُسلك بالشقيّ طريق السعداء حتّى يقولَ الناسُ ما أشبهه بهم، بل هو منهم. ثمّ يتداركه الشقاءُ. إنّ من كتَبه الله سعيداً وإن لم يبق من الدنيا إلاّ فواق ناقة خُتم له بالسعادة ". ونقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " اعلموا علماً يقيناً أنّ الله لم يجعل للعبد وإن عظمتْ حيلتهُ وقويتْ مكيدتُه واشتدتْ طَلِبته، أكثر ممّا سمّى له في الذكر الحكيم ". وفي طريقتهم أيضاً رواه الكليني عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: " إنّ ممّا أوحى الله الى موسى (عليه السلام) وأنزل عليه [في] التوراة: إنّي أنا الله لا إلٰه إلاّ أنا، خلقتُ الخلْقَ وخلقتُ الخيرَ وأجريته على يدي مَن أحبّ فطوبىٰ لمَن أجريته على يديه، وأنا الله لا إلٰه إلاّ أنا خلقتُ الخلْقَ وخلقتُ الشرَّ وأجريتُه على يدي مَن أريده، فويلٌ لمَن أجريتُه على يديه " وعن أبي عبد الله (عليه السلام): " ما من قبضٍ وبسطٍ إلاّ ولله فيه [مشيئةٌ وقضاءٌ وابتلاءٌ ". وعنه (عليه السلام): " إنّه ليس شيءٌ فيه] قبض أو بسطٌ ممّا أمر الله به أو نهى عنه، إلاّ وفيه لله عزّ وجلّ ابتلاءٌ وقضاءٌ ". وعنه (عليه السلام) أيضاً في كتاب الكافي انّه قال: " لا يكون شيءٌ في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع: بمشيئة، وإرادة، وقدَر، وقضاء، وإذن، وكتابٍ وأَجَل؛ فمَن زعم انّه يقدِر على نقْض واحدة فقد كفَر ". وعنه أيضاً (عليه السلام) مثله بسند آخر. وفيه أيضاً عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: " لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلاّ بسبع: بقضاءٍ، وقدَرٍ وإرادةٍ، ومشيئةٍ، وكتابٍ وأجَلٍ، وإذْنٍ، فمَن زعم غير هذا فقد كذب على الله ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن طريقه فيه باسناده عن محمّد بن عبد الرحمن [عن أبيه] رفعه الى من قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: **" قدَّر الله المقاديرَ قبل أن يخلقَ السمواتِ والأرضَ بخمسين الف سنة ".** ومن طريقه رحمه الله في كتاب مَن لا يحضره الفقيه مسنداً الى اسماعيل بن مسلم انّه سأل جعفر الصادق (عليه السلام) عن الصلاة خلفَ رَجل يُكَذّبُ بقَدَر الله عز وجل؟ قال: " لِيُعِدْ كلّ صلاةٍ صلاّها خلفه ". وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: **" خرجَ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) وفي يده كتابان، فقال للذي في يده اليُمنى: " هذا كتاب من ربِّ العالَمين، فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم اجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً " ثمّ قال للذي في شماله " هذا كتابٌ من ربّ العالَمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثمّ اجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ". ثم مال بيده فنبذهما ثمَّ قال: " فرغ ربُّكم من العباد، فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السعير " ".** ومن الحكايات التي نقلها أهلُ الإسلام في كُتب الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، مناظرةُ آدم وموسى (عليهما السلام)، وهي انّه قال (صلّى الله عليه وآله): " احتجّ آدم وموسى عند ربّهما، فحجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنت آدمُ الذي خلقَكَ الله بيده ونفخَ فيكَ من روحه وأسجدَ لكَ ملائكتَه، وأسكنكَ في الجنّة، ثمّ أهبطت الناس بخطيئتك الى الأرض فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقرّبكَ نجيّاً، فبِكَمْ وجدتَ الله كتبَ التوارة قبل أن أخلَق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم: فهل وجدتَ فيها: وَعَصَى آدمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ؟ قال: نعم قال: أفتلومني على أن عملتُ عملاً كتَبه الله عليَّ أن أعملَه قبلَ أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله): فحجَّ آدمُ موسى (عليه السلام) ". والمعتزلة طعنوا في هذا الحديث من وجوه: أحدها: أنّ هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى قد ذمَّ آدمَ على الصغيرة، وذلك يقتضي الجهلَ في حقّ موسى (عليه السلام)، وذلك غير جايز. وثانيها: إنّ الولدَ كيف يُشافه الوالدَ بالقول الغليظ؟ وثالثها: إنّه قال: " أنتَ أشقيتَ وأهبطتَ الناس من الجنّة " وقد علِم موسى أنّ شقاء الناس وإخراجهم من الجنّة لم يكن من جهة آدم، بل الله أخرجه منها. ورابعها: إنّ آدم احتجّ بما ليس حجّةً. إذ لو كان حجّة، لكان لفرعونَ وهامانَ وسائر الكفار أن يحتجّوا به، ولمّا بطل ذلك، علِمنا فسادَ هذه الحجّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وخامسها: إنّ الرسولَ صوّبَ آدمَ في ذلك، مع أنّا بيّنا أنّه ليس بصواب، إذا ثبت هذا وجب حملُ الحديث على أحد ثلاثة أوجه: أحدها: إنّه (صلّى الله عليه وآله) حكى ذلك عن اليهود - لا انّه حكاه عن الله أو عن نفسه - واشتبه على الراوي. وثانيها: انه قال: " فحجّ آدم - منصوباً - أي: إنّ موسى جعلَه محجوجاً. وثالثها: وهو المعتمَد أنّه ليس المراد من المناظرة الذمّ على المعصيَّة، ولا الاعتذار منه بعلم الله، بل موسى سأله عن السبب الذي حملَه على تلك الزَّلة حتّى خرجَ بسببها من الجنَّة، فقال آدمُ: إنّ خروجي منها لم يكن بسبب تلك الزلّة، بل بسبب أنّ الله تعالى كان قد كتَب عليَّ أن أخرج إلى الأرض وأكونَ خليفة فيها، وهذا المعنى كان مكتوباً في التوارة، فلا جرم كانت حجّة آدمَ قويّة، وصار موسى في ذلك كالمغلوب. واعلم أنّ الكلام يؤدّي الى التطويل، وإلاّ لأّجبتُ عن تلك الوجوه الخمسة متفصّيا، ولناقَضتُ لهذه الوجوه الثلاثة مفصِحاً عن فسادها، فاضحاً لقصور قائلها، كاشفاً عن اختلال أحواله، وبطلان مقاله، واعوجاج سبيله، وانبتات سلوكه لفقدان دليله، حيث لا حجّة ولا برهان، ولا حديث ولا قرآن، ولا عقل ولا ايمان. قال بعض أكابر الحكماء في وصفهم عندما نقَل بعضاً من الآراء السخيفة عنهم في إثبات شيئيّة المعدوم وثبوت الأحوال: " وهؤلاء قومٌ نبَغوا في ملّة الإسلام وما كانت لهم أفكارٌ سليمةٌ، ولا حصَل لهم ما حصل للصوفيّة من الأمور الذوقيّة، ووقع بأيديهم ممّا نقل جماعةٌ في عهد بني اميّة، من كتب قوم كانت أساميهم تُشبه أسامي الفلاسفة، فظنَّ القومُ أنّ كلّ اسم يوناني [هو] اسم فيلسوف، فوجدوا فيها كلمات استحسنوها وذهبوا عليها وفرّعوها رغبة في الفلسفة، وانتشرت في الأرض وهم فرِحون بها، وتبعَهم جماعةٌ من المتأخّرين وخالفوهم في بعض منها، إلاّ انّ كلّهم إنّما غلَطوا بسبب ما سمعوا أسامي يونانيّة لجماعة صنّفوا كتباً يتوهم انّ فيها فلسفةً - وما كان فيها شيء منها - فقبِلَها متقدّموهم، وتبَعهم فيها المتأخّرون، وما خرجت الحكمةُ عن يونان، إلاّ بعد انتشار أقاويل عامّة اليونان وخطبائهم وقبول الناس لها. ولنرجع الى طريق العقل في هدم قاعدة الاعتزال، بعد أن ذكرنا من طريق السمع ما يليق بذلك من الأقوال. تبصرة عقلية [علمه تعالى وقضاؤه] قد علمت أنّ جميع الأشياء صادرة من الله تعالى وهو عالِمٌ بصدورها عنه راضٍ بذلك غير كاره، وهذا معنى مختاريّته الخالي عن النقص والقصور والتغيّر. وقد ثبتَ في العلوم اليقينيّة: أنّ العلمَ بالسبب التام يستلزم العلمَ بالمسبّب، فإذاً كان تعالى عالِماً في الأزل بجميع الموجودات الروحانيّة والجسمانيّة، والعلويّة والسفليّة على ما هي دفعة واحدة من غير تجدّد وانفعال في علمه - وهو معنى قضائه - ويكون مخرِجاً إيّاها من القوّة الى الفعْل شيئاً بعد شيءٍ على سبيل التجدّد والانقضاء على التفصيل - وهو معنى قدره -، وقد ثبت أنّ كلّما لم يجب لم يوجَد، فقضاؤه نافذٌ في قدَره، حاكمٌ على كل أحد من هذا العالَم في نفعه وضرّه وخيره وشره، فالإيمان بالقدَر واجبٌ من هذه الجهة، والرضا بالقضاء فرضٌ متحتّم من هذا البرهان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | كما ورد في الحديث الإلٰهي: **" من لم يرضَ بقضائي ولم يصبر على بلائي فليبعدْ رباً سوائي وليخرج من أرضي وسمائي ".** ومن الأحاديث المستفيضة الشائعة بين طوائف العلماء المتَّفق عليها، ما رواه محمد بن عقوب الكليني رحمه الله في باب الجبْر والقدَر والأمر بين الأمرين منه عن علي بن محمد، عن سهل بن زياد، وإسحق بن محمد، وغيرهما رفعوه، قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفّين إذ أقبَل شيخٌ فجثا بين يديه، ثمّ قال له: يا أمير المؤمنين، أَخبرِنا عن مسيرنا الى أهل الشام، أبقضاء من الله وقدَر؟ فقال له أميرُ المؤمنين (عليه السلام): أجَلْ يا شيخ، ما عَلَوتُم تلعةً ولا هبطتم بطنَ واد إلاّ بقضاء من الله وقدَرٍ، فقال له الشيخ، عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال له: مَهْ يا شيخ، فوالله لقد عظّم الله لكم الأجرَ في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مُقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرَفكم وأنتم منصرفون. ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرَهين، ولا إليه مضطرّين. فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرَهين ولا إليه مضطرّين، وكان بالقضاء والقدَر مسيرُنا ومنقَلبنا ومنصرَفُنا؟ فقال: أو تظنّ أنّه كان قضاء حتماً وقدَراً لازماً إنّه لو كان ذلك كذلك، لبطلَ الثوابُ والعقابُ، والأمر والنهي، والزجرُ من الله وسقط معنى الوعْدِ والوعيدِ. فلم يكن لائِمةٌ للمذنبِ، ولا محمَدةٌ للمحسِن، ولكان المذنبُ أولى بالإحسان من المحسِن، وكان المحسنُ أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة إخوان عبدةِ الأوثان، وخُصماء الرحمن، وحزب الشيطان، وقدَريّة هذه الأمّة ومجوسها، إنّ الله تباركَ وتعالى كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يُعطِ مكرَهاً ولم يملك النبيّين مبشّرين ومنذرين عبثاً:**{ ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ }** [ص:27]. فانشأ الشيخ: | **أنتَ الإمامُ الذي نرجو بطاعتهِ** | | **يومَ النجاةِ من الرحمٰنِ غُفرانا** | | --- | --- | --- | | **أوضحتَ من أمرنا ما كان ملتبسا** | | **جزاكَ ربُّك بالإحسانِ إحسانا** | ومما رواه أيضاً عن عليّ بن إبراهيم [عن أبيه] عن اسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام): يا يونس، لا تقل بقول القَدَريّة، فإنّ القدَريّة لم يقولوا بقول أهل الجنّة، ولا بقول أهل النار، ولا بقول إبليس؛ فإنّ أهل الجنّة قالوا: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ }** [الأعراف:43]. وقال أهل النار:**{ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ }** [المؤمنون:106]. وقال إبليس:**{ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي }** [الحجر:39]. الحديث. وروى أيضاً عن الحسين بن محمد، عن معلّى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشّا، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاءِ فقد كذبَ على الله. ومن زعم أنّ الخيرَ والشرَّ إليه فقد كذبَ على الله " - الظاهر أنّ الضمير في " إليه " راجعٌ الى الموصول. وعن الحسين، عن معلّى، عن الحسن بن علي الوشّا، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته فقلت: الله فوَّضَ الأمرَ إلى العباد؟ قال: الله أعزُّ من ذلك، قلتُ: فجبَرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدلُ وأحكمُ من ذلك، ثمّ قال الله: يا ابن آدم، أنا أَوْلىٰ بحسناتِك منكَ. وأنت أولى بسيّئاتك منّي، عملتَ المعاصي بقوّتك التي جعلتُ فيك. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيئة الله، فقد أخرج اله من سلطانه. ومن زعَم أنّ المعاصي بغيره قوّة الله، فقد كذب على الله. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) سأل عنه رجلٌ قال: قلت: أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا، قال: قلت: ففوّضَ إليهم الأمَر؟ قال: لا، قلتُ: فماذا؟ قال: لطفٌ من ربّك بين ذلك. عُقدة وحَلّ [اختيارنا في أفعالنا] ولمّا ثبت وتحقّق ممّا ذكر من الكلام أنّ كلّ ما يقع في هذا العالَم أو سيقع مقدّر مكتوبٌ بهيئته وزمانه ووضعه ومكانه في عالم آخر، فإن اشتبه عليك أيّها القدَري حالُ الأفعال المنسوبة الى الاختيار، وتخيّل لك أنّها على هذا التقدير واقعة بالاضرار والإجبار؛ فما بالنا نتصرفُ فيها بالتدبير والتغيير، ونصرّفها بالتقديم والتأخير، ونجد الفرق بين المجبور عليه والمخيّر، والمختار والمضطرّ في جريان الأمر الإلٰهي في مجاري القضاء والقدر. وتفكّر في ترتيب سلسلة الأسباب والعلل، واعلم أنّ قدرةَ العبد وإرادته وعلمه وشوقه من الأسباب القريبة لفعله، وهي مستندة بأسباب أخرى متوسطة، وأخرى بعيدة، حتى تنتهي الى قدرة الله وعلمه وإرادته ومشيئته وقضائه وقدَره. فالقضاءُ والقدَر، إنّما يوجبان ما يوجبان بتوسّط أسبابٍ وعللٍ بعضها مقدّمات مدبّرات، كالملائكة السماوية، عقليّة كانت أو نفسيّة، قلميّة كانت أو لوحيّة وبعضها فاعلات محرّكات وموجبات مقتضيات، كالمبادي العالية من الجواهر الفلكيّة والصوَر المنطبعة، وبعضها قوابل واستعدادات ذاتيّة وعارضيّة. والصور اللاحقة الماديّة والأوضاع الفلكية والأمور الاتفاقية كالإدراكات والإرادات الإنسانية، والحركات والسكنات الحيوانيّة، تختصّ بحال دون حال، وبصورة دون صورة، ترتّباً وانتظاماً معلوماً في القضاء السابق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فاجتماع تلك الأسباب والشرائط، مع ارتفاع الموانع، سببٌ تامٌّ يجب بها وجودَ ذلك الأمر المدبَّر المقضيّ المقدّر، وعند تخلّف شيء منها، أو حصول مانع، يبقى في حيّز الإمكان أو الامتناع، فإذا كان من جملة الأسباب - وخصوصاً القريبة - وجودُ هذا الشخص الإنساني وعلمه وإرادته وقدرته وتشوّقه وتفكّره وتخيّله اللذان هما مختار أحد طرفي الفعل والترك، كان ذلك الفعل اختياريّا واجباً وقوعه بجميع تلك الأمور التي هي علّة تامّة لوجود المقدور، ممكناً بالنسبة الى كل واحد منها، فوجب الفعل لا ينافي اختياريّته. كيف! وقد مرّ أنّ الشيء ما لم يجبْ لم يوجَد. فإن قلت: مع حصول القُدرة والإرادة إن كان الترك ممكناً، لم يكن الفعل واجباً، وإن لم يكن ممكناً لم يكن العبدُ مختاراً؟ قلت: التركُ غير ممكن، ولا يلزم من ذلك أن يكون مختاراً، فإنّ الفعل الاختياريّ ما يكون الاختيار من جملة أسبابه، ويكون صدوره موقوفاً بالاختيار، لا ما يكون ممكناً على تقدير تحقّق علّته التامّة التي من جملتها الإرادة. عقدة وَحَلّ [لِمّية التكليف] ثمّ إذا رجعت إلينا ثانياً وقلت: فما فائدة التكليف على هذا التقدير؟ لأنّه إذا كانت الأسبابُ العالية مقتضية، والقوابل السفلية حاملة، والاستعدادات الماديّة مهيّئة، أو متأبّية معوّقة؛ فصدور الفعل إمّا واجب او مستحيل، وعلى أي الوجهين فالتكليف بالأفاعيل عبثٌ. وأيّ فائدة للتكليف بالطاعات، وبعثة الأنبياء بالمعجزات والآيات، وأيّ تأثير للسعي والجهد وأي توجيه للوعيد الوعْد، وما معنى الابتلاء في قوله:**{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }** [هود:7] إذا كان الكلُّ بالتقدير والقضاء؟ إذ مدار التكليف والسعي والجهد والوعيد والوعْد على الاختيار، لا على الإجبار والاضطرار. قلنا: فائدة التكليف والوعْد الوعيد، تحصيل الشوق الذي هو مبدأ الإرادة للأفعال الجميلة، فإنّ المراد ها هنا بالإرادة: هي العزيمة الثابتة الباعثة الجازمة على الفعل أو الترك، فإذا أدركنا شيئاً وعلمناه؛ فإن اعتقدنا ملائمة أو منافرة لنا دفعة بالتوهّم أو ببديهة العقل، انبعث منه شوق الى جذبه او دفعه يتبعه إرادة، فإذا انضمّت الى المقدرة، انبعثت تلك القوّة لتحريك الأعضاء ليحصل الفعل بالاختيار، وإن لم نعتقد بالضرورة، الملائمة والمنافرة، أعملنا الرويَّة، واستعملنا القُوى الدرّاكة لطلب الترجيح بإرادة عقليّة أو وهميّة. فربما كان ملائماً ببعض الوجوه، غير ملائم ببعضها، أو ملائماً للحسّ، غير ملائم للعقل، أو بالعكس، أو نافعاً في العاجل غير نافع في الآجل، أو بالعكس، ويحدث بسبب كلّ ملائمة داعٍ، وبحسب كلّ منافرةٍ صارف، ويترجّح عزْم أحد طرفَي الفعل والترك بحسب ترجيح دواعيه، وعند تعارض الدواعي وتكافؤ الأشواق، يقع التحيّر، ونستعمل القوّة الفكريّة حتى يسنح ما يرجّح أحد الطرفين، فنفعل بحسبه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فنقول: كما تفطّنتَ أنّ الأشياء الداخلة في وجود الإنسان كالعلم والقُدرة والإرادة من جملة أسباب الفعل، فاحدسْ أنّ هذه الأمور الخارجة أيضاً من جملتها، فالدعوة والتكليف، والإرشاد والتهذيب، والوعد والترغيب، والإيعاد والتهديد، أمورٌ جعلها الله مهيّجات الأشواق، ودواعي الى الخيرات والطاعات، واكتساب الفضائل والكمالات، ومحرّضات على أعمال حسنة، وعادات محمودة، وملكات مرضيّة، وأخلاق فاضلة نافعة لنا في معاشنا ومعادنا، يحسن بها حالنا في دنيانا ويحسن بها سعادة عقبانا. أو محذّرات عن أضدادها من الشرور والقبائح والذنوب والرذائل، مما يضرّنا في العاجل، ونشقى بها في الآجل. وكذلك السعي والجدّ والتدبير والحذر، إذا قدّرت مهيّئة لمطالبنا، موصِلة إيّانا الى مقاصدنا، مخرِجة لكمالاتنا من القوّة الى الفعل، فجعلت أسباباً لما يصل إلينا من أرزاقنا، وما قدّر لنا من معايشنا، أو هيّىء لنا في آخرتنا، أو لما يصرفه الله عنّا من المكاره ويدفع عنّا من المضارّ والمفاسد، لم يحصل ذلك إلاّ بها، وكانت تلك الوسائط أيضاً مقدّرة لنا، واجبة باختيارنا، كما قال عليه وآله السلام لمن سأله: **" هل يغني الدواء والرقية من قدَر الله؟ قال: الدواء والرقية أيضاً من قدَر الله ".** ولما قال (عليه السلام): جفّ القلمُ بما هو كائنٌ، قيل: ففيمَ العمل؟ فقال: اعملوا، فكلٌّ ميسَّر لما خُلق. ولما سئل: أنحن في أمر فُرغ منه؟ قال: في أمر مفروغ منه وفي أمر مستأنف. ومن هذا عُلم أنّ كل ما يصدر عنّا من الحركات والسكَنات، والحسَنات والسيِّئات، محفوظةٌ مكتوبةٌ علينا، واجبٌ صدورها عنّا مع كونها باختيارنا، كما قال:**{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ }** [القمر:52 - 53] وغير ذلك من الآيات التي نقلناها. فهذه معرّفات لسعادتنا وشقاوتنا في العقبى، ليست بموجبات، وكذلك ما يصل الينا من الرغائب والمكاره، كما قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): **" واعلم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلاّ بشيء كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف ".** تحقيق حكمي [لا جبر ولا تفويض] وإذا ثبت وتحقّق انّ جميع الممكنات، وسلسلة الأسباب التي من جملتها قدرة العبد وإرادته وعلمه، وشوقه ومشيئته، مستندة الى مشيئة الله وعلمه، مثبتة في قضائه وقدَره، وأنّ من الأسباب القريبة الظاهرة لأفاعيلنا إنّما هي قدرتنا وإرادتنا فمَن نظَر اليها قاصراً نظره الى هذه الأسباب القريبة، قال بالقدَر والتفويض، أي واقعةٌ بتقديرنا، مفوّضةٌ الى تدبيرنا. قال النبي (صلّى الله عليه وآله): **" القَدريّة مجوس هذه الأمَّة "** ، لأنّهم يثبتون مبدأين كالمجوس القائلين بيزْدان، , وأَهْرِمَن. ومن نظرَ الى السبب الأوّل، وعلِم كون تلك الأسباب والوسائط بأسرها مستندة على الترتيب المعلوم في سلسلة العلل والمعلولات الى الله استناداً واجباً وترتيباً معلوماً على وفْق القضاء والقدَر، وقطَع النظر عن الأسباب القريبة مطلقاً، قال بالجبر، وخلْق الأفعال، ولم يفرّق بينها وبين أفعال الجمادات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكِلاهما أعور يبصر بإحدى عينيه. أما القدريّة فبالعين اليُمنى - أي النظر الأقوى الذي به يدرك الحقائق - وأما الجبريّة فباليسرى - أي الأضعف الذي به يدرك الظواهر - فأما من نظَر حقّ النظر فأصاب، فقلبُه ذو عينين، يبصر الحقَّ باليمنى فيضيف الأفعال إليه خيرها وشرّها، ويبصر الخلْق باليُسرى فيثبت تأثيرهم في الأفعال به سبحانه لا بالاستقلال، ولا بمعنى الاشتراك كما توهّم بل بمعنى آخر يعلمه العارف الحكيم، وأشار اليه الصادق (عليه السلام) " لا جبرَ ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين " ، فيذهب اليه ويتذهّب به وذلك هو الفضل الكبير. روى صاحب الكافي رحمه الله، عن عليّ بن ابراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس عبد الرحمن [عن غير واحد] عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقَه على الذنوب ثمّ يعذبهم عليها، والله أعزُّ من أن يريد أمراً فلا يكون. قال: فسئلا (عليهما السلام): هل بين الجبر والقدَر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع ممّا بين السماء والأرض. وعن علي بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن صالح بن سهل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام): سئل عن الجبر والقدر؟ فقال: لا جبَر ولا قدَر ولكن منزلة بينهما، فيها الحقّ التي بينهما؛ لا يعلمها إلاّ العالِم أو من علّمها إيّاه العالِم. وأما من أضاف الأفعال الى الله تعالى بنظر التوحيد، وإسقاط الإضافة، ومحو الأسباب والمسببّات كما هي عليها عند الغايات، وعند فناء الممكنات، لا بمعنى خلْق الأفعال فينا، أو خلق قدرة وإرادة جديدتين مستقلّتين عند صدور الفعل عنّا - كما عليه المجبرة -، فهو الذي طوىٰ بساطَ الكون، وخلص عن مضيق البون، وخرج من البين والأين وفني في العين، لكنّه تروّح في المحْو، ولم يجئ الى الصحْو، مستغرقاً في عين الجمع، محجوباً بالحقّ عن الخلْق، ما زاغ بصره عن مشاهدة جماله وسبَحات وجهه وذاته، الى ملاحظة صفاته، فاضمحلّت الكثرة في شهوده، واحتجب التفصيل عن وجوده، وذلك هو الفوز العظيم. فإذا رجع الى الصحْو بعد المحو، نظَر الى التفصيل في عين الجمع، غير محتجب برؤية الحق عن الخلْق، ولا بالخلْق عن الحقّ، ولا مشتغلاً بوجود الصفات عن الذات، ولا بالذات عن الصفات، فذلك هو الوليّ المحقّ، والصديق المحقّق، صاحب التمكين والتحقيق، ينسب الأفعال الى الله بالايجاد، ولا يسلبها بالكليّة عن العباد، كما في قوله تعالى:**{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ }** [الأنفال:17]. وذلك هو الفوز العظيم والمنُّ الجسيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | عقدة وَحَلّ [بماذا يتفاضل السعيد على الشقي] ولعلّك تضطرب أيّها القدَريّ وتصول، فتقول: إذا كانت الفضائل والرذائل والمحاسن والقبائح، والطاعات والمعاصي، وبالجملة الخيرات والشرور كلّها مقدّرة مكتوبة علينا قبل صدورها منّا، معجونة فينا، مربوطة بأوقاتنا التي تصدر فيها عنّا، فما بالُنا لا نتساوى فيها ولا نتعادل؟ ولِمَ لا نتشاكل فيها ونتماثل؟ وكيف نحترز عمّا يجب الاحتراز عنها، فننجو من وَبالِها وتَبعاتها؟ وبأيّ شيء يتفضّل السعيد على الشقيّ وقد تساوَيا فيما قدِّر لهما؟ وأين عدلُ الله فينا وقد قال تعالى:**{ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }** [ق:29]. فنجيبك أيّها القدريّ بما قد مرّ ذكره في تفسير قوله تعالى:**{ ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }** [الفاتحة:6] من أنّ الاستعدادات مختلفة، والصور النوعيّة الفائضة عليها من جهة الوسائط العقليّة الّتي (هي) مظاهر الأسماء الإلٰهيّة متنوّعة، فالأرواح الإنسيّة بحسب الفطرة الأولى متباينة، وفي درجات القُرب والبُعد من الله تعالى متفاوتة، وفي مراتب الصفاء والنوريّة والكدورة والظلمة متخالفة. والموادّ السفليّة التي هي بإزائها أيضاً متفاوتة في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقي، فقابليّتها لما يتعلّق بها من الأرواح متباينة، وقد قدّر الله بإزاء كلّ روح فيضها في قضائه، ما يناسبها من الموادّ، وحصل من مجموعها استعدادات مناسبة لبعض العلوم والادراكات دون بعض، موافق لبعض الأعمال والصناعات دون بعض، على ما قدّر لها في العناية الأولى والقضاء السابق، كما قال: " الناسُ معادن كمعادِن الذهب والفضَّةِ " وتتفاوت العقول والإدراكات، والأشواق والإرادات، بحسب اختلاف الطبائع والغرائز، فينزع بعضهم بطبعه الى ما ينفر عنه الآخر، ويستحسن أحدهما بهواه، ما يستقبحه الثاني. والعناية الإلهيّة تقتضي نظام الوجود على أحسن ما يمكن. وأما كيف السبيل الى الاحتراز عمّا يجب الاحتراز عنه، فإنّ شريف النفس، نجيب الجوهر، طيّب الأصل؛ قلّما يهمّ بشيء ممّا ليس في فطرته، ولم يقدّر له من الفواحش والرذائل لعدم المناسبة، وإذا همّ نادراً لغلبة صفة من صفات نفسه وقواه، ولاستيلاء داعية من دواعي الوهم وهيجان من شهوة، زجرَه زاجرٌ من عقله. وهذا كما قال تعالى في حقّ يوسف (عليه السلام):**{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }** [يوسف:24]. فإذا كان دون ذلك في صفاء الاستعداد، فلا ينزجر الاّ بزجْر زاجر من الشرع والسياسة، والناصح والأديب وغير ذلك، ويستحيي منه، وإذا همّ بشيء مما فطربه من المحاسن، وَجَدَ باعثاً من عقله ودرايته، وناصراً من توفيقه وهدايته، فيقدر عليه بشوقه وشغفه لمناسبته إيّاه، لا ينتهي عنه بدفع دافعٍ ولا يمنعه منعُ مانعٍ، وإن كان دون ذلك، احتاج الى محرّض باعثٍ ومشوّقٍ من خارج. والخسيسُ النفسِ، الخبيثُ الجوهرِ، الرديُّ الأصلِ، بالعكس، وكل يشتاق الى ما يفعله بطبعه وبحبّه ويستحسنه، وإن كان الثاني يعمل أنّ ضده أجود وأحسن، كمحبّة الزنجي ولده مع قُبحه، دون الغلام التركي مع علمه بحسنه، وأما حديث السعادة والشقاوة فيسأتي تحقيقه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | عقدة اخرى وَحَلّ [لماذا الثواب والعقاب] ثمّ لعلك تعود وترجع الى حال الثواب والعقاب فتقول: إذا كان الكلّ بقضاء الله وكتابه، فلِماذا يعاقَب من ساقَه القدرُ الى ارتكاب خطيئة أو اقتراف سيّئة؟ فنُجيبكَ يا أخا القدرَيّ: بأنّ العقابَ على فعل السيئات والخطيئات، ليس لمنتقمٍ خارجيّ غضبان يريد أن ينتقمَ من عدوِّه نيلاً لما يطلبه من إزالة ألم الغيظ؛ أو التشفيّ عن حرقة لهب الغضَب، بل النفسُ العاصيةُ الخاطئةُ، هي حمّالةُ حطب نيرانها الى يوم القيامة. فإنّها ستحترق بنيران عقائدها الباطلة، وشهواتها الكامنة، وتلتدغ بحيّات وعقارب منبعثة عند الآخرة من سموم أخلاقها وعاداتها الرديّة. فمن ساء عملُه، وأظلم جوهرُ نفسه، وكدّر مرآةُ فطرته، وأخطأ في اعتقاده واحتجب عن مراده بحسب ما اقتضاه في أصل استعداده، فقد ظلَم نفسَه بظلمة جوهره، وبطلان استعداده، فكان أهلاً للشقاوة في مرجعه ومعاده، ينادى على لسان المالك: " مهلاً، فيَداك أوكتا وفوكَ نفخ " كما قال سبحانه:**{ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ }** [البقرة:225] وقوله:**{ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }** [النحل:33]. فثبت وتحقّق، أنّ ترتّب العقوبات ومقابلاتها من المثوبات، هي ثمراتٌ ولوازم، وتبعات وعوارض لأمور موجودةٍ فينا بالقوّة، تخرج اليوم الآخر من القوّة الى الفعل، بل هي مطويّةٌ في نفوسنا في هذه النشأة، مكمونةٌ في مكامن الطبيعة وغشاوات المادّة، فإذا قامت القيامة وكُشف الغطاء، وحُشرت النفوس، ونُشرت الصحائف، أظهرها الله وأبرزها، بحيث تترتّب عليها المثوبةُ والعقوبة، وتنبعث منها النعمةُ والنِّقمة، والراحةُ والمصيبة، والنعيم المقيم والعذاب الأليم. عقدة اخرى وحَلّ [الخلود في النار] ولك أن تقول: إنّ الذي بقي من الإشكالات المتعلّقة بهذا المقام، والعقود المفصلة الغير المنحلّة الى الآن عند جمهور العلماء وأهل النظر والكلام - إلاّ من نوّر الله بصيرتَه بنور الكشف - إعضالُ خلودِ الكفار في النار بالعذاب الدائم، فإنّ شيئاً ممّا ذُكر من الأسباب الفاعلة، والمدبّرات العالية، لا يوجب ذلك - لأنّها مبرّأة عن الشرور والنقائص - ولا شيئاً من القوابل الماديّة يحتمل التعذيب الدائم والانفعال الغير المتناهي - كما بيّن في مقامه - والرحمةُ الإلٰهيّة التي وسعتْ كلَ شيءٍ تنافي التعذيبَ الدائم - كما مرّت الإشارة إليه عند قوله تعالى:**{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }** [الفاتحة:7]. وهذه إحدى المسائل التي من مواضع الخلاف بين علماء الكشف وعلماء الرسوم، بل هي موضع الخلاف بين علماء الكشف بعضهم مع بعض أيضاً، فإنّهم اختلفوا على يُسَرْمد العذاب عليهم الى ما لا نهاية له، أو يكون لهم نعيمٌ بدار الشقاء، فينتهي عذابُهم الى أجلٍ مسمّى؟ مع الاتّفاق للجميع على عدم خروج الكفّار من دار البوار ومحلّ الأشرار، وأنّهم ماكثون. قلنا: كلّ ما ذكرتَ في باب الاستحالة في صدور التعذيب الأبدي والايلام السرمدي، وقبولهما من الجهات الفاعلة والقابلة، ومخالفة ذلك للرحمة والعناية المقتضيتين لحفظ النظام، وإقامة القوام، وإبقاء الأنواع بالديمومة السرمديّة بتعاقب الأفراد وتوارد الأعداد، إنّما يقتضي الاستحالة والامتناع، إذا كان المعذَّب واحداً شخصيّاً، على صورة واحدة، واستعداد واحدٍ لقابلٍ واحد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما إذا كانت الصوَر متواردة على قابلٍ واحد، والاستعدادات متعاقبة لمادّة واحدة ضعيفة الوحدة واهنة الوجود ما بين صرافة الوجود الفعليّة، ومحوضة العدم والقوّة، كما فصح عنه قوله تعالى:**{ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ }** [طه:74] فتواردُ العقوبات الإلٰهيّة، وتعاقب التعذيبات والنقمات الجبّارية، على حسب توارد الصوَر المستقبحة، وتعاقب الاستعدادات الظلمانيّة في أزمنة متمادية الى ما لا نهاية له، كما قال تعالى:**{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ }** [النساء:56]. مما لا ينافي شيئاً من الأصول الحِكَميّة والقواعد العقليّة والسمعيّة. فأهل الحجاب الكلّي والشقاء الطبيعي، ممّا لا طريق لهم إلا طريقَ جهنّم، ومسلك الطبيعة والهوى، وانسدّت عليهم سبل الاهتداء والاتقاء من هذه الهاوية السفلىٰ، ولا يفتّح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنّة والمنزل الأعلى، والأصول الحكميّة دالّة على أنّ القسر لا يدوم على طبيعة واحدة، وأنّ لكلّ موجود غاية يصل اليها يوماً، وأنّ الرحمة الإلٰهيّة نائلة لكلّ أحد، واسعة على كلّ شيء، كما قال تعالى:**{ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }** [الأعراف:156]. وعندنا أيضاً أصول دالّة على أنّ الجحيم وآلامها وشرورها دائمة بأهلها، كما أنّ الجنّة ونعيمها وخيراتها دائمة بأهلها، إلاّ انّ الدوام في كلّ منهما على معنى آخر، ولكلّ من الدارين عمّار من أهلها. ولهذا المقام شروحٌ كثيرةٌ وتحقيقات لطيفةٌ واستبصارات شريفةٌ، ذكرنا طرفاً منها في آخر سورة الفاتحة، وشطراً صالحاً في كتاب الشواهد الربوبيّة، وسنستقصي القول فيها في مواضع متفرّقة من هذا التفسير، إن ساعدَتني المشيّة الإلٰهيّة النافذة في التقدير، وفيما ذكرنا كفايةٌ ها هنا، ولنرجع الى ما نحن بصدده، مستعينين بالله وتوفيقه وتسديده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
بيان الكفر واقسامه { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله لا بالشّيطان فانّ الكفر كفران؛ كفر بالله وكفر بالشّيطان وإذا اطلق فى الآيات والاخبار كان المراد الكفر بالله؛ والكفر بالله ينقسم الى كفر الوجوب الذّاتىّ وكفر الآلهة وكفر التّوحيد وكفر الرّسالة وكفر الولاية وكفر المعاد وكفر النّعماء؛ فانّ القائلين بالبخت والاتّفاق كافرون بالوجوب الذّاتىّ، واليهود القائلين بالوجوب الذّاتىّ وانّه قد فرغ من الامر، والمعتزلة القائلين بأنّ العباد فاعلون بالاستقلال كافرون بالآلهة، والقائلون بمبدأين واجبين او بمبدء واحد واجب وفاعلين الاهين كافرون بالتّوحيد، ومنكر الرّسالة المطلقة او رسالة رسول خاصّ كافر بالرّسالة، ومنكر بقاء الولاية بعد انقطاع الرّسالة مطلقاً او منكر ولاية ولىّ خاصّ كالعامّة، والفرق المنحرفة من الشيعة كافرون بالولاية، ومنكر المعاد كافر بالمعاد، ومنكر انعام المنعم كافر بالنّعم، وكلّ واحد من ذلك امّا كفر قولي او جنانىّ او حالىّ او شهودىّ او تحقّقىّ، والمنفصلة مانعة الخلوّ فانّ الكافر بالنّعمة امّا كافر لساناً كقارون حين قال: انّما اوتيته على علمٍ عندى، او اعتقاداً كمن لا يعتقد مبدء ولا انعاماً منه، او حالاً كاكثر المقرّين بالله وبانعامه الغافلين عنه، او شهوداً وقلّ من لا يكفر بهذا الكفر، او تحقّقاً ولا ينفكّ عنه الاّ الانبياء وبعض الاولياء، وينقسم بقسمة أخرى الى الكفر الفطرىّ وهو الكفر الذّاتىّ الّذى لا ينفع لصاحبه الانذار، والى الكفر العرضى الّذى ينتفع صاحبه بالانذار بل الانذار لهذا الكافر والاّ فالمؤمن بجهة ايمانه ليس له الاّ البشارة، والمراد بالكفر فى الآية الكفر الذّاتىّ الّذى لا ينتفع صاحبه بالانذار ولذا حمل على الّذين كفروا قوله { سَوَآءٌ } مصدرٌ بمعنى مستو سواء فيه المفرد والجمع والمذكّر والمؤنّث { عَلَيْهِمْ } لا عليك فانّ الانذار طاعة ونافع لك سواء اثّر ام لم يؤثّر فانّما عليك البلاغ وهم المذمومون بعدم التّأثّر والكلام فى ذمّهم عكس قوله تعالى { سواءٌ عليكم ادعوتموهم ام انتم صامتون } فانّ المراد ذمّ المخاطبين على ارتكاب امر لا ينفعهم { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } الفعل الّذى بعد همزة التّسوية امّا مؤوّلٌ بالمصدر او ملحوظٌ فيه معنى المصدر مقطوع النّظر عن النسبة الّتى هى جزء من معناه ولذا يحكم عليه وسواء هاهنا خبر انّ وما بعد الهمزة فاعله او سواء مبتدأ لما بعده او خبر عنه والجملة خبر انّ او فاعل سواء مستتر وما بعد الهمزة مفسّر له { لاَ يُؤْمِنُونَ } خبر بعد خبرٍ او مستأنف جواب للسؤال عن حالهم او دعاء عليهم او خبر انّ { لا يؤمنون } و { سواء عليهم } الى الآخر حاليّة او معترضة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ إِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } هذا شروع فى ذكر ضد المتقين الذين تأثروا بهداية القرآن والكفرة لا يتأثرون بها، ولم تعطف قصتهم على قصة المتقين، لأن قصة المتقين إنما سقاها الله - جل وعلا - لذكر الكتاب وبيان شأنه، لأنه حق وهدى لهم وتفخيم شأنه فى الانتفاع به. وقصة الكفرة ساقها الله - عز وجل - لشرح تمردهم وانهماكهم فى الضلال. وأما وصفهم بأن وجود الكتاب وعدمه سواء عليهم، فليس كون الكتاب كذلك غرضاً مسوقاً له الكلام، بل تفخيم شأنه، وفائدة أن تأكيد نسبة الخبر إلى المبتدأ سواء كانت إيجابية أو سلبية، سواء كانت فى جواب منكر، أو ظان أو شاك أو خالى الذهن أو موقن، بحسب غرض المتكلم فى إخباره من مبالغة أو عدمها. هذا ما ظهر لى لاما اشتهر فى كتب المعانى من أن الإتيان بها فى أخبارك من أن أيقن لا يجوز أو يخل بالبلاغة، والتعريف الحاصل فى الموصول للعهد الذكرى والحضورى أو الذهنى، والمراد ناس بأعيانهم كأبى لهب وأبى جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود، فإنه قد وقع لهم ذكر فيما نزل من الآيات قبل هذه، وصح لهم حضور محسوس للجدال وغيره، وثبوت فى ذهنه - صلى الله عليه وسلم - مهما بطريق إرشادهم وقلقاً بما قالوا. وعن ابن عباس نزلت فى حيى بن أخطب وكعب ابن الأشرف ونظائرهما من اليهود. وقيل فى مشركى العرب كأبى جهل. وإما للجنس متناولا من أصر على الكفر كما قال سواء إلى... إلخ. ومن لم يصر وهو من استثناه بقوله إلا الذين تابوا ونحوه، من آيات استثناء والتائبين ولا تتناول من سيأتى بعده - صلى الله عليه وسلم - ومن تقدمه. وقيل تتناول من يأتى، لأن إنذار القرآن بعده إنذار منه. وقيل تتناول من سبق أيضاً، على معنى أنك لو أنذرتهم لم يتأثروا به. والكفر لغة ستر النعمة. وأصله الكفرة بفتح وهو الستر. ومنه قيل للزارع كافر، لأنه يستر البذر، وكذا الليل لأنه ساتر بظلمته، وكذا البحر لأنه يستر ما فيه وما وقع فيه، وللطلع لأنه يستر الثمار. فهو فى أصل اللغة مطلق الستر. ثم اختص فى عرف أُهلها بستر النعمة وهو عدم شكرها. وأما فى الشرع فله معنى عام وهو ستر النعمة، الذى هو عدم شكرها، فإن فعل كبيرة كالنفاق أو الشرك خرج عن شكر النعمة. فإن شكرها هو عدم فعل ذلك والتحرز عنه، ومعنيان خاصان أحدهما يسمى نفاقاً عندنا، وهو فعل الكبيرة التى دون الشرك، والآخر كفر شرك سواء أظهر أو لم يظهر. وهما فعل كبيرة الشرك، وهما المراد فى الآية. ويخص أصحابنا ما لم يظهر منه باسم آخر هو لفظ النفاق أيضاً، وحد كفر الشرك بنوعيه بأنه إنكار ما علم بالضرورة مجىء الرسل به وخرج بلفظ الإنكار الفعل فإنه ليس شركاً فليس كهيئة المشرك، وإنما حرم لأنه يوهم أنه مشرك فيحكم من لم يعلمه مسلماً أنه مشرك، ويظن من علمه بالتوحيد لأنه مرتد، ولا من التحرز عن هيئتهم من تمام بغضهم، فلو لبس الإنسان الزنار لدل على أنه نصرانى، أو مرتد إلى النصرانية ومن صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجترىء على لبسهم ظاهراً والزنار بضم الزاء خيط غليظ فيه ألوان يشد فى الوسط فوق الثياب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإنما أخرجت بالإنكار مع أنه جنس، لأن الجنس فى الحدود، كما يدل على الإدخال يدخل على الإخراج، ودخل فى الإنكار الإنكار بالقلب أو باللسان أو بهما، وإذا أنكر باللسان فقط حكم بشركه، لأنما فى قلبه غير. وفى كونه مشركاً بذلك عند الله قولان. والصحيح نفى شركه، وكذا فى الحكم إذا علم أنه أشرك بلسانه فقط. وخرج بالضرورة إنكار ما ليس علمه ضروريا، فإنه ليس شركاً، وفيه خلاف تقدم فى الكلام على الإيمان، فمن أنكر ما أجمعوا عليه إجماعاً لفظيا مشرك، لأن معرفته ضرورية، ومن أنكر ما أجمعوا عليه إجماعاً ليس لفظيا فهو غير مشرك، لأن معرفته غير ضرورية، وفيه خلاف، وإذا أخبره من يصدقه بما ليس ضروريا، مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مما أجمعوا عليه فأنكره، أشرك ودخل بالضرورة المجسمة فهم مشركون، فإن نفى الجسم عن الله سبحانه من حيز الضروريات لكثرة أدلته، ولثبوت كل نقص وكل شبه بإثبات الجسمية لله، تعالى عنها وعن كل نقص، فبالجسمية يثبت الحلول والتحييز والجهات وخلو الأماكن عنه، والجهل بالبعد وعدم المشاهدة، والتركيب والحدوث العجز، وغير ذلك - تعالى الله - وكذلك العرض. وأشرك الطاعن فى براءة عائشة - رضي الله عنها - لثبوتها بالقرآن لأنها ولو كانت بدلالة لفظية، والأدلة اللفظية لا توجب العلم، فلا تكون ضرورية، لكنها قد توجبه بالقرآن وهى موجودة فى براءة عائشة. والله أعلم. واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه من لفظ المضى مثل**{ إن الذين كفروا }** و**{ إنا نحن نزلنا الذكر }** و**{ إنا أرسلنا نوحا }** لاستدعاء ما جاء بلفظ الماضى سابقة المخبر عنه بالكسر وهو القرآن، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بغيره، وأجاب الشافعية وغيرهم بأن ما جاء بلفظ الماضى يقتضيه تعلق الحكم بالمخبر عنه، وحدوث ما يقتضيه التعلق، لا يستلزم حدوث المخبر عنه فلا يستلزم حدوث كلام الله تعالى. كما أن علمه تعالى قديم. ومقتضى تعلقه بغيره حادث وحاصل الجواب أنه لا يلزم من حدوث مقتضى التعلق، وهو الكلام اللفظى، حدوث الكلام النفسى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والجواب فى نفسه صحيح لإثبات الكلام النفسى فلا نسلمه فانتفى قدم القرآن، وثبت حدوثه، وذلك أنه لا يمكن لعاقل أن يقول إن ما نلفظ به قديم لحدوث التلفظ وفنائه، ولا أن نقول إن النقوش فى اللوح المحفوظ وألواحنا ونحو ذلك قديم لحدوثه وفنائه. وكل من اللفظ والنقش محدود متحيز مركب، فالقديم لا يكون كذلك. فلم يبق إلا أن يقول مرادنا بقدم القرآن أنه كلام نفسى لله تعالى، وهذا الكلام النفسى يستلزم الحلول والظرفية وتحيز الظرف وإثبات ذلك فى حقه تعالى محال، لأنه صفة محلوق حادث، وإن قالوا إن الكلام النفسى وصف قديم ناقص كلامهم، لأنما هو صفة مخلوق لا يكون قديماً، وإن قالوا بقدمه لزم تعدد القديم، وإنما القديم علمه تعالى، وهو هو لا غيره، بمعنى أنه ليس صفة حالية فيه ولا بعضه بل انكشاف الكائنات كلها له. وإنما القديم علمه تعالى بما سيكون كله مما فى القرآن وغيره، وإنه سنخلق القرأن ونقوشه تلفظ الخلق به. { سَواءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } سواء خبر لإن، وأنذر وتنذر فى تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية بسواء، لأن سواء مصدر بمعنى اسم الفاعل، أى مستو عليهم إنذارك وعدمه. أو خبر لهذا المصدر، والجملة خبر لإن. أى إنذارك وعدمه سواء، وذكروا أن الفعل فى باب التسوية يؤول بالمصدر بدون وجود حرف مصدر. وقيل إن الهمزة بعد سواء حرف مصدر. وقيل إن الفعل إذا أريد به مطلق الحدوث المدلول عليه ضما على الاتساع، عومل معاملة المصدر، لأن المقصود حينئذ بالذات هو مطلق الحدث المذكور، الذى هو معنى المصدر، فيصح الإسناد إليه بلا تأويل بمصدر، ويصح الإضافة كذلك، فمن الإسناد إليه أن يجعل مبتدأ مثل أن يجعل أنذر مبتدأ، لتضمينه معنى إنذار. فتقدر الضمة فى آخره. ومثل أن نجعل تسمع، مبتدأ لتضمينه معنى السماع فى قولهم تسمع بالمعيدى خير من أن تراه. فالرفع الذى فيه رفع المبتدأ أو من الإسناد إليه أن يجعل فاعلا. نحو أعجبنى تقوم فتقوم فاعل لتضمينه معنى قيام ومن الإضافة قوله تعالى**{ يوم ينفع الصادقين صدقهم }** ونحوه مما المضاف ظرف، كما يصح الإسناد إليه إذا يريد لفظه، نحو ضرب فعل ماض. ونحو قوله تعالى**{ وإذا قيل لهم آمنوا }** أى لفظ آمنوا. والمشهور فى باب التسوية وغيرها أن المبتدأ هو المصدر المقدر، وأن الحرف المصدرى مقدر، فى نحو تسمع بالمعيدى، ولا مانع من تقديره عندى فى باب التسوية، حذف وعوضت عنه فيه الهمزة وإن المضاف إليه أو المحكى هو الجملة لا الفعل وحده. وإن قلت إذا كان الفعل المطلق الحدث هنا كالمصدر فلم لم يؤت بالمصدر دونه؟ قلت لأن الفعل ولو قصد به مطلق الحدث لكنه مشعر بالتجدد، فقصدت الإشارة إليه بالفعل، ولو عبر بالمصدر لم يدل عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والفعل ولو قصد به مطلق الحدث لا يدل على الثبات الصريح الخالص، بل مع تجدد ملوح إليه، وهو أصله. وإنما صح جعل ما بعد الهمزة مبتدأ لخبر قبله أو فاعلا لما قبله، لأنها خارجة عن الاستفهام إلى التسوية فلا يصدر لها. وصرح السعد بأن مجموع همزة التسوية والفعل فاعل لسواء أو مبتدأ له، وإنما دخلت همزة التسوية وأم بعد سواء لتقرير الاستواء وتأكيده، وخرجتا عن الاستفهام إلى مجرد الاستواء. والفرق بين الاستواءين لأن الاستواء الذى تفيده الهمزة وأم هو تردد المستفهم فإن من يستقهم عن شىء يستوى عنده ثبوته وعدمه فى أصل عدم الجزم بأحدهما. ولو كان قد يرجح أحدهما، مع أن لفظ الاستفهام لا يفيد الترجيح. والاستواء الذى تفيده لفظة سواء هو الاستواء فى الغرض المسوق له الكلام، فالهمزة وأم على صورة الاستفهام خارجتان عنه. كما أن باب الاختصاص على صورة النداء. والله أعلم. والإنذار التخويف بإخبار فهو إعلام مع تخويف. والمراد فى الآية التخويف من عقاب الله - عز وجل - على كفرهم، وإنما اقتصر على ذكر الإنذار ثبوتاً وعدماً. ولم يقل ءأنذرتهم أم بشرتهم، لأن الاقتصار عليه أوقع فى القلب، وأشد تأثيراً فى النفس من حيث إن دفع الضرر من جلبه النفع، فإذا لم يؤثر فيهم الإنذار فمن باب أولى ألا يؤثر فيهم التبشير، والأصل ءأنذرتهم بهمزتين مفتوحتين، أبدلت الثانية ألفاً وهو قراءة نافع من طريق ورش عنه. وهو عربى فصيح وبه أخذ أهل مصر عن ورش وأبى يعقوب الأزرق وبه أخذت فى جميع نظائره فى القرآن ءأنتم أعلم، ءأقررتم، ءأسلمتم ءأنت قلت، ءألد، ءأرباب، ءأسجد، ءأنت فعلت، ءأنتم أضللتم، ءأشكر، ءأتخذ، ءأعجمى، ءأنتم تخلقونه، أءنتم تزرعونه، ءأنتم أنزلتموه، ءأنتم أنشأتم، ءأشفقتم، ءأمنتم من فى السماء، ءأنتم أشد خلقاً؟ وروى البغداديون والشاميون عن عبد الصمد عن ورش أنه يسهل الثانية بين ألف وهمزة، لا همزة مخصوصة ولا ألفاً محضة. والأشهر عنه الإبدال. وعليه أكبر الروايات عنه. والتسهيل أقيس فى العربية، لأنه ينبىء ما يدل عليه من بعض النطق بالهمزة، وسهلت الثانية لأن الثقل حصل بها. وإن قلت كيف صح إبدال الثانية ألفاً مع أن المتحرك لا تبدل؟.. قلت لا نسلم أنها لا تبدل، بل يجب إبدالها. وقد قرأ بعضهم الثانية فى { يا سماء أقلعى } واوا مفتوحة وفى يشاء إلى ياء مكسورة، وقاس ذلك قياساً مطرداً ولا سيما إن كان بعدها ساكن، نحو من السماءان وعلى البقاءان، فإن ورشا يقرؤها ياء ساكنة سكوناً ميتا، فإن الفصل بين الساكنين بالإشباع الزائد على مقدرا الألف جائز، ولا سيما عند الهمزتين، فإنه يجوز عندهما التقاء الساكنين، وفيما إذا وقف مطلقاً. وقيل لا يجوز إلا وقفاً وفيما إذا كان الثانى ساكناً مدغماً والأول حرف مدو أجاز الكوفيون التقاء الساكنين مطلقاً وبطل ادعاء أن القراءة بالإبدال فى الآية لحن لما سردته لك، ولا يكفر مدعى ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولو كان الطعن فى القراءات السبع كفراً لأنه إنما يكون كفراً فيما ليس من قبيل الأداء لأنه المتواتر، أما ما كان منه كالمد وتخفيف الهمزة، بالتسهيل أو الإبدال وتحقيقها فلا، بل قيل إن نسبة قراءة من السبع إلى اللحن الذى يغير المعنى لا يكون كفراً، وقرىء بحذف همزة التسوية، وقرأ بعض من يسكن ميم الجمع، ولو قيل همزة القطع تنقل فتحة الهمزة إليها، ولو كان يفهم من قوة الكلام أنها فى عدم الإيمان وحذفها وهى قراءة حمزة فى الوقف، وقال الطبرانى إنها شاذة، فيجمع بأنها شاذة فى الوصل، قال أبو عمر الدانى إذا اتفقت الهمزتان فى كلمة بالفتح نحو ءأنذرتهم فنافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام يسهلون الثانية منهما، وورش يبدلها ألفاً، والقياس أن يكون بين بين. وابن كثير لا يدخل قبلها ألفاً. وقالون وهشام وأبو عمرو يدخلونها. والباقون يحققون الهمزتين وإذا اختلفتا بالفتح والكسر نحو قوله عز وجل أإذا كنا، وأإله مع الله، فنافع وابن كثير وأبو عمرو ويسهلون الثانية، وقالون وأبو عمرو يدخلان بينهما ألفاً، والباقون يخففونهما. وهشام من قراءتى على أبى الفتح يدخل بينهما ألفاً، ومن قراءتى على أبى الحسن يدخلها فى الأعراف أإنكم، أإن لنا لأجراً. وفى مريم أإذا، وفى الشعراء أإن لنا لأجرا، وفى الصافات أإنك لمن المصدقين، وأإفكا، وفى فصلت أإنكم لتكفرون. ويسهل الثانية هنا خاصة وإذا اختلفتا بالفتح والضم وذلك فى قل أؤنبئكم، أؤنزل عليه الذكر، أؤلقى، فنافع وابن كثير وأبو عمرو، يسهلون الثانية وقالون يدخلها بينهما ألفاً، والباقون يحققون الهمزتين وهشام من قراءتى على أبى الحسن يحققهما من غير ألف بينهما فى آل عمران، ويسهل الثانية ويدخل قبلهما ألفاً فى الباقين كقالون ومن قراءتى على أبى الفتح يحققهما هشام، ويدخل بينهما ألفاً وإذا اتفقتا بالكسر فى كلمتين نحو هؤلاء إن كنتم، فورش وقنبل يجعلان الثانية كالباء الساكنة. وقال ابن خاقان عن ورش فى هؤلاء إن كنتم وعلى البقاء إن أراد أن جعل فيهما فقط. الثانية ياء مكسورة وذلك مشهور عنه فى القراءة لا فى الكتابة، يعنى لأنه لا نجعل حركة لها فالضبط فى الآيتين، وقالون والبزى يجعلان الأولى كالباء المكسورة، وأبو عمرو يسقطها والباقون يحققونهما، وإذا اتفقتا بالفتح نحو**{ جاء أجلهم }** فورش وقنبل يجعلان الثانية كالمدة. وقالون وأبو عمرو والبزى يسقطون الأولى، والباقون يحققونهما، وإذا اتفقتا بالضم، وذلك فى موضع واحد فى الأحقاف فى قوله عز وجل**{ أولياء أولئك }** فورش وقنبل يجعلان الثانية كالواو الساكنة، وقالون والبزى يجعلان الأولى كالواو المضمومة، وأبو عمرو يسقطها، والباقون يحققونهما، وإذا اختلفتا نحو السفهاء إلا، ومن الماء أو مما، وشهداء إذ حضر، ومن يشاء إلى صراط مستقيم، وجاء أمة، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية والباقون يحققونها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والتسهيل جعلها بين الهمزة والحرف الذى منه حركتها إلا إن فتحت بعد ضمة أو كسرة فتبدل مع الضمة واواً مفتوحة ومع الكسرة باء مفتوحة، وإلا إن كسرت بعد ضمة فإنها تبدل واوا مكسورة، أو تجعل بين الهمزة او الياء وتكسر، والأول مذهب القراء وهو أثر والثانى مذهب النحويين وهو أقيس. والله أعلم. وجملة { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مفسرة لإجمال ما قبلها، فإن تسوية الإنذار وعدمه مجملة لا نص فيها على ما وقع فيه التسوية، فأزال الإجمال بقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ } أى استوى إنذارك وعدمه، فى عدم وجود الإيمان، فكما لا يؤمنون إن لم تنذرهم لا يؤمنون إن أنذرتهم. فالجملة لا محل لها، ويجوز أن تكون حالا من هاء عليهم، مؤكدة لما يفهم من قوة الكلام إن التسوية فى عدم الإيمان، واستبعد أبو حيان كونها حالا. ولعله استبعده على أنها حال منتقلة، ويجوز أن تكون الجملة بدلا من قوله { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } ، على أن سواء خبر مقدم، وهو من بدل الاشتمال، فإن عدم الإيمان من متعلقات تلك التسوية، لا هى ولا بعضهما، ويجوز أن يكون { سَوَآءٌ عَلَيْهُمْ أَءَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } معترضا، فجملة لا يؤمنون خبر إن، وذلك إذا اعترض بما هو علة الحكم، فإن علة عدم إيمانهم مساواة الإنذار وعدمه يجوز أن يكون { سَوَآءٌ عَلَيْهُمْ أَءَنذَرْتَهُم } خبراً لأن، وجملة لا يؤمنون خبر ثان، ويجوز كون { لاَ يُؤْمِنُونَ } مستأنفا كأنه قيل هم لا يؤمنون. قال ابن هشام هذا أولى بدليل الآية الأخرى { سَوَآءٌ عَلَيْهُمْ أَءَنذَرْتَهُم أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } ليس فيها أن، والاعتراض أن يؤتى بجملة فصاعدا بين فردين أو جملتين، أو جملة وفرد متصلين إعراباً ومعنى، أو معنى فقط لنكتة سوى دفع الإيهام، ويجوز أن يكون لدفعه عن بعض وبه أقول، وأجاز بعضهم الاعتراض آخر الكلام وهو خارج عن اعتراض الاصطلاح والمعترضة مؤكدة وغير مؤكدة، والتأكيد بها تارة يكون كسائر التأكيد بالجمل، بأن تتضمن ما صرح به الكلام السابق أو الذى اكتنفها أو وما لوح إليه، وتارة يكون بمعنى المبالغة بذكر الجملة، وبمعنى الاهتمام بشأنها التى أتى بها قبل تمام ما قصد من الكلام، وهى كالمؤكدة، إلا أنها أحسن موقعاً وألطف مسلكاً، ودالة على زيادة الاهتمام. والله أعلم. واستدل بعضهم بالآية على جواز التكليف بما لا يطاق، فإن إيمانهم محال إذ قضى الله أنهم لا يؤمنون، كما أخبرنا بقوله لا يؤمنون، ومع ذلك أمرهم فى آيات كثيرة بالإيمان تصريحاً وتضميناً، ويستحيل إيمانهم من جهة أخرى أيضاً وهى استحالة الكذب على الله تعالى، فإنهم لو آمنوا انقلب خبره كذبا، وتدل الآية أيضاً، عند هؤلاء، على التكليف بما لا يطاق من جهة أخرى وهى الجمع بين الضدين، لأن الإيمان يشمل إيمانهم لأنهم لا يؤمنون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قلت التكليف بالإيمان ليس تكليفاً بالمحال، وإلا لزم اتصافه بالظلم إذا عذبهم على عدم الإيمان مع أنه محال، بل إيمانهم من الجائزات التى لا تكون، لأنه تعالى جعل فيهم ما يتوصلون فيه إلى الإيمان، وجعل لهم أدلة فقصروا وأتاهم العقاب من حيث التقصير، وإنما يكون تكليفاً بالمحال لو لم يجعل لهم عقولا ولم يجعل لهم أدلة، كما لو كلف الأصم السمع والأخرس الكلام، فهم قادرون على الإيمان بما ركب فيهم من عقل وما جعل لهم من الأدلة. و إخباره تعالى بأنهم لا يؤمنون لا ينافى القدرة على الإيمان، وإيمانهم لم يمتنع بالذات بل لغيره، وهو عدم تعلق علم لله تعالى به، وسمع الأصم وكلام الأخرس وإيمان ما لم يركب فيه تمييز يصل به إلى الإيمان، ونحو ذلك ممتنعات بالذات والتكليف بالممتنع لغير ذاته جائز واقع قطعاً. ومنه تكليفهم بالإيمان. والممتنع إنما هو التكليف بالممتنع بالذات، وهو عندى غير جائز عقلا وغير واقع إذ لا فائدة فيه، فلا يكون من الحكمة. وقال القاضى جائز عقلا بناء منه على أنه لا يشترط فى الأمر والنهى حكمه وغرض ولا نعلم هذا بل نقول لا بد من الحكمة لأنه تعالى حكيم منزه عن العبث، فمنها ما يظهر لنا ومنها ما يخفى. وقال إنه غير واقع كما قلت. وعدم دليل وقوعه أنا لم نطلع عليه فى القرآن والسنة ولم يرو لنا عن كتاب من كتب الله عز وجل قبل القرآن وإنما قلت بامتناعه عقلا لأنه يؤدى إلى وصف الله بالنقص، وهو العبث أو الظلم وهو العقاب على ما لا طاقة عليه، والعابث لا يكون إلهاً، وكذا الظالم لأن ذلك عجز عن الحكمة والعدل، فبثبوتهما تنتفى الألوهية، وانتفاؤهما محال، لأن الكائنات لم تتكون بذاتها، لأن المعدوم لا يوجد نفسه ولا يحادث مثلها، لأنه يؤدى إلى التسلسل، هذا ما ظهر لى. وإنما أمرهم وأنذرهم، مع علمه بأنهم لا يأتمرون ليلزمهم الحجة. ويقطع عذرهم وليجوز الرسول ثواب التبليغ، والأمر والنهى، وليجوز من يأمر وينهى ثواب الأمر والنهى، ولتكون الآية إخباراً بالغيب على ما هو به على طريق المعجزة إن أريد بالذين كفروا اشخاص معينة. واستفدت من كلام القاضى أن التكليف بالمحال يجوز، سواء كان محالا للذات أم لغيره، لأنه إذا أثبت جواز الممتنع لذاته عقلا، فأولى أن يثبت جواز ما امتنع لغيره، وضابط المحال بالذات أنه الممتنع عقلا، وعادة كالجمع بين السواد والبياض والمحال لغيره ممكن فى نفسه لكن لا تتعلق به قدرة المخلوق، كحمل الجبل والطيران من الإنسان وهذا إما ممتنع عادة كالمثالين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والمشى من المقعد بمرض أو غيره، أم ممتنع عقلا لإعادة كذا قال المحلى ومثله بإيمان من علم أنه لا يؤمن. قال زكرياء الأنصارى لأن العقل يحيل إيمانه لاستلزامه انقلاب العلم القديم جهلا، قال ولو سأل عنه أهل العلم لم يحيلوا إيمانه، كذا جرى عليه كثير. والذى عليه الغزالى وغيره من المحققين أن ذلك ليس محالا عقلا أيضاً بل ممكن مقطوع بعدم وقوعه، ولا يخرج القطع به بذلك عن كونه ممكنا بحسب ذاته. قال السعد التفتازانى كل ممكن عادة ممكن عقلا ولا ينعكس. انتهى. وتمثيل المحلى مشكل، وكذا تجويزه أن يكون الشىء محالا عقلا جائز عادة. وقد يجاب بأن الاستحالة إنما هى باعتبار ملاحظة لزوم انقلاب العلم جهلا. وهذا الاعتبار عقلى لا مدخل للعادة فيه، لأنه إنما ينظر فيها لظاهر الحال، قال ابن القاسم وكنت أجيب به من تلقاء نفسى حتى رأيته له والحمد لله، ومعنى استحالة الشىء لذاته أن العقل إذا تصوره حكم بامتناع ثبوته، قال بعض إن جواز التكليف بالمحال عقلى وإن معناه أن يأخذ فى الأسباب لا أن يقع بالفعل إن كان لذاته، والتكليف المحال راجع للمأمور كمسألة تكليف الغافل والساقط من جبل، وقضية تعبيرهم بالتكليف اختصاص الخلاف بالوجوب، ولا يبعد جريانه فى الندب أيضاً وهو يتصور ذلك فى الحركة والكراهة، بأن يطلب منه ترك ما يستحيل تركه طلباً جازماً أو غير جازم فيه نظر، ويمكن أن يتكلف تصويره بتحريم، نحو المكث تحت السماء. قاله الصبان ومنع أكثر المعتزلة وأبو حامد الإسفرانى والغزالى وابن دقيق العيد التكليف بالمحال. الذى ليس ممتنعا لتعلق العلم بعدم وقوعه. قاله فى جمع الجوامع. قال منع الموانع أى منعوا الممتنع لغير تعلق العلم، لأنه لظهور امتناعه للمكلفين لا فائدة فى طلبه منهم، فالذى لا يجوز التكليف به عندهم المحال لذاته والمحال عادة الذى هو أحد قسمى المحال لغيره، واعترض بأن انتفاء الفائدة فى طلبه لا يمنع. لأن أفعال الله تعالى لا لعله ولا لغرض وأجيب بأن المراد بالفائدة الحكمة، والمنفعة الراجعة إلى المخلوق، وبالنظر إلى قول الغزالى ومن معه، والعلة والباعث بالنظر إلى قول المعتزلة، لأنه بعد ما ينفى النافى العلة والغرض من أفعاله تعالى لا ينفى عنها الفوائد، بمعنى الحكم والمصالح الراجعة إلى الخلق، وأجيب عن قولهم لا فائدة. إلخ بأن فائدة اختيارهم هل تأخذون فى المقدمات فيترتب عليها الثواب أو لا؟.. فالعقاب إما الممتنع لتعلق علم الله بعدم وقوعه، فالتكليف به جائز وواقع اتفاقاً، وما ذكر من الجواب بأن فائدته إخبارهم جواب بتسليم أنه لا بد من اشتمال فعله - تعالى - على فائدة، مع أنه لا يسأل عما يفعل. ولئن سلمنا لا نسلم أنه لا بد من ظهورها، إذ لا بد من الحكيم إطلاع من دونه على وجه الحكمة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | كما قاله القفال فى محاسن الشريعة، واعترض بأن هذه الفائدة ينميها قول المستدل لظهور امتناعه للمكلفين. وقد يجاب بأن الأخذ فى الأسباب باعتبار أن المكلف يجوز خرق العادة، فيأخذ فى المقدمات، ويبحث فى هذا بأنه إنما يتم فى المستحيل عادة لا فى المستحيل لذاته. والأحسن أن يجاب بأن المراد بالأخذ فى الأسباب ما يشمل طيب النفس وإذعاتها للتكليف بذلك. ولا شك أنه يتصور تعلقهما بالممتنعات، قاله ابن القاسم. قال ابن الصبان ولا يخفى ما فيه ومنع معتزلة بغداد والآمدى التكليف بالمحال لذاته دون المحال لغيره بقسميه، ومنع إمام الحرمين التكليف بما استحالته لغير تعلق العالم، فاستحالته عند مانعة من التكاليف به فإن طلب الشىء مع العلم باستحالته لا يتصور كونه طلباً حقيقة إذ طلب الشىء حقيقة فرع عن إمكان حصوله وإلا كان عبثاً، وليست استحالته مانعة من طلبه فى قول الأسفرانى والغزالى، وابن دقيق العيد السابق، وهو مخالف لقول إمام الحرمين فى المأخذ لا فى الحكم، فإن مأخذ الإمام الاستحالة، ومأخذهم عدم الفائدة فى الطلب، ولم يمنع إمام الحرمين ولا غيره ورود صيغة الطلب له لغير طلبه. قال فى جمع الجوامع ومنع الموانع والمعنى أنهم لم يمنعوا أن ترد لغير طلب المحال كقوله تعالى**{ كونوا قردة خاسئين }** قال ابن السبكى والمحلى والصبان الحق وقوع التكليف بالممتنع بالغير، وهو الممتنع عادة فقط، وبالممتنع عقلا فقط، وهو الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه، أما وقوع التكليف بالممتنع بالغير، فأنه تعالى كلف الثقلين بالإيمان وقال**{ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين }** فامتنع إيمان أكثرهم لعلمه تعالى بعدم وقوعه. وذلك من الممتنع لغيره. وأما عدم وقوع التكليف بالممتنع بالذات فاللاستقراء، إذ لم يوجد أن الله تعالى كلف أحداً أن يجمع بين الماء والنار مع بقائهما على حالهما أو نحو ذلك، وقيل يقع التكليف بما هو محال لذاته كما يقع المحال لغيره لأن من أنزل الله فيه أنه لا يؤمن بقوله مثلا { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوْآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } كأبى جهل وأبى لهب وغيرهما، مكلف فى جملة المكلفين بتصديق النبى - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به جميعاً عن الله. ومنه أنه لا يؤمن أى لا يصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى شىء مما جاء به عن الله، فيكون مكلفاً بتصديقه فى خبره عن الله، بأنه لا يصدقه فى شىء ما جاء به عن الله، وفى هذا التصديق تناقض حيث اشتمل على إثبات التصديق فى شىء ونفيه فى كل شىء، فهو من الممتنع لذاته، وقد تقدم هذا. وإيضاحه أن من نزلت فيه هذه الآية المذكورة قد حكم عليه بأنه لا يصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى شىء مما جاء به، على السلب الكلى، لأن قوله لا يؤمنون أى لا يصدقون بشىء مما جئت به كما يفيد حذف المعمول فى قوة سالبة كلية قابلة لا تصديق لهم بشىء مما جئت به، وهم مكلفون من جملة المكلفين بتصديق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى جمع ما جاء به الذى من جملة مدلوله هذه السالبة الكلية، وهو عدم تصديقهم فى شىء مما جاء به وتصديقهم هذا الذى متعلقه عدم التصديق بشىء مما جاء به، فرد من أفراد التصديق المنفى الواقع موضوعا للسالبة الكلية المتقدمة، فهو إيجاب جزئى فى قوة قولنا هم يصدقونه فى أخباره بأنهم لا تصديق لهم بشىء مما جاء به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد علم أن الإيجاب الجزئى يناقض السلب الكلى، فيكونون قد كلفوا بهذا التصديق الذى متعلقه عدم التصديق الكلى، مع كون ما كلفوا به من هذا التصديق الجزئى منتفياً، لكونه فرداً من أفراد التصديق المنفى، الواقع موضوعاً للسالبة المتقدمة، فقد لزم من تكليفهم بهذا التصديق اجتماع النقيضين، وهو اللازم على التكليف بالمحال لذاته، فيكون التكليف به من التكليف بالمحال لذاته، ويجاب بأن من أنزل فيه أنه لا يؤمن لم يقصد إبلاغه ذلك أنه لا يؤمن فلا يكون مكلفاً بتصديقه فيه فلا يلزم التناقض، وإنما قصد إبلاغ أنه لا يؤمن لغير من أنزل فيه أنه لا يؤمن وإعلام النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه لييئس من إيمانه كما قيل لنوح عليه السلام**{ إنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن }** فتكليفه بإيمان من التكليف بالممتنع لغيره، وهو الذى امتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه. وقال الجمهور لا يقع التكليف بالممتنع لغيره ولا لذاته إلا فى الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه لقوله تعالى**{ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }** والممتنع لتعلق العلم فى وسع المكلفين ظاهرا. واختاره ابن السبكى فى شرح المختصر، وصرح فى شرح المنهاج بأن مختار ابن السبكى مختص بالممتنع، لتعلق العلم بعدم وقوعه، وبأن المحال عادة كالمحال لذاته فى أنه جائز غير واقع. وصرح الغزالى بأن إيمان نحو أبى جهل لا يتصف بالاستحالة، بل ممكن مقطوع بعدم وقوعه، ولا يخرجه العلم بعد وقوعه عن كونه ممكناً فى حد ذاته، وهو ظاهر. والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } من سبقت لهم الشقاوة كأبى جهل وأبى لهب، ممن نزل فيه الوحى، أو لم ينزل { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ } أعلمتهم بما أنزل إليك مع تخويف فى وقت إمكان أن يتحرزوا بالإيمان عن الوعيد { أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } لسبق القضاء بأنهم لا يؤمنون، أخبره الله بذلك، لئلا يتأسف على من أعلمه الله بشقاوته، وليقلّ أسفه على من أبى من الإيمان، ولم يعلم، أهو شقى، إذ يقول، لعله شقى، فكيف أكثر التأسف عليه، وعلى كل حال لا يترك الإنذار والتبليغ إليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
كان ما تقدم وصفا للكتاب استتبع وصف الذين استضاؤوا بمشكاته وأصغوا إلى مراشده فاتبعوا هديه، وسلكوا نهجه فجمعوا بين الاستقامة في الدنيا والفلاح يوم القيامة، وهذا الوصف في الحقيقة هو وصف للكتاب، لأنه هو الذي قادهم في النقلة من الضلال إلى الهدى، ومن الحيرة إلى البصيرة، ومن الخطر إلى السلامة، وكان جديرا بعد ذلك أن يقفي ذكرهم بذكر أضدادهم الذين أخلدوا إلى الضلال، وآثروه على الهدى، وأغمضوا أبصارهم لئلا ترى نوره وتشاهد جماله فينفذ أثر ذلك إلى بصائرهم، وسدوا آذانهم لئلا تسمع حجته فتلج إلى أفكارهم ووجدانهم، وهؤلاء فريقان: فريق كان صريحا في منابذته للحق، مكشوفا في عداوته له. وفريق كان ملتويا في أمره، يظهر للمؤمنين أنه على الايمان وما دعواه الايمان إلا ستار يرخيه على ما يكنه من الكفر ويضمره من الحقد. الذين كفروا رانت الضلالة على قلوبهم: والفريق الأول هو المراد بهذه الآية والتي تليها، وإنما قدم ذكره لاستواء ظاهره وباطنه في الكفر، وتظاهر سريرته وعلانيته على نصرة الباطل ومنابذة الحق، ولأن حالته كانت مكشوفة وضرره معلوما بخلاف الفريق الثاني فهو أقبح طوية وأسوأ حالا، وأخطر مآلا، وتعريته من لبوس الخداع يحتاج إلى بيان أوسع وعناية أبلغ، فلذلك أخر ذكره وجاءت بصدده إحدى عشرة آية متوالية. وفصلت هذه الآية عما قبلها لما بينهما من كمال الانقطاع، فما تقدمها في ذكر الهدى والمهتدين، وهي في بيان الضلال والضالين، وصدرت بحرف التأكيد لاثارة الاهتمام بمحتواها، ولاستئصال رجاء المؤمنين في تراجع هذه الطائفة عن غيها وثوبها إلى رشدها، فالمعنيون هنا قد رانت على قلوبهم الضلالة واستولى على تفكيرهم الباطل، فتعفنت فطرهم وأظلمت عقولهم وتكدرت طبائعهم، فلم يعد للحق مساغ في نفوسهم. واختلف المفسرون في المعنيين بالذين كفروا هنا، قيل: هم طائفة من اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبق في علم الله عدم إيمانهم. وهو الذي رواه ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنه -. وقيل: هم قادة الأحزاب الذين قتلوا في معركة بدر. روى ذلك ابن جرير عن الربيع بن أنس، وهو قول طائفة من المفسرين، واستدل من قال بذلك بأن الواقع قد كشف عن هؤلاء أنهم لا تجدي فيهم الموعظة شيئا، فقد استوى فيهم الانذار وعدمه، وذلك أن الدعوة كانت تواجههم منذ انبلاج فجرها بقوارع نذرها، وبوارق حججها، وصواعق وعيدها، فلم يعيروها إلا آذانا صما، حتى حق عليهم قول الله فهلكوا شر مهلك، وشفى الله صدور المؤمنين إذ نصرهم عليهم فكان مهلكهم على أيديهم، ورجح ابن جرير أنهم أحبار اليهود الذين أصروا على محاربة الدين الحنيف، ومقاومة دعوة محمد صلى الله عليه وسلم حسدا منهم، مع أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما سبق عندهم من علم الكتاب، واستدل لذلك بأن ما قبل الآية كان ثناء على مؤمني أهل الكتاب، فكان جديرا أن يقفي ذكرهم بذكر أضدادهم وكشف سوء حالهم وبيان شر منقلبهم، لأنهم جميعا ينحدرون من سلالة واحدة، وإنما فرق بينهم الايمان والكفر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | كما استدل له بما تتابع من بعد في السورة مع تقريع بني إسرائيل على كفرهم وتوبيخهم على ضلالهم، وكشف طوايا نفوسهم، وتعداد مثالبهم في تاريخهم الطويل مع النبوات والأنبياء. وأنت تدري أن استدلال ابن جرير بما ذكرنا على أن المقصودين في الآية كفار بني إسرائيل فحسب غير واضح، فإن القرآن الكريم كان يواجه بصوادع دعوته جميع المشركين على اختلاف طوائفهم، وتباين مللهم، وكلمة { الذين كفروا } تعمهم جميعا، فلا معنى لقصر مفهومها على بعض أفراد مدلولاتها بدون حجة، على أن مثل ما في الآية من الاخبار بعدم إيمان الكفار جاء في قوله تعالى من سورة (يس):**{ وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ }** [يس: 10]، وقد نزلت بمكة قبل نشوب المعركة بين المؤمنين وأهل الكتاب، ولا نسلم أن ما قبل الآية من الثناء والوعد خاص بمؤمني أهل الكتاب، فقد مرّ بك ما يكفيك حجة ودليلا أن الثناء والوعد في الآيات السابقة شاملان لكل المؤمنين من غير تمييز بين من كان قبل على ملة كتابية أو على طريقة جاهلية. كما أن تعنيف أهل الكتاب في السورة وتعداد مثالبهم ليس دليلا على أنهم وحدهم المعنيون هنا، والذي يدل عليه اللفظ ويقتضيه السياق أن المعنيين كل من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصر على كفره إلى أن مات، فهؤلاء لا تنجع فيهم الدعوة، ولا تتخلل نفوسهم الموعظة، فهم الحقيقون بهذا الوصف والجديرون بهذا الوعيد. هذا، وتأول بعض المفسرين { الذين كفروا } بمعنى الذين قضي عليهم بالكفر والشقاء، وجعله نظيرا لقوله سبحانه:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ }** [يونس: 96]، وهو تأويل غير مقبول لأن اللفظ لا يقتضيه، والقرائن لا تساعد عليه ومهما يكن المعنيون في الآية، فإن عدم اهتدائهم بالقرآن إنما هو لأمر يعود إلى نفوسهم لا إلى القرآن، ولا يخل ذلك بوصفه بالهداية، ولا يدل على نقص دلالته على الخير فهو كما أخبر الله عنه { ذكر للعالمين } ، { وهدى للناس } ، وما مثل الذين عميت بصائرهم عنه، ونبت عقولهم عن قبوله، إلا كمثل الخفافيش التي تأنس إلى الظلام وتستوحش من النور والضياء، ولا يقلل ذلك من قيمة الضوء، فحال هؤلاء لا ينافي ما وُصف به القرآن. والآية وإن كانت تفيد العموم - بناء على أن الموصول يفيد الجنسية، والجنس يقتضي الاستغراق - فإنها قد خصصت بالمشاهدة، فكثير من مشركي العرب ومن أهل الكتاب آمنوا بعد كفرهم، وأسلموا بعد عنادهم، فهي من باب العموم الذي يراد به الخصوص، كالآية التي سبق الاستشهاد بها من سورة (يس)، وكقوله سبحانه في أهل الكتاب: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } ، وإنما هذا الوصف في قوم حقت عليهم كلمة الله كما أخبر عز وجل بقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الكفر قسمان: وأصل الكفر الستر والاخفاء، ومنه تسمية الزارع كافرا، كما في قوله تعالى:**{ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ }** [الحديد: 20]. ثم خص عرفا بإخفاء النعمة وجحدها، وإن من أشد كفران النعم جحد المنعم بها أو صفاته الكمالية، ومن ثم كان إنكار الخالق تعالى أو إنكار صفة من صفاته أو فعل من أفعاله، أو حكم من أحكامه كفرانا بنعمته التي أنعم بها على جاحدها، وغلب اسم الكفر على هذا الباب وهو ينقسم عندنا وعند جماعة من المحققين إلى كفرين؛ كفر شرك، ويعبر عنه بكفر الجحود، وكفر نعمة، ويطلق عليه اسم الفسوق والنفاق. والأول: هو الذي عرف بأنه إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة، وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه، ونصبت عليه الأدلة، كوحدانية الله تعالى ووجوده، ويدخل فيه إنكار كل ما علم من الدين بالضرورة. وقال أبو بكر الباقلاني: الكفر بالله هو الجهل بوجوده. ويرى الحنفية أن الكفر جحد ما ثبت بدليل قاطع، والذي عول عليه الشافعية أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام، وفرعوا عن ذلك أنه لا يكفر جاحد المجمع عليه على الاطلاق، وإنما اشترطوا أن يكون فيه نص بحيث يصبح من الأمور الظاهرة التي يشترك الناس في معرفتها، كوجوب الصلوات الخمس وحرمة الخمر والميسر. وبناء على ما قالوا لا يكفر من جحد المجمع عليه إن كان غير معروف إلا عند الخواص، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف عندهم. والذي اشتهر عندنا في المذهب أن هذا الكفر يكون بجحد ما علم من الدين بالضرورة، وهو معنى ما قالته الحنفية. وقال القرافي: إن الكفر انتهاك خاص لحرمة الربوبية، ويكون بالجهل بالله أو بصفاته أو بالجراءة عليه. وتُعقب بأن هذا النوع هو المجال الصعب لأن جميع المعاصي جرأة على الله. والذي يظهر لي أن القرافي لم يرد تعريف كفر الجحود، وإنما أراد تعريف مطلق الكفر الشامل له ولكفر النعمة كما سيأتي، وإنما ينظر في إطلاقه أن الجهل بصفات الله كفر من غير تقييد بقيام الحجة، فإن الحق أن العبد غير مطالب من أول وهلة أن يعرف جميع صفات الله حتى تقوم عليه حجتها، لما في هذه المطالبة قبل الحجة من العنت والمشقة اللذين رفعهما الله عن عباده، فضلا منه وإحسانا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والحق أن كفر الشرك أعم من أن يكون بالقول وحده، فقد يكون به وبالفعل وبالاعتقاد. فالقول إنكار ما علم من الدين بالضرورة مما نص عليه في الكتاب العزيز أو السنة المتواترة أو أجمعت عليه الأمة إجماعا قاطعا، فاشتهر عند الخواص والعوام. والفعل: إتيان بعمل لا يجامع عقيدة التوحيد، كالسجود للصنم وتقديم القرابين إلى الشياطين والجن. والاعتقاد: أن يعتقد بقلبه ما لا يتفق مع عقيدة الاسلام، كوجود شريك لله تعالى، فلذلك أرى أن يعرف هذا القسم من الكفر بأنه الاجتراء على الله بما يهدم عقيدة الاسلام من قول أو عمل أو اعتقاد، وهو يخرج بصاحبه من الملة فلا يناكح ولا يوارث ولا يدفن في مقابر المسلمين. أما القسم الثاني - وهو كفر النعمة - فهو الاجتراء على الله بترك ما فرض، كالصلاة والصوم والزكاة، وارتكاب ما حرم، كالزنا والربا والسرقة وشرب الخمر من غير استحلال للفعل أو الترك، وهو لا يؤدي بصاحبه إلى الخروج من الملة، إذ تبقى له جميع أحكام الاسلام في الدنيا ما عدا الولاية، فتجوز مناكحته وتبقى موارثته ويدفن مع المسلمين، غير أنه يسلب الولاية - وهي المحبة في الله - وينقلب إلى ضدها وهو البراءة، وهذا القسم كالذي قبله ثابت بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى:**{ وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ }** [آل عمران: 97]، وقوله:**{ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ }** [سبأ: 17]، مع ثبوت مجازاة غير المشركين بأعمالهم الباطلة بنصوص الكتاب والسنة، وقوله سبحانه حكاية عن سليمان:**{ لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }** [النمل: 40]، فإن الشكر المقصود هنا هو الوفاء بحق النعمة من طاعة المنعم بها الواجبة على المنعم عليه، وفي مقابلة الكفر وهو التقصير في الطاعة. وأما السنة: فهي حافلة بكثير من النصوص الدالة على كفر مرتكب الكبائر، منها ما رواه الامام الربيع - رحمه الله - عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رضي الله عنهم - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" من أتى الرجال شهوة دون النساء أو أتى النساء في أعجازهن فقد كفر "** ومنها ما أخرجه الربيع بهذا السند مرفوعا: **" ليس بين العبد والكفر إلا تركه الصلاة "** ، وراه الجماعة إلا البخاري والنسائي عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعا بلفظ **" بين الرجل والكفر ترك الصلاة "** ، وروى أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان عن بريدة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر "** ، وصححه النسائي والعراقي. ومنها ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: **" أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الاحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط "** ، وروى مثله مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وحكى الحافظ في الفتح في شرح هذا الحديث عن القاضي أبي بكر ابن العربي أنه قال في شرحه له: مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا، وحكى ذلك عنه أيضا العلامة العيني في شرحه القيم على صحيح البخاري المسمى عمدة القاري. واستدل مسلم في صحيحه لهذا النوع من الكفر بكثير من الأحاديث التي أخرجها؛ منها ما رواه عن ابن عمر وجرير أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: **" لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "** ، وما رواه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت "** ، وما أخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "** ، وما أخرجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر "** ، وما رواه عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدوُّ الله وليس كذلك إلا حار عليه "** ومثل هذا في السنة كثير. وإن تعجب فعجب ممن ينكر هذا القسم من الكفر بعد ثبوته بالكتاب والسنة، ويشنع على الأباضية بأنهم يقولون به ويلقيهم - بسبب ذلك - في مصاف الخوارج الذين يكفرون أهل التوحيد تكفيرا يخرجهم من الملة. وأنت إذا تدبرت كلام المحققين من المحدثين وغيرهم وجدتهم يصرحون بصحة ما ذهب إليه أصحابنا من تكفير مرتكب الكبائر كفر نعمة لا كفر شرك، وكفى بإمامي المحدثين - البخاري ومسلم - اللذين صرحا في صحيحيهما بهذا الكفر غير مرة. وقد مر بك كلام الامام ابن العربي، وهو في مقدمة أئمة المالكية فقها وحديثا وتفسيرا، وتجد نحوه في كلام النووي في شرحه على صحيح مسلم، ومثله ما قاله المحققون من شراح البخاري كالحافظ ابن حجر في فتح الباري، والعيني في عمدة القاري، والقسطلاني في إرشاد الساري، وهو الحق الذي لا غبار عليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أما الذين يشنعون على من قال بكفر النعمة، فلا يخلو إما أن يكون تشنيعهم نتيجة سوء فهم وقلة علم، وإما أن يكون بباعث حالة نفسية تدفع إلى تشويه الحقيقة ومكابرة الحق، وكثيرا ما يرتبك هؤلاء عندما يواجهون مثل هذه النصوص، فيتكلفون لها تأويلات شتى، كالقول بأنها يراد بها المبالغة في التنفير عن تلك الأعمال، أو أنها أطلق عليها اسم الكفر لأنها من شأن الكفار غالبا، وهي تأويلات لا تتفق مع سياق النصوص، وإنما يلجئهم إليها التقليد الأعمى والتعصب البغيض. والكفر المعني هنا هو الكفر الذي يخرج بصاحبه من الملة، سواء قلنا إن المعنيين به مشركو العرب أو كفرة أهل الكتاب أو الطائفتان جميعا كما هو الصحيح، لأنهم جميعا يصدق عليهم وصف الكفر المخرج من الملة. وقال الامام محمد عبده: الكفر هنا عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله، أو جحود الكتاب نفسه أو النبي الذي جاء به، وبالجملة ما علم من الدين بالضرورة بعد ما بلغت الجاحد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بلاغا صحيحا، وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها؛ فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادا أو تساهلا أو استهزاء، نعني بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن - ثم قال - ولم نسمع أن أحدا من الصحابة - رضي الله عنهم - كفر أحدا بما وراء هذا فما عداه من الأفاعيل والأقاويل المخالفة لبعض ما أسند إلى الدين ولم يصل العلم بأنه منه إلى حد الضرورة - أي لم يكن سنده قطعيا كسند الكتاب - فلا يعد منكره كافرا إلا إذا قصد تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، فمتى كان للمنكر سند من الدين يستند إليه فلا يكفر، وإن ضعفت شبهته في الاستناد إليه ما دام صادق النية فيما يعتقد، ولم يستهن بشيء مما ثبت بالقطع وروده عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وقد تجرأ بعض المتأخرين على تكفير من يتأول بعض الظنيات أو يخالف شيئا مما سبق الاجتهاد فيه أو ينكر بعض المسائل الخلافية، فجرأوا الناس على هذا الأمر العظيم حتى صاروا يكفرون من يخالفهم في بعض العادات وإن كانت من البدع المحظورات، ثم هم على عقائد الكافرين وأخلاق المنافقين، ويعملون أعمال المشركين، ويصفون أنفسهم بالمؤمنين الصادقين. وهذا كلام في منتهى النفاسة، فإن التجرؤ على إخراج أحد من الموحدين من حظيرة الملة أمر لا يستهان به، فهو تترتب عليه عواقب سيئة في الدنيا والآخرة، لأنه سبب انفكاك العُرى وانحلال الروابط وتقطع الصلات بين الأمة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن ثم نجد أصحابنا - رحمهم الله - لا يكفرون كفر شرك من يصطدم بالنصوص القاطعة إن كان متشبثا بشيء من التأويل، وإن كان في ذاته أو هي من نسج العنكبوت، وإنما يصفون مثله بالنفاق وكفر النعمة. أما المسائل الاجتهادية فللرأي فيها مجال رحب عندهم، فلا يعنف من قال برأي ما لم يصطدم بنص قاطع ولا يفسق من عمل به. هذا، وقسم الأستاذ الامام الكافرين إلى أقسام، فقال: منهم من يعرف الحق وينكره عنادا، وهؤلاء هم الأقلون ولا ثبات لهم ولا قوام، وكان منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلبثوا أن انقرضوا - قال - كنت قلت بهذا المعنى كلمة جديرة بأن تحفظ، وهي: أن جحود الحق مع العلم به كاليقين في العلم، كلاهما قليل في الناس. ومنهم من لا يعرف الحق ولا يريد ولا يحب أن يعرفه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:**{ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }** [الأنفال: 22 - 23]. فهؤلاء كلما صاح بهم صائح الحق فزعوا ونفروا وأعرضوا واستكبروا، ففي أنفسهم شعور بالحق، ولكنهم يجدون فيه زلزلة كلما لاح لهم شعاعه يحجبونه عن أعينهم بأيديهم. وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا أنظارهم في فهم الحق، ويخافون أن لو استعملوها أن ينقصهم شيء مما يظنونه خيرا ويتوهمونه معقودا بعقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم وساداتهم. ومنهم من مرضت نفسه واعتل وجدانه، فلا يذوق للحق لذة، ولا يجد نفسه فيه رغبة، بل انصرف عنه إلى هموم أخر ملكت قلبه وأسرت فؤاده، كالهموم التي غلبت أغلب الناس اليوم على عقولهم ودينهم، وهي ما استغرقت كل ما توفر لديهم من عقل وإدراك، واستنفدت كل ما يملكون من حول وقوة في سبيل كسب مال أو توفير لذة جسمانية أو قضاء شهوة وهمية، فعمي عليهم كل سبيل سوى سُبل ما استهلكوا فيه، فإذا عرض عليهم الحق أو ناداهم إليه مناد رأيتهم لا يفهمون ما يقول الداعي، ولا يميزون بين ما يدعو إليه وبين ما هم عليه، فيكون حظ الحق منهم الاستهزاء والاستهانة بأمره، فإذا وعدهم أو أوعدهم النذير قالوا لا نصدق ولا نكذب حتى ننتهي إلى ذلك المصير، وهذا القسم كالذي قبله كثير العدد في الناس في كل زمان ومكان، خصوصا في الأمم التي يفشو فيها الجهل وتنطمس من أفرادها أعين الفطرة، وتنضب من أنفسهم ينابيع الفضائل، فيصبحون كالبهائم السائمة لا هم لهم إلا فيما يملأ بطونهم أو يداعب أوهامهم، ويصح جمع هذين القسمين تحت قسم واحد، وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والقسم الأول هو قسم المعاندين المكابرين. هذا كلامه، وهو مع نفاسته ينبغي أن ينظر فيه، فإن الشواهد قائمة على كثرة أفراد القسم الأول. فاليهود الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم قال الله فيهم:**{ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }** [البقرة: 146]. وقد ذكرهم الله في كثير من الآيات بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون ما أنزل الله فيما بأيديهم من الكتاب من آيات كاشفة للحق لأجل منفعة مادية زائلة، أو من أجل حسدهم أهل الحق أو بباعث العنت والاستكبار، وقد كانوا يستفتحون بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من العرب الأميين فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، ومن فحص أحوال اليهود، وجدهم من أعرف الناس برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقها، وإنما آثروا ما توهموه مصلحة لهم على الايمان فباؤوا بالخسران وهووا في دركات الهوان. أما مشركو العرب فإنهم وإن كانوا على جاهلية جهلاء وأمية متأصلة فيهم، فقد كانوا يتصفون برقة الشعور ودقة النظر، وقد أوتوا من ملكة البيان ما كانوا به متفوقين على غيرهم، فلم يكن يعزب عن أذهانهم صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانوا عميا عن إشراق حجته ونصوع دليله. كيف وقد كان عليه أفضل الصلاة والسلام مشهورا بينهم بالصدق والأمانة لا يختلف في ذلك اثنان منهم، وكان القرآن يصبحهم ويمسيهم بقذائف إعجازه ويدعوهم إلى التحدي والمعارضة بأسلوب يبعث عزائم الخاملين منهم، وقد وقفوا مشدوهين أمام سطوع حججه، وظهور براهينه، ولم تحدثهم نفوسهم العاتية بأن ينزلوا إلى ميدان المعارضة فيحاولوا أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة من سُوَره، وهم الذين لا يصطلى بنارهم في البيان، ولا يجرى في مضمارهم في منثور القول ومنظومه. على أن كل ما كان يدعو إليه صلى الله عليه وسلم من عقيدة وأعمال وأخلاق، هو نفسه شاهد على صدقه، لأنه نابع من الفطرة الانسانية وملب لضرورات البشر، فلم يكن الباعث على كفرهم إلا العناد والمكابرة، كما ثبت ذلك في أقوال بعض كبرائهم. أقوال في إعراب " سواء ": { وسواء }؛ اسم مصدر بمعنى الاستواء، يخبر به عن المفرد وغيره من غير أن تدخل عليه علامة للتثنية أو الجمع، قال تعالى:**{ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ }** [الروم: 28]. ويوصف به المفرد وغيره كذلك، فمثال وصف المفرد قوله تعالى:**{ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم }** [آل عمران: 64]. ومثال وصف الجمع قوله سبحانه:**{ فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }** [فصلت: 10]، على قراءة من جر سواء. وكما أن المصدر يحل محل اسم الفاعل لقصد المبالغة، نحو محمد عدل، بمعنى عادل، إذا أردت أن العدل يتمثل في شخصه ويتجسد في حكمه، فكذلك اسمه، ولذلك صح الاخبار بسواء عن المبتدأ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واختلف علماء العربية والتفسير في إعراب سواء هنا، منهم من أعربه خبرا لإِن ورفع به الفاعل المفهوم من { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } ، كأنه قيل إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه، ومنهم من أعربه خبر مبتدأ محذوف، تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله: { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ }. ومنهم من أعربه خبرا مقدما لمبتدأ مؤخر، أي سواء عليهم إنذارك وعدمه، وهو المشهور على الألسنة، وأورد عليه أمور: أولها: أن الفعل يسند ولا يسند إليه. ثانيها: أن الاستفهام له صدر الكلام، وهذا الاعراب يبطل ذلك. ثالثها: أن الهمزة وأم موضوعان لأحد أمرين، ولفظ سواء لا يدل على مفرد، لأنه بمعنى الاستواء وهو يقتضي الاشتراك، ولذلك يقال استوى وجوده وعدمه، ولا يقال أو عدمه. رابعها: أن تقديمه مع تقديره خبرا يؤدي إلى التباس المبتدأ بالفاعل فلا يصح. وأجيب عن الأول بأنه من جنس الكلام الذي يهجر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، ومثله شائع عند العرب، كقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فإن إجراءه على ظاهره يستلزم عطف الاسم المنصوب على الفعل، بل المفرد على جملة لا محل لها وعن الثاني والثالث: بأن الهمزة وأم قد جردا هنا عن معنى الاستفهام عن أحد الأمرين ولأجل استوائهما في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بهما حتى قيل إنهما تُجُوِّز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبةٍ ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر، وحاصل هذا الجواب أنهما يدلان على الاشتراك فقط ولا ملاحظة فيهما للاستفهام. وأجيب عن الرابع: بأن الالتباس إنما يحصل في الخبر الفعلي نحو زيد قام، وإذا لم يمتنع تقديمه وهو صفة صريحة فعدم امتناعه هنا أولي. واستظهر ابن عاشور أن المبتدأ بعد سواء مقدر يدل عليه الاستفهام الواقع معه وأن التقدير سواء جواب { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } ، ومثل لذلك بقول القائل: علمت أزيد قائم، فإن تقديره علمت جواب هذا السؤال، وهذا الاعراب مبين للمعني المراد غير أنه لا يتفق مع أصول الفن. وأجيز جعل سواء مبتدأ واقعا لفاعل سد مسد الخبر، لأن سواء بمعنى مستوٍ فهو كاسم الفاعل، فلذلك أعطى حكمه في رفع الفاعل الساد مسد خبر المبتدأ. ومهما يكن الاعراب فإن الآية تفيد عدم جدوى الانذار في هؤلاء الناس، فلذلك تساوى مع عدمه. مهمة الداعي الاصلاح: وإنما واجب الرسول صلى الله عليه وسلم القيام بما أمر به من الانذار والتبليغ، وليس في مقدوره ولا في مقدور أحد من الناس تمكين الهداية من القلوب، وإنما هو من مقدور الله وحده، وفائدة تبليغ هؤلاء - مع القطع بعدم تقبلهم - إقامة حجة الله عليهم لئلا يقولوا:**{ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [طه: 134]. وفي ذلك إيماء إلى أن مهمة الداعي محاولة استصلاح الناس وإن أيس من نجاح هذه المحاولة، كما سيأتي إن شاء الله موضحا في موضعه. وتعدية سواء بعلى للدلالة على التمكن، فقد سبق أن على تفيد الاستعلاء، وهو يقتضي تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ويراد به هنا استواء الانذار وعدمه عند هؤلاء المعنيين. وقوله { لا يؤمنون } يفيد تقرير ما تقدم، وهو إما تأكيد له، وإما خبر بعد خبر، ولا يصح أن يكون خبر إن، وجملة { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } اعتراضية وإن جوّزه صاحب الكشاف لأن فائدة الاخبار بيان استواء الانذار وعدمه لا إفادة عدم إيمانهم فحسب. لا يكلف الله إلا بما في وسع المكلفين: هذا وقد تشبث بهذه الآية كثير من القائلين بجواز التكليف بالمحال ووقوعه، ووجه استدلالهم أن الله سبحانه أخبر عن هؤلاء الكفار بعدم إيمانهم، واستواء الانذار وعدمه عليهم، وهم مع ذلك مخاطبون بالايمان مكلفون به مع عدم جواز تبديل شيء من كلمات الله تعالى، وهو يعني أنهم مطالبون بأن يؤمنوا أنهم لا يؤمنون لاندراج ذلك فيما طولبوا بالايمان به من الكتاب. هذا ملخص ما يقولونه، ولهم في الاستدلال لذلك مسالك متشعبة ووجوه مختلفة، وكأني بهؤلاء يتصاممون عن قوله تعالى { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ، وقوله: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا }. والآيات الدالة على أن عدم إيمان الكفار ناتج عن عنادهم وإخلادهم إلى الضلالة، وإصرارهم على الباطل، كقوله تعالى:**{ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً }** [الكهف: 55]، وقوله:**{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ }** [النساء: 39]. والقول الحق في ذلك أن إخبار الله عز وجل بعدم إيمانهم إنما هو إخبار عما علمه من حالهم، فلا يسقط ذلك تكليفهم بالايمان، ولا يدل على أنهم طولبوا بما هم عاجزون عنه، فإنهم كانوا قادرين على التسليم، وإنما باعدهم عنه ما رسخ في نفوسهم من كراهة الحق، وعداوة أهله. ويرى العلامة ابن عاشور أن الاختلاف في هذه المسألة ناشئ عن الالتباس الحاصل من مفهوم المحال، فهو يطلق على ما هو محال عقلا، كجمع النقيضين، ومحال عادة، كصعود السماء، وما فيه حرج وإعنات كذبح المرء ولده، ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه، وما عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر، كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج، وكل ذلك مندرج فيما لا يطاق كما في قوله سبحانه: { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ، فإن المراد بذلك ما يشق على النفس مشقة عظيمة، وأطلق لفظ المحال على كل واحد من هذه الأقسام حقيقة ومطابقة في بعضها، والتزاما في البعض ومجازا في البعض. وأطلق عليها عدم المقدور كذلك، كما أطلق الجواز على الامكان وعلى الامكان للحكمة، وعلى الوقوع، فكان ذلك منشأ الاختلاف الذي ملأ الفضاء حتى جاء من فتح إغلاق الاشكال بمفاتيح التحرير، فتبين أن الجواز الامكاني ثابت لأن يفعل ما يشاء لو شاء، وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتفٍ عند الطائفتين وإن اختلفتا في تفسير الحكمة، لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف به متعذر الوقوع، وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازا ووقوعا، وجل التكاليف لا تخلو من ذلك، وثبت ما هو أخص وهو رفع الحرج الخارجي عن الحد المتعارف تفضلا من الله تعالى لقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }** [الحج: 78]، وقوله:**{ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ }** [المزمل: 20]، أي لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في الأحكام. انتهى المراد من كلامه بتصرف. ولا يماري عاقل في أن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأن جميع أفعاله عدل لا يوصف شيء منها بالظلم والجور، ولكنه سبحانه أخبرنا بعدم تكليفه إلا بما في وسع المكلفين، فليس لنا أن نتجاوز عن ذلك فنصفه بما يخالفه. ومن المعلوم أن الله هدى كل أحد السبيل وفتح لكل من شاء أبواب الرشاد، فانحراف الانسان إلى مسالك الغواية ليس بسبب حيلولة القدر بينه وبين الرشد، وإنما هو باستحباب نفسه، كما أخبر الله عن ثمود بقوله:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت: 17]، والله يعلم ما اشتملت عليه طوايا الأنفس وحنايا الضمائر، فلا غرو في إخباره عمن أخبر عنه بعدم الايمان مع دعوته إليه، إذ الخبر إنما هو عما علمه الله من هوى نفسه وميلولة رغبته. وبهذا يندفع الاعتراض الذي تصوره الامام ابن عاشور في دعوة أمثال هؤلاء إلى الحق مع العلم بعدم استجابتهم، ولا داعي إلى ما أجاب به من أن الرسول صلى الله عليه لم يقصد أحدا بعينه من هؤلاء الذين ماتوا مصرين على الكفر فيخصه بالدعوة إلى الايمان كما صنع مع عمر بن الخطاب حين جاءه، إذ قال له: أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول: لا إله إلا الله؟ وكما صنع مع غيره ممن أسلم. وكلامه هذا دعوى لم تنهض بها حجة، ومن أين له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع أحدا بعينه ممن لم يسلموا إلى الاسلام، مع قوله تعالى:**{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ.. }** [يس: 6] إلى قوله:**{ ..لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ }** [يس: 7]. ودعوته صلى الله عليه وسلم لم تختلف عن دعوات النبيين من قبله في حيثية الاتجاه بها إلى جميع من أرسل إليهم، سواء من وفق لقبولها منهم ومن لم يوفق، وقد أرسل الله موسى وهارون - عليهما السلام - برسالة الحق إلى فرعون الكافر العنيد، الذي سبق في علم الله أنه سيموت على كفره وضلاله، وأمرهما أن يقولا له قولا لينا، وبين هذا القول اللين قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- | **{ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ }** [النازعات: 18 - 19]. وهكذا كانت رسالات جميع المرسلين إلى أقوامهم كما هو واضح لمن تدبر القرآن، وليت شعري ما هو الفارق بين دعوة الأعيان ودعوة المجموعة، على أن الدعوة هي تكليف إلهي للرسل يجب عليهم القيام بها مع غض النظر عما يكون من عاقبة أمرها. ولأجل ذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحط عن صدره أثقال الهموم التي كان ينوء بها بسبب ما كان يلقاه من قومه من صدود، وقال له تعالى:**{ إِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ }** [الرعد: 40]. هذا وقد شدد الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده النكير على القائلين بالتكليف بالمحال، وذكر أن الصحابة - رضي الله عنهم - ما كان ذلك يخطر على بال أحد منهم، ثم قال: إن الاتفاق واقع بين الأئمة، بل بين الأمة على أن التكليف بالمحال غير واقع وأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، كما صرح به الكتاب وتضافرت عليه الأحاديث النبوية. وقس كلامه هذا إلى ما قاله الفخر الرازي من أن القول بجوازه هو قول أهل السنة، والقول بعدم جوازه هو قول المعتزلة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
كلام مستأنف يتميز به حال الكفرة/ الغواة المردة العتاة سيق إثر بيان بديع أحوال أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمطالبهم في الحال والمآل، ولم يعطف على سابقه عطف القصة على القصة لأن المقصود من ذلك بيان اتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريراً لكونه يقيناً لا مجال للشك فيه، ومن هذا بيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار، والقول إنهما مسوقان لبيان حال الكتاب وأنه هدى لقوم وليس هدى لآخرين لا يجدي نفعاً لأن عدم كونه هدى لهم مفهوم تبعاً لا مقصود أصالة على أن الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه وإعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع. وقيل إن ترك العطف لكونه استئنافاً آخر كأنه قيل ثانياً ما بال غيرهم لم يهتدوا به؟ فأجيب بأنهم لإعراضهم وزوال استعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أن تلك الأوصاف المختصة هي المقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه، وأغرب من هذا تخيل أن الترك لغاية الاتصال زعماً أن شرح تمرد الكفار يؤكد كون الكتاب كاملاً في الهداية نعم يمكن على بعد أن يوجه السؤال بأن يقال: لو كان الكتاب كاملاً لكان هدى للكفار أيضاً فيجاب بأن عدم هدايته إياهم لتمردهم وتعنتهم لا لقصور في الكتاب. | **والنجم تستصغر الأبصار رؤيته** | | **والذنب للطرف لا للنجم في الصغر** | | --- | --- | --- | والعطف في قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ \* وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ }** [الإنفطار: 13-14] لاتحاد الجامع إذ الجملة الأولى مسوقة لبيان ثواب الأخيار، والثانية لذكر جزاء الأشرار مع ما فيهما من الترصيع والتقابل وقد عد التضاد وشبهه جامعاً يقتضي العطف لأن الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا إن الضد أقرب خطوراً بالبال مع الضد من الأمثال. وصدرت الجملة بإن اعتناء بمضمونها وقد تصدر بها الأجوبة لأن السائل لكونه متردداً يناسبه التأكيد وتعريف الموصول إما للعهد والمراد من شافههم صلى الله عليه وسلم بالإنذار في عهده وهم مصرون على كفرهم أو للجنس كما في قوله تعالى:**{ كَمَثَلِ ٱلَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ }** [البقرة: 171] وكقول الشاعر: | **ويسعى إذا أبني ليهدم صالحي** | | **وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم** | | --- | --- | --- | فهو حينئذٍ عام خصه العقل بغير المصرين، والإخبار بما ذكر قرينة عليه أو المخصص عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه وقد ذكر الأصوليون ثلاثة أقوال فيما إذا عاد ضمير خاص على العام فقيل يخصصه وقيل لا وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى:**{ وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوء }** [البقرة: 228] فإن الضمير في { بُعُولَتُهُنَّ } للرجعيات فقط. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وما ذكره بعض أجلة المفسرين أن المخصص هنا الخبر أورد عليه أن تعين المخبر عنه بمفهوم الخبر ينافي ما تقرر من أن المخبر عنه لا بد أن يكون متعيناً عند المخاطب قبل ورود الخبر فلو توقف تعين المخبر عنه على الخبر لزم الدور. والكفر بالضم مقابل الإيمان وأصله المأخوذ منه الكفر ـ بالفتح ـ مصدر بمعنى الستر يقال كفر يكفر من باب قتل، وما في " الصحاح " من أنه من باب ضرب فالظاهر أنه غير صحيح وإن لم ينبه عليه في " القاموس " وشاع استعماله في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأن فيه ستر الحق ونعم الفيض المطلق، وقد صعب على المتكلمين تعريف الكفر الشرعي الغير التبعي واختلفوا في تعريفه على حسب اختلافهم في تعريف الإيمان إلا أن الذي عول عليه الشافعية/ رحمهم الله تعالى أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام فلا يكفر جاحد المجمع عليه على الإطلاق بل من جحد مجمعاً عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها سائر الناس كالصلاة وتحريم الخمر ومن جحد مجمعاً عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب فليس بكافر ومن جحد مجمعاً عليه ظاهراً لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف، وأما ساداتنا الحنفية رضي الله تعالى عنهم فلم يشترطوا في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر الذي تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة وهذا أمر عظيم وكأنه لذلك قال ابن الهمام: يجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعاً لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف. ولا يرد على أخذ الإنكار في التعريف أن أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكاراً من فاعلها ظاهراً لأنهم صرحوا بأنها ليست كفراً وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله حماية لحريم الدين وصيانة لشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وليست بعض المنهيات التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك فلا يبطل الطرد بغير الكفر من الفسق فليس شعار الكفار مثلاً ليس في الحقيقة كفراً كما قاله مولانا الإمام الرازي وغيره إلا أنهم كفروا به لكونه علامة ظاهرة على أمر باطن وهو التكذيب لأن الظاهر أن من يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي به فحيث أتى به دل على عدم التصديق وهذا إذا لم تقم قرينة على ما ينافي تلك الدلالة ولهذا قال بعض المحققين: إن لبس شعار الكفرة سخرية بهم وهزلاً ليس بكفر. وقال مولانا الشهاب وليس ببعيد إذا قامت القرينة وأنا أقول إذا قامت القرينة على غرض آخر غير السخرية والهزل لا كفر به أيضاً كما يظنه بعض من ادعى العلم اليوم وليس منه في قبيل ولا دبير ولا في العير ولا النفير. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم الإنكار هنا بمعنى الجحود ولا يرد أن من تشكك أو كان خالياً عن التصديق والتكذيب ليس بمصدق ولا جاحد وأنه قول بالمنزلة بين المنزلتين وهو باطل عند أهل السنة لأنه يجوز أن يكون كفر الشاك والخالي لأن تركهما الإقرار مع السعة والأعمال بالكلية دليل - كما قاله السيالكوتي - على التكذيب كما أن التلفظ بكلمة الشهادة دليل على التصديق وقيل هو هٰهنا من أنكرت الشيء جهلته فلا ورود أيضاً، وفيه أن الإنكار بمعنى الجهل يقابل المعرفة فيلزم أن يكون العارف الغير المصدق كأحبار اليهود واسطة فالمحذور باق بحاله. وعرف في " المواقف " الكفر بأنه عدم تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة ولعله أيضاً يقول بإقامة بعض الأفعال والأقوال مقام عدم التصديق واعترض على أخذ الضرورة بأن ما ثبت بالإجماع قد يخرج من الضروريات وكذا براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ثبتت بالقرآن، وأدلته اللفظية غير موجبة للعلم فتخرج عن الضروريات أيضاً. وأجيب بأن خروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع والدلالة اللفظية تفيد العلم بانضمام القرائن وهي موجودة في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ولقد عد أصحابنا رضي الله تعالى عنهم في باب الإكفار أشياء كثيرة لا أراها توجب إكفاراً والإخراج عن الملة أمر لا يشبهه شيء فينبغي الاتئاد في هذا الباب مهما أمكن، وقول ابن الهمام: أرفق بالناس وفي " أبكار الأفكار " ـ في هذا البحث ـ ما يقضي منه العجب ولا أرغب في طول بلا طول وفضول بلا فضل. واستدل المعتزلة بهذه الآية ونحوها على حدوث كلامه سبحانه وتعالى لاستدعاء صدق الأخبار بمثل هذا الماضي سابقة المخبر عنه أعني النسبة بالزمان وكل مسبوق بالزمان حادث، وأجيب بأن سبق المخبر عنه يقتضي تعلق كلامه الأزلي بالمخبر عنه فاللازم سبق المخبر عنه على التعلق وحدوثه وهو لا يستلزم حدوث الكلام كما في علمه تعالى بوقوع الأشياء فإن له تعلقاً حادثاً مع عدم حدوثه أو يقال إن ذاته تعالى وصفاته/ لما لم تكن زمانية يستوي إليها جميع الأزمنة استواء جميع الأمكنة فالأنواع كل منها حاضر عنده في مرتبته واختلاف التعبيرات بالنظر إلى المخاطب الزماني رعاية للحكمة في باب التفهيم، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكرنا في الفائدة الرابعة ما يفيدك ذكره هنا فتذكر. و { سَوَآء } اسم مصدر بمعنى الاستواء وهو لا يثنى ولا يجمع وقد استغنوا عن تثنيته بتثنية { سي } إلا شذوذاً وكأنه في الأصل مصدر كما قاله الرضى ورفع على أنه خبران وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه ـ أو خبر مبتدأ محذوف ـ تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله سبحانه: { ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } أو خبر لما بعده أي إنذارك وعدمه سيان وهو المشهور على ألسنة الطلبة في مثله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأورد عليه أمور. الأول: إن الفعل لا يسند إليه. الثاني: إنه مبطل لصدارة الاستفهام. الثالث: إن الهمزة و { أَمْ } موضوعان لأحد الأمرين وكل ما يدل على الاستواء لا يسند إلا إلى متعدد فلذا يقال استوى وجوده وعدمه ولا يقال أو عدمه. الرابع: إنه على تقدير كونه خبراً يلزم أن لا يصح تقديمه لالتباس المبتدأ بالفاعل. ويجاب أما عن الأول فبأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، والعرب تميل في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلاً بيناً ومن ذلك ـ لا تأكل السمك وتشرب اللبن ـ أي لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ولو أجرى على ظاهره لزم عطف الاسم المنصوب على الفعل بل المفرد على جملة لا محل لها. ودعوى البيضاوي ـ بيض الله تعالى غرة أحواله ـ أنه استعمل فيه اللفظ في جزء معناه وهو الحدث تجوزاً فلذا صح الإخبار عنه كما يجوز الإخبار عما يراد به مجرد لفظه كضرب ماض مفتوح الباء على ما فيها لا تتأتى فيما إذا كان المعادلان ـ أو أحدهما بعد همزة التسوية ـ جملة اسمية كما في قوله تعالى:**{ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَـٰمِتُونَ }** [الأعراف: 193] ويدخل في الميل مع المعنى مع أنه لا يلزم عليه الخروج عن الحقيقة وقد نقل ابن جني عن أبـي علي أنه قال: الجملة المركبة من المبتدأ والخبر تقع موقع الفعل المنصوب بأن إذا انتصب وانصرف القول به والرأي فيه إلى مذهب المصدر كقوله تعالى:**{ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ }** [الروم: 28] وكقوله سبحانه وتعالى:**{ أَعِنَده عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ }** [النجم: 35] ألا ترى أن الفاء جواب الاستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة والفعل المنصوب مصدر لا محالة حتى كأنه قال أعنده علم الغيب فرؤيته وهل بينكم شركة فاستواء، وأما عن الثاني والثالث فبأن الهمزة و { أَمْ } انسلخا عن معنى الاستفهام عن أحد الأمرين ولما كانا مستويين في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بكليهما، ولهذا قيل تجوز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبة ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر، ثم إن مثل هذا المعنى وإن كان مراداً إلا أنه لا يلاحظ في عنوان الموضوع بعد السبك كما لا يلاحظ معنى العاطف فلا يقال في الترجمة هنا إلا الإنذار وعدمه سواء من غير نظر إلى التساوي حتى يقال إذا كان تقدير المبتدأ المتساويان يلغو حمل سواء عليه فيدفع بما يدفع، وقد قال الإمام الآفسراي: إن أنذرتهم الخ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | انتقل عن أن يكون المقصود أحدهما إلى أن يكون المراد كليهما وهذا معنى الاستواء الموجود فيه، وأما الحكم بالاستواء في عدم النفع فلم يحصل إلا من قوله: { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } وذكر أنه ظفر بمثله عن أبـي علي الفارسي، وكلام المولى الفناري يحوم حول هذا الحمى، وذهب بعض المحققين إلى أنهما في الأصل للاستفهام عن أحد الأمرين وهما مستويان في علم المستفهم، وقد ذهب ذلك الاستواء هنا إذ سلخ عنهما الاستفهام وبقي الاستواء في العلم وهو معنى قول من قال الهمزة و { أَمْ } مجردتان لمعنى الاستواء فيكون الحاصل فيما نحن فيه المتساويان في علمك مستويان في عدم/ الجدوى وهذا على ما فيه تكلف مستغنى عنه بما ذكرناه ومثله ما ذكر العاملي من أن تمام معناهما الاستواء والاستفهام معاً فجردا عن معنى الاستفهام وصارا لمجرد الاستواء ولتكرر الحكم بالاستواء بمعنى واحد يحصل التأكيد كأنه قيل سواء الإنذار وعدمه سواء وهو بعيد عن ساحة التحقيق كما لا يخفى ويوهم قولهم بالتجريد أن هناك مجازاً مرسلاً استعمل فيه الكل في جزئه، والتحقيق إنه إما استعارة أو مستعمل في لازم معناه ثم المشهور أنه لا يجوز العطف بعد سواء بأو إن كان هناك همزة التسوية حتى قال في «المغني»: إنه من لحن الفقهاء، وفي شرح الكتاب للسيرافي { سَوَآء } إذا دخلت بعدها ألف الاستفهام لزمت { أَمْ } كسواء علي أقمت أم قعدت فإذا عطف بعدها أحد اسمين على آخر عطف بالواو لا غير نحو سواء عندي زيد وعمرو فإذا كان بعدها فعلان بغير استفهام عطف أحدهما على الآخر ـ بأو ـ كقولك سواء عليّ قمت أو قعدت فإن كان بعدها مصدران مثل سواء عليّ قيامك وقعودك فلك العطف بالواو وبأو. وإنما دخلت في الفعلين بغير استفهام لما في ذلك من معنى المجازاة، فتقدير المثال إن قمت أو قعدت فهما على سواء، والظاهر من هذا بيان استعمالات العرب ـ لسواء ـ ولم يحك في شيء من ذلك شذوذاً فقراءة ابن محيصن من طريق الزعفراني ـ سواء عليهم أنذرتهم أو لم تنذرهم ـ شاذة رواية فقط لا استعمالاً كما يفهمه كلام ابن هشام فافهم هذا المقام فقد غلط فيه أقوام بعد أقوام. وأما عن الرابع فبأن النحاة قد صرحوا بتخصيص ذلك بالخبر الفعلي دون الصفة نحو زيد قام فلا يقدم لالتباس المبتدأ بالفاعل حينئذٍ فإذا لم يمتنع في صريح الصفة فعدم امتناعه هنا أولى على ما قيل، وإنما عدل سبحانه عن المصدر فلم يأت به على الأصل لوجهين، لفظي وهو حسن دخول الهمزة وأم لأنهما في الأصل للاستفهام وهو بالفعل أولى، ومعنوي وهو إيهام التجدد نظراً لظاهر الصيغة، وفيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم أحدث ذلك وأوجده فأدى الأمانة وبلغ الرسالة وإنما لم يؤمنوا لسبق الشقاء ودرك القضاء لا لتقصير منه وحاشاه فهو وإن أفاد اليأس فيه تسلية له صلى الله عليه وسلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعلى هنا باعتبار أصل معناه لأن الاستواء يتعدى بعلى كقوله تعالى:**{ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ }** [الأعراف: 54] وقيل بمعنى عند ـ ففي «المغني» ـ على تجرد للظرفية، وعلى ذلك أكثر المفسرين والقول بأنها هنا للمضرة كدعاء عليه ليس بشيء لأن { سَوَآء } تستعمل مع على مطلقاً فيقال ـ مودتي دائمة سواء على أزرت أم لم تزر ـ. والإنذار التخويف مطلقاً أو الإبلاغ وأكثر ما يستعمل في تخويف عذاب الله تعالى ويتعدى إلى اثنين كقوله تعالى:**{ إِنَّا أَنذَرْنَـٰكُمْ عَذَاباً قَرِيباً }** [النبأ: 40]**{ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـٰعِقَةً }** [فصلت: 13] فالمفعول الثاني هنا محذوف أي العذاب ظاهراً ومضمراً واستحسن أن لا يقدر ليعم، وفي البحر: " الإنذار " الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف فإن لم تسع فهو إشعار وإخبار لا إنذار ولم يذكر سبحانه البشارة لأنها تفهم بطريق دلالة النص لأن الإنذار أوقع في القلب وأشد تأثيراً فإذا لم ينفع كانت البشارة بعدم النفع أولى. وقيل لا محل للبشارة هنا لأن الكافر ليس أهلاً لها. وقوله عز من قائل: { لاَ يُؤْمِنُونَ } يحتمل أن تكون مفسرة لإجمال ما قبلها مما فيه الاستواء والكفر وعدم نفع الإنذار في الماضي بحسب الظاهر مسكوت فيه عن الاستمرار و { لاَ يُؤْمِنُونَ } دال عليه ومبين له فلا حاجة إلى القول بأن هذا بالنظر إلى مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن أنه إخبار عن المصرين وهي حينئذٍ لا محل لها من الإعراب كما هو شأن الجمل المفسرة، وعند الشلوبين لها محل لأنها عطف بيان عنده ويحتمل أن تكون حالاً مؤكدة لما قبلها وصاحب الحال ضمير { عليهم } أو { أنذرتهم } وليس هذا كزيد أبوك عطوفاً لفقد ما يشترط في هذا النوع هٰهنا وأن/ تكون بدلاً، إما بدل اشتمال لاشتمال عدم نفع ما مر على عدم الإيمان، أو بدل كل لأنه عينه بحسب المآل أو خبراً بعد خبراً أو خبر مبتدأ محذوف ـ أي هم لا يؤمنون ـ أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض. وفي " التسهيل ": الاعتراضية هي المفيدة تقوية وهي هنا كالعلة للحكم لدلالتها على قسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالإنذار وهو مقتض لعدم الإيمان؛ وحيث أن الموضوع دال على عدم الإيمان في الماضي والمحمول على استمراره في المستقبل اندفع توهم عدم الفائدة في الإخبار وجعل الجملة دعائية بعيد، وأبعد منه ما روي أن الوقف على ـ أم لم تنذر ـ والابتداء ـ بهم لا يؤمنون ـ على أنه مبتدأ وخبر بل ينبغي أن لا يلتفت إليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقرأ الجحدري: { سَوَآء } بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز فيجوز أنه أخلص الواو ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو وعن الخليل أنه قرأ (سوء عليهم) بضم السين مع واو بعدها فهو عدول عن معنى المساواة إلى السب والقبح وعليه لا تعلق إعرابياً له بما بعده كما في " البحر " ، وقرأ الكوفيون وابن ذكوان ـ وهي لغة بني تميم ـ (أأنذرتهم) بتحقيق الهمزتين وهو الأصل، وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلباً للتخفيف فقرأ الحرميان وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية إلا أن أبا عمرو وقالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع وهشام يدخلون بينهما ألفاً وابن كثير لا يدخل. وروي تحقيقهما عن هشام مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة ابن عباس وابن أبـي إسحاق. وروي عن ورش كابن كثير وكقالون إبدال الهمزة الثانية ألفاً فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين، وزعم الزمخشري أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين أحدهما: الجمع بين ساكنين على غير حدة الثاني: إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفاً لأنه طريق الهمزة الساكنة وما قالوه مذهب البصريين، والكوفيون أجازوا الجمع على غير الحد الذي أجازه البصريون، وهذه القراءة من قبيل الأداء، ورواية المصريين عن ورش وأهل بغداد يروون التسهيل بين بين كما هو القياس فلا يكون الطعن فيها طعناً فيما هو من السبع المتواتر إلا أن المعتزلي أساء الأدب في التعبير. وقد احتج بهذه الآية وأمثالها من قال بوقوع التكليف بالممتنع لذاته بناءً على أن يراد بالموصول ناس بأعيانهم، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه وتعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان وهو ممتنع إذ لو كان ممكناً لما لزم من فرض وقوعه محال لكنه لازم إذ لو آمنوا انقلب خبره كذباً وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون لكونه مما جاء به صلى الله عليه وسلم وإيمانهم بأنهم لا يؤمنون فرع اتصافهم بعدم الإيمان فيلزم اتصافهم بالإيمان وعدم الإيمان فيجتمع الضدان، وكلا الأمرين من انقلاب خبره تعالى كذباً واجتماع الضدين محال وما يستلزم المحال محال وأجيب بأن إيمانهم ليس من المتنازع فيه لأنه أمر ممكن في نفسه وبإخباره سبحانه وتعالى بعدم الإيمان لا يخرج من الإمكان، غايته أنه يصير ممتنعاً بالغير واستلزام وقوعه الكذب أو اجتماع الضدين بالنظر إلى ذلك لأن إخباره تعالى بوقوع الشيء أو عدم وقوعه لا ينفي القدرة عليه ولا يخرجه من الإمكان الذاتي لامتناع الانقلاب وإنما ينفي عدم وقوعه أو وقوعه فيصير ممتنعاً بالغير واللازم للممكن أن لا يلزم من فرض وقوعه نظراً إلى ذاته محال، وأما بالنظر إلى امتناعه بالغير فقد يستلزم الممتنع بالذات كاستلزام عدم المعلول الأول عدم الواجب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل في بيان استحالة إيمانهم بأنهم لا يؤمنون أنه تكليف بالنقيضين لأن التصديق في الإخبار بأنهم لا يصدقونه في شيء يستلزم عدم تصديقهم في ذلك والتكليف بالشيء تكليف بلوازمه، وقوبل بالمنع لا سيما اللوازم العدمية. وقيل لأن تصديقهم في أن لا يصدقوه يستلزم أن لا يصدقوه وما يستلزم وجوده عدمه محال، ورد بأنه يجوز أن يكون ذلك الاستلزام/ لامتناعه بالغير كما فيما نحن فيه، وقيل لأن إذعان الشخص بخلاف ما يجد في نفسه محال. واعترض بأنه يجوز أن لا يخلق الله تعالى العلم بتصديقه فيصدقه في أن لا يصدقه نعم إنه خلاف العادة لكنه ليس من الممتنع بالذات كذا قيل، ولا يخلو المقام بعد عن شيء وأي شيء، والبحث طويل واستيفاؤه هنا كالتكليف بما لا يطاق وسيأتيك إن شاء الله تعالى على أتم وجه. ثم فائدة الإندار بعد العلم بأنه لا يثمر استخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء في المكلفين**{ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ }** [النساء: 165] فإن الله تعالى لو أدخل ابتداء كلا داره التي سبق العلم بأنها داره لكان شأن المعذب منهم ما وصف الله تعالى بقوله:**{ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ }** [طه: 134] فأرسل رسلاً مبشرين ومنذرين ليستخرج ما في استعدادهم من الطوع والآباء ـ فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ـ فإن الذكرى تنفع المؤمنين ـ وتقوم به الحجة على الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع والإباء بحسب الاستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك بالمشيئة السابقة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت الأزلي فيترتب عليه النفع والضرّ من الثواب والعقل وإنما قامت الحجة على الكافر لأن ما امتنع من الإتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور المعجزة من الإيمان لو كان ممتنعاً لذاته مطلقاً لما وقع من أحد لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشىء من استعداده الأزلي باختياره السيء وإن كان إباؤه بخلق الله تعالى به فإن فعل الله تعالى تابع لمشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم والمعلوم من حيث ثبوته الأزلي غير مجعول فتعلق العلم به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي في الإرادة تعلقت بتخصيص ما سبق العلم به من مقتضى استعداده الأزلي فأبرزته القدرة على طبق الإرادة قال تعالى: { أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } فلهذا قال:**{ قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }** [الأنعام: 149] لكنه لم يشأ إذ لم يسبق به العلم لكونه كاشفاً للمعلوم وما في استعداده الأزلي فالمعلوم المستعد للهداية في نفسه كشفه عما هو عليه من قبوله لها، والمستعد للغواية تعلق به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به العلم من مقتضيات الاستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء الله تعالى فصح أن لله الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن الله تعالى: { قَدْ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } وما يقتضيه استعداده وما نقص منه شيئاً ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" فمن وجد خيراً فليحمد الله "** فإن الله متفضل بالإيجاد ولا واجب عليه **" ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه "** لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما اقتضته الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى استعداده فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال، وإنما قال سبحانه: { سَوَاء عَلَيْهِمْ } ولم يقل عليك لأن الانذار وعدمه ليسا سواء لديه صلى الله عليه وسلم ـ لفضيلة الإنذار الواجب عليه ـ على تركه، وإذا أريد بالموصول ناس معينون على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لأخباره بالغيب وهو موت أولئك على الكفر كما كان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ }. هذا انتقال من الثناء على الكِتَاب ومتقلِّديه ووصفِ هديه وأَثَرِ ذلك الهدى في الذين اهتدوا به والثناء عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب لمَّا كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار الصفة التي استحق بها الثناء، ولما كان الشيء قد يقَدَّر بضده انتقل إلى الكلام على الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه إنما كان من خبث أنفسهم إذ نَبَوْا بها عن ذلك، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة أمورهم ويحذرون من سوء العواقب فلم يكونوا من المتقين، وكان سواء عندهم الإنذار وعدمه فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل بل كان سواء والعدم عندهم، وقد قرنت الآيات فريقين فريقاً أضمر الكفر وأعلنه وهم من المشركين كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ { الذين كفروا } وفريقاً أظهر الإيمان وهو مخادع وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى**{ ومن الناس من يقول آمنا }** البقرة 8. وإنما قطعت هاته الجملة عن التي قبلها لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الجمل السابقة لذكر الهدى والمهتدين، وهذه لذكر الضالين فبينهما الانقطاع لأجل التضاد، ويعلم أن هؤلاء قسم مضاد للقسمين المذكورين قبله من سياق المقابلة. وتصدير الجملة بحرف التأكيد إما لمجرد الاهتمام بالخبر وغرابته دون رَدِّ الإنكار أو الشك لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة وهو خطاب أُنُف بحيث لم يسبق شك في وقوعه، ومجيء إنّ للاهتمام كثير في الكلام وهو في القرآن كثير. وقد تكون إنّ هنا لرد الشك تخريجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لأن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الكافرين تجعله لا يقطع الرجاء في نفع الإنذار لهم وحاله كحال من شك في نفع الإنذار، أو لأن السامعين لما أجرى على الكتاب من الثناء ببلوغه الدرجة القصوى في الهداية يطمعهم أن تؤثر هدايته في الكافرين المعرضين وتجعلهم كالذين يشكون في أن يكون الإنذار وعدمه سواء فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ونزل غير الشاك منزلة الشاك. وقد نقل عن المبرد أن إنَّ لا تأتي لرد الإنكار بل لرد الشك. وقد تبين أن الذين كفروا المذكورين هنا هم فريق من المشركين الذين هم مأيوس من إيمانهم، فالإتيان في ذكرهم بالتعريف بالموصول إما أن يكون لتعريف العهد مراداً منه قوم معهودون كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من رؤوس الشرك وزعماء العناد دون من كان مشركاً في أيام نزول هذه الآية ثم من آمن بعد مثل أبي سفيان بن حرب وغيره من مُسْلِمة الفتح وإما أن يكون الموصول لتعريف الجنس المفيد للاستغراق على أن المراد من الكفر أبلغ أنواعه بقرينة قوله { لا يؤمنون } فيكون عاماً مخصوصاً بالحس لمشاهدة من آمن منهم أو يكون عاماً مراداً به الخصوص بالقرينة وهذان الوجهان هما اللذان اقتصر عليهما المحققون من المفسرين وهما ناظران إلى أن الله أخبر عن هؤلاء بأنهم لا يؤمنون فتعيَّن أن يكونوا ممن تبين بعد أنه مات على الكفر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن المفسرين من تأوّل قوله تعالى { الذين كفروا } على معنى الذين قُضى عليهم بالكفر والشقاء ونَظره بقوله تعالى**{ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون }** يونس 96 وهو تأويل بعيد من اللفظ وشتان بينه وبين تنظيره. ومن المفسرين من حمل { الذين كفروا } على رؤساء اليهود مثل حيي بن أخطب وأبي رافع يعني بناء على أن السورة نزلت في المدينة وليس فيها من الكافرين سوى اليهود والمنافقين وهذا بعيد من عادة القرآن وإعراض عن السياق المقصود منه ذكر من حرم من هدي القرآن في مقابلة من حصل لهم الاهتداء به، وأيّاً ما كان فالمعنى عند الجميع أن فريقاً خاصاً من الكفار لا يرجى إيمانهم وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وروى ذلك عن ابن عباس والمقصود من ذلك أن عدم اهتدائهم بالقرآن كان لعدم قابليتهم لا لنقص في دلالة القرآن على الخير وهديه إليه. والكفر - بالضم - إخفاء النعمة، وبالفتح الستر مطلقاً وهو مشتق من كفر إذا ستر. ولما كان إنكار الخالق أو إنكار كماله أو إنكار ما جاءت به رسله ضرباً من كفران نعمته على جاحدها، أطلق عليه اسم الكفر وغلب استعماله في هذا المعنى. وهو في الشرع إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه ونصبت عليه الأدلة كوحدانية الله تعالى ووجوده ولذلك عد أهل الشرك فيما بين الفترة كفاراً. وإنكار ما علم بالضرورة مجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم به ودعوته إليه وعده في أصول الإسلام أو المكابرة في الاعتراف بذلك ولو مع اعتقاد صدقه ولذلك عبر بالإنكار دون التكذيب. ويلحق بالكفر في إجراء أحكام الكفر عليه كل قول أو فعل لا يجترىء عليه مؤمن مصدق بحيث يدل على قلة اكتراث فاعله بالإيمان وعلى إضماره الطعن في الدين وتوسله بذلك إلى نقض أصوله وإهانته بوجه لا يقبل التأويل الظاهر وفي هذا النوع الأخير مجال لاجتهاد الفقهاء وفتاوى أساطين العلماء إثباتاً ونفياً بحسب مبلغ دلالة القول والفعل على طعن أو شك. ومن اعتبر الأعمال أو بعضها المعين في الإيمان اعتبر فقدها أو فقد بعضها المعين في الكفر. قال القاضي أبو بكر الباقلاني القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده والإيمان بالله هو العلم بوجوده فالكفر لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور أحدها الجهل بالله تعالى، الثاني أن يأتي بفعل أو قول أخبر الله ورسوله أو أجمع المؤمنون على أنه لا يكون إلا من كافر كالسجود للصنم، الثالث أن يكون له قول أو فعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ونقل ابن راشد في «الفائق» عن الأشعري رحمه الله أن الكفر خصلة واحدة. قال القرافي في الفرق 241 أصل الكفر هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية ويكون بالجهل بالله وبصفاته أو بالجرأة عليه وهذا النوع هو المجال الصعب لأن جميع المعاصي جرأة على الله. وقوله { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } خبر { إن الذين كفروا } وسواء اسم بمعنى الاستواء فهو اسم مصدر دل على ذلك لزوم إفراده وتذكيره مع اختلاف موصوفاته ومخبراته فإذا أخبر به أو وصف كان ذلك كالمصدر في أن المراد به معنى اسم الفاعل لقصد المبالغة. وقد قيل إن سواء اسم بمعنى المثل فيكون التزام إفراده وتذكيره لأن المثلية لا تتعدد، وإن تعدد موصوفها تقول هم رجال سواء لزيد بمعنى مثل لزيد. وإنما عدي سواء بعلى هنا وفي غير موضعٍ ولم يعلق بعند ونحوها مع أنه المقصود من الاستعلاء في مثله، للإشارة إلى تمكن الاستواء عند المتكلم وأنه لا مصرف له عنه ولا تردد له فيه فالمعنى سواء عندهم الإنذار وعدمه. واعلم أن للعرب في سواء استعمالين أحدهما أن يأتوا بسواء على أصل وضعه من الدلالة على معنى التساوي في وصف بين متعدد فيقع معه سواء ما يدل على متعدد نحو ضمير الجمع في قوله تعالى**{ فهم فيه سواء }** النحل 71 ونحو العطف في قول بثينة | **سواء علينا يا جميل بن معمر إذا مت بأساء الحياة ولينها** | | | | --- | --- | --- | ويجري إعرابه على ما يقتضيه موقعه من التركيب، وثانيهما أن يقع مع همزة التسوية وما هي إلا همزة استفهام كثر وقوعها بعد كلمة { سواء } ومعها { أم } العاطفة التي تسمى المتصلة كقوله تعالى { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } وهذا أكثر استعماليها وتردد النحاة في إعرابه وأظهر ما قالوه وأسلِّمُه أن { سواء } خبر مقدم وأن الفعل الواقع بعده مقترناً بالهمزة في تأويل مبتدأ لأنه صار بمنزلة المصدر إذ تجرد عن النسبة وعن الزمان، فالتقدير في الآية سواء عليهم إنذارك وعدمه. وأظهر عندي مما قالوه أن المبتدأ بعد { سواء } مقدر يدل عليه الاستفهام الواقع معه وأن التقدير سواء جواب { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } وهذا يجري على نحو قول القائل علمت أزيد قائم إذ تقديره علمت جواب هذا السؤال، ولك أن تجعل { سواء } مبتدأ رافعاً لفاعل سد مسد الخبر لأن { سواء } في معنى مستو فهو في قوة اسم الفاعل فيرفع فاعلاً ساداً مسد خبر المبتدأ وجواب مثل هذا الاستفهام لما كان واحداً من أمرين كان الإخبار باستوائهما عند المخبر مشيراً إلى أمرين متساويين ولأجل كون الأصل في خبره الإفراد كان الفعل بعد سواء مؤولاً لا بمصدر ووجه الأبلغية فيه أن هذين الأمرين لخفاءِ الاستواء بينهما حتى ليسأل السائلون أفعل فلان كذا وكذا فيقال إن الأمرين سواء في عدم الاكتراث بهما وعدم تطلب الجواب على الاستفهام من أحدهما فيكون قوله تعالى { سواء عليهم أأنذرتهم } مشيراً إلى أن الناس لتعجبهم في دوام الكفار على كفرهم مع ما جاءهم من الآيات بحيث يسأل السائلون أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم متيقنين أنه لو أنذرهم لما ترددوا في الإيمان فقيل إنهم سواء عليهم جواب تساؤل الناس عن إحدى الأمرين، وبهذا انتفى جميع التكلفات التي فرضها النحاة هنا ونبرأ مما ورد عليها من الأبحاث ككون الهمزة خارجة عن معنى الاستفهام، وكيف يصح عمل ما بعد الاستفهام فيما قبله إذا أعرب سواء خبراً والفعل بعد الهمزة مبتدأ مجرداً عن الزمان، وككون الفعل مراداً منه مجرد الحدث، وكدعوى كون الهمزة في التسوية مجازاً بعلاقة اللزوم، وكون أم بمعنى الواو ليكون الكلام لشيئين لا لأحد شيئين ونحو ذلك، ولا نحتاج إلى تكلف الجواب عن الإيراد الذي أورد على جعل الهمزة بمعنى سواء إذ يؤول إلى معنى استوى الإنذار وعدمه عندهم سواء فيكون تكراراً خالياً من الفائدة فيجاب بما نقل عن صاحب «الكشاف» أنه قال معناه أن الإنذار وعدمه المستويين في علم المخاطب هما مستويان في عدم النفع، فاختلفت جهة المساواة كما نقله التفتزاني في «شرح الكشاف». | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويتعين إعراب سواء في مثله مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الاستفهام تقديره جواب هذا الاستفهام فسواء في الآية مبتدأ ثان والجملة خبر { الذين كفروا }. ودع عنك كل ما خاض فيه الكاتبون على «الكشاف»، وحرف على الذي يلازم كلمة { سواء } غالباً هو للاستعلاء المجازي المراد به التمكن أي إن هذا الاستواء متمكن منهم لا يزول عن نفوسهم ولذلك قد يجيء بعض الظروف في موضع على مع كلمة سواء مثل عند، ولدي، قال أبو الشغب العَبسي | **لا تَعذِلي في جُنْدُجٍ إنَّ جُنْدُجاً وليثَ كِفرّينِ لَدَىَّ سواء** | | | | --- | --- | --- | وسيأتي تحقيق لنظير هذا التركيب عند قوله تعالى في سورة الأعراف 193**{ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون }** ، وقرأ ابن كثير { أأنذرتهم } بهمزتين أولهما محققة والثانية مسهلة. وقرأ قالون عن نافع وورش عنه في روايَة البغداديين وأبو عمرو وأبو جعفر كذلك مع إدخال ألف بيْن الهمزتين، وكلتا القراءتين لغة حجازية. وقرأهُ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم. وروى أهل مصر عن ورش إبدال الهمزة الثانية ألفاً. قال الزمخشري وهو لحن، وهذا يضعّف رواية المصريين عن ورش، وهذا اختلاف في كيفية الأداء فلاينافي التواتر. { لاَ يُؤْمِنُونَ }. الأظهر أن هاته الجملة مسوقة لتقرير معنى الجملة التي قبلها وهي { سواء عليهم أأنذرتهم } الخ فلك أن تجعلها خبراً ثانياً عن إنّ واستفادة التأكيد من السياق ولك أن تجعلها تأكيداً وعلى الوجهين فقد فصلت إما جوازاً على الأول وإما وجوباً على الثاني، وقد فرضوا في إعرابها وجوهاً أُخر لا نكثر بها لضعفها، وقد جوز في «الكشاف» جعْل جملة { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } اعتراضاً لجملة { لا يؤمنون } وهو مرجوح لم يرتضه السعد والسيد، إذ ليس محل الإخبار هو { لا يؤمنون } إنما المهم أن يخبر عنهم باستواء الإنذار وعدمه عندهم، فإن في ذلك نداء على مكابرتهم وغباوتهم، وعذراً للنبي صلى الله عليه وسلم في الحرص على إيمانهم، وتسجيلاً بأن من لم يفتح سمعه وقلبه لتلقي الحق والرشاد لا ينفع فيه حرص ولا ارتياد، وهذا وإن كان يحصل على تقديره جعل { لا يؤمنون } خبراً إلا أن المقصود من الكلام هو الأوْلى بالإخبار، ولأنه يصير الخبر غير معتبر إذ يصير بمثابة أن يقال إن الذين كفروا لا يؤمنون، فقد عُلم أنهم كفروا فعدم إيمانهم حاصل، وإن كان المراد من { لا يؤمنون } استمرار الكفر في المستقبل إلا أنه خبر غريب بخلاف ما إذا جعل تفسيراً للخبر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد احتج بهاته الآية الذين قالوا بوقوع التكليف بما لا يطاق احتجاجاً على الجملة إذ مسألة التكليف بما لا يطاق بقيت زماناً غير محررة، وكانَ كل من لاح له فيها دليل استدل به، وكان التعبير عنها بعبارات فمنهم من يعنْوِنُها التكليف بالمحال، ومنهم من يعبر بالتكليف بما ليس بمقدور، ومنهم من يعبر بالتكليف بما لا يطاق، ثم إنهم ينظرون مرة للاستحالة الذاتية العقلية، ومرة للذاتية العادية، ومرة للعرضية، ومرة للمشقة القوية المحرجة للمكلف فيخلطونها بما لا يطاق ولقد أفصح أبو حامد الإسفراييني وأبو حامد الغزالي وأضرابهما عما يرفع القناع عن وجه المسألة فصارت لا تحير أفهاماً وانقلب قتادها ثماماً، وذلك أن المحال منه محال لذاته عقلاً كجمع النقيضين ومنه محال عادة كصعود السماء ومنه ما فيه حرج وإعنات كذبح المرء وَلده ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه، ومنه محال عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج، وكل هاته أطلق عليها ما لا يطاق كما في قوله تعالى { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } إذ المراد ما يشق مشقة عظيمة، وأطلق عليها المحال حقيقةً ومطابقة في بعضها والتزاماً في البعض، ومجازاً في البعض، وأطلق عليها عدم المقدور كذلك، كما أطلق الجواز على الإمكان، وعلى الإمكان للحكمة، وعلى الوقوع، فنشأ من تفاوت هاته الأقسام واختلاف هاته الإطلاقات مقالات ملأت الفضاء، وكانت للمخالفين كحجر المضاء، فلما قيض الله أعلاماً نفَوْا ما شاكها، وفتحوا أغلاقها، تبين أن الجواز الإمكاني في الجميع ثابت لأن الله تعالى يفعل ما يشاء لو شاء، لا يخالفُ في ذلك مسلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتف عندنا وعند المعتزلة وإن اختلفنا في تفسير الحكمة لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف به متعذر الوقوع. وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازاً ووقوعاً، وجل التكاليف لا تخلو من ذلك، وثبت ما هو أخص وهو رفعُ الحرج الخارجي عن الحد المتعارفِ، تفضلاً من الله تعالى لقوله**{ وما جعل عليكم في الدين من حرج }** الحج 78 وقوله**{ علم أن لن تحصوه فتاب عليكم }** المزمل 20 أي لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في «الأحكام». هذا ملاك هاته المسألة على وجه يلتئم به متناثرها، ويستأنس متنافرها. وبقي أن نبين لكم وجه تعلق التكليف بمن علم الله عدم امتثاله أو بمن أخبر الله تعالى بأنه لا يمتثل كما في هاته الآية، وهي أخص من مسألة العلم بعدم الوقوع إذ قد انضم الإخبار إلى العلم كما هو وجه استدلال المستدل بها، فالجواب أن من علم الله عدم فعله لم يكلفه بخصوصه ولا وَجَّه له دعوة تخصه إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خص أفراداً بالدعوة إلاَّ وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب حين جاءه، بقوله «أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إلٰه إلا الله» وقوله لأبي سفيان يوم الفتح قريباً من تلكم المقالة، وخص عمه أبا طالب بمثلها، ولم تكن يومئذٍ قد نزلت هذه الآية، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية وبالدليل العقلي، فلم يبق إلا أن يقال لماذا لم يخصَّص مَن عُلم عدم امتثاله من عموم الدعوة، ودَفْعُ ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرىء غيرهم ويضعف إقامة الحجة عليهم، ويوهم عدم عموم الرسالة، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل بين ما في قدَره وعلمه، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف، وسِرّ الحكمة في ذلك بيناه في مواضع يطول الكلام بجلبها ويخرج من غرض التفسير، وأحسب أن تفطنكم إلى مجمله ليس بعسير. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ)
بيـان قوله تعالى { إنَّ الذين كفروا } ، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وتمكن الجحود من قلوبهم، ويدل عليه وصف حالهم بمساواة الإِنذار وعدمه فيهم، ولا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الذين كفروا هم الكفار من صناديد قريش وكبراء مكة الذين عاندوا ولجَّوا في أمر الدين ولم يألوا جهداً في ذلك ولم يؤمنوا حتى أفناهم الله عن آخرهم في بدر وغيره، ويؤيده أن هذا التعبير وهو قوله { سواء عليهمٍ أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } ، لا يمكن استطراده في حق جميع الكفار وإلاَّ انسد باب الهداية القرآن ينادي على خلافه، وأيضاً هذا التعبير إنما وقع في سورة يس وهي مكية وفي هذه السورة وهي سورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة نزلت ولم تقع غزوة بدر بعد، فالأشبه أن يكون المراد من الذين كفروا، ها هُنا وفي سائر الموارد من كلامه تعالى كفار مكة في أول البعثة إلاَّ أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي، أن المراد من قوله تعالى { الذين آمنوا } ، فيما أطلق في القرآن من غير قرينة هم السابقون الأولون من المسلمين، خُصُّوا بهذا الخطاب تشريفاً. وقوله تعالى { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } " الخ " يشعر تغيير السياق حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إليهم أنفسهم بأن فيهم حجاباً دون الحق في أنفسهم وحجاباً من الله تعالى عقيب كفرهم وفسوقهم، فأعمالهم متوسطة بين حجابين من ذاتهم ومن الله تعالى، وسيأتي بعض ما يتعلق بالمقام في قوله تعالى { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً }. واعلم أن الكفر كالإِيمان وصف قابل للشدة والضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالإِيمان. بحث روائي في الكافي عن الزبيري عن الصادق عليه السلام قال قلت له أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عز وجل، قال الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة، وكفر النعم. فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول لا رب ولا جنة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية وهم الذين يقولون وما يهلكنا إلاَّ الدهر وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون قال عز وجل { إن هم إلاَّ يظنون } ، أن ذلك كما يقولون، وقال { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } ، يعني بتوحيد الله، فهذا أحد وجوه الكفر. وأما الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده، وقد قال الله عزّ وجلّ | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا }** النمل 14، وقال الله عزّ وجلّ**{ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين }** البقرة 89، فهذا تفسير وجهي الجحود، والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان**{ هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن يكفر فإن الله غني كريم }** النمل 14، وقال**{ لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }** إبراهيم 7. وقال**{ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون }** البقرة 152. والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز وجل به، وهو قوله عزّ وجلّ**{ وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإِثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }** البقرة 84-85، فكفّرهم بترك ما أمر الله عزّ وجلّ به ونسبهم إلى الإِيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال**{ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاَّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون }** البقرة 85. والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة وذلك قول الله عزّ وجلّ يحكي قول إبراهيم عليه السلام و**{ كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده }** الممتحنة 4، يعني تبرأنا منكم، وقال يذكر إبليس وتبريه من أوليائه من الإِنس يوم القيامة**{ إني كفرت بما أشركتمون من قبل }** إبراهيم 22، وقال**{ إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً }** العنكبوت 25، يعني يتبرأ بعضكم من بعض. أقول وهي في بيان قبول الكفر الشدة والضعف، كما مرّ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ)
ففى هاتين الآيتين بيان لأحوال طائفة ثانية من الناس، على الضد فى طبيعتها وأوصافها ومآلها من الطائفة الأولى التى فازت برضوان الله. والكفر - بالضم - ضد الإِيمان. وأصله المأخوذ منه الكفر - بالفتح - وهو ستر الشىء وتغطيته، ومنه سمى الليل كافراً، لأنه يغطى كل شىء بسواده، وسمى السحاب كافراً لستره ضوء الشمس. ثم شاع الكفر فى مجرد ستر النعمة، كأن المنعم عليه قد غطى النعمة بجحوده لها. ويستعمله الشارع فى عدم الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وسمى من لم يؤمن بما يجب الإِيمان به بعد الدعوة إليه - كافراً، لأنه صار بجحوده لذلك الحق وعدم الإِذعان إليه كالمغطى له. والمراد بالذين كفروا فى الآية التى معنا، طائفة معينة صمت آذانها عن الحق، عناداً وحسداً، وليس عموم الكافرين، لأن منهم من دخل في الإِسلام بعد نزول هذه الآية. وسواء اسم مصدر بمعنى الاستواء والمراد به اسم الفاعل أي مستو ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر، كما فى قوله - تعالى -**{ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }** أى مستوية. والإِنذار إخبار معه تخويف فى مدة تتسع للتحفظ من المخوف، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار، وأكثر ما يستعمل فى القرآن فى التخويف من عذاب الله - تعالى -. والمعنى إن الذين كفروا برسالتك يا محمد مستو عندهم إنذارك وعدمه، فهم لا يؤمنون بالحق، ولا يستجيبون لداعى الهدى، لسوء استعدادهم، وفساد فطرهم. وجاءت جملة " إن الذين كفروا مستأنفة ولم تعطف على ما قبلها لاختلاف الغرض الذى سيق له الكلام، إذ فى الجمل السابقة حديث عن الكتاب وآثاره وعظمته، وهنا حديث عن الكافرين وأحوالهم. وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال " فإن قلت لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله**{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }** وغيره من الآيات الكثيرة؟ قلت ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت. لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقه لذكر الكتاب وأنه هدى المتقين، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت فبين الجملتين تباين فى الغرض والأسلوب، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف ". وقوله { سَوَآءٌ } خبر إن و { عَلَيْهِمْ } متعلق به، و { أَأَنذَرْتَهُمْ } مؤول بمصدر فاعل سواء. أى إن الذين كفروا سواء عندهم إنذارهم وعدم إنذارهم وإنما استوى لديهم الإِنذار وعدمه مع أن الإِنذار إنما يواجههم به نبى قوى أمين مؤيد من الله - تعالى -، لأنهم لما جحدوا نعم الله، وعموا عن آياته، وحسدوا رسوله على ما آتاه الله من فضله، صاروا بسبب ذلك فى حضيض جمد معه شعورهم، وبرد فيه إحساسهم، فلا تؤثر فيهم موجعات القول، ولا تنفذ إلى قلوبهم بالغات الحجج. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فهم كما قال الشاعر | **لقد أسمعت إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادى** | | | | --- | --- | --- | ولم يذكر - سبحانه - التبشير مع الإِنذار، لأنهم ليسوا أهلا للبشارة، ولأن الإِنذار أوقع فى القلوب، والذى لا يتأثر به يكون عدم تأثره بغيره أولى. ولم يقل - سبحانه - سواء عليك أأنذرتهم أم لم تنذرهم.. الخ، لأنه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم لا يستوى الأمران، إذ هو فى حالة إنذاره لهم مثاب ومأجور، أما فى حالة عدم إنذاره فهو مؤاخذ من الله - تعالى - لأنه مكلف بتبليغ ما أنزل إليه من ربه. وجملة { لاَ يُؤْمِنُونَ } مفسرة لمعنى الجملة التى قبلها ومؤكدة لها، لأنه حيث كان الإِنذار وعدمه سواء، فلا يتوقع منهم الإِيمان. ولذلك فصلت. وفى هذه الجملة إخبار بعدم إيمانهم ألبتة، وذلك لأن حرف " لا " إذا دخل على الفعل المضارع - كما هنا - أفاد أن الفعل لا يقع في المستقبل حتى تقوم قرينة تقصر النفى فى المستقبل على وقت محدد. والحكمة في الإِخبار بعدم إيمان هذه الطائفة المعينة من الكفار، تسلية النبى صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون فى صدره حرج من تمردهم وعدم إيمانهم بعد أن قام بواجب دعوتهم، وفى ذلك تذكرة لكل داع مصلح بأن لا يحترق قلبه أسفاً على قوم أعرضوا عن سلوك الصراط المستقيم، بعد أن دعاهم إليه، وبذل قصارى جهده فى تبصيرهم وإرشادهم. ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الموانع التى حالت بينهم وبين الاهتداء إلى الحق فى الماضى والمستقبل فقال تعالى { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }. والختم الوسم بطابع ونحوه، مأخوذ من وضع الخاتم على الشىء وطبعه فيه للاستيثاق، لكى لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخله ما هو خارج عنه. قال القرطبى " والختم مصدر ختمت الشىء ختماً فهو مختوم مختم، شدد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشىء والاستيثاق منه، وقد يكون محسوساً كما فى ختم الكتاب والباب، وقد يكون معنوياً كالختم على القلوب... " والقلوب جمع قلب، وهو المضغة التى توجد بالجانب الأيسر من صدر الإِنسان، ويستعمل فى القوة العاقلة التى هى محل الفهم والعلم. والسمع مصدر سمع. ويطلق على الآلة التى يقع بها السمع. ولما كان الختم يمنع من أن يدخل فى المختوم عليه شىء، استعير لإِحداث هيئة فى القلب والسمع تمنع من خلوص الحق إليهما. الأبصار جمع بصر، وهو فى الأصل الإِدراك بالعين، ويطلق على القوة التى يقع بها الإِبصار، وعلى العين نفسها. وهذا المعنى أقرب ما تحمل عليه الأبصار فى الآية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهو الأنسب لأن تجعل عليه غشاوة. ومفاد الآية أن تصير أبصارهم بحيث لا تهتدى إلى النظر فى حكمة المخلوقات وعجائب المصنوعات. باعتبار وتدبر وحتى لكأنما جعلت عليها غشاوة. والغشاوة ما يغطى به الشىء، من غشاه إذا غطاه. يقال غشيه غشاوة - مثلثة - وغشاية. أى ستره وغطاه. فهذه الآية الكريمة تفيد عن طريق الاستعارة أو التمثيل أن هناك حواجز حصينة، وأقفالاً متينة قد ضربت على قلوبهم وعلى أسماعهم، وغشاوات مطبقة على أبصارهم حتى أصبحوا لا يخيفهم نذير ولا يرغبهم بشير. وعبر فى جانب القلب والسمع بالختم، وفى جانب البصر بالغشاوة، لمعنى سام، وحكمة رائعة، ذلك أن آفة البصر معروفة، إذ غشاوة العين معروفة لنا، فالتعبير فى جانب العين بالغشاوة مما يحدد لنا مدى عجزهم عن إدراك آيات الله بتلك الجارحة، وأما القلب والسمع فإنهما لما كانا لا تدرك آفتهما إلا بصعوبة، فقد صور لنا موانعهما عن الاستجابة للحق بصورة الختم. وعبر فى جانب القلب والسمع بجملة فعلية تفيد التجدد والحدوث، وفى جانب البصر بجملة اسمية تفيد الثبات والاستقرار، لأنهم قبل الرسالة ما كانوا يسمعون صوت نذير، ولا يواجهون بحجة، وإنما كان صوت النذير وصياغة البراهين بعد ظهور النبى صلى الله عليه وسلم. وأما ما يدرك بالبصر من دلائل وجود الله وآيات قدرته، فقد كان قائما فى السماوات وفى الأرض وفى الأنفس، ويصح أن يدرك قبل الرسالة النبوية، وأن يستدل به المتبصرون والمتدبرون على وجود ربهم وحكمته، فلم يكن عماهم عن آيات الله القائمة حادثاً متجدداً، بل هم قد صحبهم العمى من بدء وجودهم، فلما دعوا إلى التبصر والتدبر صمموا على ما كانوا عليه من عمى. وجمع القلوب والأبصار وأفرد السمع، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير، ومن حجة أو دليل، فكان عن ذلك تعدد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم، وكذلك شأن الناس فيما تنظره أبصارهم من آيات الله فى كونه، فإن أنظارهم تختلف فى عمق تدبرها وضحولته، فكان من ذلك تعدد المبصرين بتعدد مقادير ما يستطيعون تدبره من آيات الله فى الآفاق. وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعاً شىء واحد هى الحجة يناديهم بها المرسلون، والدليل يوضحه لهم النبيون. لذلك كان الناس جميعاً كأنهم على سمع واحد، فكان إفراد السمع إيذاناً من الله بأن حجته واحدة، ودليله واحد لا يتعدد. ونرى القرآن هنا قدم القلب فى الذكر على السمع، بينما فى سورة الجاثية قدم السمع فى الذكر على القلب فقال**{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }** وذلك لأنه - سبحانه - في سورة الجاثية قد ذكر الختم معطوفا على قوله " اتخذ إلهه هواه، ومن اتخذ إلهه هواه يكون أول ما يبدو منه للناس ويعرف هو إعراضه عن النصح، ولى رأسه عن استماع الحجة، فكان مظهر عدم السماع منه أول ما يبدو للناظرين، فلذلك قدم السمع على القلب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما آيتنا هذه وهى قوله - تعالى - { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } فقد جاءت إثر الآية المختومة بقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ }. والإِيمان تصديق يقوم على الحجة والبراهين، وإدراك الحجة والبرهان إنما هو بالقلب فكان التعليل المتصل الواضح لنفى الإِيمان أن قلوبهم مغلقة لا تنفذ إليها الحجة، أولا يتسرب إليها نور البرهان لذلك قدم القلب على السمع. هذا وقوله - تعالى - { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }..إلخ. لا ينفى عنهم تبعة الكفر، لأنهم هم الذين باشروا من فاسد الأعمال، وذميم الخصال، ومتابعة الهوى، ما نسج على قلوبهم الأغلفة السميكة، وأصم إلى جانب ذلك آذانهم وأعمى أبصارهم،**{ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }** ولعلماء الكلام كلام طويل حول هذه المسألة فليرجع إليه من شاء. ثم بين - سبحانه - ما يستحقونه من عذاب بسبب إغراقهم في الكفر. واستحبابهم للمعاصى فقال { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }. أى ولهم بسبب سوء أعمالهم عذاب موجع مؤلم لأبدانهم وأجسامهم. وأصل العذاب المنع، يقال عذب الفرس - كضرب - امتنع عن العلف. وعذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذب وعذوب. ثم أطلق على الإِيجاع الشديد لما فيه من المنع عن اقتراف الذنب. والعظيم الكبير، من عظم الشىء، وأصله كبر عظمه، ثم استعير لكل كبير محسوسا كان أو معقولا. ووصف العذاب بالعظيم على معنى أن سائر ما يجانسه من العذاب يكون بالنسبة إليه حقيراً هنيئاً. قال أبو حيان فى البحر وقد ذكروا فى هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعاً. الأول الخطاب العام اللفظ، الخاص المعنى. الثانى الاستفهام الذى يراد به تقرير المعنى فى النفس. أى يتقرر أن الانذار وعدمه سواء عندهم. الثالث المجاز ويسمى الاستعارة وهو فى قوله - تعالى - { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } وحقيقة الختم وضع محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم، والختم هنا معنوى فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير اسم المختوم عليه، فبين أنه من مجاز الاستعارة. الرابع الحذف وهو فى مواضع منها { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ.. } أى القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به، ومنها { لاَ يُؤْمِنُونَ } أى بالله وبما أخبرتهم به عنه. وإلى هنا يكون القرآن قد حدثنا عن طائفتين من الناس طائفة المتقين ومالها من جميل الصفات، وجزيل الثواب، وطائفة الكافرين ومالها من ذميم النعوت، وشديد العقاب. ثم ابتدأ القرآن بعد ذلك حديثه عن طائفة ثالثة ليس عندها إخلاص المتقين، وليس لديها صراحة الكافرين، وإنما هى طائفة قلقة مذبذبة لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، تلك الطائفة الثالثة هى طائفة المنافقين الذين فضحهم القرآن. وأماط اللئام عن خفاياهم وخداعهم فقال { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ...وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري (مـ 1921م)
شرح الكلمات: كفروا: الكفر: لُغة التغطية والجحود، وشرعاً التكذيب بالله وبما جاءت به رسلُه عنه كلا أو بعضا. سواء: بمعنى مُسْتَوٍ انذارهم وعدمه، إذ لا فائدة منه لحكم الله بعدم هدايتهم. أأنذرتهم: الإنذار: التخويف بعاقبة الكفر والظلم والفساد. ختم الله: طبع إذ الختم والطبع واحد وهو وضع الخاتم أو الطابع على الظرف حتى لا يعلم ما فيه، ولا يتوصل إليه فيبدل أو يغير. الغشاوة: الغطاء يغشَّى به ما يراد منع وصول شيء إليه. العذاب: الألم يزيد عذوبة الحياة ولذتها. مناسبة الآيتين لما قبلهما ومعناهما: لما ذكر أهل الإِيمان والتقوى والهداية والفلاح ذكر بعدهم أهل الكفر والضلال والخسران فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } إلخ فأخبر بعدم استعدادهم للإِيمان حتى استوى إنذارهم وعدمه وذلك لمضي سنة الله فيهم بالطبع على قلوبهم حتى لا تفقه، وعلى آذانهم حتى لا تسمع، وَيَجعلِ الغشاوة على أعينهم حتى لا تبصر، وذلك نتيجة مكابرتهم وعنادهم وإصرارهم على الكفر. وبذلك استوجبوا العذاب العظيم فحكم به عليهم. وهذا حكم الله تعالى في أهل العناد والمكابرة والإصرار في كل زمان ومكان. هداية الآيتين من هداية الآيتين: 1- بيان سنة الله تعالى في أهل العناد والمكابرة والإِصرار بأن يحرمهم الله تعالى الهداية وذلك بتعطيل حواسهم حتى لا ينتفعوا بها فلا يؤمنوا ولا يهتدوا. 2- التحذير من الإصرار على الكفر والظلم والفساد الموجب للعذاب العظيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ)
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [آية: 6]، يعنى لا يصدقون، { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } ، يعنى طبع الله على قلوبهم، فهم لا يعقلون الهدى، { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } ، يعنى آذانهم، فلا يسمعون الهدى، { وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } ، يعنى غطاء فلا يبصرون الهدى، { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [آية: 7]، يعنى وافر لا انقطاع له. نزلت هاتان الآيتان فى مشركى العرب، منهم: شيبة وعتبة ابنا ربيعة، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، اسمه عمرو، وعبدالله بن أبى أمية، وأمية بن خلف، وعمرو ابن وهب، والعاص بن وائل، والحارث بن عمرو، والنضر بن الحارث، وعدى بن مطعم بن عدى، وعامر بن خالد، أبو البحترى بن هشام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تيسير التفسير/ القطان (ت 1404 هـ)
المفردات الكُفر: ستر الشيء وتغطيته، ومن كفر فقد غطى الحقيقة وستر نعم الله عليه، وجحد الايمان. والختم: الطبع، كأنما خُتم على قلوبهم فلا ينفذ اليها الإيمان. والغشاوة: ما يغطى به الشيء. ان هؤلاء الكافرين ميئوس منهم، سواء أخوّفتهم يا محمد أم لم تفعل، فهم لا يؤمنون. لقد أُغلقت قلوبهم وطُبع عليها ففي سمعهم ثِقَل وعلى أعينهم حجاب. وذلك ما فسدت به فطرتهم من أوهامهم الضالة، وقصور استعدادهم لادراك الحق.**{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }** [فصّلت:5]. اولئك هم الكافرون، لهم عذاب أليم. فلا يؤثّر فيهم موعظة ولا تذكير ولا يرجى تغيير حالهم، ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم. هذه هي صورة الطائفة الثانية، وقد بين الله أوصافها في كثير من آيات القرآن وعبر عنها بالكافرين، والفاسقين، والخاسرين، والضالين، والمجرمين. والصورة الثالثة هي صورة المنافقين، الطائفة التي ظهرت في المدينة بعد الهجرة، وبعد أن تركّز المسلمون وقويت شوكتهم، فضعفت هذه الطائفة عن المجاهرة بالكفر والعناد. لذلك ظلوا كافرين في قلوبهم وإن ظهروا بين المسلمين كالمسلمين: يقولون كلمة التوحيد ويصلّون كما يفعل المسلمون. لقد ظنّوا أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين، ومن ثمَ اتخذوا لأنفسهم وجهين. وما ابتُلي المسلمون في أي زمان ومكان بشّرٍ من هذه الطائفة: انها تدبر المكائد، وتروّج الأكاذيب، وتنفث سموم الشر والفتن. وقد اهتم القرآن بالحديث عنهم، والتحذير منهم، حتى لا نكاد نجد سورة مدنية تخلو من ذكرهم، بل وقد نزلت فيهم سورة كاملة سميت باسمهِم " المنافقون ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ أَأَنذَرْتَهُمْ } (6) - أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، وَجَحَدُوا الحَقَّ وَسَتَرُوهُ، فَإِنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، سَوَاءٌ أَأَنْذَرْتَهُمْ وَخَوَّفْتَهُمْ عَاقِبَةَ بَغْيِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، لأَِنَّهُمْ لاَ تُؤَثِّرُ فِيهِم المَوْعِظَةُ. الكُفْرُ - هُوَ سَتْرُ الشَّيءِ وَتَغْطِيَتُهُ. سَوَاءٌ - مُسْتَوٍ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
وبعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين وصفاتهم، وجزائهم في الآخرة وما ينتظرهم من خير كبير.. أراد أن يعطينا تبارك وتعالى الصورة المقابلة وهم الكافرون.. وبين لنا أن الإيمان جاء ليهيمن على الجميع، يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة.. فلابد أن يكون هناك شر يحاربه الإيمان، ولولا وجود هذا الشر.. أكان هناك ضرورة للإيمان.. إن الإنسان المؤمن يقي نفسه ومجتمعه وعالمه من شرور يأتي بها الكفر. والكافرون قسمان: قسم كفر بالله أولاً ثم استمع إلى كلام الله، واستقبله بفطرته السليمة فاستجاب وآمن.. وصنف آخر مستفيد من الكفر ومن الطغيان ومن الظلم ومن أكل حقوق الناس وغير ذلك، وهذا الصنف يعرف أن الإيمان إذا جاء فإنه سيسلبه جاهاً دنيوياً ومكاسب يحققها ظلماً وعدواناً. إذن: الذين يقفون أمام الإيمان هم المستفيدون من الكفر، ولكن ماذا عن الذين كانوا كفارا واستقبلوا دين الله استقبالاً صحيحاً. هؤلاء قد تتفتح قلوبهم فيؤمنون. والكفر معناه الستر.. ومعنى كَفَرَ أي سَتَرَ.. وكفر بالله أي ستر وجود الله جل جلاله، والذي يستر لابد أن يستر موجوداً، لأن الستر طارئ على الوجود.. والأصل في الكون هو الإيمان بالله.. وجاء الكفار يحاولون ستر وجود الله. فكأن الأصل هو الإيمان ثم طرأت الغفلة على الناس فستروا وجود الله سبحانه وتعالى.. ليبقوا على سلطانهم أو سيطرتهم أو استغلالهم او استعلائهم على غيرهم من البشر. ولفظ الكفر في ذاته يدل على أن الإيمان سبق ثم بعد ذلك جاء الكفر.. كيف؟. سجود الملائكة وتعليم الأسماء أمر مشهدي بالنسبة لآدم.. والكفر ساعتها لم يكن موجوداً.. وكان المفروض أن آدم بعد أن نزل إلى الأرض واستقر فيها.. يلقن أبناءه منهج عبادة الله لأنه نزل ومعه المنهج في افعل ولا تفعل وكان على أبناء آدم أن يلقنوا أبناءهم المنهج وهكذا.. لأن الخلق الأول وهو آدم الذي خلقه الله بيديه.. ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة.. وعلمه الأسماء كلها. ولكن بمرور الزمن جاءت الغفلة في أن الإيمان يقيِّد حركة الناس في الكون.. فبدأ كل مَنْ يريد أن يخضع حياته لشهوة بلا قيود يتخذ طريق الكفر.. والعاقل حين يسمع كلمة كفر.. يجب عليه أن يتنبه إلى أن معناها ستر لموجود واجب الوجود.. فكيف يكفر الإنسان ويشارك في ستر ما هو موجود.. لذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول:**{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ \* هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | [البقرة: 29]. وهكذا يأتي هذا السؤال.. ولا يستطيع الكافر له جواباً!! لأن الله هو الذي خلقه وأوجده.. ولا يستطيع أحد منا أن يدَّعي أنه خلق نفسه أو خلق غيره، فالوجود بالذات دليل على قضية الإيمان، ولذلك يسألهم الحق تبارك وتعالى كيف تكفرون بالله وتسترون وجود مَنْ خلقكم؟. والخلق قضية محسومة لله سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يدَّعيها.. فلا يمكن أن يدَّعي أحد أنه خلق نفسه.. قضية أنك موجود توجب الإيمان بالله سبحانه وتعالى الذي أوجدك.. إنه عين الاستدلال على الله، وإذا نظر الإنسان حوله فوجد كل ما في الكون مسخراً لخدمته والأشياء تستجيب له فظن بمرور الزمن أن له سيطرة على هذا الكون.. ولذلك عاش وفي ذهنه قوة الأسباب.. يأخذ الأسباب وهو فاعلها فيجدها قد أعطته واستجابت له.. ولم يلتفت إلى خالق الأسباب الذي خلق لها قوانينها فجعلها تستجيب للإنسان، وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى ذلك في قوله جل جلاله:**{ كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ \* أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ }** [العلق: 6-7]. ذلك أن الإنسان يحرث الأرض فتعطيه الثمر.. فيعتقد أنه هو الذي أخضع الأرض ووضع لها قوانينها لتعطيه ما يريد.. يضغط على زر الكهرباء فينير المكان فيعتقد أنه هو الذي أوجد هذه الكهرباء! يركب الطائرة.. وتسير به في الجو فيعتقد أنه هو الذي جعلها تطير.. وينسى الخصائص التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الغلاف الجوي ليستطيع أن يحمل هذه الطائرة.. يفتح التليفزيون ويرى أمامه أحداث العالم فيعتقد أن ذلك قد حدث بقدرته هو.. وينسى أن الله تبارك وتعالى وضع في الغلاف الجوي خصائص جعلته ينقل الصوت والصورة من أقصى الدنيا إلى أقصاها في ثوان معدودة.. وهكذا كل ما حولنا يظن الإنسان أنه أخضعه بذاته.. بينما كل هذا مسخر من الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان.. وهو الذي خلق ووضع القوانين.. نقول له: إنك لو فهمت معنى ذاتية الأشياء ما حدثتك نفسك بذلك.. الشيء الذاتي هو ما كان بذاتك لا يتغير ولا يتخلف أبداً.. إنما الأمر الذي ليس بذاتك هو الذي يتغير. وإذا نظرت إلى ذاتيتك تلك التي أغرتك وأطغتك.. ستفهم أن كلمة ذاتية هي ألا تكون محتاجاً إلى غيرك بل كل شيء من نفسك.. وأنت في حياتك كلها ليس لك ذاتية.. لأن كل شيء حولك متغير بدون إرادتك، وأنت طفل محتاج إلى أبيك في بدء حياتك.. فإذا كبرت وأصبح لك قوة واستجابت الأحداث لك، فإنك لا تستطيع أن تجعل فترة الشباب والفتوة هذه تبقى، فالزمن يملك ولكن لفترة محدودة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | . فإذا وصلت إلى مرحلة الشيخوخة فستحتاج إلى مَنْ يأخذ بيدك ويعينك.. ربما على أدق حاجاتك وهي الطعام والشراب. إذن: فأنت تبدأ بالطفولة محتاجاً إلى غيرك.. وتنتهي بالشيخوخة محتاجاً إلى غيرك.. وحتى عندما تكون في شبابك قد يصيبك مرض يقعدك عن الحركة.. فإذا كانت لك ذات حقيقية فادفع هذا المرض عنك وقل: لن أمرض.. إنك لا تستطيع. الله سبحانه وتعالى أوجد هذه المتغيرات حتى ينتهي الغرور من نفس الإنسان.. ويعرف أنه قوي قادر بما أخضع الله له من قوانين الكون.. لنعلم أننا جميعاً محتاجون إلى القادر، وهو الله سبحانه وتعالى، وأنَّ الله غني بذاته عن كل خلقه.. يغير ولا يتغير.. يميت وهو دائم الوجود.. يجعل من بعد قوة ضعفاً وهو القوي دائماً.. ما عند الناس ينفد وما عنده تبارك وتعالى لا ينفد أبداً.. هو الله في السماوات والأرض. إذن: فليست لك ذاتية حتى تدَّعي أنك أخضعت الكون بقدراتك.. لأنه ليس لك قدرة أن تبقى على حال واحد وتجعله لا يتبدل ولا يتغير.. فكيف تكفر بالله تبارك وتعالى وتستر وجوده.. كل ما في الكون وما في نفسك شاهد ودليل على وجود الحق سبحانه وتعالى. قلنا: إن الكافرين صنفان: صنف كفر بالله وعندما جاء الهدى حكَّم عقله وعرف الحق فآمن.. والصنف الآخر مستفيد من الكفر.. ولذلك فهو متشبث به مهما جاءه من الإيمان والأدلة الإيمانية فإنه يعاند ويكفر.. لأنه يريد أن يحتفظ بسلطاته الدنيوية ونفوذه القائم على الظلم والطغيان.. ولا يقبل أن يُجَرَّدَ منهما ولو بالحق.. هذا الصنف هو الذي قال عنه الله تبارك وتعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6]. فهم لم يكفروا لأن بلاغاً عن الله سبحانه وتعالى لم يصلهم.. أو لأنهم لم يلفتهم رسول أو نبي إلى منهج الله.. فهؤلاء اتخذوا الكفر صناعة ومنهج حياة.. فهم مستفيدون من الكفر لأنه جعلهم سادة ولأنهم متميزون عن غيرهم بالباطل.. ولأنهم لو جاء الإيمان الذي يساوي بين الناس جميعاً ويرفض الظلم، لأصبحوا أشخاصاً عاديين غير مميزين في أي شيء. هذا الكافر الذي اتخذ الكفر طريقاً لجاه الدنيا وزخرفها.. سواء أنذرته أو لم تنذره فإنه لن يؤمن.. إنه يريد الدنيا التي يعيش فيها، بل إن هؤلاء هم الذين يقاومون الدين ويحاربون كل مَنْ آمن.. لأنهم يعرفون أن الإيمان سيسلبهم مميزات كثيرة، ولذلك فإن عدم إيمانهم ليس لأن منهج الإيمان لم يبلغهم، أو أن أحداً لم يلفتهم إلى آيات الله في الأرض، ولكن لأن حياتهم قائمة ومبنية على الكفر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ }: الآية، " إنَّ " حرفُ توكيدٍ ينصب الاسمَ ويرفع الخبرَ خلافاً للكوفيين بأنَّ رفعَه بما كان قبلَ دخولها وتُخَفَّف فتعملُ وتُهْمَلُ، ويجوز فيها أن تباشِرَ الأفعالَ، لكن النواسخَ غالباً، وتختصُّ بدخولِ لامِ الابتداءِ في خبرها أو معمولِه المقدَّمِ أو اسمِها المؤخر، ولا يتقدَّم خبرُها إلا ظرفاً أو مجروراً، وتختصُّ أيضاً بالعطفِ على مَحلِّ اسمِها. ولها ولأخواتِها أحكامٌ كثيرة لا يليقُ ذكرُها بهذا الكتابِ. و { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } اسمُها، و " كفروا " صلةٌ وعائدٌ و " لا يؤمنون " خبرُها، وما بينهما اعتراضٌ، و " سواءٌ " مبتدأ، و " أأنذرتهم " وما بعده في قوة التأويل بمفرد/ هو الخبرُ، والتقدير: سواءٌ عليهم الإِنذارُ وعدمهُ، ولم يُحْتَجْ هنا إلى رابط لأن الجملة نفسُ المبتدأ. ويجوز أن يكون سواءٌ " خبراً مقدماً، و " أنذرتهم " بالتأويل المذكور مبتدأٌ مؤخرٌ تقديرُه: الإِنذارُ وعدمُه سواءٌ. وهذه الجملة يجوز فيها أن تكونَ معترضةً بين اسم إنَّ وخبرِها وهو " لا يؤمنون " كما تقدَّم، ويجوز أن تكونَ هي نفسُها خبراً لإِن، وجملة " لا يؤمنون " في محلِّ نَصْب على الحال أو مستأنفةٌ، أو تكونَ دعاءً عليهم بعدم الإِيمانِ وهو بعيدٌ، أو تكونَ خبراً بعد خبر على رَأْيِ مَنْ يُجَوِّز ذلك، ويجوز أن يكونَ " سواءٌ " وحده خبرَ إنَّ، و " أأنذرتَهُم " وما بعده بالتأويل المذكور في محلِّ رفع بأنه فاعلٌ له: والتقديرُ: استوى عندهم الإِنذارُ وعدمُه، و " لا يؤمنون " على ما تقدَّم من الأوجه، أعنى الحالَ والاستئناف، والدعاءَ والخبريةَ. والهمزةُ في " أأنذرتَهُمْ " الأصلُ فيها الاستفهامُ وهو هنا غيرُ مرادٍ، إذ المرادُ التسويةُ، و " أأنْذَرْتَهم " فعل وفاعل ومفعول. و " أم " هنا عاطفةٌ وتٌُسَمَّى متصلةً، ولكونها متصلةٌ شرطان، أحدُهما: أن يتقدَّمها همزةُ استفهامٍ أو تسويةٍ لفظاً أو تقديراً، والثاني: أن يكونَ ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية، فإنَّ الجملةَ فيه بتأويلِ مفردٍ كما تقدَّم وجوابُها أحدُ الشيئين أو الأشياء، ولا تُجَاب بنَعَمْ ولا بـ " لا ". فإنْ فُقِدَ شرطٌ سُمِّيتْ منقطعةً ومنفصلةً. وتُقَدَّر بـ بل والهمزةِ، وجوابُها نعم أَوْلا، ولها أحكامٌ أُخَرُ. و " لم " حرفُ جزمٍ معناه نَفْيُ الماضي مطلقاً خلافاً لِمَنْ خَصَّها بالماضي المنقطع، ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى:**{ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً }** [مريم: 4]**{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }** [الإخلاص: 3]، وهذا لا يُتَصَوَّر فيه الانقطاعُ، وهي من خواصِّ صيغ المضارع إلا أنها تَجْعَلُه ماضياً في المعنى كما تقدَّم، وهل قَلَبَت اللفظَ دون المعنى، أم المعنى دونَ اللفظ؟ قولان أظهرهُما الثاني، وقد يُحْذَفُ مجزومُها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | والكَفْر: السِّتْر، ومنه سُمِّي الليل كافراً، قال: | **137ـ فَوَرَدَتْ قبلَ انبلاجِ الفجرِ** | | **وابنُ ذُكَاءٍ كامِنٌ في كَفْرِ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **138ـ.......................** | | **أَلْقَتْ ذُكاءُ يمينَها في كافِر** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **139ـ......................** | | **في ليلةٍ كَفَر النجومَ غَمامُها** | | --- | --- | --- | و " سواء " اسمٌ بمعنى الاستواء فهو اسمُ مصدرٍ ويُوصف على أنه بمعنى مُسْتوي، فيتحمَّل حينئذ ضميراً، ويَرْفع الظاهرَ، ومنه قولُهم: مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ " برفع " العَدَم " على أنه معطوفٌ على الضمير المستكِّن في " سواء " ، وشذَّ عدمُ الفصل، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع: إمَّا لكونِه في الأصل مصدراً، وإمَّا للاستغناء عن تثنيته بتثنيةِ نظيرهِ وهو " سِيّ " بمعنى مِثْلَ، تقول: " هما سِيَّان " أي مِثْلان، قال: | **140ـ مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها** | | **والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ** | | --- | --- | --- | على أنه قد حُكي " سواءان " وقال الشاعر: | **141ـ وليلٍ تقول الناسُ في ظُلُماته** | | **سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها** | | --- | --- | --- | فسواءٌ خبر عن جمع وهو " صحيحات ". وأصله العَدْل. قال زهير: | **142ـ أَرُونا سُبَّةً لا عيبَ فيها** | | **يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ** | | --- | --- | --- | أي: يَعْدِل بيننا العَدْلُ، وليس هو الظرفَ الذي يُستثنى به في قولك: قاموا سَواءَ زيد، وإنْ شاركه لفظاً. ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغاتِ الأربعَ المشهورةَ في " سواء " المستثنى به، وهذا عجيبٌ فإن هذه اللغاتِ في الظرفِ لا في " سواء " الذي بمعنى الاستواء. وأكثر ما تجيء بعده الجملة المصدَّرة بالهمزةِ المعادَلَة بأم كهذه الآية، وقد تُحْذَف للدلالةِ كقوله تعالى:**{ فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ }** [الطور: 16] أي: أصبرتم أم لم تصبروا، وقد يليه اسمُ الاستفهام معمولاً لما بعده كقولِ علقمة: | **143ـ سَواءٌ عليه أيَّ حينٍ أتيتَه** | | **أساعَة نَحْسٍ تُتَّقى أم بأَسْعَدِ** | | --- | --- | --- | فأيُّ حين منصوبٌ بأتيتَه، وقد يُعَرَّى عن الاستفهام وهو الأصلُ نحو: | **144ـ.......................** | | **سواءٌ صحيحاتُ العيون وعُورُها** | | --- | --- | --- | والإِنذار: التخويفُ. وقال بعضهم: هو الإِبلاغ، ولا يكاد يكونُ إلا في تخويف يَسَعُ زمانُه الاحترازَ، فإنْ لم يَسَعْ زمانُه الاحترازَ فهو إشعارٌ لا إنذارٌ قال: | **145ـ أنذَرْتُ عَمْرَاً وهو في مَهَل** | | **قبلَ الصباحِ فقد عصىٰ عَمْرُو** | | --- | --- | --- | ويتعدَّى لاثنين، قال تعالى:**{ إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً }** [النبأ: 40]**{ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً }** [فصلت: 13] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديرُه: أأنذرْتَهُمُ العذابَ أم لم تُنْذِرْهم إياه، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ كما تقدَّم في نظائره. والهمزةُ في " أَنْذَرَ " للتعدية، وقد تقدَّم أنَّ معنى الاستفهام هنا غيرُ مرادٍ، فقال ابن عطية: " لفظهُ لفظُ الاستفهامِ ومعناه الخبرُ، وإنما جَرَىٰ عليه لفظُ الاستفهام لأنَّ فيه التسويةَ التي هي في الاستفهامِ، ألا ترىٰ أنَّك إذا قلتَ مُخْبراً: " سواءٌ عليَّ أقمت أم قَعَدْتَ " ، وإذا قلتَ مستفهماً: " أَخَرَجَ زيدٌ أم قامَ "؟ فقد استوى الأمران عندكَ، هذان في الخبر وهذان في الاستفهام، وعَدَمُ عِلْمِ أحدِهما بعينِه، فَلمَّا عَمَّتْهُما التسويةُ جرى على الخبر لفظُ الاستفهامِ لمشاركتِه إياه في الإِبهام، فكلُّ استفهامٍ تسويةٌ وإنْ لم تكن كلُّ تسويةٍ استفهاماً " وهو كلامٌ حسنٌ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | إلا أنَّ الشيخَ ناقشه في قوله: " أأنْذَرْتَهُم أم لم تنذرْهم لفظُه لفظُ الاستفهام ومعناه الخبر " بما معناه: أنَّ هذا الذي صورتُه صورةُ استفهامٍ ليس معناه الخبرَ لأنه مقدَّرٌ بالمفردِ كما تقدَّم، وعلى هذا فليس هو وحدَه في معنى الخبر/ لأنَّ الخبرَ جملةٌ وهذا في تأويل مفردٍ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ. ورُوِيَ الوقفُ على قولِهِ " أم لم تُنذِرْهم " والابتداء بقوله: " لا يؤمنون " على أنها جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وهذا ينبغي أن يُرَدَّ ولا يُلْتفتَ إليه، وإنْ كانَ قد نقله الهذلي في " الوقف والابتداء " له. وقرئ " أَأَنْذَرْتَهُمْ " بتحقيقِ الهمزتين وهي لغةُ بني تميمٍ، وبتخفيف الثانية بينَ بينَ وهي لغةُ الحجازِ، وبإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً، ومنه: | **146ـ أيا ظبيةَ الوَعْساء بين جُلاجِلٍ** | | **وبين النقا آأنتِ أَمْ أمُّ سالمِ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **147ـ تطَالَلْتُ فاسْتَشْرَفْتُه فَعَرَفْتُهُ** | | **فقلت له آأنتَ زيدُ الأرانبِ** | | --- | --- | --- | وروي عن ورش إبدالُ الثانيةِ ألِفاً مَحْضة، ونسب الزمخشري هذه القراءة للَّحْنِ، قال: " لأنه يؤدي إلى الجمع بين ساكنين على غير حَدَّهما، ولأن تخفيفَ مثلِ هذه الهمزةِ إنما هو بينَ بينَ " وهذا منه ليس بصواب لثبوت هذه القراءة تواتراً، وللقرَّاء في نحو هذه الآية عَمَلٌ كثيرٌ وتفصيلٌ منتشر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى صفاتِ المؤمنين في الآيات السابقة، أعقبها بذكر صفات الكافرين، ليظهر الفارق الواضح بين الصنفين، على طريقة القرآن الكريم في المقارنة بين الأبرار والفجار، والتمييز بينَ أهل السعادة وأهل الشقاوة " وبضدها تتميز الأشياء ". التفسِير: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي إِن الذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ } أي يتساوى عندهم { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } أي سواءٌ أَحذرتهم يا محمد من عذاب الله وخوفتهم منه أم لم تحذرهم { لاَ يُؤْمِنُونَ } أي لا يصدقون بما جئتهم به، فلا تطمع في إِيمانهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه له... ثم بيَّن تعالى العلة في سبب عدم الإِيمان فقال { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } أي طبع على قلوبهم فلا يدخل فيها نور، ولا يُشرق فيها إِيمان قال المفسرون: الختمُ التغطيةُ والطبعُ، وذلك أن القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طمست نور البصيرة فيها، فلا يكون للإِيمان إِليها مسلكٌ، ولا للكفر عنها مخلص كما قال تعالى:**{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء: 155] { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } أي وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم غطاء، فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون، لأن أسماعهم وأبصارهم كأنها مغطَّاة بحجب كثيفة، لذلك يرون الحقَّ فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه قال أبو حيان: شبَّه تعالى قلوبهم لتأبيها عن الحقِّ، وأسماعهم لإِضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغطَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، وذلك لأنها كانت - مع صحتها وقوة إِدراكها - ممنوعة عن قبول الخير وسماعه، وتلمح نوره، وهذا بطريق الاستعارة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } أي ولهم في الآخِرة عذاب شديدٌ لا ينقطع، بسبب كفرهم وإِجرامهم وتكذيبهم بآيات الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
يقول تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي غطوا الحق وستروه، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به كما قال تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ \* وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ }** [يونس: 96-97] أي إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له، ومن أضله فلا هادي له، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلغهم الرسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا يهمنك ذلك**{ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ }** [الرعد: 40]. وعن ابن عباس في قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ... } الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأول، ولا يضلّ إلاّ من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول. وقوله تعالى: { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مؤكدة للتي قبلها أي هم كفّار في كلا الحالين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ)
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن كأبي جهل، فإن كان الذين للجنس: فلفظها عام يراد به الخصوص، وإن كان للعهد فهو إشارة إلى قوم بأعيانهم، وقد اختلف فيهم؛ فقيل: المراد من قتل ببدر من كفار قريش، وقيل: المراد حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديان { سَوَآءٌ } خبر إن و { أَأَنذَرْتَهُمْ } فاعل به لأنه في تقدير المصدر، وسواء مبتدأ، وأنذرتهم خبره أو العكس وهو أحسن، و { لاَ يُؤْمِنُونَ } على هذه الوجوه: استئنافاً للبيان، أو للتأكيد، أو خبر بعد خبر، أو تكون الجملة اعتراضاً، ولا يؤمنون الخبر، والهمزة في ءأنذرتهم لمعنى التسوية قد انسلخت من معنى الاستفهام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير النهر الماد / الأندلسي (ت 754 هـ)
والكفر: الستر. وسواء: اسم بمعنى استواء مصدر إستوى وقد يوصف به بمعنى مستو. و " الانذار ": الاعلام مع التخويف. والهمزة في أأنذرتهم للتسوية. " والختم " الوسم بطابع أو غيره. " والقلب " اللحمة الصنوبريّة سميت بالمصدر. " السمع " مصدر سمع. وكني به عن الأذن. " البصر " العين. " والغشاوة " الغطاء. و " العذاب " أصله الاستمرار في الألم ولما ذكر أوصاف المتقين المؤدية بهم إلى الفوز ذكر أوصاف الكافرين المؤدية بهم إلى العذاب وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم والظاهر أن الذين كفروا للجنس ملحوظاً فيه قيد وهو أن يقضي عليه بالكفر والموافاة عليه ويحتمل أن يكون لمعيّنين ممن وافى على الكفر كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما. وسواء وما تعلق به جملة اعتراض فلا موضع لها من الاعراب. وسواء مبتدأ والجملة الداخلة عليها الهمزة خبر عن سواء وجوزوا العكس. ولا يؤمنون خبران وجملة الاعتراض لتأكيد مضمون جملة ان وخبرها، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره أو يكون خبر ان سواء والجملة التي فيها الهمزة في موضع الفاعل عند من يجيز أن تكون الجملة فاعلة. أو سواء مبتدأ وما بعده خبره أو العكس. ولا يؤمنون خبر بعد خبر أو على إضمار مبتدأ تقديره هم لا يؤمنون، أولاً موضع لها من الاعراب فتكون تفسيرية لأن عدم الإِيمان استواء الانذار وعدمه. وقرىء أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم، وبتسهيل الثانية وهي لغة الحجاز، وبإدخال ألف بينهما حققت الثانية أو سهلت، وبإِبدال الثانية ألفاً وقد أنكره الزمخشري وزعم أنه لحن، وقرىء بحذف الهمزة الأولى وبحذفها ونقل حركتها إلى الميم الساكنة قبلها، ومفعول أأنذرتهم الثاني محذوف تقديره العذاب على كفرهم والظاهر أن لا يؤمنون. وختم خبر لادعاء. والختم على القلب كني به عن كونه لا يقبل شيئاً من الحق استعار المحسوس للمعقول. أو مثل القلب بالدعاء الذي ختم عليه صوتاً لما فيه ومنعاً لغيره من الدخول إليه. وقيل: الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه. وإسناد الختم إلى الله حقيقة لا مجاز كما تأوله الزمخشري. وعلى سمعهم معطوف على قلوبهم لا انه مشارك السمع للأبصار في الغشاوة وان جوزوه وأفرد السمع لكونه لمح فيه الأصل وهو المصدر، أو للإِستغناء بالمفرد عن الجمع لدلالة ما قبله وما بعده عليه، أو على حذف مضاف أي وعلى حواس سمعهم. وقرى: وعلى أسماعهم، والمشهور في قراءة غشاوة - بكسر الغين ورفع التاء - فتضمن الكلام إسنادين فعلية وإسمية ليدلا على التجدد والثبوت وقدمت الفعلية لأن ذلك قد فرغ منه ووقع وقدم خبر الاسمية ليطابق الفعلية في تقديم المحكوم به على المحكوم عليه. وقرىء غشاوة - بالنصب - أي وجعل. وقرىء غشاوة - بضم الغين ورفع التاء وبفتحها والنصب وسكون الشين -. وعشوة وعشية وعشاوة - بالعين المهملة - من العشا وهو شبه العمى في العين. وتقديم القلوب من باب التقديم بالشرف وهو أحد التقديمات الست ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة من العذاب ولما كان أعد لهم ذلك صيروا كان العذاب ملك لهم لازم. و " العظيم " أصله للجثة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، يعني مشرِِكِي العرب. وقال الضحَّاك: (نَزَلَتْ فِي أبي جَهْلٍ وَخَمْسَةٍ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ). وقال الكلبيُّ: (يَعْنِي الْيَهُودَ) وقيل: الْمُنَافِقِيْنَ. والكفرُ: هو الجحودُ والإنكارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { ءَأَنذَرْتَهُمْ } الإنذارُ: التحذيرُ والتخويفُ. { أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وهذه الآيةُ خاصَّةٌ فيمن حقَّت عليه كلمةُ العذاب والشقاوةِ في سابق علمِ الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ }. هذه الآية نزلت في قوم سبق في علم الله فيهم أنهم لا يؤمنون، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الإنذار لا ينفعهم لما سبق لهم في علمه، وَثَمَّ كفار أُخَر نفعهم الإنذار فآمنوا لما سبق لهم في علم الله سبحانه من الإيمان به، فالآية عامة في ظاهر اللفظ يراد به الخصوص، فهي في من تقدم له في علم الله أنه لا يؤمن خاصة، ومثله**{ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ }** [الكافرون: 3]. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إيمان جميع الخلق، فأعلمه الله عز وجل في هذه الآية أن من سبق له في علم الله [سبحانه الكفر والثبات عليه] إلى الموت لا يؤمن ولا ينفعه الإنذار، وأن الإنذار وتركه سواء عليه. وهذا مما يدل على ثبات القدر بخلاف ما تقوله المعتزلة. وقيل: نزل ذلك في قادة الأحزاب، وهم الذين نزل فيهم**{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ / بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً }** [إبراهيم: 28] الآية. وهم الذين قتلوا يوم بدر، قال ذلك الربيع بن أنس. وقال ابن عباس: " نزلت في اليهود الذين جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكباراً وحسداً مع معرفتهم أنه نبي صلى الله عليه وسلم ". وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مع أصحابهما من رؤساء اليهود الذين دخلوا على النبي [عليه السلام] وسألوه عن { الۤـمۤ \* ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } ". وقيل: هي عامة في كل كافر تقدم له في علم الله أنه لا يؤمن. وأصل الكفر التغطية. ومنه قيل لِلّيل: كافر، لأنه يستر بظلمته ما فيه. ويقال للزراع: كفّار، لأنهم يسترون الحب في الأرض، ومنه قوله**{ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ }** [الفتح: 29]. ومنه قولهم: " كَفّارَةُ اليمين ". لأنها تستر الإثم عن الحالف، ومنه سمي الكافر لأنه يستر الإيمان بجحوده. ومعنى لفظ الاستفهام في / { ءَأَنذَرْتَهُمْ } للتسوية، وهو في المعنى خبر، لكن التسوية تجري في اللفظ مجرى لفظ الاستفهام، والمعنى [على الخبر]، تقول: " سواء عليَّ أقمت أم قعدت. وإنما صار لفظ التسوية مثل لفظ الاستفهام للمضارعة التي بينهما، وذلك أنك إذا قلت: " قد علمت أزيد في الدار أم عمرو " ، فقد سويت علم المخاطب فيهما، فلا يدري أيهما في الدار، وقد اسْتَوَى علمك في ذلك، وتدري أحدهما في الدار ولا تدريه بعينه. فهذا تسوية. وتقول في الاستفهام: " أزيد في الدار أم عمرو؟ " ، فأنت لا تدري أيهما في الدار، وقد استوى علمك في ذلك وتدري أن أحدهما في الدار، ولا تدري عينه منهما، فقد صار الاستفهام كالتسوية في عواقب الأمور، غير أن التسوية إبهام على المخاطب وعلم يقين عند المتكلم، والاستفهام إبهام على المتكلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | ويجوز أن يكون المخاطب مثل المتكلم في ذلك، ويجوز أن يكون عنده يقين ما سئل عنه. فاعرف الفرق بينهما. وقوله: { ءَأَنذَرْتَهُمْ } ، فيه عشرة أوجه. - الأول: تحقيق الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية بين الهمزة والألف. وهي لغة قريش وكنانة، وهي قراءة ورش عن نافع وابن كثير. - والثاني تحقيق الأولى وبدل الثانية بألف، وهو مروي عن ورش وفيه ضعف. - والثالث: تحقيق الهمزيين وهي قراءة أهل الكوفة، وابن ذكوان عن ابن عامر. - والرابع: حذف الهمزة الأولى وتحقيق الثانية. وهو مروي عن الزهري، وهي قراءة ابن محيصن، وذلك لأن " أم " تدل على الألف المحذوفة. - والخامس: تحقيقهما جميعاً وإدخال ألف بينهما. وبذلك قرأ ابن أبي إسحاق. - والسادس: تحقيق الأولى، وتخفيف الثانية بين الهمزة والألف، وإدخال ألف بينهما. وبذلك قرأ أبو عمرو، وقالون، وإسماعيل بن جعفر عن نافع، وهشام بن عمار عن ابن عامر. - والسابع: ذكره أبو حاتم قال: " يجوز أن تدخل بينهما أيضاً، وتحذف الثانية " ، فيصير لفظ هذا الوجه كلفظ الوجه الثاني المذكور. - والثامن: ذكره الأخفش قال: " يجوز أن تخفف الأولى منهما وتحقق الثانية " ، ولم يقرأ بهذا أحد، وهو بعيد ضعيف لأن الاستثقال لا يقع في أول الكلام، ولأن الهمزة المخففة بين بين، لا يبتدأ بها إلا أن تريد أن تصل الهمزة بما قبلها وتلقي حركتها على الميم الساكنة قبلها، فهو قياس، وليس عليه عمل. - والتاسع: ذكره أبو حاتم أيضاً قال: " يجوز أن تخفف الهمزتين ". وهو بعيد، ولم يقرأ به أحد، وله قياس إذا وصلت كلامك، فتلقي / حركة الأولى على الميم الساكنة قبلها، وتخفف الثانية بين بين، وهو بعيد جداً. - والعاشر: ذكره الأخفش أيضاً؛ قال: " يجوز أن تبدل من الأولى هاء، فتقول: " هانْذَرْتَهُمْ ". ولم يقرأ به أحد ومخالف للخط، وقياسه في العربية جيد. ويجوز مع بدل الأولى " بهاء " أن تحقق الثانية وأن تخففها، وتدخل بين الهمزة والهاء ألفاً، وأن تحقق الثانية وتدخل بينهما ألفاً، فتبلغ الوجوه إلى أربعة عشر وجهاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ)
وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }. هذا - والله أعلم - في قوم خاص، عَلِمَ الله أَنهم لا يؤمنون فأَخبر عز وجل رسولَه بذلك، فكان كما قال. وفيه آية النُّبوَّة. ويحتمل أَيضاً: أَنهم لا يؤمنون ما داموا في كفرهم؛ كقوله:**{ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }** [البقرة: 258، آل عمران: 86، التوبة: 19، 109، الصف: 7، الجمعة: 5] والكافرون ما داموا كافرين ظالمون. وقوله: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }. روي عن الحسن: " إن للكافر حدا إذا بلغ ذلك الحد، وعلم الله منه أنه لا يؤمن، طبعَ على قلبه حتى لا يؤمن ". وهذا فاسد على مذهب المعتزلة لوجهين: أحدهما: أَن مذهبهم أَن الكافر مكلف، وإن كان قلبه مطبوعاً عليه. والثاني: أن الله - عز وجل - عالم بكل من يؤمن في آخر عمره، وبكل من لا يؤمن أَبداً، بلغ ذلك الحد أَو لم يبلغ. فعلى ما يقوله الحسن إيهام أَنه لا يعلم ما لم يبلغ ذلك. والمعتزلةُ يقولون: إن قوله: { خَتَمَ } ، و { طَبَعَ } يُعلم عَلاَمةً في قلبه أَنه لا يؤمن كإعلام الكتب والرسائل. ولكن عندنا: خلق ظلمة الكفر في قلبه. والثاني: خلق الختم والطبع على قلبه [إذا فَعَل فِعْل الكفر؛ لأَن] فِعْل الكفر من الكافر مخلوق عندنا، فخلق ذلك الختم عليه؛ وهو كقوله:**{ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً }** [الإسراء: 46] أي: خلق الأَكنة. وغيرهِ من الآيات. والأَصل في ذلك: أَنه ختم على قلوبهم لما تركوا التأَمل، والتفكر في قلوبهم فلم يقع، وعلى سمعهم لما لم يسمعوا قول الحق والعدل، خلق الثقل عليه، وخلق على أَبصارهم الغطاءَ لما لم ينظروا في أَنفسهم، ولا في خلق الله ليعرفوا زوالها وفناءَها وتغير الأحوال؛ ليعلموا أن الذي خلق هذا دائِم لا يزول أَبداً. وقوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }. إخبار منهم أنهم قالوا ذلك بأَلسنتهم قولا، وأَظهروا خلاف ما في قلوبهم؛ فأَخبر عز وجل نبيّه عليه الصلاة والسلام: أَنهم ليسوا بمؤمنين، أي: بمصدقين بقلوبهم. وكذلك قوله:**{ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ }** [المائدة: 41]. وكذلك قوله:**{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ... }** الآية [النساء: 65]. هذه الآيات كلها تنقض على الكراميَّةِ؛ لأَنهم يقولون: الإِيمان قول باللسان دون التصديق. فأَخبر الله - عز وجل - عن جملة المنافقين أَنهم ليسوا بمؤمنين لما لم يأْتوا بالتصديق، وهذا يدل على أن الإِيمان تصديق بالقلب. والكراميّة يقولون: بل هم مؤمنون. وقوله: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا }. لا يقصد أحد مخادعة الله، لكنهم كانوا يقصدون مخادعة المؤمنين، وأَولياءِ الله، فأَضاف الله عز وجل ذلك إلى نفسه؛ لعِظم قدرهم، وارتفاع منزلتهم عند الله؛ وهو كقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ }** [محمد: 7]، والله لا يحتاج أَن ينصر، ولكن كأَنه قال: إن تنصروا أولياء الله ينصركم؛ وهو كقوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }** [الفتح: 10] والله لا يُبايَع، ولكن إضافة ذلك إلى نفسه؛ لعظم قدر نبيه، وعلو منزلته عند الله تعالى، فكذلك الأَول أَضاف مخادعتهم أَولياءَه إلى نفسه لعلو منزلتهم عند الله وقدرهم لديه. والمخادعة هو فعل اثنين؛ لخداع هؤلاءِ بحضور المؤمنين؛ لذلك المعنى ذكر المفاعلة. والله أعلم. وقوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }. الأول: أي حاصل خداعهم، ووباله يرجع إليهم. والثاني: أنهم يُظهرون لهم الموافقة ليأْمنوا، فلحقهم خوف دائم بذلك الخداع في الدنيا. وقوله: { وَمَا يَشْعُرُونَ }. الأَول: أي: ما يشعرون أَن حاصل الخداع يرجع إليهم في الآخرة. والثاني: ما يشعرون أَن الله يظهر، ويطلع نبيه على ما أَضمروا هم في قلوبهم، و الله أعلم. وقوله: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }. يقال: شكٌ ونفاق؛ سَمَّى عز وجل المنافقين مرضى؛ لاضطرابهم في الدين؛ لأَنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بالقول، ويضمرون الخلاف لهم بالقلب؛ فكان حالهم كحال المريض الذي هو مضطرب بين الموت والحياة؛ إذ المريض يشرف - ربما - على الموت، ويرجو الإقبال عليه منه ثانياً؛ فهو مضطرب بين ذلك، فكذلك هم، لما كانوا مضطربين في دينهم سماهم مرضى. وأما سائِر الكفرة فإنهم لم يضطربوا في الدين، بل أَظهروا بالقول على ما أَضمروا بالقلب؛ فسماهم موتى، لما لم ينتفعوا بحياتهم، ولم يكتسبوا الحياة الدائمة. وسمى المؤمنين أَحياء؛ لما انتفعوا بحياتهم، واكتسبوا الحياة الدائمة، لموافقتهم باللسان والقلب جميعاً لدين الله - عز وجل - والله أعلم. وقوله: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً }. اختلف في تأْويله: قالت المعتزلة: هو التخلية بينهم وبين ما اختاروا. وأما عندنا: فهُو على خلق أَفعال زيادة الكفر والنفاق في قلوبهم، لما زادوا هم في كل وقت من إظهار الموافقة للمؤمنين بالقول، وإضمار الخلاف لهم بالقلب، خلق الله عز وجل تلك الزيادة من المرض في قلوبهم باختيارهم. وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم في قوله: { ٱهْدِنَا }. وقوله: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }. لأَن عذاب الدنيا قد يكون ولا أَلم فيه؛ فأخبر الله عز وجل أن عذاب الآخرة عذاب شديد عظيم، ليس كعذاب الدنيا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير الجيلاني/ الجيلاني (ت713هـ)
ثم قال سبحانه جرياً، بل على مقتضى سنته من تعقيب الوعد بالوعيد: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ستروا الحق وأعرضوا عنه، وأظهروا الباطل وأصروا عليه عناداً واستكباراً، لا ينفعهم إنذارك وعدمه بل { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6] بك وبكتابك؛ لأنهم هم. { خَتَمَ ٱللَّهُ } المحيط بذواتهم وأوصافهم وأفعالهم { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } لئلا يكونوا من أرباب المكاشفات { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } لئلا يكونوا من أصحاب المجاهدة { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ } لئلا يكونوا من أرباب المشاهدة { غِشَاوَةٌ } ستر عظيم لا يمكنك رفعه بل { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [البقرة: 7] هو عذاب الطرد والبعد؛ إذ لا عذاب أعظم منه، أولئك الأشقياء البعداء عن ساحة الحضور، هم الضالون في تيه الحرمان، الباقون في عظلمة الإمكان، أعاذنا الله من ذلك. { وَمِنَ ٱلنَّاسِ } الذين نسوا العهود السابقة التي عهدوا في الفطرة الأصلية { مَن يَقُولُ } قولاً لا يوافق اعتقادهم، وهو أنهم يقولون تلبيساً ونفاقاً: { آمَنَّا } أذعنا { بِٱللَّهِ } أي: الذي أنزل علينا الكتاب وإنك الرسول { وَ } وأيقنا { بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } الموعود بجزاء الأعمال { وَ } الحال أنهم { مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8] موقنين بهما في بواطنهم، بل غرضهم من هذا التلبيس في زعمهم الفاسد أنهم: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } المحيط بجميع أحوالهم مخادعتهم مع آحاد الناس، تعالى عن ذلك { وَ } يخادعون الموحدين { ٱلَّذِينَ آمَنُوا } بإحاطة الله بتوفيقه وإلهامه؛ حفظاً لدمائهم وأموالهم منهم { وَ } هم { مَا يَخْدَعُونَ } بهذا الخداع { إِلاَّ أَنْفُسَهُم } لأن الله ومن هو في حمايته أجل من أن ينخدع منهم، فهم بهذا الخداع ما يخدعون إلا أنفسهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة: 9] بخداعهم؛ لأن: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } غطاء مختوم على قلوبهم لا ينكشف إلا بكتاب الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما لم يؤمنوا به ولم يلتفتوا إليه بل كذبوا رسوله المنزل عليهم { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } إحكاماً لختمه وتأكيداً لحكمه { وَلَهُم } في يوم الجزاء { عَذَابٌ } هو إبعادهم وطردهم عن ساحة عز الحضور { أَلِيمٌ } مؤلم بسبب تقريب المؤمنين إلى دار السرور جزاء { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة: 10] ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم خداعاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ)
قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } جرت عادة الله سبحانه وتعالى في كتابه أنه إذا ذكر بشرى المؤمنين يذكر بلصقها وعيد الكافرين، فذكر حال الكافرين ظاهراً وباطناً، ثم ذكر حال الكافرين باطناً وهم المنافقون، وأنهم أسوأ حالاً من الكافرين ظاهراً وباطنا، وإن حرف توكيد ونصب والذين كفروا اسمها وجملة لا يؤمنون خبرها، وجملة سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم معترضة بين اسم إن وخبرها، وإعرابها أن تقول على المشهور سواء اسم مصدر مبتدأ بمعنى مستو، وسوغ الابتداء به تعلق الجار والمجرور به، وأأنذرتهم أم لم تنذرهم مؤول بمفرد خبر تقديره مستو عليهم إنذارك وعدمه، وهو فعل مسبوك بلا سابك، إن قلت إن خبر المبتدأ إذا وقع جملة لا بدله من رابط. اجيب بأن الخبر عن المبتدأ في المعنى وهو يكفي في الربط، وأجيب أيضاً بأن محل الاحتياج للرابط ما لم يؤول الخبر بمفرد وإلا فلا يحتاج للرابط، وقولهم لا بد للعفل من سابك اغلبي ويصح العكس، وهو أن الجملة مبتدأ مؤخر وسواء خبر مقدم. قوله: (ونحوهما) أي من كفار مكة الذين سبق علم الله بعدم ايمانهم، والحكمة في إخبار الله نبيه بذلك ليربح قلبه من تعلقه بايمانهم فلا يشغل بهدايتهم ولا تأليفهم، ويحتمل أن ذلك إعلام من الله لنبيه بمن كفر من أول الزمان إلى آخره لأنه أطلعه على النار وعلى أعد لها من الكفار، والحكمة في عدم الدعاء منه عليهم مع علمه بأنه يستحيل ايمانهم أنه يرجو الإيمان من ذريتهم، قوله: (بتحقيق الهمزتين) أي مع مدة بينهما مداً طبيعياً وتركه فهما قراءتان. وقوله: (وابدال الثانية ألفا) أي مداً لازما وقدره ست حركات. وقوله: (وتسهيلها) أين بأن تكون بين الهمزة والهاء. وقوله: (وادخال الف) الواو بمعنى مع، فحاصله أن القراءات خمس: قراءتان مع التحقيق وقراءتان مع التسهيل وقراءة مع الإبدال، وكلها سبعية على التحقيق، خلافا للبيضاوي حيث قال ان قراءة الإبدال لحن لوجهين: الأول أن الهمزة المتحركة لا تبدل الفاً، والثاني أن فيه التقاء السكانين على غير حده، رد عليه ملا علي قاري بأن القراءة متواترة عن رسول الله، ومن أنكرها كفر، فيستدل بها لا لها، وأما قوله أن الهمزة المتحركة لا تبدل الفاً محله في القياسي, وأما السماعي فلا لحن فيه لأنه يقتصر فيه على السماع، وقوله فيه التقاء السكانين على غير حده تقول سهلة طول المد والسماح، وأما قولهم كل ما وافق وجه النحو الخ، محله في قراءة الآحاد لا في المتواترة، وإلا فالتواتر نفسه حجة على غيره لا يحتج له. قوله: (إعلام مع تخويف) أي في وقت يسع التحرز من الأمر المخوف، والا فيسمى إخباراً بالعذاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قوله: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } هذا وما بعده كالعلة والدليل ما قبله، والمراد بالقلوب العقول وهي اللطيفة الربانية القائمة بالشكل الصنوبري قيام العرض بالجوهر أو قيام حرارة النار بالفحم. قوله: (طبع عليها) هذا اشارة الى المعنى الأصلي فأطلقه وأراد لازمه وهو عدم تغيير ما في قلوبهم بدليل قوله فلا يدخلها خير، وفي القلوب استعارة بالكناية، حيث شبه قلوب الكفار بمحل فيه شيء مختوم عليه وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الختم فإثباته تخييل. قوله: (أي مواضعه) انما قدر ذلك المضاف لأن السمع معنى من المعاني لا يصح اسناد الختم لها. وإفراده، إما لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع، أو لكون المسموع واحداً، وتم الوقف على قوله: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } ، وقوله: { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ } خبر مقدم و: { غِشَاوَةٌ } مبتدأ مؤخر جملة مستأنفة نظير قوله تعالى**{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }** [الجاثية: 23] الآية، والمراد من الغشاوة عدم وصول النور المعنوي لهم. فأطلق اللازم وأراد الملزوم وخص الثلاثة لأنها طرق العلم بالله، قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } العذاب هو إيصال الآلام للحيوان على وجه الهوان. قله: (قوي دائم) إنما فسره بذلك لأن الأصل في العظم أن يكون وصفاً للأجسام فلذلك حول العبارة. قوله: (ونزل في المنافقين) أي في أحوالهم وهوانهم واستهزاء الله بهم وضرب الأمثال فيهم وعاقبة أمرهم، وجملة ذلك ثلاث عشرة آية آخرها**{ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }** [البقرة: 20]، وأخرهم عن المؤمنين والكافرين ظاهراً أو باطناً إشارة إلى أنهم أسوأ حالاً من الكفار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ)
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [البقرة: 6]، أي: حجروا ربوبيتي بعد إقرارهم في عهد**{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }** [الأعراف: 172]، بإجابة { بَلَىٰ } ستروا صفاء قلوبهم برين ما كسبوا من أعمالهم الطبيعية النفسانية، وأفسدوا حُسن استعدادهم من فطرة الله التي فطر الناس عليها باكتساب الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية، كما قال تعالى:**{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }** [المطففين: 14]، وذلك أن أرواحهم النفيسة لما نظروا بروزنة الحواس الخمس إلى عالم الصورة الحسية حجبت عن مألوفاتها ومجارياتها، ثم ابتليت بصحبة النفوس الحيوانية واستأنست بها، ولهذا سمي الإنسان إنساناً؛ لأنه أنيس، فبمجاورة النفس الخسيسة صار الروح النفيس خسيساً، فاستحسن ما استحسنته النفس واستلذ بما استلذت به النفس، واستمتع من المراتع الحيوانية فانقطعت عنه الأغذية الروحانية ونسي حضائر القدس وجوار الحق ورياض الأنس، ولهذا سمي الناس ناساً لأنهم نسوا فتاهوا في أودية الخسران فاستهواهم الشيطان في الأرض حيران، ولما نسوا الله بالكفر فنسيهم بالخذلان حتى غلب عليهم الهوى، وواقعهم في مهالك الردى، فأصبحوا بنفوس أصبى وقلوب مولى. { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ } [البقرة: 6]، بالوعد والوعيد وخوفهم بالعذاب الشديد { أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [البقرة: 6]، لم تحذرهم { لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6]، بما أخبرتم ودعوتهم إليه وأنذرتهم عليه؛ لأن روزنة قلوبهم إلى عالم الغيب منسدة بغشاوة حلاوة الدنيا وقلوبهم مغلوقة بحب الدنيا وشهواتها مغفولة عليها بمتابعة الهوى كما قال تعالى:**{ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }** [محمد: 24] فما تشموا روائح الإنس من رياض القدس، بل هبت عليهم ريح ضرر الشقاوة من جهة حكم السابقة، وأدركهم بالختم على أقفالها كما قال تعالى: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } [البقرة: 7]، في الختم إشارة إلى بداية سوابق أحكام القدر بالسعادة والشقاوة على وفق الحكمة والإرادة الأزلية للخليقة، كما قال تعالى:**{ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }** [هود: 105]، مع حسن استعداد جميعهم بقبول الإيمان والكفر، ولهذا لما خاطب الحق ذراتهم بخطاب**{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }** [الأعراف: 172]، قالوا: { بَلَىٰ } جميعاً، ثم أودع الله الذرات في القلوب والقلوب في الأجساد، والأجساد في الدنيا في ظلمات ثلاث، وكانت روزنة القلوب كلها مفتوحة إلى عالم الغيب بواسطة الذرات المودعات التي سمعت خطاب الحق، وشاهدت كمال الحق إلى وقت ولادة كل إنسان كما قال صلى الله عليه وسلم: **" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "** وفيه إشارة إلى أن الله يكل الأشقياء إلى تربية الوالدين في معنى الدين حتى يلقونهم تقليد ما ألفوا عليهم آباءهم من الضلالة فيضلوهم، كما قال تعالى:**{ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }** [الأنبياء: 54]، فكانت تلك الشقاوة المقدرة مضمرة في ضلالة التقليد والصفات النفسانية الظلمانية والهوى والطبيعة، ثم جعل تأثيرها وظلمتها ورينها يندرج إلى القلوب؛ فيقسيها ويسودها ويغطيها، ويسد روزنتها إلى الذرات فيعميها ويصمها حتى لا يبصر أهل الشقاوة ببصر الذرات من الحق ما كانوا يبصرون ولا يسمعون بسمع الذرات من الحق ما كانوا يسمعون، فينكرون على الأنبياء ويكفرون بهم وبما يدعونهم إليه، فيختم الله شقاوتهم بكفرهم هذا ويطبع به على قلوبهم، كقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }** [النساء: 155]، فسر القدر مستور لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيظهر آثار السعادة بإقرار السعداء ويظهر آثار الشقاوة بإنكار الأشقياء وكفرهم من القدر، كالبذر في الأرض مستور فتظهر الشجرة منه وهو في الشجرة مستور، فيخرج مع الأغصان من الشجرة وهو في الأغصان مستور، حتى يخرج مع الثمرة من الأغصان وهو في الثمرة مستور، حتى يظهر من الثمرة فيختم ظهور البذر بالثمرة فكذلك سر القدر، وهو بذر السعادة أو الشقاوة مستور في علم الله تعالى، فتظهر شجرة وجود الإنسان منه والسعادة والشقاوة مستورة فيها فتخرج مع أغصان الأخلاق وهي مستورة فيها، فتخرج مع ثمرة الأعمال وهي الإقرار والإنكار والإيمان والكفر، فيختم ظهور سر القدر وهو السعادة أو الشقاوة بثمرة الإيمان أو الكفر، فيظهر سر القدر عند الختم بالسعادة أو الشقاوة، فالذين { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } إنما ختم بخاتم كفرهم. وإن كان نقش خاتمهم هو الأحكام الأزلية وسر القدر حتى حرموا من دولة الوصال وبه ختم { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } [البقرة: 7] حتى لم يسمعوا خطاب الملك ذي الجلال { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } [البقرة: 7]، من العمى والضلال، فلم يشاهدوا ذلك الجمال والكمال فلهم حرمان مقيم { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [البقرة: 7]، لأنهم منعوا من مرادهم وهو العلي العظيم، فعظم العذاب يكون على قدر عظمة المراد الممنوع منه. ثم بعد ذكر المؤمنين وأحوالهم والكافرين وأفعالهم ذكر المنافقين وأقوالهم وأعمالهم وخصالهم بقوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [البقرة: 8]، والناس هم الذين نسوا الله ومعاهدته يوم الميثاق فمنهم من يقول آمنا بالله بلسانه**{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ }** [آل عمران: 167]، فإن الإيمان الحقيقي ما يكون من نور الله الذي يقذفه الله في قلوب خواصه، وقوله تعالى: { وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [البقرة: 8] أي: بنور الله يشاهد الآخرة فيؤمن به، فمن لم ينظر بنور الله لا يكون مشاهد العالم الغيب، فلا يكون مؤمناً بالله وباليوم الآخر. ولهذا قال: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8] أي: بالذي يؤمنون من نور الله تعالى. وفيه معنى آخر: وما هم بمستعدين للهداية إلى الإيمان الحقيقي؛ لأنهم من غاية الغلالة والخذلان { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } [البقرة: 9] أي: يمكرون بالله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر لينالوا من الله والمؤمنين منافع الإيمان من الأمان عن القتل والنهب والأسر وغير ذلك من تظلم مصالح الدنيا، والإشارة في تحقيق الآية أن الله تعالى لما قدر لبعض الناس الشقاوة في الأزل ثمر بذر سر القدر المستور في أعمال ثمرة مخادعة الله في الظاهر ولا يشعر أن مخادعته نتيجة بذر سر القدر بطريق تزيين الدنيا في نظره وحب شهواتها في قلبه كما قال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ }** [آل عمران: 14]، فالخدع بزينة الدنيا وطلب شهواتها عن الله تعالى وطلب السعادة الأخروية فعلى الحقيقة هو المخادع الممكور. كما قال تعالى:**{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** [النساء: 142]، فعلى هذا: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } [البقرة: 9]، حقيقة في صورة مخادعتهم الله والذين آمنوا؛ لأنهم كانوا قبل مخادعتهم الله مستوجبين النار بكفرهم مع إمكان ظهور الإيمان عنهم، فلما شرعوا في إظهار النفاق بطريق المخادعة نزلوا بقدم النفاق الدرك الأسفل من النار وبطلوا استعداد قبول الإيمان وإمكانه عن أنفسهم، فكانت مفسدة خداعهم ومكرهم راجعة إلى أنفسهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة: 9] أي: ليس لهم الشعور بسر القدر الأزلي، وأن معاملتهم في المكر والخداع من نتائجه؛ لأن { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [البقرة: 10]، ومرض القلب مانعهم من شعور سر القدر، والإشارة في تحقيق الآية أن سر مرض قلوبهم إنما كان من بذر تقدير شقاوتهم في الأزل، فأنبت شجرة الشك والنفاق في قلوبهم بماء حب الدنيا، فأحبهم وأعمى أبصارهم حتى لم يبق لقلوبهم الشعور بالآفات، ولو كانت قلوبهم سالمة من هذه العاهة والمرض لعلموا أن مفسدة نفاقهم ومخادعتهم راجعة إليهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله يظهر نفاقهم وبه يفضحهم عند النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى يوم القيامة، ويزيد شؤم نفاقهم في مرض قلوبهم، كما قال تعالى: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة: 10]، وأما في الآخرة فلا ينفعهم المال والبنون وما يمكر بهم في الدنيا بسبب نفاقهم الذي يزيد في مرض قلوبهم، وإنما تكون منفعتهم هناك في القلب السليم لا في المال السليم، كما قال تعالى:**{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ \* إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }** [الشعراء: 88-89]، فللمنافق لما أفسد بالنفاق على نفسه سلامة قلبه لسلامة ماله وأهله لا ينفعه أهله وماله، ولكن يزيد نفاقه وكذبه في ألم عذابه، كما قال تعالى: { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة: 10]، ففيها وفي قراءة من قرأ: { كَانُوا يَكْذِبُونَ } دلالة على أن لكذبهم ونفاقهم عذاباً ولتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم عذاباً آخر، فيكون ألم عذابهم بالنسبة إلى الكفار ضعفين، نظيره قوله تعالى:**{ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ }** [الأحزاب: 67]، أنهم ضعفين من العذاب يعني عذاب الضلالة والإضلال فاختصاص المنافقين بالدرك الأسفل من النار لهذا المعنى، فإنهم مع الكفار مشتركون في دركات النار، وهم مختصون بالدرك الأسفل بمزيد نفاقهم على الكفر، والله أعلم. وفي الآيات الثلاث إشارات ودلالات أُخر؛ وهي قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8]، إشارة إلى أهل الغفلة والنسيان من المسلمين يظنون أنهم مؤمنون حقاً وإنما هم مؤمنون باللسان والتقليد، وهم يحسبون أنهم آمنوا بالتحقيق، فما هم بمؤمنين حقيقة بل هم مسلمون، كما قال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }** [الحجرات: 14]، والإيمان الحقيقي نور إذا دخل القلب، فيظهر على المؤمن حقيقة، كما كان لحارثة لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" كيف أصحبت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً حقاً قال: يا حارثة إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهارها وأسهرت ليلها واستوت عندي حجرها وذهبها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وإلى أهل النار يتضاغون، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرفت فالزم ".** { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } [البقرة: 9] أي: بأعمالهم ويطلبون منافع الدنيا والآخرة ولا يطلبونه { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } [البقرة: 9]، بغير الله عن الله { وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة: 9]، وليس لهم شعور بهذا الخداع والحرمان عن الله بغير الله**{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }** [المائدة: 52]، الالتفات إلى غير الله، ولو كانت قلوبهم سليمة من هذه العلة والمرض لشاهدوا جمال الحق فأحبوه حباً شديداً، ولم تبق محبة غير الله في قلوبهم، كما قال تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ }** [البقرة: 165]. { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة: 10] أي: فزاد مرض الالتفات على مرض خداعهم فحرموا عن الوصول والوصول { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة: 10]، من حرمان الوصول إلى الله تعالى بما كانوا يكذبون، إنا أمنا بالله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ)
يخبر تعالى أن الذين كفروا، أي: اتصفوا بالكفر، وانصبغوا به، وصار وصفاً لهم لازماً لا يَرْدَعُهم عنه رادع، ولا ينجَع فيهم وعظ، إنهم مستمرون على كفرهم، فسواء عليهم أَأَنْذَرتَهم، أم لم تنذرهم لا يؤمنون، وحقيقة الكفر: هو الجحود لما جاء به الرسول، أو جحد بعضه، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة عليهم، وكأن في هذا قطعاً لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم، وأنك لا تَأسَ عليهم، ولا تذهب نفسُك عليهم حسرات. ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } أي: طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان، ولا ينفذ فيها، فلا يَعُون ما ينفعهم، ولا يسمعون ما يفيدهم. { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } أي: غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم، وهذه طرق العلم والخير قد سدت عليهم، فلا مطمع فيهم، ولا خير يُرجى عندهم، وإنما منعوا ذلك، وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعدما تبين لهم الحق، كما قال تعالى:**{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }** [الأنعام: 110] وهذا عقاب عاجل. ثم ذكر العقاب الآجل، فقال: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } وهو عذاب النار، وسخط الجبار المستمر الدائم. ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر فقال: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا... }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
لما بين تعالى نعوت المؤمنين قبلُ، شرح أحوال مقابليهم وهم الكفرة المردة بأنهم: تناهَوْا في الغواية والضلال إلى حيث لا يجديهم الإنذار والتذكير، كما قال تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ \* وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ }** [يونس: 96-97]. وكقوله سبحانه في المعاندين الكتابيين:**{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ }** [البقرة: 145] الآية. و { سَوَآءٌ } اسم بمعنى: الاستواء، وصف به، كما يوصف بالمصادر، مبالغةً؛ ومنه قوله تعالى:**{ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }** [آل عمران: 64]. بمعنى: مستوية. والإنذار: الإعلام مع تخويف. والمراد هنا: التخويف من عذابه تعالى، وانتقامه، والاقتصار عليه لما أنهم ليسوا أهلاً للبشارة، ولأن الإنذار أوقع في القلوب؛ ومن لم يتأثر به فَلأَنْ لا يرفع للبشارة رأساً - أوْلَى. وقوله: { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مستقلة، مؤكدة لما قبلها، مبيّنة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ)
قال الأستاذ: كان الذي تقدّم بياناً من الله تعالى لصنفين من الناس لهم في القرآن هداية، ولنفوسهم إلى الاهتداء به انبعاث: الأوّل: من الصنفين: أولئك الذين يبلغهم لأوّل مرّة، وهم ممّن يخشى الله ويهاب سلطانه، وفي أصول اعتقادهم الإيمان بما وراء الحسّ على ما تقدّم. والثاني: أولئك الذين آمنوا بما أنزل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله [وهذا الصنف قد يجتمع مع الذي قبله فيمن كانوا متّقين مؤمنين بالغيب، ثمّ آمنوا بالنبيّ وبما جاء به، وقد يفترق الصنفان فيمن بقي إلى اليوم ولم تبلغه الدعوة، وهو على تلك الأوصاف، ومن ولد من آباء مؤمنين ثمّ صدق إيمانه بعد أن بلغ رشده وملك عقله]. أمّا هاتان الآيتان فقد بيّنتا حال طائفة ثالثة من الناس، وهم الكافرون، ثم يبيّن قوله تعالى:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ }** [البقرة: 8] إلخ، حال طائفة أخرى أخصّ منها، وهم المنافقون، الذين يظهر من أقوالهم وفي بعض أفعالهم أنّهم مؤمنون، ولكنّهم في حقيقة أمرهم كافرون، بل شرّ من الكافرين [فهذه أقسام أربعة ينقسم إليها الناس إذا بلغهم القرآن ونظروا فيه، ودعوا إلى الإيمان به والأخذ بهديه]. بيّن الله تعالى لنبيّه أنّه إذا كان يوجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن، فليس هذا عيباً وتقصيراً في هداية الكتاب، وإنّما العيب فيهم لا في الكتاب؛ لأنّه هداية كسائر الهدايات الطبيعيّة التي أعرض الناس وعموا عنها [كهداية العقل والسمع والبصر ونحوها، ممّا أكرم الله به هذا النوع البشريّ، وقد يحكم الرجل بأنّ في العمل مضرّة تلحق به، ومع ذلك يعدل عن حكمه انتهازاً للذّة زيّنها له حسّه أو وهمه ويأتي ذلك العمل على ما يعلم من سوء مغبّته. فاحتقار الرجل لعقل نفسه لا يعدّ عيباً في تلك الموهبة الإلهية، ولا يحطّ من شأن النعمة فيها. أنظر إلى رجل يغمض عينيه ويمشي في طريق لا يعرفها فيسقط في حفرة وتتحطّم عظامه، هل ينقص ذلك من قدر بصره، ويبخس من حقّ الله في الإحسان به، على هذا الذي لم يرد أن يستعمله فيما خلق له] ففي الكلام تسلية لأهل الحقّ، وسيّدهم هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو تسلية له أوّلاً وبالأولى. قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [البقرة: 6] أقول: هذا بيان لحال القسم الثاني من أقسام الناس تجاه هداية القرآن، وقد قطعه وفصله ممّا قبله، فلم يعطفه عليه؛ للإشارة إلى ما بينهما من طول شقّة الانفصال وعدم المشاركة في شيء ما، بخلاف القسم الثالث الآتي، فإنّ لهم حظّاً منه في الدنيا، ولمن يتوب منهم حظّ في الآخرة أيضاً. والكفر في اللغة: ستر الشيء وتغطيته وإخفاؤه، ولذلك وصف به الليل والبحر والزراع في قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ }** [الحديد: 20] لأنّهم يغطّون الحبّ بالتراب. وفعله من باب نصر، وقال الفارابيّ وتبعه الجوهريّ: من باب ضرب، وهو خطأ كما في المصباح. ومن المجاز: كفر النعمة بعدم شكرها وذكرها تنويهاً بها. وكذا الكفر بالله أو بوحدانيته وصفاته، أو كتبه ورسله وما جاءوا به عن الله تعالى، أي إنكاره وعدم التصديق به والإذعان له ولا سيّما الشرك في عبادته. كلّ ذلك من ضروب الستر والتغطية السلبيّة في الأمور المعنويّة، فهو مجاز لغة، وحقيقة شرعيّة في معناه الشرعيّ المشار إليه آنفاً. والمراد بالذين كفروا هنا من علم الله تعالى أنّ الكفر رسخ في قلوبهم حتّى فقدوا الاستعداد للإيمان. وقال شيخنا: الكفر هنا: عبارة عن جحود ما صرّح الكتاب المنزل أنّه من عند الله، أو جحود الكتاب نفسه، أو النبيّ الذي جاء به، وبالجملة ما علم من الدين بالضرورة [بعد ما بلغت الجاحد رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم بلاغاً صحيحاً، وعرضت عليه الأدلّة على صحّتها لينظر فيها فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عناداً أو تساهلا أو استهزاءاً - نعني بذلك أنّه لم يستمرّ في النظر حتّى يؤمن] ولم نسمع أنّ أحداً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كفّر أحداً بما وراء هذا، فما عداه من الأفاعيل والأقاويل المخالفة لبعض ما أسند إلى الدين، ولم يصل العلم بأنّه منه إلى حدّ الضرورة - أي لم يكن سنده قطعيّاً كسند الكتاب - فلا يعدّ منكره كافراً، إذا قصد بالإنكار تكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم فمتى كان للمنكر سند من الدين يستند إليه فلا يكفَّر [وإن ضعفت شبهته في الإستناد إليه ما دام صادق النيّة فيما يعتقد، ولم يستهنْ بشيء ممّا ثبت بالقطع وروده عن المعصوم صلى الله عليه وسلم]. وقد تجرّأ بعض المتأخّرين على تكفير مَنْ يتأوّل بعض الظنّيّات، أو يخالف شيئاً ممّا سبق الاجتهاد فيه، أو ينكر بعض المسائل الخلافيّة، فجّرأوا الناس على هذا الأمر العظيم، حتّى صاروا يكفّرون من يخالفهم في بعض العادات، وإن كانت من البدع المحظورات [ثمّ هم على عقائد الكافرين، وأخلاق المنافقين، ويعملون أعمال المشركين، ويصفون أنفسهم بالمؤمنين الصادقين]. الكافرون أقسام: منهم: مَنْ يعرف الحقّ وينكره عناداً، وهؤلاء هم الأقلّون ولا ثبات لهم ولا قوام، وكان منهم في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم جماعة من المشركين واليهود ولم يلبثوا أن انقرضوا. قال الأستاذ: كنت قلت في هذا المعنى كلمةً جديرةً بأن تحفظ وهي: " إنّ جحود الحقّ مع العلم به كاليقين في العلم كلاهما قليل في الناس ". ومنهم: من لا يعرف الحقّ ولا يريد ولا يحبّ أن يعرفه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ \* وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }** [الأنفال: 22-23] فهؤلاء كلّما صاح بهم صائح الحقّ فزعوا ونفروا، وأعرضوا واستكبروا، ففي أنفسهم شعور بالحقّ، ولكنّهم يجدون فيها زلزلةً، كلّما لاح لهم شعاعه يحجبونه عن أعينهم بأيديهم، وسبب ذلك: إنّهم لم يستعملوا أنظارهم في فهم الحقّ، ويخافون لو استعملوها أن ينقصهم شيء ممّا يظنّونه خيراً، ويتوهّمونه معقوداً بعقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم وساداتهم. ومنهم: مَنْ مرضت نفسه واعتلّ وجدانه، فلا يذوق للحقّ لذّة، ولا تجد نفسه فيه رغبةً، بل انصرف عنه إلى هموم أخر، ملكت قلبه وأسرت فؤاده، كالهموم التي غلبت أغلب الناس اليوم على دينهم وعقولهم، وهي ما استغرقت كلّ ما توفّر لديهم من عقل وإدراك، واستنفدت كلّ ما يملكون من حول وقوّة، في سبيل كسب مال، أو توفير لذّة جسمانيّة، أو قضاء شهوة وهميّة، فعمي عليهم كلّ سبيل سوى سبل ما استهلكوا فيه، فإذا عرض عليهم حقّ أو ناداهم إليه مناد، رأيتهم لا يفهمون ما يقول الداعي، ولا يميّزون بين ما يدعو إليه، وبين ما هم عليه، فيكون حظّ الحقّ منهم الإستهزاء والإستهانة بأمره، فإذا وعدهم أو أوعدهم النذير، قالوا لا نصدّق ولا نكذب، حتى ننتهي إلى ذلك المصير. وهذا القسم كالذي قبله كثير العدد في الناس في كلّ زمان ومكان، خصوصاً في الأمم التي يفشو فيها الجهل، وتنطمس من أفرادها أعين الفطرة، وتنضب من أنفسهم ينابيع الفضائل، فيصبحون كالبهائم السائمة، لا همّ لهمّ إلاّ فيما يملأ بطونهم، أو يداعب أوهامهم، ويصحّ جمع هذين القسمين تحت قسم واحد وهو: قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين، والقسم الأوّل هو: قسم المعاندين المكابرين. فكلّ من هذه الفرق { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6] الإنذار: الإخبار والإعلام بالشيء المقترن بالتخويف ممّا يترتّب عليه من فعل يتضمّن ذمّه وطلب تركه، أو ترك لأمر يتضمّن مدحه وطلب فعله، نصّاً أو اقتضاء. والسواء: اسم مصدر بمعنى الإستواء. والمعنى: إنّ الذين كفروا ولم يدخلوا في قسم المستعدّين للإيمان لرسوخهم في الكفر، يستوي الإنذار وعدمه بالنسبة إليهم في الواقع. فالذي يعرض عن النور مع العلم به ويغمض عينيه كيلا يراه، بغضاً له لذاته أو تأذّياً به، أو عناداً وعداوةً لمَنْ دعاه إليه؛ ماذا يفيده النور، وماذا يعيب النور من إعراضه؟ والذي لا يعرف النور ولا يحبّ أن يعرفه، لأنّ فساد طبيعته وخبث تربيته أنآه عنه وأبعده، وجعله يألف الظلمة كالخفّاش، [أو أفسد الجهل وجدانه فأصبح لا يميّز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضارّ، ولا بين لذيذ ومؤلم، ماذا عساه يفيده النور مهما سطع، أو يؤثّر فيه الضوء مهما ارتفع؟]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { لاَ يُؤْمِنُونَ } أقول: هذه جملة مفسّرة لتساوي الإنذار وعدمه في حقّهم، لا في حقّه صلى الله عليه وسلم وحقّ دعاة دينه، فهم يدعون كلّ كافر إلى دين الله الحقّ؛ لأنّهم لا يميّزون بين المستعدّ للإيمان وغير المستعدّ له - إذا هو أمر لا يعلمه إلاّ الله تعالى. ثمّ وصف سبحانه فقدهم لهذا الاستعداد، ورسوخهم في الكفر الذي لم يبقَ معه محلّ لغيره بهذا التعبير البليغ: { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } [البقرة: 7] قال الراغب: الختم والطبع يقال على وجهين: مصدر ختمت وطبعت، وهو تأثير الشيء كنقش الخاتم والطابع. والثاني: الأثر الحاصل عن النقش، ويتجوّز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتباراً بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب نحو { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }**{ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ }** [الجاثية: 23] - إلى أن قال - فقوله: { ختم الله على قلوبهم }... إشارةً إلى ما أجرى الله به العادة أنّ الإنسان إذا تناهى في إعتقاد باطل وإرتكاب محظور - ولا يكون منه تلفّت بوجه إلى الحقّ - يورثه ذلك هيئة تمرّنه على استحسان المعاصي، وكأنّما يختم بذلك على قلبه. وعلى ذلك**{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }** [النحل: 108]. اهـ المراد منه. وأقول: إنّ مراده أنّ هذا التعبير مثَلٌ لمن تمكّن الكفر في قلوبهم حتّى فقدوا الدواعي والأسباب التي تعطفهم إلى النظر والفكر في أدلّة الإيمان ومحاسنه. ختم الله على قلوبهم فلا يدخلها غير ما رسخ فيها، وعلى أسماعهم فلا يسمعون آيات الله المنزلة، سماع تأمّل وتفقّه، وقوله: { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } جملة معطوفة على جملة (ختم)، والغشاوة: ما يغطّى به الشيء، ومعنى هذه المادّة: غ ش ى - التغطية. والمراد: إنّ أبصارهم لا تدرك آيات الله المبصِّرة الدالّة على الإيمان. فكلّ من الفريقين لا يُرجى إيمانه. وقد أسند الختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلى الله تعالى؛ لأنّه بيان لسنّته تعالى في أمثالهم. وعبّر عنه بالماضي؛ للدلالة على أنّه أمر قد فرغ منه، وهو لا يدلّ على أنّهم مجبورون على الكفر، ولا على منع الله تعالى إيّاهم منه بالقهر، وإنّما هو تمثيل لسنّته تعالى في تأثير تمرّنهم على الكفر، وأعماله في قلوبهم بأنّه استحوذ عليها وملك أمرها حتّى لم يعدْ فيها استعداد لغيره، كما تقدّم مثله عن الراغب. ويوضّح ما قلناه: قوله تعالى في سورة المنافقين:**{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }** [المنافقون: 3] وقوله في اليهود في سورة النساء:**{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }** [النساء: 155] فذكر أنّ الطبع على قلوبهم، إنّما هو بسبب كفرهم وتلك المعاصي التي أسندها إليهم، وقوله تعالى في سورة الجاثية: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }** [الجاثية: 23] فقد ذكر من فعله المسند إليه أنّه اتّخذ إلهه هواه، ومن صار هواه معبوده لا يفيد معه شيء، وقد صرّح هنا بأنّ الغشاوة على بصره من جعل الله تعالى، ولم يصرِّح بذلك في آية البقرة التي نفسّرها، والمعنى واحد. ولشيخنا الأستاذ الإمام دقائق في هذه التعبيرات ادّخرها الله تعالى له وهي مع هذا تغنيك عن تماري الأشعريّة والمعتزلة في الآيات تعصّباً لمذاهبهم. قال: يقولون: إنّ الختم والطبع والرين. ألفاظ تجري على شيء واحد، وهو: تغطية الشيء والحيلولة بينه وبين ما من شأنه أن يدخله ويمسّه، والقلوب مراد بها العقول، والمراد بالسمع الأسماع، وإفراده؛ لأنّ أصله مصدر ومن شأن المصادر أن لا تجمع، وقد لوحظ هنا الأصل، والأبصار العيون التي تدرك المبصرات من الأشكال والألوان. قال: وأنا أرى في مسألة هذا الجمع والإفراد رأياً آخر، إذ لو صحّ ما قيل فإنّ البصر أيضاً مصدر فلماذا جمعه؟ والذي أراه أنّ العقل له وجوهٌ كثيرة في إدراك المعقولات، فليس الناس فيه سواء؛ فجمع لاختلاف الناس فيه، وأنواع تصرّفهم في وجوهه، بخلاف السمع فإنّ أسماع الناس تتساوى في إدراك المسموعات فلا تتشعّب تشعّب العقول في إدراك المعقولات. وأمّا الأبصار فهي مثل العقول في التشعّب، وأعظم معين للعقول في إدراكها، لأنّ أنواع المبصرات كثيرة فتعطي للعقل مواد كثيرة، والسمع لا يدرك إلاّ الصوت، وليس في الكلام عند النقل طريق من طرق العلم اليقينيّ إلاّ التواتر [بخلاف ما نقطع فيه بالضرورة من طريق العقل والبصر، فهو كثير، فالأوليات كالحكم بأنّ الجزء أصغر من الكلّ، وأنّ النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، والقضايا التي قياساتها معها: من المعقولات المحضة. والتجربيّات والحدسيّات يشترك فيها العقل والبصر، والقسم الأعظم من المشاهدات سبيل الإدراك فيه البصر. فالعقول والأبصار بمنزلة ينابيع كثيرة تنبجس من كلٍّ منها عيون للعلم مختلفة، بخلاف السمع فإنّه ينبوع واحد لا اختلاف فيما يصدر عنه] فالحاصل أنّ العقول والأبصار تتصرّف في مدركات كثيرة فكأنّها صارت بذلك كثيرة فجمعت، وأمّا السمع فلا يدرك إلاّ شيئاً واحداً فأفرد. سأله سائل: كيف هذا، وقد قالوا: إنّ السمع أفضل من البصر؟ فقال: أنا لا أتكلّم في التفضيل، ذلك إلى الله ورسوله، وإنّما أشرح موجوداً وأبيّن مناسبة اللفظ له، وإنّ المشاهدة قاضية بأنّ العقل لا منتهى لتصرفه، وبأنّ أقلّ ما قيل في البصر: إنّه يدرك الألوان، والأشكال، والمقادير؛ والسمع لا يدرك إلاّ الأصوات فقط، كما أنّ الذوق لا يحسّ إلاّ بالمذوقات وحدها، وإن كان ما يصل من طريق السمع قد يتضمّن حكايةً عن معقول أو مبصر، ولكنّ وروده على الحكاية لا يغيّر من حقيقته، فهو معقول أو مبصر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فمَنْ ذكر لك برهاناً على حقيقة علميّة فإنّما تسمع منه الأصوات والحروف. وأمّا فهمك المقدّمات ووصولك منها إلى النتائج فهو من طريق عقلك لا من طريق سمعك؛ فإن كان حديث الأفضليّة يستند إلى أنّ جميع المدركات قد يمكن أن يعبّر عنها بالكلام - وهو مسموع - فقد بيّنا لك ما فيه، ويعارضه أنّ جميع ضروب الكلام يصحّ أن تكتب، وطريق فهمها من الرُقَم إنّما هو البصر، والحق: إنّ المعوّل عليه في تعدد الطريق ليس ما يكون من قبيل الحكاية، بل ما يكون من طبيعة القوّة. وأمّا انطباق الكلام على تلك الأقسام السابقة وبيان حرمانهم وكونهم كما وصفوا - فهو بالنسبة إلى الطائفة التي عاندت الحقّ وهي تعرفه - ظاهر؛ لأنّهم لما عاندوا الحقّ لأنّه لم يأتِ على أيديهم [فقد طُبع على قلوبهم بطابع ذلك العناد نفسه، فإنّه قد حيل بين عقولهم وإدراك ما يصيرون إليه بالإصرار على الباطل من ضعف أمر وفساد حال في الدنيا، وشقاء وخلود في نكال الآخرة، ثمّ هم قد حجبوا به عن إدراك ما يتبع] ذلك الحقّ من المعارف والحقائق الأخرى؛ فقد ختم على قلوبهم بالنسبة إلى ما حجبوا عنه. وأمّا الختم على سمعهم؛ فلأنّهم صُمّوا عن سماع الحقّ واستماع القول لفهمه، فمن أعرض عن فهم الحقّ فهو لم يسمع إلاّ صوتاً لم ينفذ شيء من معناه إلى موضع الإدراك الحقيقيّ منه، فقد ختم على سمعه فلا ينفذ إليه شيء ينتفع به. وأمّا الأبصار فإنّما كانت عليها غشاواتٌ عند هؤلاء الجاحدين؛ لأنّ فائدة البصر، هي التوقّي من الخطر، والعبرة بما يبصر، فمن لم ينظر في الآيات الكونيّة التي تقع تحت بصره كلّ يوم كأنّه لم يبصر شيئاً منها، فقد ضرب على بصره بغشاوة. [وأمّا بالنسبة إلى القسمين الآخرين اللذين جمعا تحت قسم واحد وهو: قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين - كما سبق - فالختم على القلوب والسمع والأبصار ظاهر؛ لأنّهم لم ينتفعوا بشيء من هذه القوى حتّى في فهم ما يعرض عليهم، ورؤية ما يقع تحت حواسّهم] والكلام كلّه ضرب من التمثيل يعرفه اللسان وتعهده اللغة. والمعنى هو ما بيّنّا والله أعلم. [ولما كان حديث الختم تمثيلا لفقد حقيقة الفهم والحرمان من فوائد تلك المواهب الإلهية؛ مواهب العقل والسمع والأبصار - كان إسناده إلى الله تأكيداً لمعنى الحرمان، وتقديراً لمصيبة الخسران؛ لأنّ ما ختم بيد الله لا تفضّه يد سواه]. وأمّا النكتة في استعمال الختم مع القلب والسمع، والغشاوة مع البصر: فهي أنّ الختم من شأنه أن يكون على المكنون المستور. وهكذا موضع حسّ السمع، وموضع الإدراك من العقل، والأسماع في ظاهر الخلقة، وأمّا البصر فالحاسّة منه ظاهرة منكشفة، قال: ومثل هذه الدقائق هي المرادة بقول صاحب التلخيص: " ولكلّ كلمة مع صاحبتها مقام ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } أقول: العذاب: اسم لما يؤلم ويذهب بعذوبة الحياة من ضرب ووجع وجوع وظمأ. قال الراغب: واختلف في أصله، فقال بعضهم: هو من قولهم: عذب الرجل، إذا ترك المأكل (زاد غيره من شدّة العطش) والنوم فهو عاذب وعذوب، فالتعذيب في الأصل: هو حمل الإنسان أن يعذب، أي بجوع وبسهر. وقيل: أصله من العذب، فعذّبته: أزلتُ عذب حياته. على بناء: مرّضته وقذّيته. وقيل: أصل التعذيب إكثار الضرب بعذبة السوط أي طرفه اهـ. وقال البيضاويّ العذاب كالنكال بناءً ومعنىً، تقول: أعذب عن الشيء ونكل عنه - إذا أمسك، ومنه الماء العذب لأنّه يقمع العطش ويردعه، ولذلك يسمّى نقاخاً وفراتاً، ثمّ اتّسع فأطلق على كلّ ألم فادح، وإن لم يكن عقاباً يردع الجاني عن المعاودة، إلخ. والعظيم ضدّ الحقير فهو فوق الكبير الذي هو ضدّ الصغير. وتنكير العذاب - هنا - للإشارة إلى أنّه نوع منه مبهم مجهول عند أهل الدنيا، بناءً على أنّ المراد به عذاب الآخرة التي هي من عالم الغيب. وقال شيخنا تبعاً للجمهور: التنكير فيه للتعظيم والتهويل، ووصفه مع ذلك بعظيم يدلّ على أنّه بالغ حدّ العظمة كمّاً وكيفاً، فهو شديد الإيلام، وطويل الزمان. وهل هذا العذاب في الدنيا أم في الآخرة؟ قال في آية أخرى**{ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }** [المائدة: 41] فيؤخذ من هذه الآية ومن آيات أُخرى أنّ الإعراض عن هدي الإسلام، وما أرشد إليه من إصلاح المعاش والمعاد، جزاؤه الضنك والضيق وفقد العزّة والسلطة في الدنيا، والعذاب العظيم في العقبى. وهنا سأله سائل: هل الآية نصٌّ في التكليف بالمحال؟ فقال: لا، وأنا لا أحبّ أن أحشر المسائل الخلافيّة في تفسير القرآن، بل أحبّ أن أبيّن المعنى الذي كان يفهمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وما كان يخطر على بال أحد منهم التكليف بالمحال. على أنّ الإتّفاق واقع بين الأئمّة، بل بين الأمّة على أنّ التكليف بالمحال غير واقع، وأنّ الله**{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }** [البقرة: 286] كما صرّح به الكتاب وتضافرت عليه الأحاديث النبويّة، فما بقي من مواضع الخلاف لا يمسّ نصوص الكتاب العزيز الذي**{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }** [فصلت: 42]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير تفسير القرآن العزيز/ ابن أبي زمنين (ت 399هـ)
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني الذين سبق لهم في علم الغيب أنهم يلقون الله بكفرهم { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } يعني طبع فهم لا يفقهون الهدى { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } فلا يسمعونه { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } فلا يبصرونه قال محمد { غِشَاوَةٌ } يعني غطاء. قال يحيى ثم ذكر صفنا آخر من الناس يعني المنافقين فقال { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } إنما تكلموا به في العلانية { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } حتى يكفوا عن دمائهم وأموالهم وسبي ذراريهم ومخادعتهم لرسول الله وللمؤمنين مخادعة لله { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } أي أن ذلك يرجع عليهم عذابه وثواب كفره { وَمَا يَشْعُرُونَ } أن ذلك راجع عليهم { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قال الحسن يعني شكا { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } بالطبع على قلوبهم { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } موجع في الآخرة { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } بقلوبهم في قراءة من قرأها بالتثقيل ومن قرأها بالتخفيف يكذبون يعني في قولهم آمنا وقلوبهم على الكفر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ)
{ ءَأَنذَرْتَهُمْ } أأعلمتهم بما تحذرهم؛ ولا يكون المعلم منذرا حتى يحذر باعلامه؛ فكل منذر معلم؛ وليس كل معلم منذر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ)
325/ [2]- محمد بن يعقوب: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن يزيد، عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عز و جل؟ قال: " الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود، و الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر الله، و كفر البراءة، و كفر النعم. فأما كفر الجحود، فهو الجحود بالربوبية، و هو قول من يقول: لا رب و لا جنة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم: الدهرية، و هم الذين يقولون:**{ وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ }** [الجاثية: 24] و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثبت منهم، و لا تحقيق لشيء مما يقولون، قال الله عز و جل:**{ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }** [الجاثية: 24] إن ذلك كما يقولون، و قال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني بتوحيد الله تعالى، فهذا أحد وجوه الكفر. و أما الوجه الآخر من الجحود على معرفة، و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنه حق، قد استقر عنده، و قد قال الله عز و جل:**{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }** [النمل: 14] و قال الله عز و جل:**{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }** [البقرة: 89] فهذا تفسير وجهي الجحود. و الوجه الثالث من الكفر كفر النعم، و ذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان (عليه السلام): هذا**{ مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }** [النمل: 40]، و قال عز و جل:**{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }** [إبراهيم: 7] و قال:**{ فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }** [البقرة: 152] و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز و جل به، و هو قول الله عز و جل:**{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ \* ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ }** [البقرة: 84-85] فكفرهم بترك ما أمر الله عز و جل به، و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم، و لم ينفعهم عنده، فقال:**{ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }** [البقرة: 85] و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة، و ذلك قول الله عز و جل يحكي قول إبراهيم (عليه السلام):**{ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ }** [الممتحنة: 4] يعني تبرأنا منكم، و قال يذكر إبليس و تبرءه من أوليائه من الإنس يوم القيامة: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: 22] و قال:**{ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً }** [العنكبوت: 25] يعني يتبرأ بعضكم من بعض ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* تفسير الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم / تفسير الكازروني (ت 923هـ)
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } كأبي لهب وأَضْرَابه، والكُفْرُ: إنكار ما عُلِمَ ضَرُوْرةً أنه من دين محمد -صلى الله عليه وسلم- أو فعل يدل عليه [والكفر عَدَمُ الإيمان عما شأنه الإيمان، والكافر إن أظهر الإيمان فمنافق، أو سبقة إيمان فتمرد، وإن آل مُعْتقده إلى تعدد الآلهةِ فمُشْركٌ، أو يدِيْنُ بكتاب سماوي فكتابي، أو اعتقد إسناد الحوادث إلى الزَّمَان فدهري، أو نفى الصَّانع فمعطل، أو أبطن عقائد هي كفر وفاقاً فزنديق - والله أعلم] { سَوَآءٌ } مستو { عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ } أي: إنذارك { أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } أي: عدم إنذارك، فالهمزة و { أَمْ } لمجرد الاستواء بلا استفهام يؤكدان معناه { لاَ يُؤْمِنُونَ } تأكيد للجملة، [ودَلَّت على جواز التكاليف بما لا يطاق إذ لو آمنوا لَزِمَ الكذب، والتكليف بالممتنع لذاته جائز عقلاً غير واقع للاستقراء، وأما الممتنع لغيره كما علم الله -تعالى- عدم وقوعه أو أخبر أو أراد فواقع كالمخبر عنه في الآية، وحينئذ علم أنَّ] حكمة الإنذار إقامة الحجة وعموم الإرسال وإثابة الرسول، ولذَا لَمْ يَقُلْ: سَوَاء عَلَيْك { خَتَمَ ٱللَّهُ } استوثق بضرب الخاتم { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } فلا يعرفون الحق، { وَعَلَىٰ } مواضع { سَمْعِهِمْ } فلا يسمعونه { وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } غطاء عظيم، فلا يبصرونه استعارة عن إحداث ما يمرنهم على حُبِّ الكفر، ووحد السمع لوحدة المسموع وهو الصوت دونهما، أو للمصدرية { وَلَهُمْ عَذَابٌ } هو إيصال الألم إلى حي هوانا { عظِيمٌ } صد الحقير { وَمِنَ ٱلنَّاسِ } مبتدأ، أي: بعضهم وهم جماعة حيوان ذي فكر ورَويَّة { مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } من الحشر إلى ما لا ينتهي { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } حقيقة، دَلَّ عَلَى كُفْر من خالف قَلْبهُ لسَانه { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } بإظهار الإيمان و إبطان الكفر، والخَدْعُ: إيْهَامُكَ خلاف ما تخفيه من الشر، وهو مع الله مُحَالٌ، فالمُرَادُ: مُخَادَعَة خليقته { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } ذواتهم أي ضَرَرُ خَدْعِهم يَحَيْقُ بهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } لا يَحُسُّوْنَه لغفلتهم { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } كالنفاق، والمرض: ما يعرض للبدن فيخرجه عن اعتداله، وهو مجاز في الأعراض النفانية المُخِلَّة بكمالها والآية تحتملهُما { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } كما نزلتْ آيَةٌ**{ ٱزْدَادُواْ كُفْراً }** [ال عمران: 90، النساء: 137] { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: مؤلم، اسم مفعول أسند مبالغة { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } بكذبهم أو تكذيبهم الرسل، دل على حُرْمَة كُلِّ كَذَبٍ، وهو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، وحَدِيْثُ: **" إنَّ إبرَاهيْمَ كذب "** بمعنى التعريض، وهو أن يشير بالكلام إلى جانب ويريد منه جانباً آخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
قال أبو جعفر: أما قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ } فإن فـي الناس وجهين: أحدهما أن يكون جمعاً لا واحد له من لفظه، وإنـما واحده إنسان وواحدته إنسانة. والوجه الآخر: أن يكون أصله «أُناس» أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخـلتها الألف واللام الـمعرّفتان، فأدغمت اللام التـي دخـلت مع الألف فـيها للتعريف فـي النون، كما قـيـل فـي:**{ لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي }** [الكهف: 38] علـى ما قد بـينا فـي اسم الله الذي هو الله. وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس، وأنه سمع العرب تصغره نُوَيْس من الناس، وأن الأصل لو كان أناس لقـيـل فـي التصغير: أُنَـيْس، فردّ إلـى أصله. وأجمع جميع أهل التأويـل علـى أن هذه الآية نزلت فـي قوم من أهل النفـاق، وأن هذه الصفة صفتهم. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويـل بأسمائهم: حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } يعنـي الـمنافقـين من الأوس والـخزرج، ومن كان علـى أمرهم. وقد سُمِّي فـي حديث ابن عبـاس هذا أسماؤهم عن أبـيّ بن كعب، غير أنـي تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم. حدثنا الـحسين بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } حتـى بلغ:**{ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }** [البقرة: 16] قال: هذه فـي الـمنافقـين. حدثنا مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: هذه الآية إلـى ثلاث عشرة فـي نعت الـمنافقـين. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد مثله. حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرّة، وعن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } هم الـمنافقون. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس فـي قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } إلـى: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال: هؤلاء أهل النفـاق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج فـي قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } قال: هذا الـمنافق يخالف قولُه فعلَه وسرُّه علانـيَته، ومدخـلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيَبه. وتأويـل ذلك أن الله جل ثناؤه لـمَّا جمع لرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم أمره فـي دار هجرته واستقر بها قرارُه وأظهر الله بها كلـمته، وفشا فـي دور أهلها الإسلام، وقهر بها الـمسلـمون من فـيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان، وذلّ بها من فـيها من أهل الكتاب أظهر أحبـار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن وأبدوا له العداوة والشنآن حسداً وبغياً إلا نفراً منهم، هداهم الله للإسلام فأسلـموا، كما قال الله جل ثناؤه:**{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ }** [البقرة: 109] وطابقهم سرّاً علـى معاداة النبـي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبغيهم الغوائل قومٌ من أراهط الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وكانوا قد عتوا فـي شركهم وجاهلـيتهم قد سُمُّوا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويـل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم. وظاهروهم علـى ذلك فـي خفـاء غير جهار حذار القتل علـى أنفسهم والسبـاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وركونا إلـى الـيهود، لـما هم علـيه من الشرك وسوء البصيرة بـالإسلام. فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيـمان به من أصحابه، قالوا لهم حذاراً علـى أنفسهم: إنا مؤمنون بـالله وبرسوله وبـالبعث، وأعطوهم بألسنتهم كلـمة الـحق لـيدرءوا عن أنفسهم حكم الله فـيـمن اعتقد ما هم علـيه مقـيـمون من الشرك لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم، وإذا لقوا إخوانهم من الـيهود وأهل الشرك والتكذيب بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وبـما جاء به فخـلوا بهم، قالوا:**{ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }** [البقرة: 14] فإياهم عنى جل ذكره بقوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } يعنـي بقوله تعالـى خبراً عنهم «آمّنا بـالله»: صدقنا بـالله. وقد دللنا علـى أن معنى التصديق فـيـما مضى قبل من كتابنا هذا. وقوله: { وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } يعنـي بـالبعث يوم القـيامة. وإنـما سُمِي يوم القـيامة الـيوم الآخر: لأنه آخر يوم، لا يوم بعده سواه. فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاع للآخرة، ولا فناء، ولا زوال؟. قـيـل: إن الـيوم عند العرب إنـما سمي يوما بلـيـلته التـي قبله، فإذا لـم يتقدم النهار لـيـل لـم يسمّ يوماً، فـيوم القـيامة يوم لا لـيـل له بعده سوى اللـيـلة التـي قامت فـي صبـيحتها القـيامة، فذلك الـيوم هو آخر الأيام، ولذلك سماه الله جل ثناؤه: { الـيَوْم الآخر } ، ونعته بـالعقـيـم، ووصفه بأنه يوم عقـيـم لأنه لا لـيـل بعده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وأما تأويـل قوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ونفـيه عنهم جل ذكره اسم الإيـمان، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم آمنَّا بـالله وبـالـيوم الآخر فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فـيـما أخبروا عن اعتقادهم من الإيـمان والإقرار بـالبعث، وإعلام منه نبـيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما فـي ضمائر قلوبهم، وضد ما فـي عزائم نفوسهم. وفـي هذه الآية دلالة واضحة علـى بطول ما زعمته الـجهمية من أن الإيـمان هو التصديق بـالقول دون سائر الـمعانـي غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم فـي كتابه من أهل النفـاق أنهم قالوا بألسنتهم: { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } ثم نفـى عنهم أن يكونوا مؤمنـين، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قـيـلهم ذلك. وقوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } يعنـي بـمصدقـين فـيـما يزعمون أنهم به مصدقون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ووافق سرهم علنهم وفعلهم قولهم. ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً قلوباً وألسنة. ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وأبطنوا خلاف ما أظهروا وهم الذين قال فيهم**{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء }** النساء 143 وسماهم المنافقين، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً، وبالشرك استهزاء وخداعاً. ولذلك أنزل فيهم**{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلاْسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ }** النساء 145 ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، وسجل بطغيانهم، وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل «ناس» أناس، حذفت همزته تخفيفاً كما قيل لوقة، في ألوقة. وحذفها مع لام التعريف كاللازم لا يكاد يقال الأناس. ويشهد لأصله إنسان وأناس وأناسى وإنس. وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون، كما سمي الجنّ لاجتنانهم. ولذلك سموا بشراً. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول. ألا تراك تقول في وزن «قه» افعل، وليس معك إلا العين وحدها؟ وهو من أسماء الجمع كرخال. وأما نويس فمن المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل. ولام التعريف فيه للجنس. ويجوز أن تكون للعهد، والإشارة إلى الذين كفروا المارّ ذكرهم كأنه قيل ومن هؤلاء من يقول. وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه ومن كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق. ونظير موقعه موقع القوم في قولك نزلت ببني فلان فلم يقروني والقوم لئام. ومن في { مَن يَقُولُ } موصوفة، كأنه قيل ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله**{ مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ }** الفتح 25 إن جعلت اللام للجنس. وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله**{ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ }** التوبة 61. فإن قلت كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم على قلوبهم؟ قلت الكفر جمع الفريقين معاً وصيرهم جنساً واحداً. وكون المنافقين نوعاً من نوعي هذا الجنس - مغايراً للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء - لا يخرجهم من أن يكونوا بعضاً من الجنس فإن الأجناس إنما تنوّعت لمغايرات وقعت بين بعضها وبعض. وتلك المغايرات إنما تأتي بالنوعية ولا تأبى الدخول تحت الجنسية. فإن قلت لم اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؟ قلت اختصاصهما بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة لأن القوم كانوا يهوداً، وإيمان اليهود بالله ليس بإيمان، لقولهم**{ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | التوبة 30. وكذلك إيمانهم باليوم الآخر، لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، فكان قولهم { ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } خبثاً مضاعفاً وكفراً موجهاً، لأن قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق وعقيدتهم عقيدتهم، فهو كفر لا إيمان. فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي، كان خبثاً إلى خبث، وكفراً إلى كفر. وأيضاً فقد أوهموا في هذا المقال أنهم اختاروا الإيمان من جانبيه، واكتنفوه من قطريه، وأحاطوا بأوّله وآخره. وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت كيف طابق قوله { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } قولهم { ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ } والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ قلت القصد إلى إنكار ما ادعوه ونفيه، فسلك في ذلك طريق أدّى إلى الغرض المطلوب. وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره، وهو إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين، لما علم من حالهم المنافية لحال الداخلين في الإيمان. وإذا شهد عليهم بأنهم في أنفسهم على هذه الصفة، فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفى ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع. ونحوه قوله تعالى**{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّار وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنْهَا }** المائدة 37 هو أبلغ من قولك وما يخرجون منها. فإن قلت فلم جاء الإيمان مطلقاً في الثاني وهو مقيد في الأوّل؟ قلت يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر، ولا من الإيمان بغيرهما. فإن قلت ما المراد باليوم الآخر؟ قلت يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حدّ له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، لتأخره عن الأوقات المنقضية. وأن يراد الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة الذي لا حدّ للوقت بعده. والخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه. من قولهم ضب خادع وخدع، إذا أمر الحارش يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه، ثم خرج من باب آخر. فإن قلت كيف ذلك ومخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا تخفى عليه خافية لا يخدع، والحكيم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا، ألا نرى إلى قوله | **وٱسْتَمْطَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ كلَّ مِنْخدِعِ** | | | | --- | --- | --- | وقول ذي الرمّة | **إنَّ الحَليمَ وذَا الإِسْلامِ يُخْتَلَبُ** | | | | --- | --- | --- | فقد جاء النعت بالانخداع ولم يأت بالخدع. قلت فيه وجوه. أحدها أن يقال كانت صورة صنعهم مع الله حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، صورة صنع الخادعين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وصورة صنع الله معهم -حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار - صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامهم عليهم. والثاني أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه لأن من كان ادعاؤه الإيمان بالله نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته، ولا أن لذاته تعلقاً بكل معلوم، ولا أنه غني عن فعل القبائح فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي، وتجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. والثالث أن يذكر الله تعالى ويراد الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، كما يقال قال الملك كذا ورسم كذا وإنما القائل والراسم وزيره أو بعض خاصته الذين قولهم قوله ورسمهم رسمه. مصداقه قوله**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }** الفتح 10 وقوله**{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ }** النساء 80. والرابع أن يكون من قولهم أعجبني زيد وكرمه، فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله. وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص، ولما كان المؤمنون من الله بمكان، سلك بهم ذلك المسلك. ومثله**{ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }** التوبة 62 وكذلك**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }** الأحزاب 57 ونظيره في كلامهم علمت زيداً فاضلاً، والغرض فيه ذكر إحاطة العلم بفضل زيد لا به نفسه لأنه كان معلوماً له قديماً كأنه قيل علمت فضل زيد ولكن ذكر زيد توطئة وتمهيد لذكر فضله. فإن قلت هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح؟ قلت وجهه أن يقال عنى به «فعلت» إلا أنه أخرج في زنة «فاعلت» لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه. ويعضده قراءة من قرأ { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا } وهو أبو حيوة. و { يُخَـٰدِعُونَ } بيان ليقول. ويجوز أن يكون مستأنفاً كأنه قيل ولم يدعون الإيمان كاذبين وما رفقهم في ذلك؟ فقيل يخادعون. فإن قلت عمّ كانوا يخادعون؟ قلت كانوا يخادعونهم عن أغراض لهم ومقاصد منها متاركتهم وإعفاؤهم عن المحاربة، وعما كانوا يطرقون به من سواهم من الكفار. ومنها اصطناعهم بما يصطنعون به المؤمنين من إكرامهم والإحسان إليهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم ونحو ذلك من الفوائد، ومنها اطلاعهم - لاختلاطهم بهم - على الأسرار التي كانوا حراصاً على إذاعتها إلى منابذيهم. فإن قلت فلو أظهر عليهم حتى لا يصلوا إلى هذه الأغراض بخداعهم عنها. قلت لم يظهر عليهم لما أحاط به علماً من المصالح التي لو أظهر عليهم لانقلبت مفاسد واستبقاء إبليس وذرّيته ومتاركتهم وما هم عليه من إغواء المنافقين وتلقينهم النفاق أشدّ من ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولكن السبب فيه ما علمه تعالى من المصلحة. فإن قلت ما المراد بقوله { وَمَا يَخادعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ }؟ قلت يجوز أن يراد وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم، ومكرها يحيق بهم، كما تقول فلان يضارّ فلاناً وما يضارّ إلا نفسه، أي دائرة الضرار راجعة إليه وغير متخطية إياه، وأن يراد حقيقة المخادعة أي وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ويكذبونها فيما يحدثونها به، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدّثهم بالأماني، وأن يراد وما يخدعون فجيء به على لفظ «يفاعلون» للمبالغة. وقرىء «وما يخدعون»، ويخدعون من خدع. ويخدعون - بفتح الياء - بمعنى يخدعون. ويخدعون. ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله. والنفس ذات الشيء وحقيقته. يقال عندي كذا نفساً. ثم قيل للقلب نفس لأن النفس به. ألا ترى إلى قولهم المرء بأصغريه. وكذلك بمعنى الروح، وللدم نفس لأن قوامها بالدم. وللماء نفس لفرط حاجتها إليه. قال الله تعالى**{ وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَىْء حَي }** الأنبياء 30 وحقيقة نفس الرجل بمعنى عين أصيبت نفسه، كقولهم فلان يؤامر نفسيه - إذا تردّد في الأمر اتجه له رأيان وداعيان لا يدري على أيهما يعرج كأنهم أرادوا داعيي النفس، وهاجسي النفس فسموهما نفسين، إما لصدورهما عن النفس، وإما لأن الداعيين لما كانا كالمشيرين عليه والآمرين له، شبهوهما بذاتين فسموهما نفسين. والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم. والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم. ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم. والشعور علم الشيء علم حس من الشعار. ومشاعر الإنسان حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له. واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة ومجازاً، فالحقيقة أن يراد الألم كما تقول في جوفه مرض. والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب، كسوء الاعتقاد، والغل، والحسد والميل إلى المعاصي، والعزم عليها، واستشعار الهوى، والجبن، والضعف، وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك. والمراد به هنا ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر، أو من الغل والحسد والبغضاء، لأن صدورهم كانت تغلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلا وحنقاً ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله**{ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَاء مِنْ أَفْوٰهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ }** آل عمران 118 ويتحرقون عليهم حسداً**{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ }** آل عمران 120 وناهيك مما كان من ابن أبيّ وقول سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم 17 «اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك». | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أو يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور، لأن قلوبهم كانت قوية، إما لقوة طمعهم فيما كانوا يتحدثون به أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تسكن ولواءه يخفق أياماً ثم يقرّ، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال الله على رسوله النصر وإظهار دين الحق على الدين كله. وإما لجراءتهم وجسارتهم في الحروب فضعفت جبناً وخوراً حين قذف الله في قلوبهم الرعب وشاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله لهم بالملائكة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 18 **" نصرت بالرعب مسيرة شهر "** ومعنى زيادة الله إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فسمعوه كفروا به فازدادوا كفراً إلى كفرهم، فكأن الله هو الذي زادهم ما ازدادوه إسناداً للفعل إلى المسبب له، كما أسنده إلى السورة في قوله**{ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }** التوبة 125 لكونها سبباً. أو كلما زاد رسوله نصرة وتبسطاً في البلاد ونقصاً من أطراف الأرض ازدادوا حسداً وغلا وبغضاً وازدادت قلوبهم ضعفاً وقلة طمع فيما عقدوا به رجاءهم وجبناً وخوراً. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع. وقرأ أبو عمر في رواية الأصمعي مرْض، ومرْضاً، بسكون الراء يقال ألم فهو { أَلِيمٌ } كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به نحو قوله | **تحِيَّةُ بَيْنَهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ** | | | | --- | --- | --- | وهذا على طريقة قولهم جدّ جدّه. والألم في الحقيقة للمؤلم كما أنّ الجدّ للجادّ. والمراد بكذبهم قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر. وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم. ونحوه قوله تعالى**{ مّمَّا خَطِيئَـٰتِهِمْ أُغْرِقُواْ }** نوح 71 والقوم كفرة. وإنما خصت الخطيآت استعظاماً لها وتنفيراً عن ارتكابها. والكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله. وأمَّا مَاً يروى عن إبراهيم عليه السلام. 19 «أنه كذب ثلاث كذبات». فالمراد التعريض. ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمى به. وعن أبي بكر رضي الله عنه وروى مرفوعاً 20 **" إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان "** وقرىء «يكذبون»، من كذبه الذي هو نقيض صدقه أو من كذّب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل صدّق. ونظيرهما بان الشيء وبين، وقلص الثوب وقلص. أو بمعنى الكثرة كقولهم موتت البهائم، وبركت الإبل، أو من قولهم كذب الوحشي إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظر ما وراءه لأن المنافق متوقف متردّد في أمره، ولذلك قيل له مذبذب. وقال عليه السلام 21 **" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
اللغة: الناس والبشر والأنس نظائر وهي الجماعة من الحيوان المتميزة بالصورة الإنسانية وأصله أناس من الأنس ووزنه فعال فأسقطت الهمزة منها لكثرة الاستعمال إذا دخلها الألف واللام للتعريف ثم أدغمت لام التعريف في النون كما قيل لكنا والأصل لكن أنا وقيل الناس مأخوذة من النوس وهو الحركة وتصغيره نويس ووزنه فعل وقيل أخذ من الظهور فسمي ناساً وإنساناً لظهوره وإدراك البصر إياه يقال آنست ببصري شيئاً وقال الله سبحانه:**{ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً }** [طه: 10] والإنسان واحد والناس جمعه لا من لفظه وقيل أخذ من النيسان لقولـه تعالى:**{ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }** [طه: 115] وأصل الإنسان أنسيان ولذلك قيل في تحقيره وتصغيره انيسيان فردّ إلى الأصل واليوم الآخر يوم القيامة وإنما سمي آخر لأنه يوم لا يوم بعده سواه إذ ليس بعده ليلة وقيل لأنه متأخر عن أيام الدنيا وإنما فتح نون من عند التقاء الساكنين استثقالاً لتوالي الكسرتين لو قلت من الناس فأما عن الناس فلا يجوز فيه إلا الكسر لأن أول عن مفتوحٌ ومن يقول النون تدغم في الياء فمنهم من يدغم بغنّة ومنهم من يدغم بغير غنّة. الإعراب: من يقول موصول وصلة وهو مرفوع بالابتداء أو بالظرف على ما تقدم بيانه وقولـه: { آمنا بالله وباليوم الآخر } حديث يتعلق بقولـه يقول وما حرف شبه بليس من حيث يدخل على المبتدأ والخبر كما يدخل ليس عليهما وفيه نفي الحال كما في ليس فأجرى مجراه في العمل في قول أهل الحجاز على ما جاء به التنزيل وهم مرفوع لأنه اسم ما والباء في قولـه بمؤمنين مزيدة دخلت توكيداً للنفي وهو حرف جار ومؤمنين مجرور به وبمؤمنين في موضع نصب بكونه خبر ما ولفظة من تقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ولذلك عاد الذكر إليه مجموعاً على المعنى ومنه قول الفرزدق: | **تَعَالَ فَإِنْ عَاهَدْتَني لا تَخُونَني** | | **نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يا ذِئبُ يَصْطَحِبَانِ** | | --- | --- | --- | فثنى الضمير العائد إلى من على المعنى. النزول: نزلت في المنافقين وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهم وأكثرهم من اليهود. المعنى: بيَّن الله تعالى حالهم فأخبر سبحانه أنهم يقولون صدّقنا بالله وما أنزل على رسوله من ذكر البعث فيظهرون كلمة الإيمان وكان قصدهم أن يطلعوا على أسرار المسلمين فينقلوها إلى الكفار أو تقريب الرسول إياهم كما كان يقرب المؤمنين ثم نفى عنهم الإيمان فقال: { وما هم بمؤمنين } وفي هذا تكذيبهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث فبيَّن أنَّ ما قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم وهذا يدل على فساد قول من يقول الإيمان مجرد القول. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
اعلم أن المفسرين أجمعوا على أن ذلك في وصف المنافقين قالوا: وصف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بالمؤمنين المخلصين الذين صحت سرائرهم وسلمت ضمائرهم، ثم أتبعهم بالكافرين الذين من صفتهم الإقامة على الجحود والعناد، ثم وصف حال من يقول بلسانه إنه مؤمن وضميره يخالف ذلك، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أعلم أن الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلص إلا بتقسيم نذكره فنقول: أحوال القلب أربعة، وهي الاعتقاد المطابق المستفاد عن الدليل وهو العلم والاعتقاد المطابق المستفاد لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد، والاعتقاد الغير المطابق وهو الجهل، وخلو القلب عن كل ذلك. فهذه أقسام أربعة، وأما أحوال اللسان فثلاثة: الإقرار والإنكار، والسكوت. فيحصل من تركيباتها اثنا عشر قسماً. النوع الأول: ما إذا حصل العرفان القلبي فههنا إما أن ينضم إليه الإقرار باللسان أو الإنكار باللسان أو السكوت. القسم الأول: ما إذا حصل العرفان بالقلب والإقرار باللسان فهذا الإقرار إن كان اختيارياً فصاحبه مؤمن حقاً بالإتفاق، وإن كان اضطرارياً وهو ما إذا عرف بقلبه ولكنه يجد من نفسه أنه لولا الخوف لما أقر، بل أنكر، فهذا يجب أن يعد منافقاً لأنه بقلبه منكر مكذب، فإذا كان باللسان مقراً مصدقاً وجب أن يعد منافقاً لأنه بقلبه منكر مكذب بوجوب الإقرار. القسم الثاني: أن يحصل العرفان القلبي والإنكار اللساني فهذا الإنكار إن كان اضطرارياً كان صاحبه مسلماً، لقوله تعالى:**{ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ }** [النحل: 106] وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً. القسم الثالث: أن يحصل العرفان القلبي ويكون اللسان خالياً عن الإقرار والإنكار، فهذا السكوت إما أن يكون اضطرارياً أو اختيارياً، فإن كان اضطرارياً فذلك إذا خاف ذكره باللسان فهذا مسلم حقاً أو كما إذا عرف الله بدليله ثم لما تمم النظر مات فجأة، فهذا مؤمن قطعاً، لأنه أتى بكل ما كلف به ولم يجد زمان الإقرار والإنكار فكان معذوراً فيه، وأما إن كان اختيارياً فهو كمن عرف الله بدليله ثم إنه لم يأت بالإقرار، فهذا محل البحث، وميل الغزالي رحمه الله إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه السلام: **" يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان "** وهذا الرجل قلبه مملوء من نور الإيمان فكيف لا يخرج من النار. النوع الثاني: أن يحصل في القلب الاعتقاد التقليدي، فإما أن يوجد معه الإقرار، أو الإنكار أو السكوت. القسم الأول: أن يوجد معه الإقرار، ثم ذلك الإقرار إن كان اختيارياً فهذا هو المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا؟ وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر، فها هنا لا كلام، وإن حكمنا هناك بالإيمان وجب أن يحكم ها هنا بالنفاق، لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً، فبأن يكون منافقاً عند التقليد كان أولى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | القسم الثاني: الاعتقاد التقليدي مع الإنكار اللساني، ثم هذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شك في الكفر، وإن كان اضطرارياً وحكمنا بإيمان المقلد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصورة. القسم الثالث: الاعتقاد التقليدي مع السكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً، وحكمه حكم القسم الثالث من النوع الأول إذا حكمنا بإيمان المقلد. النوع الثالث: الإنكار القلبي فإما أن يوجد معه الإقرار اللساني، أو الإنكار اللساني، أو السكوت. القسم الأول: أن يوجد معه الإقرار اللساني، فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المنافق وإن كان اختيارياً فهو مثل أن يعتقد بناءً على شبهة أن العالم قديم ثم بالاختيار أقر باللسان أن العالم محدث، وهذا غير مستبعد، لأنه إذا جاز أن يعرف بالقلب ثم ينكر باللسان وهو كفر الجحود والعناد، فلم لا يجوز أن يجهل بالقلب ثم يقر باللسان؟ فهذا القسم أيضاً من النفاق. القسم الثاني: أن يوجد الإنكار القلبي ويوجد الإنكار اللساني فهذا كافر وليس بمنافق، لأنه ما أظهر شيئاً بخلاف باطنه. القسم الثالث: أن يوجد الإنكار القلبي مع السكوت اللساني فهذا كافر وليس بمنافق لأنه ما أظهر شيئاً. النوع الرابع: القلب الخالي عن جميع الاعتقادات فهذا إما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت. القسم الأول: إذا وجد الإقرار فهذا الإقرار إما أن يكون اختيارياً أو اضطرارياً، فإن كان اختيارياً، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا؟ وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر، أما إذا كان اضطرارياً لم يكفر صاحبه، لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً. القسم الثاني: القلب الخالي مع الإنكار باللسان وحكمه على العكس من حكم القسم العاشر القسم الثالث: القلب الخالي مع اللسان الخالي، فهذا إن كان في مهلة النظر فذاك هو الواجب، وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا يحكم عليه بالنفاق البتة، فهذه هي الأقسام الممكنة في هذا الباب، وقد ظهر منه أن النفاق ما هو، وأنه الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ما في ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره، وإذ عرفت هذا ظهر أن قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } المراد منه المنافقون والله أعلم. المسألة الثانية: اختلفوا في أن كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المنافق؟ قال قوم كفر الكافر الأصلي أقبح، لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال آخرون بل المنافق أيضاً كاذب باللسان، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه، ولذلك قال تعالى:**{ قَالَتِ ٱلأعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ }** [الحجرات: 14] وقال:**{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ }** [المنافقون: 1] ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة. أحدها: أنه قصد التلبيس والكافر الأصلي ما قصد ذلك. وثانيها: أن الكافر عى طبع الرجال، والمنافق على طبع الخنوثة. وثالثها: أن الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ولم يرض إلا بالصدق، والمنافق رضي بذلك. ورابعها: أن المنافق ضم إلى كفره الاستهزاء بخلاف الكافر الأصلي، ولأجل غلظ كفره قال تعالى:**{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلأسْفَلِ مِنَ ٱلنَّار }** [النساء: 145]. وخامسها: قال مجاهد: إنه تعالى ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ثنى بذكر الكفار في آيتين ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية، وذلك يدل على أن المنافق أعظم جرماً. وهذا بعيد، لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم، فإن عظم فلغير ذلك، وهو ضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي كالمخادعة والاستهزاء، وطلب الغوائل إلى غير ذلك، ويمكن أن يجاب عنه بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدل على أن الاهتمام بدفع شرهم أشد من الاهتمام بدفع شر الكفار، وذلك يدل على أنهم أعظم جرماً من الكفار. المسألة الثالثة: هذه الآية دالة على أمرين: الأول: أنها تدل على أن من لا يعرف الله تعالى وأقر به فإنه لا يكون مؤمناً، لقوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } وقالت الكرامية: إنه يكون مؤمناً الثاني: أنها تدل على بطلان قول من زعم أن كل المكلفين عارفون بالله، ومن لم يكن به عارفاً لا يكون مكلفاً أما الأول فلأن هؤلاء المنافقين لو كانوا عارفين بالله وقد أقروا به لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيماناً، لأن من عرف الله تعالى وأقر به لا بدّ وأن يكون مؤمناً وأما الثاني فلأن غير العارف لو كان معذوراً لما ذم الله هؤلاء على عدم العرفان، فبطل قول من قال من المتكلمين: إن من لا يعرف هذه الأشياء يكون معذوراً. المسألة الرابعة: ذكروا في اشتقاق لفظ الإنسان وجوهاً: أحدها: يروى عن ابن عباس أنه قال: سمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي، وقال الشاعر. سميت إنساناً لأنك ناسي. وقال أبو الفتح البستي: | **يا أكثر الناس إحساناً إلى الناس** | | **وأكثر الناس إفضالاً على الناس** | | --- | --- | --- | | **نسيت عهدك والنسيان مغتفر** | | **فاغفر فأول ناس أول الناس** | وثانيها: سمي إنساناً لاستئناسه بمثله. وثالثها: قالوا: الإنسان إنما سمي إنساناً لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون من قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ آنس مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً }** [القصص: 29] كما سمي الجن لاجتنانهم. واعلم أنه لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً من شيء آخر وإلا لزم التسلسل، وعلى هذا لا حاجة إلى جعل لفظ الإنسان مشتقاً من شيء آخر. المسألة الخامسة: قال ابن عباس: أنها نزلت في منافقي أهل الكتاب، منهم عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير، وجد ابن قيس، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ويقولون إنا لنجد في كتابنا نعته وصفته ولم يكونوا كذلك إذا خلا بعضهم إلى بعض. المسألة السادسة: لفظة «من» لفظة صالحة للتثنية، والجمع، والواحد. أما في الواحد فقوله تعالى:**{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ }** [الأنعام: 25] وفي الجمع كقوله:**{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ }** [يونس: 42] والسبب فيه أنه موحد اللفظ مجموع المعنى، فعند التوحيد يرجع إلى اللفظ. وعند الجمع يرجع إلى المعنى، وحصل الأمران في هذه الآية لأن قوله تعالى: { يقُولُ } لفظ الواحد و { آمنا } لفظ الجمع وبقي من مباحث الآية أسئلة. السؤال الأول: المنافقون كانوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر ولكنهم كانوا منكرين لنبوته عليه السلام فلم كذبهم في إدعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر؟ والجواب: إن حملنا هذه الآية على منافقي المشركين فلا إشكال، لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله ومنكرين البعث والنشور وإن حملناها على منافقي أهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ فإنما كذبهم الله تعالى لأن إيمان اليهود بالله ليس بإيمان، لأنهم يعتقدونه جسماً، وقالوا عزير بن الله، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان، فلما قالوا آمنا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل، وباللسان يوهمون المسلمين بهذا الكلام إنا آمنا لله مثل إيمانكم، فلهذا كذبهم الله تعالى فيه. السؤال الثاني: كيف طابق قوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } قولهم: { آمنا بِٱللَّهِ } والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ والجواب: أن من قال فلان ناظر في المسألة الفلانية، فلو قلت إنه لم يناظر في تلك المسألة كنت قد كذبته، أما لو قلت إنه ليس من الناظرين كنت قد بالغت في تذكيبه، يعني أنه ليس من هذا الجنس، فكيف يظن به ذلك؟ فكذا ههنا لما قالوا آمنا بالله فلو قال الله ما آمنوا كان ذلك تكذيباً لهم أما لما قال: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } كان ذلك مبالغة في تكذيبهم، ونظيره قوله: { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنْهَا } هو أبلغ من قولهم: وما يخرجون منها. السؤال الثالث: ما المراد باليوم الآخر؟ الجواب: يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم، الذي لا ينقطع له أمد، ويجوز أن يراد به الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة. وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة، وما بعده فلا حد له. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
فيه سبع مسائل: الأولى: روى ٱبن جُريج عن مجاهد قال: نزلت أربع آيات من سورة البقرة في المؤمنين، وٱثنتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين. وروى أسباط عن السدّي في قوله: «ومِنَ النَّاسِ» قال: هم المنافقون. وقال علماء الصوفية: الناس ٱسم جنس، وٱسم الجنس لا يخاطب به الأولياء. الثانية: وٱختلف النحاة في لفظ الناس فقيل: هو ٱسم من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانة على غير اللفظ، وتصغيره نُوَيس. فالناس من النَّوْس وهو الحركة يقال: ناس ينوس أي تحرّك ومنه حديث أم زَرْع: «أَنَاسَ من حُلِيٍّ أُذُنَيّ». وقيل: أصله من نسى فأصل ناس نسي قلب فصار نيس تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، ثم دخلت الألف واللام فقيل: الناس. قال ٱبن عباس: نسي آدم عهد الله فسُمِّيَ إنساناً. وقال عليه السلام: **" نسي آدم فنسِيَتْ ذريّتُه "** وفي التنزيل:**{ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ }** [طه:115] وسيأتي. وعلى هذا فالهمزة زائدة قال الشاعر: | **لا تَنْسَيْن تلك العُهودَ فإنَّما** | | **سُمِّيتَ إنساناً لأنّك ناسِي** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **فإنْ نَسِيتَ عهوداً منك سالفةً** | | **فٱغفرْ فأوّلُ ناسٍ أوّلُ الناس** | | --- | --- | --- | وقيل: سمي إنساناً لأِنْسه بحواء. وقيل: لأِنْسه بربه، فالهمزة أصلية قال الشاعر: | **وما سُمِّيَ الإنسانُ إلاّ لأِنْسِهِ** | | **ولا الْقلبُ إلاّ أَنَّه يَتَقَلَّبُ** | | --- | --- | --- | الثالثة: لما ذكر الله جلّ وتعالى المؤمنين أوّلا، وبدأ بهم لشرفهم وفضلهم، ذكر الكافرين في مقابلتهم إذ الكفر والإيمان طرفان. ثم ذكر المنافقين بعدهم وألحقهم بالكافرين قبلهم لنفي الإيمان عنهم بقوله الحق: «وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنينَ». ففي هذا ردّ على الكَرَّامِيّة حيث قالوا: إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب وٱحتجوا بقوله تعالى:**{ فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ }** [المائدة:85] ولم يقل: بما قالوا وأضمروا وبقوله عليه السلام: **" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلٰه إلا الله فإذا قالوها عَصَمُوا منّي دماءهم وأموالهم "** وهذا منهم قصور وجمود، وترْكُ نظرٍ لما نطق به القرآن والسنة من العمل مع القول والاعتقاد وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" الإيمان معرفةٌ بالقلب وقولٌ باللسان وعملٌ بالأركان "** أخرجه ٱبن ماجة في سُنَنه، فما ذهب إليه محمد بن كَرّام السّجستاني وأصحابه هو النفاق وعَيْن الشقاق ونعوذ بالله من الخذلان وسوء الاعتقاد. الرابعة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه ويعاديه فكلّ مَن علم الله أنه يوافي بالإيمان، فالله محب له، موالٍ له، راضٍ عنه. وكلّ مَن علم الله أنه يوافي بالكفر، فالله مبغض له، ساخط عليه، معادٍ له، لا لأجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به. والكافر ضربان: كافر يُعاقَب لا محالة، وكافر لا يُعاقَب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فالذي يُعاقَب هو الذي يُوافِي بالكفر، فالله ساخط عليه معادٍ له. والذي لا يعاقب هو الموافي بالإيمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محبّ له موالٍ لا لكفره لكن لإيمانه الموافى به. فلا يجوز أن يطلق القول وهي: الخامسة: بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة. ولأجل هذا قلنا: إن الله راض عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الأصنام، ومريد لثوابه ودخوله الجنة لا لعبادته الصنم، لكن لإيمانه الموافي به. وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته لكفره الموافي به. وخالفت القَدَريةُ في هذا وقالت: إن الله لم يكن ساخطاً على إبليس وقت عبادته، ولا راضياً عن عمر وقت عبادته للصنم. وهذا فاسد لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافى به إبليس لعنه الله، وبما يوافى به عمر رضي الله عنه فيما لم يزل فثبت أنه كان ساخطاً على إبليس محباً لعمر. ويدل عليه إجماع الأمة على أن الله سبحانه وتعالى غير محب لمن علم أنه من أهل النار، بل هو ساخط عليه وأنه محب لمن علم أنه من أهل الجنة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" وإنما الأعمال بالخواتيم "** ولهذا قال علماء الصوفية: ليس الإيمان ما يتزيّن به العبد قولاً وفعلاً لكن الإيمان جَرْيُ السعادة في سوابق الأزل، وأما ظهوره على الهياكل فربما يكون عارياً، وربما يكون حقيقة. قلت: هذا كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد اللَّه بن مسعود قال حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: **" إن أحدَكم يُجمع خَلْقُه في بطن أمّه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك عَلَقَة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مُضْغَة مثلَ ذلك ثم يُرسِل الله المَلك فيَنْفُخ فيه الرُّوح ويُؤمَر بأربع كلمات بكَتْب رزقه وأجله وعَمَله وشَقِيٌّ أو سعيد فوالذي لا إلٰه غيره إن أحدكم ليَعْمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ فيَسْبِق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل النار فيدخُلُها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيَسْبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها "** فإن قيل وهي: السادسة: فقد خرّج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد المصري من حديث محمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة، وهو محمد بن أبي قيس، عن سليمان بن موسى وهو الأشدق، عن مجاهد بن جبر **" عن ٱبن عباس أخبرنا أبو رَزِين العقيلي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأشربن أنا وأنت يا أبا رزِين من لبن لم يتغيّر طعمه» قال قلت: كيف يحيي الله الموتى؟ قال: «أما مررتَ بأرض لك مُجْدبة ثم مررت بها مخصبة ثم مررت بها مجدبة ثم مررت بها مخصبة» قلت: بلى. قال: «كذلك النشور» قال قلت: كيف لي أن أعلم أني مؤمن؟ قال: «ليس أحد من هذه الأمة ـ قال ٱبن أبي قيس: أو قال من أمتي ـ عمل حسنة وعلم أنها حسنة وأن الله جازيه بها خيراً أو عمل سيئة وعلم أنها سيئة وأن الله جازيه بها شراً أو يغفرها إلا مؤمن ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | قلت: وهذا الحديث وإن كان سنده ليس بالقوي فإن معناه صحيح وليس بمعارض لحديث ٱبن مسعود فإن ذلك موقوف على الخاتمة كما قال عليه السلام: **" وإنما الأعمال بالخواتيم "** وهذا إنما يدل على أنه مؤمن في الحال والله أعلم. السابعة: قال علماء اللغة: إنما سُمِّيَ المنافق منافقاً لإظهاره غير ما يضمر تشبيهاً باليربوع، له جحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء. وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرَقّ التراب فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر. وكذلك المنافق ظاهره إيمان، وباطنه كفر وقد تقدّم هذا المعنى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ } لما افتتح سبحانه وتعالى بشرح حال الكتاب وساق لبيانه، ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله تعالى وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً ولم يلتفتوا لفتة رأساً، ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلاً للقسم، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله لأنهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعاً واستهزاءً، ولذلك طول في بيان خبثهم وجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم، وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم**{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ }** [النساء: 145] وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المُصِّرِّينَ. والناس أصله أناس لقولهم: إنسان وأنس وأناسي فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يكاد يُجْمَع بينهما. وقوله: | **إنَّ المنايا يَطَّلِعْنَ على الإِناس الآمنِينَا** | | | | --- | --- | --- | شاذ. وهو اسم جمع كرجال، إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع. مأخوذ من أنس لأنهم يستأنسون بأمثالهم. أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون، ولذلك سموا بشراً كما سمي الجن جناً لاجتنانهم. واللام فيه للجنس، ومن موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال: ومن الناس ناسٌ يقولون. أو للعهد والمعهود: هم الذين كفروا، ومن موصولة مراد بها ابن أبي وأصحابه ونظراؤه، فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم، واختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيماً للقسم الثاني. واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر، تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادعاء بأنهم احتازوا الإيمان من جانبيه وأحاطوا بقطريه، وإيذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق، لأن القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيماناً كلا إيمان، لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد، وإن الجنة لا يدخلها غيرهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة وغيرها، ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم. وبيان لتضاعف خبثهم وإفراطهم في كفرهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن إيماناً، فكيف وقد قالوه تمويهاً على المسلمين وتهكماً بهم. وفي تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام. والقول هو التلفظ بما يفيد، ويقال بمعنى المقول، وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي والمذهب مجازاً. والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي. أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة. { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } إنكار ما ادعوه ونفي ما انتحلوا إثباته، وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيداً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | أو مبالغة في التكذيب، لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان، ولذلك أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه. والآية تدل على أن من ادعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمناً، لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمناً. والخلاف مع الكرامية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار. وعملي، وهو من أكبر الذنوب كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى، وهذا كما قال ابن جريج المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً، وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وبنو النضير، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقلّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعز الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي بن سلول، وكان رأساً في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال هذا أمر قد توجه، فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرهاً، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة. قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي، ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير، فقال تعالى { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } أي يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر، كما قال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ }** المنافقون 1 أي إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط، لا في نفس الأمر، ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها. أكدوا أمرهم قالوا آمنا بالله وباليوم الآخر، وليس الأمر كذلك كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم، هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى**{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَاذِبُونَ }** المنافقون 1 وبقوله { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }. وقوله تعالى { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا } أي بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى**{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَىْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ }** المجادلة 18 ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } يقول وما يغرون بصنيعهم هذا، ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى**{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }** النساء 142 ومن القراء من قرأ { وَمَا يُخـٰدِعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم } وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد. قال ابن جرير فإن قال قائل كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعاً، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعاً، فكذلك المنافق، سمي مخادعاً لله وللمؤمنين بإظهاره ما ظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهره مستبطن، وذلك من فعله، وإن كان خداعاً للمؤمنين في عاجل الدنيا، فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به، فذلك خديعته نفسه ظناً منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن، كما قال تعالى { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } إعلاماً منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمى أمرهم مقيمون. وقال ابن أبي حاتم أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إليّ حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى يخادعون الله، قال يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك. وقال سعيد عن قتادة { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } نعت المنافق عند كثير خنع الأخلاق، يصدق بلسانه، وينكر بقلبه، ويخالف بعمله، ويصبح على حال، ويمسي على غيره، ويمسي على حال، ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفؤَ السفينة، كلما هبت ريح هبت معها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
ونزل في المنافقين { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ } أي يوم القيامة لأنه آخر الأيام { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } روعي فيه معنى (مَن)، وفي ضمير( يقول) لفظها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
ذكر سبحانه في أول هذه السورة المؤمنين الخلص، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص، ثم ذكر ثالثاً المنافقين وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين، بل صاروا فرقة ثالثة لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى، وفي الباطن الطائفة الثانية، ومع ذلك فهم أهل الدرك الأسفل من النار. وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفاً، وهو من النوس، وهو الحركة، يقال ناس ينوس أي تحرّك، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على غير لفظه، واللام الداخلة عليه للجنس، و " من " تبعيضية أي بعض الناس، و " من " موصوفة أي ومن الناس ناس يقول. والمراد باليوم الآخر الوقت الذي لا ينقطع، بل هو دائم أبداً. والخداع في أصل اللغة الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، وأنشد | **أبيض اللون رقيقٌ طعمه طيبُ الرِّيقِ إذا الرِّيقُ خدعْ** | | | | --- | --- | --- | وقيل أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس، وغيره. والمراد من مخادعتهم لله أنهم صنعوا معه صنع المخادعين، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع. وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم. والمراد بالمخادعة من الله أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء، فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه. والمراد بمخادعة المؤمنين لهم هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهراً، وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر. والمراد بقوله تعالى { وَمَا يُخَـٰدِعُونَ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن. وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، ومن هذا قول من قال من خادعته فانخدع لك فقد خدعك. وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { يخادعون } في الموضعين، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في الثاني { يخدعون }. والمراد بمخادعتهم أنفسهم أنهم يمنونها الأمانيّ الباطلة، وهي كذلك تمنيهم. قال أهل اللغة شعرت بالشيء فطنت. قال في الكشاف والشعور علم الشيء علم حس، من الشعار ومشاعر الإنسان حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمراد بالأنفس هنا ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى النفس كالروح والدم والقلب. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال والمراد بهذه الآية المنافقون. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين قال لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }. وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له ما النفاق؟ قال أن يتكلم بالإسلام ولا يعمل به. وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة، «أن قائلاً من المسلمين قال يا رسول الله ما النجاة غداً؟ **" قال لا تخادع الله "** قال وكيف نخادع الله؟ قال **" أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله فإن المرائي ينادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء يا كافر يا فاجر يا خاسر يا غادر، ضلّ عملك وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن "** **{ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً }** الكهف 110 الآية، و**{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ }** النساء 142 الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال سألت ابن زيد عن قوله { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا } قال هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا أنهم مؤمنون بما أظهروه. وعن قوله { وَمَا يُخَـٰدِعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أنهم ضرّوا أنفسهم بما أضمروا من الكفر والنفاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ } قال يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ }: (من) للتبعيض فإنه أراد به بعض الناس ولم يرد به جميع الناس، فكأنه قال: بعض الناس يقولون: آمنا بالله. وقد قيل: معناه، ومن الناس ناس يقولون: آمنا بالله، يعني صدقنا بالله { وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } وبالبعث [بعد الموت] { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } يعني ليسوا بمصدقين، بل هم منافقون، منهم: عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس، ومن تابعهم من المنافقين وفي هذه الآية دليل على أن القول بغير تصديق القلب لا يكون إيماناً لأن المنافقين كانوا يقولون بألسنتهم، ولم يكن لهم تصديق القلب، فنفى الله الإيمان عنهم فقال: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
قوله تعالى: { يُخَادِعُونَ اللهَ والَّذينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } يعني المنافقين يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بأن يُظهروا من الإيمان خلاف ما يبطنون من الكفر، لأن أصل الخديعة الإخفاء، ومنه مخدع البيت، الذي يخفى فيه، وجعل الله خداعهم لرسوله خداعاً له، لأنه دعاهم برسالته. { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } في رجوع وباله عليهم. { وَمَا يَشْعُرُون } يعني وما يفطنون، ومنه سُمِّي الشاعر، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره، ومنه قولهم ليت شعري. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ)
كان أصل النون أن تكسر لالتقاء الساكنين، لكنها تفتح مع الألف واللام. ومن قال: استثقلت كسرتان تتوالى في كلمة على حرفين فمعترض بقولهم من ابنك ومن اسمك وما أشبهه. واختلف النحويون في لفظ { الناس } فقال قوم: " هي من نسي فأصل ناس نسي قلب فجاء نيس تحركت الياء وانفتح، ما قبلها فانقلبت ألفاً فقيل ناس، ثم دخلت الألف واللام ". وقال آخرون: ناس اسم من أسماء الجموع دون هذا التعليل، دخلت عليه الألف واللام. وقال آخرون: " أصل ناس أناس دخلت الألف واللام فجاء الأناس، حذفت الهمزة فجاء الناس أدغمت اللام في النون لقرب المخارج ". وهذه الآية نزلت في المنافقين. وقوله تعالى: { من يقول آمنا بالله } رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ { من } ومعناها، وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز ان يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحيد، لو قلت ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجز. وسمى الله تعالى يوم القيامة { اليوم الآخر } لأنه لا ليل بعده، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل، ثم نفى تعالى الإيمان عن المنافقين، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب. واختلف المتأولون في قوله تعالى: { يخادعون الله }. فقال الحسن بن أبي الحسن: " المعنى يخادعون رسول الله فأضاف الأمر إلى الله تجوزاً لتعلق رسوله به، ومخادعتهم في تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه ". وقال جماعة من المتأولين: " بل يخادعون الله والمؤمنين، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك ". واختلف القراء في يخادعون الثاني. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: " يخادعون ". وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: " وما يخدعون ". وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بن أبي سبرة: " يُخدعون " بضم الياء. وقرأ قتادة ومورق العجلي: " يُخَدِّعون " بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال وشدها. فوجه قراءة ابن كثير ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ، وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ويجيء ذلك كما قال الشاعر: [عمرو بن كلثوم]: [الوافر]. | **ألاَ لاَ يجْهلنْ أحدٌ عليْنا** | | **فَنَجْهل فوق جهْل الجاهلينا** | | --- | --- | --- | فجعل انتصاره جهلاً، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن فاعل قد تجيء من واحد كعاقبت اللص وطارقت النعل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وتتجه أيضاً هذه القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم ويهجس في خواطرهم من الدخول في الدين والنفاق فيه والكفر في الأمر وضده في هذا المعنى بمنزلة مجاورة أجنبيين فيكون الفعل كأنه من اثنين. وقد قال الشاعر: [الكميت] [الطويل]. | **تذكر من أَنَّى ومن أين شربه** | | **يؤامرُ نفسيه كذي الهجمة الأبل** | | --- | --- | --- | وأنشد ابن الأعرابي: [المنسرح] | **لم تدر ما لا ولست قائلها** | | **عمرك ما عشت آخر الأبد** | | --- | --- | --- | | **ولم تؤامرْ نفسيك ممترياً فيـ** | | **ـهـا وفي أختها ولم تكد** | وقال الآخر: | **يؤامر نفسيهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ** | | **أيستوتغ الذوبانَ أمْ لا يـطورُها** | | --- | --- | --- | وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي: [الطويل] | **وكنتَ كذات الضنء لم تدر إذْ بَغَتْ** | | **تؤامرُ نفسيْها أتسرِقُ أم تزني** | | --- | --- | --- | ووجه قراءة عاصم ومن ذكر، أن ذلكَ الفعل هو خدع لأنفسهم يمضي عليها، تقول: " خادعت الرجل " بمعنى أعملت التحيل عليه، فخدعته بمعنى تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد، والمصدر " خِدع " بكسر الخاء وخديعة، حكى ذلك أبو زيد. فمعنى الآية وما ينفذون السوء إلا على أنفسهم فيها. ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين إما أن يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل كما قال تعالى:**{ واختار موسى قومه }** [الأعراف: 155] أي من قومه وإما أن يكون " يخدعون " أعمل عمل ينتقصون لما كان المعنى وما ينقصون ويستلبون إلا أنفسهم، ونحوه قول الله تعالى:**{ ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم }** [البقرة: 187] ولا تقول رفثت إلى المرأة ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك، ومنه قوله تعالى:**{ هل لك إلى أن تزكى }** [النازعات: 18] وإنما يقال هل لك في كذا، ولكن لما كان المعنى أجد بك إلى أن تزكى ساغ ذلك وحسن، وهو باب سني من فصاحة الكلام، ومنه قول الفرزدق: [الرجز]: | **كيف تراني قالباً مجني** | | **قد قتل الله زياداً عنّي** | | --- | --- | --- | لما كانت قتل قد دخلها معنى صرف. ومنه قول الآخر: [نحيف العامري]: [الوافر] | **إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ** | | **لعمر اللَّهِ أعجبني رضاها** | | --- | --- | --- | لما كانت رضيت قد تضمنت معنى أقبلت علي. وأما الكسائي فقال في هذا البيت: " وصل رضي بوصل نقيضه وهو سخط وقد تجرى أمور في اللسان مجرى نقائضها ". ووجه قراءة قتادة المبالغة في الخدع، إذ هو مصير إلى عذاب الله. قال الخليل: " يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة، كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة ". قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا من دقيق نظره وكأنه يرد فاعل إلى الاثنين، ولا بد من حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة، فكأنه يقاوم في المعنى الذي تجيء فيه فاعل. وقوله تعالى: { وما يشعرون } معناه وما يعلمون علم تفطن وتهد، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان، وهو مأخوذ من الشعر، والشاعر المتفطن لغريب المعاني. وقولهم: " ليت شعري " معناه ليت فطنتي تدرك، ومن هذا المعنى قول الشاعر: [المنخل الهذلي]. | **عقوا بسهمٍ فلم يشعرْ به أحدٌ** | | **ثم استفاؤوا وقالوا حبّذا الوضح** | | --- | --- | --- | واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له: فقالت طائفة: " وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار ". وقال آخرون: " وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم آمنا ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى: { ومن الناس من يقول آمنا بالله } اختلفوا فيمن نزلت على قولين. أحدهما أنها في المنافقين، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال أبو العالية، وقتادة، وابن زيد. والثاني: أنها في منافقي أهل الكتاب. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن سيرين: كانوا يتخوفون من هذه الآية. وقال قتادة: هذه الآية نعت المنافق، يعرف بلسانه، وينكر بقلبه، و يصدق بلسانه ويخالف بعمله، ويصبح على حالٍ ويمسي على غيرها، ويتكفأ تكفأ السفينة، كلما هبت ريح هب معها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ)
{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } ، الناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومرادفه: أناسي، جمع: إنسان أو إنسي. قد قالت العرب: ناس من الجن، حكاه ابن خالويه، وهو مجاز إذ أصله في بني آدم، ومادته عند سيبويه رحمه الله والفراء: همزة ونون وسين، وحذفت همزته شذوذاً، وأصله أناس ونطق بهذا الأصل، قال تعالى:**{ يوم ندعوا كل أناس بإمامهم }** [الإسراء: 71]، فمادته ومادة الإنس واحدة. وذهب الكسائي إلى أن مادته نون وواو وسين، ووزنه فعل مشتق من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس نوساً إذا تحرك، والنوس: تذبذب الشيء في الهواء، ومنه نوس القرط في الأذن وذلك لكثرة حركته. وذهب قوم إلى أنه من نسي، وأصله نسي ثم قلب فصار نيس، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فقيل: ناس، ثم دخلت الألف واللام. والكلام على هذه الأقوال مذكور في علم التصريف. من: موصولة، وشرطية، واستفهامية، ونكرة موصوفة، وتقع على ذي العلم، وتقع أيضاً على غير ذي العلم إذا عومل معاملة العالم، أو اختلط به فيما وقعت عليه أو فيما فصل بها، ولا تقع على آحاد ما لا يعقل مطلقاً خلافاً لزاعم ذلك. وأكثر لسان العرب أنها لا تكون نكرة موصوفة إلا في موضع يختص بالنكرة، كقول سويد بن أبي كاهل: | **رب من أنضجت غيظاً صدره** | | **لو تمنى لي موتاً لم يطع** | | --- | --- | --- | ويقلّ استعمالها في موضع لا يختص بالنكرة، نحو قول الشاعر: | **فكفى بنا فضلاً على من غيرنا** | | **حب النبي محمد إيانا** | | --- | --- | --- | وزعم الكسائي أن العرب لا تستعمل من نكرة موصوفة إلا بشرط وقوعها في موضع لا يقع فيه إلا النكرة، وزعم هو وأبو الحسن الخفائي أنها تكون زائدة، وقال الجمهور: لا تزاد. وتقع من على العاقل المعدوم الذي لم يسبقه وجود، تتوهمه، موجوداً خلافاً لبشر المريسي، وفاقاً للفراء، وصححه أصحابنا. فأما قول العرب: أصبحت كمن لم يخلق فنزيد: كمن قد مات، وأكثر المعربين للقرآن متى صلح عندهم تقدير ما أو من بشيء جوزوا فيها أن تكون نكرة موصوفة، وإثبات كون ما نكرة موصوفة يحتاج إلى دليل، ولا دليل قاطع في قولهم: مررت بما معجب لك لإمكان الزيادة، فإن اطرد ذلك في الرفع والنصب من كلام العرب، كان سرني ما معجب لك وأحببت ما معجباً لك، كان في ذلك تقوية لما دعى النحويون من ذلك، ولو سمع لأمكنت الزيادة أيضاً لأنهم زادوا ما بين الفعل ومرفوعه والفعل ومنصوبه. الزيادة أمر ثابت لما، فإذا أمكن ذلك فيها فينبغي أن يحمل على ذلك ولا يثبت لها معنى إلا بدليل قاطع. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأمعنت الكلام في هذه المسألة بالنسبة إلى ما يقع في هذا الكتاب من علم النحو لما ينبني على ذلك في فهم القرآن. القول: هو اللفظ الموضوع لمعنى وينطلق على اللفظ الدال على النسبة الإسنادية، وهو الكلام وعلى الكلام النفساني، ويقولون في أنفسهم:**{ لولا يعذبنا الله }** [المجادلة: 8]، وتراكيبه الست تدل على معنى الخفة والسرعة، وهو متعد لمفعول واحد، فإن وقعت جملة محكية كانت في موضع المفعول، وللقول فصل معقود في النحو. الخداع: قيل إظهار غير ما في النفس، وأصله الإخفاء، ومنه سمي البيت المفرد في المنزل مخدعاً لتستر أهل صاحب المنزل فيه، ومنه الأخدعان: وهما العرقان المستبطنان في العنق، وسمي الدهر خادعاً لما يخفي من غوائله، وقيل الخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه، من قولهم: ضب خادع وخدع إذا أمر الحارث، وهو صائد الضب، يده على باب حجره أوهمه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر، وهو راجع إلى معنى القول الأول، وقيل أصله الفساد، من قول الشاعر: | **أبيض اللون لذيذ طعمه** | | **طيب الريق إذا الريق خدع** | | --- | --- | --- | أي فسد. إلا: حرف، وهو أصل لذوات الاستثناء، وقد يكون ما بعده وصفاً، وشرط الوصف به جواز صلاحية الموضع للاستثناء. وأحكام إلا مستوفاة في علم النحو. النفس: الدم، أو النفس: المودع في الهيكل القائم به الحياة، والنفس، الخاطر، ما يدري أي نفسيه يطيع، وهل النفس الروح أم هي غيره؟ في ذلك خلاف. وفي حقيقة النفس خلاف كثير ومجمع على أنفس ونفوس، وهما قياس فعل الإسم الصحيح العين في جميعه القليل والكثير. الشعور: إدراك الشيء من وجه يدق مشتق من الشعر، والإدراك بالحاسة مشتق من الشعار، وهو ثوب بلى الجسد ومشاعر الإنسان حواسه. { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } ، المرض: مصدر مرض، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور، ومنه قيل: فلان يمرض الحديث أي يفسده ويضعفه. وقال ابن عرفة: المرض في القلب: الفتور عن الحق، وفي البدن: فتور الأعضاء، وفي العين: فتور النظر، ويطلق ويراد به الظلمة، قال: | **في ليلة مرضت من كل ناحية** | | **فما يحس به نجم ولا قمر** | | --- | --- | --- | وقيل: المرض: الفساد، وقال أهل اللغة: المرض والألم والوجع نظائر. الزيادة: قبلها يتعدى إلى اثنين من باب أعطى وكسى، وقد تستعمل لازماً نحو: زاد المال. أليم: فعيل من الألم بمعنى مفعل، كالسميع بمعنى المسمع، أو للمبالغة وأصله ألم. كان: فعل يدخل على المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، فيدل على زمان مضمون الجملة فقط، أو عليه وعلى الصيرورة، وتسمى ناقصة وتكتفي بمرفوع فتارة تكون فعلاً لازماً وتارة متعدياً، بمعنى كفل أو غزل: كنت الصبي كفلت، وكنت الصوف غزلته، وهذا من غريب اللغات، وقد تزاد ولا فاعل لها إذ ذاك خلافاً لأبي سعيد، وأحكامها مستوفاة في النحو. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | التكذيب: مصدر كذب، والتضعيف فيه للرمي به كقولك: شجعته وجبنته، أي رميته بالشجاعة والجبن، وهي أحد المعاني التي جاءت لها فعل وهي أربعة عشرة: الرمي، والتعدية، والتكثير، والجعل على صفة، والتسمية، والدعاء للشيء أو عليه، والقيام على الشيء، والإزالة، والتوجه، واختصار الحكاية، وموافقة تفعل وفعل، والإغناء عنهما، مثل ذلك: جبنته، وفرحته، وكثرته، وفطرته، وفسقته، وسقيته، وعقرته، ومرضته، وقذيت عينه، وشوق، وأمن، قال: آمين، وولى: موافق تولى، وقدر: موافق قدر، وحمر: تكلم بلغة حمير، وعرد في القتال. وأما الكذب فسيأتي الكلام عليه، لما ذكر من الكتاب هدى لهم، وهم المتقون الذين جمعوا أوصاف الإيمان من خلوص الإعتقاد وأوصاف الإسلام من الأفعال البدنية والمالية، ولما ذكر ما آل أمرهم إليه في الدنيا من الهدى وفي الآخرة من الفلاح. ثم أعقب ذلك بمقابلهم من الكفار الذين ختم عليهم بعدم الإيمان، وختم لهم بما يؤولون إليه من العذاب في النيران. وبقي قسم ثالث أظهروا الإسلام مقالاً وأبطنوا الكفر اعتقاداً وهم المنافقون، أخذ يذكر شيئاً من أحوالهم. ومن في قوله: ومن الناس للتبعيض، وأبعد من ذهب إلى أنها لبيان الجنس لأنه لم يتقدم شيء مبهم فيبين جنسه. والألف واللام في الناس للجنس أو للعهد، فكأنه قال: ومن الكفار السابق ذكرهم من يقول ولا يتوهم أنهم غير مختوم على قلوبهم، كما ذهب إليه الزمخشري فقال: فإن قلت كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقين غير مختوم على قلوبهم؟ وأجاب بأن الكفر جمع الفريقين وصيرهم جنساً واحداً، وكون المنافقين نوعاً من نوعي هذا الجنس مغايراً للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء لا يخرجهم من أن يكونوا بعضاً من الجنس، انتهى. لأن المنافقين داخلون في الأوصاف التي ذكرت للكفار من استواء الإنذار وعدمه، وكونهم لا يؤمنون، وكونهم مختوماً على قلوبهم وعلى سمعهم ومجعولاً على أبصارهم غشاوة ومخبراً عنهم أنهم لهم عذاب عظيم، فهم قد اندرجوا في عموم الذين كفروا وزادوا أنهم قد ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في دعواهم. وسيأتي شرح ذلك. وسأل سائل: ما معنى: { ومن الناس من يقول }؟ ومعلوم أن الذي يقول هو من الناس، فكيف يصلح لهذا الجار والمجرور وقوعه خبراً للمبتدأ بعده؟ فأجيب بأن هذا تفصيل معنوي لأنه تقدم ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكافرين، ثم أعقب بذكر المنافقين، فصار نظير التفصيل اللفظي في قوله: ومن الناس من يعجبك، ومن الناس من يشري نفسه، فهو في قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق، كما فصلوا إلى من يعجبك قوله، ومن يشري نفسه، ومن: في قوله تعالى: { من يقول } نكرة موصوفة مرفوعة بالابتداء، والخبر الجار والمجرور المتقدم الذكر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويقول: صفة، هذا اختيار أبي البقاء، وجوز الزمخشري هذا الوجه. وكأنه قال: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله:**{ من المؤمنين رجال صدقوا }** [الأحزاب: 23] قال: إن جعلت اللام للجنس يعني في قوله: ومن الناس، قال: وإن جعلها للعهد فموصولة كقوله:**{ ومنهم الذين يؤذون النبي }** [التوبة: 61] واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة بمعنى الذي قال، لأن الذي يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام والتقدير، ومن الناس فريق يقول: وما ذهب إليه الزمخشري من أن اللام في الناس، إن كانت للجنس كانت من نكرة موصوفة، وإن كانت للعهد كانت موصولة، أمر لا تحقيق له، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد، ولا يلزم ذلك، بل يجوز أن تكون اللام للجنس ومن موصولة، ويجوز أن تكون للعهد، ومن نكرة موصوفة فلا تلازم بين ما ذكره. وأما استضعاف أبي البقاء كون من موصولة وزعمه أن المعنى على الإبهام فغير مسلم، بل المعنى أنها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين، وهم: عبد الله بن أبي بن سلول، وأصحابه، ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وقد وصفهم الله تعالى في ثلاث عشرة آية، وذكر عنهم أقاويل معينة قالوها، فلا يكن ذلك صادراً إلا من معين فأخبر عن ذلك المعين. والذي نختار أن تكون من موصولة، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى ومن حيث التركيب الفصيح. ألا ترى جعل من نكرة موصوفة إنما يكون ذلك إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وهذا الكلام ليس من المواضع التي تختص بالنكرة، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جداً، حتى أن الكسائي أنكر ذلك وهو إمام نحو وسامع لغة، فلا نحمل كتاب الله ما أثبته بعض النحويين في قليل وأنكر وقوعه أصلاً الكسائي، فلذلك اخترنا أن تكون موصولة. ومن: من الأسماء التي لفظها مفرد مذكر دائماً، وتنطلق عليه فروع المفرد والمذكر إذا كان معناها كذلك فتارة يراعي اللفظ فيفرد ما يعود على من مذكراً، وتارة يراعي المعنى فيحمل عليه ويطلق المعربون ذلك، وفي ذلك تفصيل كثير ذكر في النحو. قال ابن عطية: من يقول آمنا رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ من ومعناها وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحد، لو قلت: ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجز، انتهى كلامه. وما ذكر من أنه لا يرجع من لفظ جمع إلى توحد خطأ، بل نص النحويون على جواز الجملتين، لكن البدء بالحمل على اللفظ ثم على المعنى أولى من الابتداء بالحمل على المعنى، ثم يرجع إلى الحمل على اللفظ، ومما رجع فيه إلى الإفراد بعد الجمع قول الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **لست ممن يكع أو يستكينو** | | **ن إذا كافحته خيل الأعادي** | | --- | --- | --- | وفي بعض هذه المسائل تفصيل، كما أشرنا إليه. ويقول: أفرد فيه الضمير مذكراً على لفظ من، وآمنا: جملة هي المقولة، فهي في موضع المفعول وأتى بلفظ الجمع رعياً للمعنى، إذ لو راعى لفظ من قال آمنت. واقتصروا من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر حيدة منهم عن أن يعترفوا بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وإيهاماً أنهم من طائفة المؤمنين، وإن كان هؤلاء، كما زعم الزمخشري، يهوداً. فإيمانهم بالله ليس بإيمان، كقولهم:**{ عزير ابن الله }** [التوبة: 30] وباليوم الآخر، كذلك لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، وهم لو قالوا ذلك على أصل عقيدتهم لكان كفراً، فكيف إذا قالوا ذلك على طريقة النفاق خديعة للمسلمين واستهزاءً بهم؟ وفي تكرير الباء دليل على مقصود كل ما دخلت عليه الباء بالإيمان. واليوم الآخر يحتمل أن يراد به: الوقت المحدود من البعث إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعد لهم، ويحتمل أن يراد به: الأبد الدائم الذي لا ينقطع. وسمي آخراً لتأخره، إما عن الأوقات المحدودة باعتبار الاحتمال الأول أو عن الأوقات المحدودة باعتبار الاحتمال الثاني. والباء في بمؤمنين زائدة والموضع نصب لأن ما حجازية وأكثر لسان الحجاز جر الخبر بالباء، وجاء القرآن على الأكثر، وجاء النصب في القرآن في قوله:**{ ما هذا بشراً }** [يوسف: 31]**{ ما هنّ أمّهاتهم }** [المجادلة: 2]. وأما في أشعار العرب فزعموا أنه لم يحفظ منه أيضاً إلا قول الشاعر: | **وأنا النذير بحرة مسودة** | | **تصل الجيوش إليكم أقوادها** | | --- | --- | --- | | **أبناؤها متكفون أباهم** | | **حنقوا الصدور وما هم أولادها** | ولا تختص زيادة الباء باللغة الحجازية، بل تزاد في لغة تميم خلافاً لمن منع ذلك، وإنما ادعينا أن قوله: بمؤمنين في موضع نصب لأن القرآن نزل بلغة الحجاز، لأنه حين حذفت الباء من الخبر ظهر النصب فيه، ولها أحكام كثيرة في باب معقود في النحو. وإنما زيدت الباء في الخبر للتأكيد، ولأجل التأكيد في مبالغة نفي إيمانهم، جاءت الجملة المنفية إسمية مصدرة بهم، وتسلط النفي على إسم الفاعل الذي ليس مقيداً بزمان ليشمل النفي جميع الأزمان، إذ لو جاء اللفظ منسحباً على اللفظ المحكي الذي هو: آمنا، لكان: وما آمنوا، فكان يكون نفياً للإيمان الماضي، والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت مّا من الأوقات، وهذا أحسن من أن يحمل على تقييد الإيمان المنفي، أي وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر، ولم يردّ الله تعالى عليهم قولهم: آمنا، إنما رد عليهم متعلق القول وهو الإيمان، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم: إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهم في قوله: { وما هم بمؤمنين } عائد على معنى من، إذ أعاد أولاً على اللفظ فأفرد الضمير في يقول، ثم أعاد على المعنى فجمع. وهكذا جاء في القرآن أنه إذا اجتمع اللفظ والمعنى بدىء باللفظ ثم أتبع بالحمل على المعنى. قال تعالى:**{ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا }** [التوبة: 49]،**{ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصَّدقن }** [التوبة: 75] الآية**{ ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحاً }** [الأحزاب: 31]. وذكر شيخنا الإمام علم الدين أبو محمد عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري الأندلسي الأصل المصري المولد والمنشأ، المعروف بابن بنت العراقي، رحمه الله تعالى، أنه جاء موضع واحد في القرآن بدىء فيه بالحمل على المعنى أولاً ثم أتبع بالحمل على اللفظ، وهو قوله تعالى:**{ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا }** [الأنعام: 139]، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأورد بعضهم قراءة من قرأ في الشاذ، { وأن منكم لمن ليبطئنّ } بضم الهمزة متخيلاً أنه مما بدىء فيه بالحمل على المعنى، وسيأتي الكلام عليه في موضعه. ولا يجيز الكوفيون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما، ولم يعتبر البصريون الفاصل، قال ابن عصفور، ولم يرد السماع إلا بالفصل، كما ذهب الكوفيون إليه، وليس ما ذكر بصحيح، ألا ترى قوله تعالى:**{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى }** [البقرة: 111]؟ فحمل على اللفظ في كان، إذ أفرد الضمير وجاء الخبر على المعنى، إذ جاء جمعاً ولا فصل بين الجملتين، وإنما جاء أكثر ذلك بالفصل لما فيه من إزالة قلق التنافر الذي يكون بين الجملتين. وقراءة الجمهور: يخادعون الله، مضارع خادع. وقرأ عبد الله وأبو حياة يخدعون الله، مضارع خدع المجرد، ويحتمل قوله: { يخادعون الله } أن يكون مستأنفاً، كأن قائلاً يقول: لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في الحقيقة؟ فقيل: يخادعون، ويحتمل أن يكون بدلاً من قوله: يقول آمنا، ويكون ذلك بياناً، لأن قولهم: آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة، فيكون بدل فعل من فعل لأنه في معناه، وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب. ويحتمل أن تكون الجملة في موضع الحال، وذو الحال الضمير المستكن في يقول، أي: ومن الناس من يقول آمنا، مخادعين الله والذين آمنوا. وجوّز أبو البقاء أن يكون حالاً، والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو: بمؤمنين، وذو الحال: الضمير المستكن في اسم الفاعل. وهذا إعراب خطأ، وذلك أن ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال، وهو القيد، فنفته، ولذلك طريقان في لسان العرب: أحدهما: وهو الأكثر أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد، فإذا قلت: ما زيد أقبل ضاحكاً فمفهومه نفي الضحك ويكون قد أقبل غير ضاحك، وليس معنى الآية على هذا، إذ لا ينفي عنهم الخداع فقط، ويثبت لهم الإيمان بغير خداع، بل المعنى: نفي الإيمان عنهم مطلقاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والطريق الثاني: وهو الأقل، أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق: لم يقبل زيد ولم يضحك: أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا، إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهم ونفي الخداع. والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال: ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم، والمعنى على إثبات الخداع، انتهى كلامه. فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة، وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك، بل كل منهما قيد يتسلط النفي عليه، والله تعالى هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء. فمخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث المعنى من جهة تظاهرهم بالإيمان وهم مبطنون للكفر، قاله جماعة، أو من حيث عدم عرفانهم بالله وصفاته فظنوا أنه ممن يصح خداعه. فالتقدير الأول مجاز والثاني حقيقة، أو يكون على حذف مضاف، أي يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا، فتارة يكون المحذوف مراداً وتارة لا يكون مراداً، بل نزل مخادعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة مخادعة الله، فجاء: { يخادعون الله } ، وهذا الوجه قاله الحسن والزجاج. وإذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله تعالى بالأوجه التي ذكرناها، كما ذكرناها، فلا ضرورة تدعو إلى أن نذهب إلى أن الاسم مقحم، لأن المعنى يخادعون الذين آمنوا، كما ذهب إليه الزمخشري، وقال: يكون من باب: أعجبني زيد وكرمه، المعنى هذا أعجبني كرم زيد، وذكر زيد توطئة لذكر كرمه، والنسبة إلى الإعجاب إلى كرمه هي المقصودة، وجعل من ذلك والله ورسوله أحق أن يرضوه، إن الذين يؤذون الله ورسوله وما ذكره في هذه المثل غير مسلّم له. وللآيتين الشريفتين محامل تأتي في مكانها، إن شاء الله تعالى. وأما أعجبني زيد وكرمه، فإن الإعجاب أسند إلى زيد بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لصفة الكرم من سائر الصفات التي انطوى عليها لشرف هذه الصفة، فصار من المعنى نظيراً لقوله تعالى:**{ وملائكته ورسله وجبريل وميكال }** [البقرة: 98]، فلا يدعي كما ادعى الزمخشري أن الاسم مقحم، وأنه ذكر توطئة لذكر الكرم. وخادع الذي مضارعه يخادع على وزن فاعل، وفاعل يأتي لخمسة معان: لاقتسام الفاعلية، والمفعولية في اللفظ، والاشتراك فيهما من حيث المعنى، ولموافقة أفعل المتعدي، وموافقة المجرد للإغناء عن أفعل وعن المجرد. ومثل ذلك: ضارب زيداً عمر، وباعدته، وواريت الشيء، وقاسيت. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وخادع هنا إما لموافقة الفعل المجرد فيكون بمعنى خدع، وكأنه قال: يخدعون الله، ويبينه قراءة ابن مسعود وأبي حياة، وقد تقدمت. ويحتمل أن يكون خادع من باب المفاعلة، فمخادعتهم تقدم تفسيرها، ومخادعة الله لهم حيث أجرى عليهم أحكام المسلمين واكتفى منهم في الدنيا بإظهار الإسلام، وإن أبطنوا خلافه، ومخادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أحكام المسلمين عليهم. وفي مخادعتهم هم للمؤمنين فوائد لهم، من تعظيمهم عند المؤمنين، والتطلع على أسرارهم فيغشونها إلى أعدائهم، ورفع حكم الكفار عنهم من القتل وضرب الجزية، وغير ذلك، وما ينالون من الإحسان بالهداية وقسم الغنائم. وقرأ: وما يخادعون، الحرميان، وأبو عمرو. وقرأ باقي السبعة: وما يخدعون. وقرأ الجارود بن أبي سبرة، وأبو طالوت عبد السلام بن شداد: وما يخدعون مبنياً للمفعول. وقرأ بعضهم: وما يخادعون، بفتح الدال مبنياً للمفعول. وقرأ قتادة، ومورق العجلي: وما يخدعون، من خدّع المشدّد مبنياً للفاعل، وبعضهم يفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة. فهذه ست قراءات توجيه: الأولى: أن المعنى في الخداع إنما هو الوصول إلى المقصود من المخدوع، بأن ينفعل له فيما يختار، وينال منه ما يطلب على غرة من المخدوع وتمكن منه وتفعل له، ووبال ذلك ليس راجعاً للمخدوع، إنما وباله راجع إلى المخادع، فكأنه ما خادع ولا كاد إلا نفسه بإيرادها موارد الهلكة، وهو لا يشعر بذلك جهلاً منه بقبيح انتحاله وسوء مآله. وعبر عن هذا المعنى بالمخادعة على وجه المقابلة، وتسمية الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له، كما قال: | **ألا لا يجهلن أحد علينا** | | **فنجهل فوق جهل الجاهلينا** | | --- | --- | --- | جعل انتصاره جهلاً، ويؤيد هذا المنزع هنا أنه قد يجيء من واحد: كعاقبت اللص، وطارقت النعل. ويحتمل أن تكون المخادعة على بابها من اثنين، فهم خادعون أنفسهم حيث منوهاً الأباطيل، وأنفسهم خادعتهم حيث منتهم أيضاً ذلك، فكأنها مجاورة بين اثنين، وقال الشاعر: | **تذكر من أني ومن أين شربه** | | **يؤامر نفسيه لذي البهجة الإبل** | | --- | --- | --- | وأنشد ابن الأعرابي: | **لم تدر ما ولست قائلها** | | **عمرك ما عشت آخر الأبد** | | --- | --- | --- | | **ولم تؤامر نفسيك ممتريا** | | **فيها وفي أختها ولم تلد** | وقال: | **يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة** | | **أيستوبع الذوبان أم لا يطورها** | | --- | --- | --- | وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي: | **وكنت كذات الضي لم تدر إذ بغت** | | **تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني** | | --- | --- | --- | ففي هذه الأبيات قد جعل للشخص نفسين على معنى الخاطرين، ولها جنسين، أو يكون فاعل بمعنى فعل، فيكون موافقاً لقراءة: وما يخدعون. وتقول العرب: خادعت الرجل، أعملت التحيل عليه فخدعته، أي تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد، خِدعاً، بكسر الخاء في المصدر وخديعة، حكاه أبو زيد. فالمعنى: وما ينفذ السوء إلا على أنفسهم، والمراد بالأنفس هنا: ذواتهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فالفاعل هو المفعول، وقد ادعى بعضهم أن هذا من المقلوب وأن المعنى: وما يخادعهم إلا أنفسهم قال: لأن الإنسان لا يخدع نفسه، بل نفسه هي التي تخدعه وتسوّل له وتأمره بالسوء. وأورد أشياء مما قلبته العرب، وللنحويين في القلب مذهبان: أحدهما: أنه يجوز في الكلام والشعر اتساعاً واتكالاً على فهم المعنى. والثاني: أنه لا يجوز في الكلام ويجوز في الشعر حالة الاضطرار، وهذا هو الذي صححه أصحابنا، وكان هذا الذي ادعى القلب لما رأى قولهم: منتك نفسك، وقوله تعالى:**{ بل سولت لكم أنفسكم }** [يوسف: 18] تخيل أن الممني والمسوّل غير الممنيَّ والمسوَّل له، وليس على ما تخيل، بل الفاعل هنا هو المفعول. ألا ترى أنك تقول: أحب زيد نفسه، وعظم زيد نفسه؟ فلا يتخيل هنا تباين الفاعل والمفعول إلا من حيث اللفظ، وأما المدلول فهو واحد. وإذا كان المعنى صحيحاً دون قلب، فأي حاجة تدعو إليه هذا؟ مع أن الصحيح أنه لا يجوز إلا في الشعر، فينبغي أن ينزه كتاب الله تعالى منه. ومن قرأ: وما يخادعون أو يخدعون مبنياً للمفعول، فانتصاب ما بعد إلا على ما انتصب عليه زيد غبن رأيه، إما على التمييز على مذهب الكوفيين، وإما على التشبيه بالمفعول به على ما زعم بعضهم، وإما على إسقاط حرف الجر، أي: في أنفسهم، أو عن أنفسهم، أو ضمن الفعل معنى ينتقضون ويستلبون، فينتصب على أنه مفعول به، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء فعدى بإلى في قوله:**{ الرفث إلى نسائكم }** [البقرة: 187]، ولا يقال رفث إلى كذا، وكما ضمن**{ هل لك إلى أن تزكى }** [النازعات: 18]، معنى أجذبك، ولا يقال: إلا هل لك في كذا. وفي قراءة: وما يخدعون، فالتشديد إما للتكثير بالنسبة للفاعلين أو للمبالغة في نفس الفعل، إذ هو مصير إلى عذاب الله وإما لموافقة فعل نحو: قدر الله وقدر، وقد تقدم ذكر معاني فعل. وقراءة من قرأ: وما يخدعون، أصلها يختدعون فأدغم، ويكون افتعل فيه موافقاً لفعل نحو: اقتدر على زيد، وقدر عليه، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، وهي اثنا عشر معنى، وقد تقدم ذكرها. { وما يشعرون }: جملة معطوفة على: وما يخادعون إلا أنفسهم، فلا موضع لها من الإعراب، ومفعول يشعرون محذوف تقديره إطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم، روي ذلك عن ابن عباس، أو تقديره هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم، روي ذلك عن زيد. ويحتمل أن يكون وما يشعرون: جملة حالية تقديره وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك، لأنهم لو شعروا أن خداعهم لله وللمؤمنين إنما هو خداع لأنفسهم لما خادعوا الله والمؤمنين. وجاء: يخادعون الله بلفظ المضارع لا بلفظ الماضي لأن الماضي يشعر بالانقطاع بخلاف المضارع، فإنه يشعر في معرض الذم أو المدح بالديمومة، نحو: زيد يدعّ اليتيم، وعمرو يقري الضيف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والقراء على فتح راء مرض في الموضعين إلا الأصمعي، عن أبي عمرو، فإنه قرأ بالسكون فيهما، وهما لغتان كالحلب والحلب، والقياس الفتح، ولهذا قرأ به الجمهور، ويحتمل أن يراد بالمرض الحقيقة، وأن المرض الذي هو الفساد أو الظلمة أو الضعف أو الألم كائن في قلوبهم حقيقة، وسبب إيجاده في قلوبهم هو ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وفشو الإسلام ونصر أهله. ويحتمل أن يراد به المجاز، فيكون قد كنى به عما حل القلب من الشك، قاله ابن عباس، أو عن الحسد والغل، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول، أو عن الضعف والخور لما رأوا من نصر دين الله وإظهاره على سائر الأديان، وحمله على المجاز أولى لأن قلوبهم لو كان فيها مرض لكانت أجسامهم مريضة بمرضها، أو كان الحمام عاجلهم، قال: بعض المفسرين يشهد لهذا الحديث النبوي والقانون الطبي، أما الحديث، فقوله صلى الله عليه وسلم: **" إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد جميعه، وإذا فسدت فسد الجسد جميعه، ألا وهي القلب "** وأما القانون الطبي، فإن الحكماء وصفو القلب على ما اقتضاه علم التشريح، ثم قالوا: إذا حصلت فيه مادة غليظة، فإن تملكت منه ومن غلافه أو من أحدهما فلا يبقى مع ذلك حياة وعاجلت المنية صاحبه، وربما تأخرت تأخيراً يسيراً، وإن لم تتمكن منه المادة المنصبة إليه ولا من غلافه، أخرت الحياة مدة يسيرة؟ وقالوا: لا سبيل إلى بقاء الحياة مع مرض القلب، وعلى هذا الذي تقرر لا تكون قلوبهم مريضة حقيقة. وقد تلخص في القرآن من المعاني السببية التي تحصل في القلب سبعة وعشرون مرضاً، وهي: الرين، والزيع، والطبع، والصرف، والضيق، والحرج، والختم، والإقفال، والإشراب، والرعب، والقساوة، والإصرار، وعدم التطهير، والنفور، والاشمئزاز، والإنكار، والشكوك، والعمى، والإبعاد بصيغة اللعن، والتأبى، والحمية، والبغضاء، والغفلة، والغمزة، واللهو، والارتياب، والنفاق. وظاهر آيات القرآن تدل على أن هذه الأمراض معان تحصل في القلب فتغلب عليه، وللقلب أمراض غير هذه من الغل والحقد والحسد، ذكرها الله تعالى مضافة إلى جملة الكفار. والزيادة تجاوز المقدار المعلوم، وعلم الله محيط بما أضمروه ومن سوء الاعتقاد والبغض والمخادعة، فهو معلوم عنده، كما قال تعالى:**{ وكل شيء عنده بمقدار }** [الرعد: 8]، وفي كل وقت يقذف في قلوبهم من ذلك القدر المعلوم شيئاً معلوم المقدار عنده، ثم يقذف بعد ذلك شيئاً آخر، فيصير الثاني زيادة على الأول، إذا لو لم يكن الأول معلوم المقدار لما تحققت الزيادة، وعلى هذا المعنى يحمل:**{ فزادتهم رجساً إلى رجسهم }** [التوبة: 125]. وزيادة المرض إما من حيث أن ظلمات كفرهم تحل في قلوبهم شيئاً فشيئاً، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ظلمات بعضها فوق بعض }** [النور: 40]، أو من حيث أن المرض حصل في قلوبهم بطريق الحسد أو الهم، بما يجدد الله سبحانه لدينه من علو الكلمة ولرسوله وللمؤمنين من النصر ونفاذ الأمر، أو لما يحصل في قلوبهم من الرعب، وإسناد الزيادة إلى الله تعالى إسناد حقيقي بخلاف الإسناد في قوله تعالى:**{ فزادتهم رجساً إلى رجسهم }** [التوبة: 125]**{ أيكم زادته هذه إيماناً }** [التوبة: 124]. وقالت المعتزلة: لا يجوز أن تكون زيادة المرض من جنس المزيد عليه، إذ المزيد عليه هو الكفر، فتأولوا ذلك على أن يحمل المرض على الغم لأنهم كانوا يغتمون بعلو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على منع زيادة الألطاف، أو على ألم القلب، أو على فتور النية في المحاربة لأنهم كانت أولاً قلوبهم قوية على ذلك، أو على أن كفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكليف من الله تعالى. وهذه التأويلات كلها إنما تكون إذا كان قوله: { فزادهم الله مرضاً } خبراً، وإما إذا كان دعاء فلا، بل يحتمل أن يكون الدعاء حقيقة فيكون دعاء بوقوع زيادة المرض، أو مجازاً فلا تقصد به الإجابة لكون المدعو به واقعاً، بل المراد به السب واللعن والنقص، كقوله تعالى:**{ قاتلهم الله أنى يؤفكون }** [التوبة: 30]،**{ ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون }** [التوبة: 127]، وكقوله: لعن الله إبليس وأخزاه، ومعلوم أن ذلك قد وقع، وأنه قد باء بخزي ولعن لا مزيد عليه لأنه لا انتهاء له، وتنكير مرض من قوله: { في قلوبهم مرض } لا يدل على أن جميع أجناس المرض في قلوبهم، كما زعم بعض المفسرين، لأن دلالة النكرة على ما وضعت له إنما هي دلالة على طريقة البدل، لأنها دلالة تنتظم كل فرد فرد على جهة العموم، ولم يحتج إلى جمع مرض لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلاً، فاكتفى بالمفرد عن الجمع، وتعدية الزيادة إليهم لا إلى القلوب، إذ قال تعالى: { فزادهم } ، ولم يقل: فزادها، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على حذف مضاف، أي فزاد الله قلوبهم مرضاً، والثاني: أنه زاد ذواتهم مرضاً لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد، فصح نسبه الزيادة إلى الذوات، ويكون ذلك تنبيهاً على أن في ذواتهم مرضاً، وإنما أضاف ذلك إلى قلوبهم لأنها محل الإدراك والعقل. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ألفها منقلبة عن ياء إلا فعلاً واحداً ألفه منقلبة عن واو ووزنه فعل بفتح العين، إلا ذلك الفعل فإن وزنه فعل بكسر العين، وقد جمعتها في بيتين في قصيدتي المسماة، بعقد اللآلي في القراءآت السبع العوالي، وهما: | **وعشرة أفعال تمال لحمزة** | | **فجاء وشاء ضاق ران وكملا** | | --- | --- | --- | | **بزاد وخـاب طـاب خـاف معـاً** | | **وحاق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا** | يعني أنه قد استثنى حمزة، | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وإذ زاغت الأبصار }** [الأحزاب: 10]، في سورة الأحزاب،**{ أم زاغت عنهم الأبصار }** [ص: 63]، في سورة ص، فلم يملها. ووافق ابن ذكوان حمزة على إمالة جاء وشاء في جميع القرآن، وعلى زاد في أول البقرة، وعنه خلاف في زاد هذه في سائر القرآن، وبالوجهين قرأته له، والإمالة لتميم، والتفخيم للحجاز. وأليم: تقدم تفسيره. فإذا قلنا إنه للمبالغة فيكون محوّلاً من فعل لها ونسبته إلى العذاب مجاز، لأن العذاب لا يألم، إنما يألم صاحبه، فصار نظير قولهم: شعر شاعر، والشعر لا يشعر إنما الشاعر ناظمه. وإذا قلنا إنه بمعنى: مؤلم، كما قال عمرو بن معدي يكرب: | **أمـن ريحانـة الـداعي السميـع** | | | | --- | --- | --- | أي المسمع، وفعيل: بمعنى مفعل مجاز، لأن قياس أفعل مفعل، فالأول مجاز في التركيب، وهذا مجاز في الإفراد. وقد حصل للمنافقين مجموع العذابين: العذاب العظيم المذكور في الآية، قيل لانخراطهم معهم ولانتظامهم فيهم. ألا ترى أن الله تعالى في تلك الآية قد أخبر أنهم لا يؤمنون في قوله: لا يؤمنون، وأخبر بذلك في هذه الآية بقوله: وما هم بمؤمنين؟ والعذاب الأليم، فصار المنافقون أشد عذاباً من غيرهم من الكفار، بالنص على حصول العذابين المذكورين لهم، ولذلك قال تعالى:**{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }** [النساء: 145]، ثم ذكر تعالى أن كينونة العذاب الأليم لهؤلاء سببها كذبهم وتكذيبهم وما مصدرية أي بكونهم يكذبون، ولا ضمير يعود عليها لأنها حرف، خلافاً لأبي الحسن. ومن زعم أن كان الناقصة لا مصدر لها، فمذهبه مردود، وهو مذهب أبي علي الفارسي. وقد كثر في كتاب سيبويه المجيء بمصدر كان الناقصة، والأصح أنه لا يلفظ به معها، فلا يقال: كان زيد قائماً كوناً، ومن أجاز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، فالعائد عنده محذوف تقديره يكذبونه أو يكذبونه. وزعم أبو البقاء أن كون ما موصولة أظهر، قال: لأن الهاء المقدرة عائدة إلى الذي دون المصدر، ولا يلزم أن يكون، ثم هاء مقدرة، بل من قرأ: يكذبون، بالتخفيف، وهم الكوفيون، فالفعل غير متعد، ومن قرأ بالتشديد، وهم الحرميان، والعربيان، فالمفعول محذوف لفهم المعنى تقديره بكونهم يكذبون الله في أخباره والرسول فيما جاء به، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف على جهة المبالغة، كما قالوا في: صدق صدق، وفي: بان الشيء بين، وفي: قلص الثوب قلص. والكذب له محامل في لسان العرب: أحدها: الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، وعمرو بن بحر يزيد في ذلك أن يكون المخبر عالماً بالمخالفة، وهي مسألة تكلموا عليها في أصول الفقه. الثاني: الإخبار بالذي يشبه الكذب ولا يقصد به إلا الحق، قالوا: ومنه ما ورد في الحديث عن إبراهيم صلوات الله عليه وعلى نبينا. الثالث: الخطأ، كقول عبادة فيمن زعم: أن الوتر واجب، كذب أبو محمد أي أخطأ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | الرابع: البطول، كقولهم: كذب الرجل، أي بطل عليه أمله وما رجا وقدر. الخامس: الإغراء بلزوم المخاطب الشيء المذكور، كقولهم: كذب عليك العسل، أي أكل العسل، والمغرى به مرفوع بكذب، وقالوا: لا يجوز نصبه إلا في حرف شاذ، ورواه القاسم بن سلام عن معمر بن المثنى، والمؤثم هو الأول. وقد اختلف الناس في الكذب فقال قوم: الكذب كله قبيح لا خير فيه، وقالوا: سئل مالك عن الرجل يكذب لزوجته ولابنه تطييباً للقلب فقال: لا خير فيه. وقال قوم: الكذب محرم ومباح، فالمحرم الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن في مراعاته مصلحة شرعية، والمباح ما كان فيه ذلك، كالكذب لإصلاح ذات البين. وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات خلافاً، قال قوم: نزلت في منافقي أهل الكتاب، كعبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس، حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونتمسك مع ذلك بديننا، فأظهروا الإيمان باللسان واعتقدوا خلافه. ورواه أبو صالح، عن ابن عباس، وقال قوم: نزلت في منافقي أهل الكتاب وغيرهم، رواه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال أبو العالية، وقتادة، وابن زيد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ... } قال ابن عرفة: ذكر أولا (المؤمنين) (أهل) التقوى والصفات الحسنة، ثم (الكافرين) أهل الضلال والصفات القبيحة ثم المتصفين بأقبح من ذلك وهو (النّفاق) الموجب للحلول في الدرك الأسفل من النار. أو يقال: ذكر أولا من اتصف بالإيمان البسيط ((ثم من (اتصف) بالكفر البسيط))، ثم من اتصف بالدّين المركب من أمرين وهو الإيمان ظاهرا والكفر باطنا، والمركب متأخر عن البسيط في (المرتبة). والألف وللام في " الناس " للعموم (في) أنواع بني آدم و " من " للتبعيض في أشخاص تلك الأنواع. وهذا القول إمّا من اليهود أو من المنافقين فإن كان من اليهود فهو قول (حقيقي) موافق للاعتقاد ومعناه: من يقول آمنّا بوجود الله واليوم (الآخر) (وما هم بمؤمنين) لأنّهم (قد) ادّعوا (الشّريك) فقالوا:**{ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ }** **{ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ }** (وإن) كان من المنافقين فمعناه: وَمنَ النّاس من يقول آمنّا (بوحدانية) الله، ويجري هذا على الخلاف في (الكلام) (النفسي)، هل يمكن فيه تعمّد الكذب، ويكون الاعتقاد فيه مخالفا للعلم، أو لا يمكن ذلك؟ و(هي) مسألة تكلّم عليها الأصوليون لما قسّموا العلم إلى تصوّر وإلى تصديق. فإن (قلنا) بجواز الكذب في الكلام النفسي، فيكون هذا قولا حقيقيا بألسنتهم وقلوبهم، وإن منعنا وقوع الكذب فيه، فيكون قولا باللسان فقط قال ابن (عرفة): (ليس فيها دليل عليهم) وانظر كيف لم يصرحوا بالإيمان (بالرسول) مطابقة بل عبّروا بلفظ يدلّ عليه باللّزوم لا بالمطابقة (لأنّ مقصودهم) كفّ الأذى (عنهم) لا الإيمان حقيقة. قال ابن عطية. وفي الآية ردّ على الكراميّة في قولهم: إنّ الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب. قال ابن عرفة: ليس فيها دليل عليهم لأنهم لم يقولوا: إنّ الإيمان قول باللّسان (يخالفه) ((الاعتقاد بالقلب، (وإنما قالوا: إنّه قول باللّسان) عري عن الاعتقاد بالقلب لا لأنّ الاعتقاد بالقلب يخالفه القول باللّسان))، بمعنى أنه يقوله بلسانه، ولا (يعتقد) بقلبه شيئا لا هو ولا نقيضه (هكذا) حكى (عنهم) الشهرستاني في (النحل) والملل وليست الآية كذلك. (قيل له): نصّ الطبري هنا على أنّ مذهبهم كما قال ابن عطية وألزمهم نسبة الكذب إلى الله عزّ وجلّ. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال عنهم (ءَامنّا) بلفظ الفعل وفي الردّ عليهم { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } بلفظ الاسم؟ (وأجاب): ((إنّ مقصودهم الإخبار)) بالاتصاف بالإيمان، فردّ عليهم بأنّهم ليسوا من نوع المؤمنين، ولا من جنسهم بوجه. قال ابن عرفة: وهذا الجواب ضعيف، وممّا يؤكّدُ السؤال أنّ الفعل أعمّ والاسم أخصّ، ونفي الأعمّ أخصّ من نفي الأخصّ. (فهلا) كان الأمر بالعكس، فهو الأولى؟ قال: (والجواب) أنّ المنافقين لمّا (كان) مقصدهم التورية لم يعبّروا بلفظ صريح في الإيمان بل عبّروا بما يدل على (الاتصاف) بمطلق الإيمان لا (بأخصّه)، و(أتوا) بالفعل الماضي ليدلّ على وقوعه وانقطاعه وعدم الدّوام عليه. ولما كان المقصود الرد عليهم وأنّهم لم يتّصفوا بالإيمان (النافع بل بإيمان لا ينفع، لم ينف عنهم مطلق) الإيمان لأنهم قد آمنوا ظاهرا فنفى عنهم الإيمان الشرعي (لأنّ الإيمان الشرعي) الموجب لعصمة دمائهم وأموالهم قد اتّصفوا (به) ظاهرا، فأخبر الله تعالى أنّ ذلك الإيمان النّافع لهم في الدنيا بالعصمة من القتل والسّبى لا ينفعهم في الآخرة فلذلك نفاه (عنهم) بلفظ الاسم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ)
القراءات: و " من الناس " ممالة. قرأ قتيبة ونصير في القرآن ما كان مكسوراً. " من يقول " مدغمة النون والتنوين في الياء حيث وقعت: حمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري. " بمؤمنين " غير مهموز: أبو عمرو وغير شجاع ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها من الأسماء. " وما يخادعون ": أبو عمرو وابن كثير ونافع. " فزادهم الله " وبابه مما كان ماضياً بالإمالة: حمزة ونصير وابن ذكوان من طريق مجاهد والنقاش بن الأخرم ههنا بالإمالة فقط. " يكذبون " خفيفاً: عاصم وحمزة وعلي وخلف. قيل { وغيض } { وجيء } بالإشمام: علي وهشام ورويس. " السفهاء ألا " بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. " السفهاء ولا " بقلب الثانية واواً: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع. " السفهاء وألا " بقلب الأولى واواً. روى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة: وكذلك ما أشبهها مما اختلف الهمزتان فيها إلا أن تكون الأولى منهما مفتوحة مثل { شهداء إذ } { وجاء إخوة } وأشباه ذلك. " مستهزءون " بترك الهمزة في الحالين: يزيد وافق حمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها، وعن حمزة في الوقف وجهان: الحذف والتليين شبه الياء والواو. " طغيانهم " حيث كان بالإمالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو. " بالهدى " وما أشبهها من الأسماء والأفعال من ذوات الياء بالإمالة: حمزة وعلي وخلف. وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب، وكذلك كل كلمة تجوز الإمالة فيها وذلك طبعهم وعادتهم. الوقوف: " بمؤمنين " (م) لما مر في المقدمة الثامنة: " آمنوا " (ج) لعطف الجملتين المتفقتين مع ابتداء النفي. " يشعرون " (ط) للآية وانقطاع النظم والمعنى، فإن تعلق الجار بما بعده. " مرض " (لا) لأن الفاء للجزاء وكان تأكيداً لما في قلوبهم. " مرضاً " (ج) لعطف الجملتين المختلفتين. " يكذبون " (ه) في " الأرض " (لا) لأن " قالوا " جواب " إذا " وعامله. " مصلحون " (ه) " لا يشعرون " (ه) " كما آمن السفهاء " (ط) للابتداء بكلمة التنبيه، ومن وصل فليعجل رد السفه عليهم " لا يعلمون " (5) " آمنا " (ج) لتبدل وجه الكلام معنى مع أن الوصل أولى لبيان حالتيهم المتناقضتين وهو المقصود " شياطينهم " (لا) لأن " قالوا " جواب " إذاً " " معكم " (لا) تحرزاً عن قول ما لا يقوله مسلم، وإن جاز الابتداء بإنما. " مستهزءون " (ه) " يعمهون " (ه) " بالهدى " (ص) لانقطاع النفس ولا يلزم العود لأن ما بعده بدون ما قبله مفهوم " مهتدين " التفسير: وفيه مباحث: المبحث الأول: في قوله تعالى { ومن الناس من يقول } الآية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفيه مسائل: الأولى: عن مجاهد قال: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين. فأقول: أحوال القلب أربع: الاعتقاد المطابق عن الدليل وهو العلم، والاعتقاد المطابق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد المحق، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل، وخلو القلب عن كل ذلك. وأحوال اللسان ثلاث: الإقرار والإنكار والسكوت. كل منها بالاختيار أو بالاضطرار، فيحصل من التراكيب أربعة وعشرون قسماً فلنتكلم في الأحوال القلبية ونجعل البواقي تبعاً لها في الذكر. (النوع الأول): العرفان القلبي إن انضم إليه الإقرار باللسان اختياراً فصاحبه مؤمن حقاً بالاتفاق، أو اضطراراً فهو منافق، لأنه لولا الخوف لما أقرّ، فهو بقلبه منكر مكذب وجوب الإقرار. وإن انضم إليه الإنكار اضطراراً فهو مسلم لقوله تعالى**{ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }** [النحل: 106] أو اختياراً فهو كافر معاند. وإن انضم إليه السكوت اضطراراً فمسلم حقاً لأنه خاف، أو كما عرف مات فجأة فيكون معذوراً أو اختياراً فمسلم أيضاً عند الغزالي وعند كثير من الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم **" يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان "** (النوع الثاني) الاعتقاد التقليدي إن وجد معه الإقرار اختياراً فهو المسألة المشهورة من أن المقلد مؤمن أم لا، والأكثرون على إيمانه. أو اضطراراً فمنافق بالطريق الأولى كما مر في النوع الأول. وإن وجد معه الإنكار اختياراً فلا شك في كفره، أو اضطراراً فمسلم عند من يحكم بإيمان المقلد. وإن وجد معه السكوت اضطراراً فمسلم بناء على إسلام المقلد، أو ا اختياراً فكافر معاند. (النوع الثالث): الإنكار القلبي مع الإقرار اللساني إن كان اضطراراً نفاق، وكذا اختياراً لأنه أظهر خلاف ما أضمر. ومع الإنكار اللساني كفر كيف كان، وكذا مع السكوت. (النوع الرابع): القلب الخالي عن جميع الاعتقادات مع الإقرار اللساني إن كان اختياراً، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز له حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا. وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر، أما إذا كان اضطرارياً فلا يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً. والقلب الخالي مع الإنكار اللساني كيف كان نفاق، والقلب الخالي مع اللسان الخالي إن كان في مهلة النظر فذلك هو الواجب، وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا نفاق. فظهر من التقسيم أن المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره، ومنه " النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها " فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثانية: زعم قوم أن الكفر الأصلي أقبح من النفاق، لأن الكافر جاهل بالقلب كاذب باللسان، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان. وقال الآخرون: المنافق أيضاً كاذب باللسان لأنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه. قال عز من قائل:**{ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }** [المنافقون: 1] وأيضاً إنه قصد التلبيس والكافر الأصلي لا يقصد ذلك. وأيضاً الكافر الأصلي على طبع الرجال، والمنافق على طبيعة الخنائي. وأيضاً الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه، والمنافق رضي بالكذب. وأيضاً المنافق ضم إلى الكفر الاستهزاء والخداع دون الكافر الأصلي، ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى:**{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }** [النساء: 145] ووصف حال الكفار في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم وفضحهم وسفههم واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً وضرب لهم الأمثال الشنيعة. الثالثة: قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة " الذين كفروا " كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل ناس أناس بدليل إنسان وإنس وأناسي. حذفت الهمزة تخفيفاً، مع لام التعريف كاللازم. وقوله " إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا " قليل. ونويس من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان. سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول كما يقال وزن ق أفعل وهو اسم جمع كرخال للأنثى من أولاد الضأن. وأما الذي مفرده رخل بكسر الراء فرخال بكسر الراء. " ومن " في " من يقول " موصوفة إن جعلت اللام في الناس للجنس كقوله**{ من المؤمنين رجال }** [الأحزاب: 23] ليكون معنى الكلام أن في جنس الإنس طائفة كيت وكيت، فيعود فائدة الكلام إلى الوصف. وإن لم يكن مفيداً من حيث الحمل لأن الطائفة الموصوفة تكون لا محالة من الناس، ولا يجوز أن تكون " من " موصولة حينئذ، لأن الصلة تكون جملة معلومة الانتساب إلى الموصول فتبطل فائدة الوصف، فيبقى الكلام غير مفيد رأساً. وإن جعلت اللام للعهد فمن تكون موصولة نحو**{ ومنهم الذين يؤذون النبي }** [التوبة: 61] وتكون اللام إشارة إلى الذين كفروا لما ذكرهم، ولا يجوز أن تكون " من " موصوفة إذ ذاك، لأن فائدة الكلام تعود إلى الوصف أيضاً، ولكن لا يجاوبه نظم الكلام إذ يصير المعنى أن من المختوم على قلوبهم طائفة يقولون كيت وكيت وما هم بمؤمنين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن البين أن مدلول قوله " وما هم بمؤمنين " معلوم من حال المطبوع على قلوبهم فيقع ذكره ضائعاً، والضمير العائد إلى " من " يكون موحداً تارة باعتبار اللفظ نحو**{ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة }** [الأنعام: 25] ومجموعاً أخرى باعتبار المعنى مثل**{ ومنهم من يستمعون إليك }** [يونس: 42] وقد اجتمع الاعتباران في الآية في " يقول " و " آمنا ". وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره. وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت: إن كان هؤلاء المنافقون من المشركين فظاهر عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، وإن كانوا من اليهود فكيف يصح ذلك؟ قلت: إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لقولهم " عزير ابن الله " وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته. فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق بل على عقيدتهم فهو كفر لا إيمان. فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة واستهزاء وتخييلاً للمسلمين أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثاً إلى خبث وكفراً إلى كفر. والمراد باليوم الآخر إما طرف الأبد الذي لا ينقطع لأنه متأخر عن الأوقات المنقضية، أو الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حد للوقت بعده. فإن قلت: كيف طابق قوله " وما هم بمؤمنين " قولهم " آمنا " والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني بالعكس؟ قلت: لما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة، جيء بالجملة الأسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل ألبت والقطع وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال: إنهم لم يؤمنوا. ونظير الآية قوله تعالى**{ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها }** [البقرة: 167]. ثم إن قوله " وما هم بمؤمنين " يحتمل أن يكون مقيداً وترك لدلالة التقييد في " آمنا ". ويحتمل الإطلاق أي أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما. البحث الثاني: في قوله { يخادعون الله } إلى { يكذبون }. أعلم أن الله ذكر من قبائح أفعال المنافقين أربعة أشياء: أحدها المخادعة وأصلها الإخفاء، ومنه سميت الخزانة المخدع. والأخدعان عرفان في العنق خفيان. وخدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً. والخديعة مذمومة لأنها إظهار ما يوهم السداد والسلامة وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه، فهي بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قيل: مخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا يخفى عليه خافية لا يخدع، والحكيم الحليم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنين وإن جاز أن يخدعوا كما قال ذو الرمة: | **تلك الفتاة التي علقتها عرضاً** | | **إن الحليم ذا الإسلام يختلب** | | --- | --- | --- | لم يجز أن يخدعوا. قلنا: كانت صورة صنعهم مع الله - حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون - صورة صنع الخادعين، وصورة صنع الله معهم - حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار - صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم - حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم. ويحتمل أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه، لأنه من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي، أو تجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. ويحتمل أن يذكر الله ويراد الرسول لأنه خليفته والناطق بأوامره ونواهيه مع عباده**{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله }** [الفتح: 10]. ويحتمل أن يكون من قولهم " أعجبني زيد وكرمه " فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله، وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص. ولما كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم هذا المسلك ومثله**{ والله ورسوله أحق أن يرضوه }** [التوبة: 62]**{ إن الذين يؤذون الله ورسوله }** [الأحزاب: 57] وقولهم " علمت زيداً فاضلاً " الغرض ذكر الإحاطة بفضل زيد، لأن زيداً كان معلوماً له قديماً كأنه قيل: علمت فضل زيد ولكن ذكره توطئة وتمهيداً. ووجه الاختصار بخادعت على واحد أن يقال: عني به فعلت إلا أنه أخرج في زنة " فاعلت " لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه. " ويخادعون " بيان ليقول، ويجوز أن يكون مستأنفاً كأن قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين؟ فقيل: يخادعون. وكان غرضهم من الخداع الدفع عن أنفسهم أحكام الكفار من القتل والنهب وتعظيم المسلمين إياهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم واطلاعهم على أسرار المسلمين لاختلاطهم بهم. والسؤال الذي يذكر ههنا من أنه تعالى لم أبقى المنافق على حاله من النفاق ولم يظهر أمره حتى لا يصل من أغراض الخداع إلى ما وصل؟ وأرد على استبقاء الكفار وسائر أعداء الدين، بل على استبقاء إبليس وذريته وتنحل العقدة في الجميع بما سلف لنا من الحقائق ولا سيما في تفسير قوله تعالى**{ ختم الله على قلوبهم }** [البقرة: 7] وقراءة من قرأ**{ وما يخادعون إلا أنفسهم }** [البقرة: 9] أي وما يعاملون تلك المعاملة المضاهية لمعاملة المخادعين إلا أنفسهم، لأن مكرهاً يحيق بهم ودائرتها تدور عليهم لأن الله تعالى يدفع ضرر الخداع عن المؤمنين ويصرفه إليهم كقوله | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم }** [النساء: 142] ويحتمل أن يراد حقيقة المخادعة لأنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل، وأنفسهم أيضاً تمنيهم وتحدثهم بالأكاذيب. وأن يراد " وما يخدعون " فجيء به على لفظ يفاعلون للمبالغة. والنفس ذات الشيء وحقيقته ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى**{ تعلم ما في نفسي }** [المائدة: 116] والشعور علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمرض حالة توجب وقوع الخلل في الأفعال الصادرة عن موضوعها، واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة بأن يراد الألم كما تقول: في جوفه مرض. ومجازاً بأن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد والغل والحسد والميل إلى المعاصي، فإن صدورهم كانت تغلي على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلاً وحنقاً**{ وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ }** [آل عمران: 119] وناهيك بما كان من ابن أبي، وقول سعد بن عبادة لرسول له صلى الله عليه وسلم اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة - وذلك شيء منظوم بالجواهر شبه التاج - أي يجعلوه ملكاً، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك. أو يراد ما يداخل قلوبهم من الضعف والخور لأنهم كانوا يطمعون أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تركد، فكانت تقوى قلوبهم بذلك الطمع. فلما شاهدوا شوكة المسلمين وإعلاء كلمة الحق وما قذف الله في قلوبهم من الرعب ضعفت جبناً وخوراً. ومعنى زيادة الله إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فكفروا به ازدادوا كفراً إلى كفرهم، فأسند الفعل إلى المسبب له كما أسند إلى السورة في قوله**{ فزادتهم رجساً إلى رجسهم }** [التوبة: 125] وهذا كما قال الحكيم: البدن الغير النقي كلما فدوته زدته شراً. وكلما زاد رسوله نصرة وتبسطاً ازدادوا حسداً وبغضاً. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع، ويحتمل أن يقال: الغل والحسد قد يفضي إلى تغير مزاج القلب ويؤدي إلى تلف صاحبه كقوله: | **اصبر على مضض الحسو** | | **د فإن صبرك قاتله** | | --- | --- | --- | | **النـار تأكـل نفسـها** | | **إن لم تجد ما تأكلـه** | فإفضاء صاحبه إلى الهلاك هو المعني بالزيادة. والأليم الوجيع. ووصف العذاب به على طريقة قولهم " جد جده " والألم بالحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد. والمراد بكذبهم قولهم { آمنا بالله وباليوم الآخر }. وفي ترتب الوعيد على الكذب دليل على قبح الكذب وسماجته. وما يروى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه كذب ثلاث كذبات أحدها قوله | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إني سقيم }** [الصافات: 89] وثانيها قوله لسارة حين أراد أن يغصبها ظالم " إنها أختي " وثالثها قوله**{ بل فعله كبيرهم هذا }** [الأنبياء: 63] فالمراد التعريض **" إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب "** ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به. والكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وقد يعتبر فيه علم المخبر بكون المخبر عنه مخالفاً للخبر، والصدق نقيضه. وقراءة من قرأ " يكذبون " بالتشديد إما من كذبه الذي هو نقيض صدقه، وإما من كذب الذي هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل " صدق " نحو: بان الشيء وبين الشيء ومنه قوله: | **قد بين الصبح لذي عينين** | | | | --- | --- | --- | أو بمعنى الكثرة نحو " موتت البهائم " ، أو من قولهم " كذب الوحشي إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظر ما وراءه " لأن المنافق متوقف متردد في أمره مذبذب بين ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: **" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة "** وما في قوله " بما كانوا " مصدرية أي بكذبهم، وكان مقحمة لتفيد الثبوت والدوام أي بسبب أن هذا شأنهم وهجيراهم. البحث الثالث: في قوله تعالى { وإذا قيل لهم لا تفسدو في الأرض } إلى قوله } ولكن لا يشعرون }. هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين. فقوله " وإذا قيل " إما معطوف على " كانوا يكذبون " أي ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وبما كانوا إذا قيل لهم كذا قالوا كذا، وإما على " يقول " أي ومن الناس من إذا قيل له. ويحتمل أن يقال الواو للاستئناف، وإسناد " قيل " إلى " لا تفسدوا " و " آمنوا " ليس من إسناد الفعل إلى الفعل فإنه لا يصح، ولكنه إسناد إلى لفظ الفعل. أي وإذا قيل لهم هذا القول نحو: زعموا مطية الكذب. والقائل لهم إما النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك نصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح، وإما بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبل منهم ويعظمهم، وإما بعض المؤمنين، ولا يجوز أن يكون القائل ممن لا يختص بالدين. والفساد خروج الشيء عن أن يكون منتفعاً به، ونقيضه الصلاح وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي أن المراد بالإفساد المنهي عنه إظهار معصية الله تعالى، فإن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه، فحقنت الدماء وضبطت الأموال وحفظت الفروج وكان ذلك صلاح الأرض وأهلها. وأما إذا أهملت الشريعة وأقدم كل واحد على ما يهواه، اشتعلت نوائر الفتن من كل جانب، وحدثت المفاسد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: هو مداراة المنافقين الكافرين ومخالطتهم إياهم لأنهم إذا مالوا إلى الكفار مع أنهم في الظاهر مؤمنون، أوْهَمَ ذلك ضعف أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيصير سبباً لطمع الكفار في المؤمنين، فتهيج الفتن والحروب. وقيل: كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه ويلقون الشبه ويفشون أسرار المؤمنين، ولما نهوا عن الإفساد في الأرض كان قولهم " إنما نحن مصلحون " كالمقابل له. فههنا احتمالات: أحدها: أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، فزعموا أنهم مصلحون. وثانيها: إذا فسر الإفساد بموالاتهم الكافرين أن يكون مرادهم أن الغرض من تلك الموالاة هو الإصلاح بين المسلمين كقولهم فيما حكى الله سبحانه**{ إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً }** [النساء: 62] وثالثها: أن يكون المراد إنكار إذاعة أسرار المسلمين ونسبة أنفسهم إلى الاستقامة والسداد، وجيء بأداة القصر دلالة على أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت، أي حالنا مقصورة على الإصلاح لا تتعداه إلى غيره. " وألا " مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها كقوله تعالى**{ أليس ذلك بقادر }** [القيامة: 40] ولإفادتها التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي " أما " من مقدمات اليمين وطلائعها. قال: | **أما والذي أبكى وأضحك والذي** | | **أمات وأحيا والذي أمره الأمر** | | --- | --- | --- | رد الله ما ادعوه من الانضمام في زمرة المصلحين أبلغ رد من جهة الاستئناف، فإن ادعاءهم ذلك مع توغلهم في الفساد مما يشوق السامع أن يعرف ما حكمهم، فرد الله عليهم. وكان وروده بدون الواو هو المطابق، ومن جهة ما في " ألا " وفي " أن " من التأكيد، ومن قبيل تعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله " لا يشعرون ". البحث الرابع: في قوله { وإذا قيل لهم آمنوا } الآية. هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين، وذلك أن المؤمنين أتوهم في النصيحة من وجهين: أحدهما: تقبيح ما كانوا عليه مما يجرّ إلى الفساد والفتنة، والثاني: دعوتهم إلى الطريقة المثلى من اتباع ذوي الأحلام. وبعبارة أخرى أمرهم أولاً بالتخلية عما لا ينبغي، وثانياً بالتحلية بما ينبغي لأن كمال حال الإنسان في هاتين. وكان من جوابهم فيما بينهم أو للقائل أن سفهوهم لتمادي سفههم، وفي هذا تسلية للعالم إذا لم يعرف حقه الجاهل. | **وإذا أتتك مذمتي من ناقص** | | **فهي الشهادة لي بأني كامل** | | --- | --- | --- | وما في " كما " يجوز أن تكون كافة تصحح دخول الجار على الفعل وتفيد تشبيه مضمون الجملة بالجملة كقولك: يكتب زيد كما يكتب عمرو، أو زيد صديقي كما عمرو أخي. ويجوز أن تكون مصدرية مثلها في**{ بما رحبت }** [التوبة: 25 - 118] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون أي ليكن إيمانكم ثابتاً كما أن إيمان هؤلاء ثابت، أو ليحصل إيمانكم كحصول إيمان هؤلاء، أو آمنوا كما آمن عبد الله بن سلام وأتباعه لأنهم من جلدتهم أي كما آمن أصحابكم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويحتمل أن تكون للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية من الإقرار اللساني الناشئ عن الاعتقاد القلبي، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس ومن عداهم كالنسناس في عدم التمييز بين الحق والباطل. والاستفهام في " أنؤمن " في معنى الإنكار، واللام في " السفهاء " مشار بها إلى الناس كقولك لصاحبك: إن زيداً قد سعى بك. فتقول: أوقد فعل السفيه؟ أو للجنس وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه وهو ضد الحلم، وأصله الخفة والحركة يقال: تسفهت الريح الشجر إذا مالت به، قال ذو الرمة: | **جرين كما اهتزت رماح تسفهت** | | **أعاليها مر الرياح النواسم** | | --- | --- | --- | وإنما سفهو المؤمنين مع رجحان عقول أهل الإيمان، لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر الصحيح اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق، ولأنهم كانوا في رياسة وثروة وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موالٍ كصهيب وبلال وخباب، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم كما قال قوم نوح**{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا }** [هود: 27] أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه لما غاظهم من إسلامهم وفتَّ في أعضائهم. عن أنس **" أنه سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض مخترف، فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي. فما أوّل أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال صلى الله عليه وسلم:أخبرني بهن جبريل آنفاً. أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الوالد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني. فجاءت اليهود فقال: أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام. قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا فانتقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله "** ثم إن الله تعالى ألقى عليهم هذا اللقب مقروناً بالمؤكدات التي بيناها في قوله " ألا إنهم هم المفسدون " وذلك أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفه فهو السفيه، وكذا من باع آخرته بدنياه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال صلى الله عليه وسلم: **" الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت "** وأيضاً من السفه معاداة المحمديين { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } [الصف: 8]. | **كالطود يحقر نطحة الأوعال** | | | | --- | --- | --- | إنما فصلت هذه الآية " بلا يعلمون " والتي قبلها " بلا يشعرون " لأن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري، وأما النفاق وما يؤول إليه من الفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات، وخصوصاً عند العرب في جاهليتهم. وما كان قائماً بينهم من التحارب والتجاذب فهو كالمحسوس المشاهد، ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له. البحث الخامس: في قوله { وإذا لقوا الذين آمنوا } الآيات. هذا هو النوع الرابع من قبائح أفعالهم، والفرق بين هذه الآية وبين قوله " ومن الناس من يقول آمنا " أن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان معاملتهم مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم. عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن أبي: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم. فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحباً بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذل نفسه وماله، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحباً بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال: مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله. ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيراً. فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت. ويقال: لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه. وخلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه، ويجوز أن يكون من خلال بمعنى مضى، وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك، ومنه القرون الخالية، أو من خلوت به إذا سخرت منه وهو من قولك " خلا فلان بعرض فلان " عبث به، ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول: أحمد إليك فلاناً أو أذمه إليك أي أنهي إليك حمدي لفلان أو ذمي. وعن ابن عباس: إني أحمد إليك عسل الإحليل أي أعلمكم أنه أمر محمود. وشياطينهم رؤساؤهم وأكابرهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم. وهم إما أكابر المنافقين فالقائلون. إنا معكم أي مصاحبوكم وموافقوكم على أمر دينكم أصاغرهم، وإما أكابر الكافرين فالقائلون يحتمل أن يكون جميع المنافقين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإنما فسرنا الشياطين بالرؤساء لأنهم هم القادرون على الإفساد في الأرض، وإنما خاطبوا المؤمنين بأضعف الجملتين وهي الفعلية، وشياطينهم بأقواهما أعني الاسمية المحققة بان لأنهم في ادعاء حدوث الإيمان الناشئ عن صميم القلب منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان كاملون، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه وهكذا كل قول لم يصدر عن صدق رغبة وباعث داخلي، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على وجه التوكيد وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار القائلين " ربنا إننا آمنا " وإما مخاطبة إخوانهم فعن وفور نشاط ورغبة وفي حيز القبول والرواج فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد، وإنما فقد العاطف بين قوله " إنا معكم " وبين قوله " إنما نحن مستهزءون " الأوّل معناه الثبات على الكفر، والثاني ردّ للإسلام. لأن المستهزئ بالشيء منكر له دافع، ودفع نقيض الشيء إثبات وتأكيد للشيء. أو لأن الثاني بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو لأنه استئناف كأنه قيل: ما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا: إنما نحن مستهزءون. والاستهزاء السخرية والاستخفاف، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع. ثم إن الله تعالى أجابهم بأشياء: أحدها قول الله " يستهزئ بهم " وهو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، كأنه سئل ما مصير أمرهم وعقبى حالهم؟ فقيل: الله يستهزئ بهم. وفي الالتفات من الحكاية إلى المظهر، أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي استهزاؤهم بالنسبة إلى ذلك كالعدم. وفي تخصيص الله بالذكر مع قرينة أن المؤمنين هم الذين استهزئ بهم دلالة على أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله. فإن قيل: الاستهزاء جهالة**{ قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }** [البقرة: 67] فما معنى استهزاء الله بهم؟ قلنا: معناه إنزال الهوان والحقارة بهم وهو المقصد الأقصى للمستهزئ، أو سمي جزاء الاستهزاء استهزاء مثل**{ فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }** [البقرة: 194] أو عاملهم الله معاملة المستهزئ في الدنيا لأنه كان يطلع الرسول على أسرارهم مع كونهم مبالغين في إخفائها، وفي الآخرة على ما روي عن ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار، فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة - وأهل الجنة ينظرون إليهم - فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب فذلك قوله تعالى**{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون }** [المطففين: 34] فهذا هو الاستهزاء، وإنما لم يقل الله مستهزئ ليكون طبقاً لقوله " إنما نحن مستهزءُون " لأن المراد تجدد الاستهزاء بهم وقتاً بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ونزول الآيات في شأنهم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أو لايرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين }** [التوبة: 26]**{ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون }** [التوبة: 64] وثانيها قوله و " ويمدهم في طغيانهم " هو من مد الجيش أمده إذا زاده وألحق به ما يقوّيه، وكذلك مد الدواة والسراج زادهما ما يصلحهما. وإنما قلنا: إنه من المدد لا من المد في العمر والإمهال لقراءة نافع في موضع آخر**{ وإخوانهم يمدونهم في الغي }** [الأعراف: 202] على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له مع اللام كأملى له قاله في الكشاف، وهو مخالف لنقل الجوهري مده في غيه أي أمهله. والطغيان الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ، ومعنى مدد الله تعالى إياهم في الطغيان يعرف من تفسير { ختم الله على قلوبهم } وقد يوجه بأنه لما منعهم ألطافه التي منحها المؤمنين بقيت قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها تزايد الانشراح والنور في صدور المؤمنين، فسمي ذلك التزايد مدداً. أو بأنه لم يقسرهم، أو بأنه أسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره، ولا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلف، لأنه انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب. ومن هذا القبيل ما قيل: إن النكتة في إضافة الطغيان إليهم هي أن يعلم أن التمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم، وأن الله بريء منه، فإن الانتهاء إلى الله تعالى لما كان ضرورياً فكيف يتبرأ من ذلك؟ " ويعمهون " في موضع الحال. والعمه كالعمى، إلا أن العمى في البصر وفي الرأي، والعمه في الرأي خاصة وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه. وثالثها: قوله { أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى } أي اختاروها عليه واستبدلوها به، وهذه استعارة لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر قال أبو النجم: | **أخذت بالجمـة رأسـاً أزعرا** | | **وبالثنايا الواضحات الدردرا** | | --- | --- | --- | | **وبالطويل العمر عمراً جيدراً** | | **كما اشترى المـلم إذ تنصرا** | وعن وهب قال الله تعالى فيما يعيب به بني إسرائيل: تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة. جعلوا لتمكنهم من الهدى بحسب الفطرة الإنسانية الشخصية كأنه في أيديهم، فتركوه واستبدلوا به الضلالة وهي الجور عن القصد وفقد الاهتداء. وفي المثل " ضل دريص نفقة " أي جحره، والدرص ولد الفأرة ونحوها، يضرب لمن يعيا بأمره. فاستعيرت الضلالة للذهاب عن الصواب في الدين. والربح الفضل على رأس المال، والتجارة مصدر وإنما أسند الخسران إليها وهو لصاحبها إسناداً مجازياً لملابسة التجارة بالمشترين. وقد يقال: ربح عبدك وخسرت جاريتك مجازاً إذا دلت الحال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ولما ذكر الله سبحانه شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ما يشاكله ويواخيه من الربح والتجارة لتكون الاستعارة مرشحة كقوله: | **ولما رأيت النسر عز ابن دأية** | | **وعشش في وكريه جاش له صدري** | | --- | --- | --- | لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. " وما كانوا مهتدين " لطرق التجارة لأن مطلوب التاجر في متصرفاته شيئان: سلامة رأس المال والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً، لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة، والضلالة أمر عدمي فلا عوض ولا معوّض، فلا ربح ولا رأس المال. وهكذا حال من يدعي الإرادة ولا يخرج من العادة ويريد الجمع بين مقاصد الدنيا ومصالح الدين، كالمنافق أراد الجمع بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وإذا أقبل الليل من ههنا أدبر النهار من ههنا نعوذ بالله من الغواية، ونسأله أن يعصمنا من الضلالة بعد الهداية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ)
قوله تعالَىٰ: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ... } إِلَى { وَمَا يَشْعُرُونَ }. هذه الآية نزلت في المنافقين، وسَمَّى اللَّهُ تعالَىٰ يوم القيامة اليَوْمَ الآخِرَ؛ لأنه لا ليل بعده، ولا يقالُ يوم إِلا لما تقدَّمه ليل، واختلف المتأوِّلون في قوله: { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ } ، فقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى يُخَادِعُون رسول اللَّه، فأضافَ الأمرَ إلى اللَّه تجوُّزاً؛ لتعلُّق رسوله به، ومخادعتُهم هي تحيُّلهم في أن يُفْشِيَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إليهم أسرارهم. \* ع \*: تقول: خادَعْتُ الرجُلَ؛ بمعنى: أعملْتُ التحيُّل عليه، فَخَدَعْتُهُ، بمعنى: تمَّت عليه الحيلة، ونفذ فيه المرادُ، وقال جماعةٌ: بل يخادعون اللَّهَ والمؤمنين؛ بإِظهارهم من الإِيمان خلافَ ما أبطنوا من الكفر، وإِنما خدعوا أنفسهم؛ لحصولهم في العذاب، { وَمَا يَشْعُرُونَ } بذلك، معناه: وما يعلمون علْمَ تفطُّن وتَهَدٍّ، وهي لفظة مأخوذة من الشِّعَار؛ كأن الشيء المتفطَّن له شعار للنَّفْس، وقولهم: لَيْتَ شِعْرِي: معناه: ليت فطنتي تُدْرِكُ. واختلف، ما الذي نَفَى اللَّه عنهم أنْ يشعروا له؟ فقالت طائفة: وما يَشْعُرُونَ أنَّ ضرَرَ تلْكَ المخادَعَةِ راجعٌ عليهم؛ لخلودهم في النَّار، وقال آخرون: وما يَشْعُرُونَ أنَّ اللَّه يكشف لك سِرَّهم ومخادعتهم في قولهم: { ءَامَنَّا }. قوله تعالَىٰ: { فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } ، أي: في عقائدهم فسادٌ، وهم المنافقون، وذلك إما أن يكون شكًّا، وإما جحدًا بسبب حسدهم مع علمهم بصحَّة ما يجحدون، وقال قوم: المَرَضُ غمُّهم بظهوره صلى الله عليه وسلم، { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } ، قيل: هو دعاءٌ عليهم، وقيل: هو خبر أنَّ اللَّه قد فعل بهم ذلك، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحْيِ، ويظهر من البراهين. \* ت \*: لما تكلَّم. \* ع \*: علَىٰ تفسير قوله تعالَىٰ:**{ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ٱلسَّوْءِ }** [الفتح:6]. قال: كل ما كان بلفظ دعاء من جهة اللَّه عزَّ وجلَّ، فإِنما هو بمعنى إيجاب الشيء؛ لأنَّ اللَّه تعالى لا يدعو علَىٰ مخلوقاته، وهي في قبضته، ومن هذا:**{ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ }** [الهمزة:1]،**{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ }** [المطففين:1]، وهي كلها أحكام تامَّة تضمنها خبره تعالَىٰ: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، أي: مؤلم، { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } أي: بالكفر وموالاةِ الكفرةِ؛ ولقول المنافقين: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } ثلاثُ تأويلاتٍ: أحدها: جحد أنهم يفسدون، وهذا استمرار منهم على النِّفاق. والثاني: أنّ يقروا بموالاة الكُفَّار ويدَّعون أنها صلاحٌ؛ من حيث هم قرابةٌ توصل. والثالث: أنهم يصلحون بين الكفار والمؤمنين. و «أَلاَ»: استفتاحُ كلامٍ، و «لكن»: حرف ٱستدراكٍ، ويحتمل أن يراد هنا: لا يَشْعُرُونَ أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد: لا يشعرون أن اللَّه يفْضَحُهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
" من الناس " خبر مقدم، و " من يقول " مبتدأ مؤخر، و " مَنْ " تحتمل أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة أي: الذي يقول، أو فريق يقول، فالجملة على الأول لا محل لها؛ لكونها صلة، وعلى الثاني محلها الرفع؛ لكونها صفة للمبتدأ. واستضعف أبو البقاء أن تَكُونَ موصولة، قال: لأن " الذي " يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام. وهذا منه غير مسلم؛ لأنّ المنقول أنّ الآية نزلت في قومٍ بأعيانهم كعبد الله بن أبي ورهطه. وقال الزمخشري: إن كانت أل للجنس كانت " منْ " نكرة موصوفة كقوله:**{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ }** [الأحزاب: 23]. وإن كانت للعَهْد كانت موصولة، وكأن قصد مناسبة الجنس للجنس، والعهد للعهد، إلا أن هذا الذي قاله غير لازم، بل يجوز أن تكون " أل " للجنس، وتكون " منْ " موصولة، وللعهد، و " منْ " نكرة موصوفة. وزعم الكِسَائِيّ أنها لا تكون نكرة إلاّ في موضع تختص به النكرة؛ كقوله: [الرمل] | **168- رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ** | | **لَوْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ** | | --- | --- | --- | وهذا الذي قاله هو الأكثر، إلا أنها قد جاءت في موضع لا تختصّ به النكرة؛ قال: [الكامل] | **169- فَكَفَى بِنَا فَضْلاً عَلَى مَنْ غَيْرُنَا** | | **..........................** | | --- | --- | --- | و " من " تكون موصولة، ونكرة موصوفة كما تقدّم، وشرطية واستفهامية. وهل تقع نكرة غير موصوفة، أو زائدة؟ فيه خلاف. واستدل الكسَائي على زيادتها بقول عنترة: [الكامل] | **170- يَا شَاةَ منْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ** | | **حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ** | | --- | --- | --- | ولا دليل فيه، لجواز أن تكون موصوفة بـ " قَنَصٍ " إما على المبالغة، أو على حذف مضاف، وتصلح للتثنية والجمع والواحد. فالواحد كقوله:**{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ }** [الأنعام: 25] والجمع كقوله:**{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ }** [يونس: 42]، والسبب فيه أنه موحّد اللفظ مجموع المعنى. و " مِنْ " في " من الناس " للتبعيض، وقد زعم قومٌ أنها لِلْبَيَانِ وهو غَلَطٌ؛ لعدم تقدم ما يتبين بها. و " النَّاس " اسم جمع لا واحد له من لَفْظِهِ، ويرادفه " أَنَاسِيّ " جمع إنسان أو إنسي، وهو حقيقة في الآدميين، ويطلق على الجِنّ مجازاً. واختلف النحويون في اشتقاقه: فمذهب سيبويه والفراء أن أصله همزة ونون وسين، والأصل: أناس اشتقاقاً من الأُنس، قال: [الطويل] | **171- وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لأُنْسِهِ** | | **وَلاَ الْقَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ** | | --- | --- | --- | لأنه أنس بـ " حواء ". وقيل: بل أنس بربه ثم حذفت الهمزة تخفيفاً؛ يدلّ على ذلك قوله: [الكامل] | **172- إِنَّ الْمَنَايَا يَطَّلِعْـ** | | **ـنَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا** | | --- | --- | --- | وقال آخر: [الطويل] | **173- وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ** | | **وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: [الطويل] | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **174- وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ** | | **دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ** | | --- | --- | --- | وذهب الكسائي إلى أنه من " نون وواو وسين " والأصل: " نوس " فقلبت " الواو " " ألفاً " لتحركها، وانفتاح ما قبلها، والنَّوسُ: الحركة. وذهب بعضهم إلى أنه من " نون وسين وياء " ، والأصل " نسي " ، ثم قلبت " اللام " إلى موضع العين، فصار: " نيس " ثم قلبت " الياء " " ألفاً " لما تقدم في " نوس " ، قال: سموا بذلك لنسيانهم؛ ومنه الإنسان لنسيانه؛ قال: [البسيط] | **175- فَإِنْ نَسِيتَ عُهُوداً مِنْكَ سَالِفةً** | | **فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ** | | --- | --- | --- | ومثله: [الكامل] | **176- لا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا** | | **سُمِّيتَ إِنْسَاناً لإِنَّكَ نَاسِي** | | --- | --- | --- | فوزنه على القول الأول: " عَال " ، وعلى الثاني: " فَعَلٌ " ، وعلى الثالث: " فَلَعٌ " " بالقَلْبِ ". و " يقول ": فعل مضارع، وفاعله ضمير عائد على: " من ". والقول حقيقةً: اللفظ الموضوعُ لمعنى، ويطلق على اللَّفْظِ الدَّال على النسبة الإسنادية، وعلى الكلام النَّفساني أيضاً، قال تعالى:**{ وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ }** [المجادلة: 8]. وتراكيبه السّتة وهي: " القول " ، و " اللوق " و " الوقل " ، و " القلو " ، و " اللّقو " ، و " الولق " تدل على الخفّة والسرعة، وإن اختصت بعض هذه المواد بمعانٍ أخر. و " القول " أصل تعديته لواحد نحو: " قُلْتُ خطبة " ، وتحكي بعده الجمل، وتكون في محل نصب مفعولاً بها، إلا أن يُضَمَّنَ معنى الظن، فيعمل عمله بشروط عند غير " بني سُلَيْمٍ "؛ كقوله: [الرجز] | **177- مَتَى تقُولُ الْقُلُصَ الرَّوَاسِمَا** | | **يُدْنِينَ أُمَّ قَاسِمٍ وَقَاسِمَا** | | --- | --- | --- | وبغير شرط عندهم، كقوله: [الرجز] | **178- قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا** | | **هَذَا لَعَمْرُ اللهِ إِسْرَائِينَا** | | --- | --- | --- | و " آمنا " فعل وفاعل، و " بالله " متعلّق به، والجملة في محلّ نصب بالقول، وكررت " الباء " في قوله: " وباليوم " ، للمعنى المتقدّم في قوله:**{ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ }** [البقرة: 7] فإن قيل: الخبر لا بدّ وأن يفيد غير ما أفاد المبتدأ، ومعلوم أنّ الذي يقول كذا هو من الناس لا من غيرهم؟ فالجواب: أنّ هذا تفصيل معنوي، لأنه تقدّم ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكَافرين، ثم عقب بذكر المُنافقين، فصار نظير التَّفصيل اللَّفظي، نحو قوله:**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ }** [البقرة: 204]،**{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي }** [لقمان: 6]، فهو في قوّة تفصيل النَّاس إلى مؤمن، وكافر، ومنافق. وأحسن من هذا أن يقال: إنَّ الخبر أفاد التَّبعيض المقصود؛ لأنَّ النَّاس كلهم لم يقولوا ذلك، وهم غير مؤمنين، فصار التقدير: وبعض الناس يقول كَيْتَ وكَيْت. واعلم أن " مَنْ " وأخواتها لها لفظ ومعنى، فلفظها مفرد مذكر، فإن أريد بها غير ذلك، فَلَكَ أن تراعي لفظها مَرّة، ومعناها أخرى، فتقول: جاء مَنْ قام وقعدوا، والآية الكريمة كذلك روعي اللفظ أولاً فقيل: " من يقول " ، والمعنى ثانياً في " آمنا ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال ابن عطية: حسن ذلك؛ لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلّم من لفظ جمع إلى توحيد. فلو قلت: " ومن الناس من يقومون " وتتكلّم لم يجز. وفي عبارة ابن عطية نظر، وذلك لأنّه منع مِنْ مُرَاعاة اللَّفظ بعد مُرَاعاة المعنى، وذلك جائز، إلا أنَّ مراعاة اللّفظ أولاً أولى، يرد عليه قول الشَّاعر: [الخفيف] | **179- لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو** | | **نَ إِذَا كَافَحَتْه خَيْلُ الأَعَادِي** | | --- | --- | --- | وقال تعالى:**{ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ }** [الطلاق: 11] إلى أن قال:**{ خَالِدينَ }** [الطلاق:11]، فراعى المعنى، ثم قال:**{ قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً }** [الطلاق:11]، فراعى اللفظ بعد مُرَاعاة المعنى، وكذا راعى المعنى في قوله: " أو يستكينون " ، ثم راعى اللفظ في: " إذا كافحته " ، وهذا الحمل جاز فيها في جميع أحوالها، أعني من كونها موصولة وشرطية، واستفهامية. أما إذا كانت موصوفة فقال الشيخ أثير الدين أبو حَيّان: " ليس في محفوظي من كلام العرب مُرَاعاة المعنى يعني فتقول: مررت بمن محسنون لك ". و " الآخر " صفة لـ " اليوم " ، وهذا مقابل الأوّل، ومعنى اليوم الآخر: أي عن الأوقات المحدودة. ويجوز أن يُرَاد به الوقت الَّذي لا حَدّ له، وهو الأبد القائم الذي لا انقطاع له، والمراد بالآخر: يوم القيامة. " وما هم بمؤمنين " " ما ": نافية، ويحتمل أن تكون هي الحِجَازية، فترفع الاسم وتنصب الخبر، فيكون " هم " اسمها، و " بمؤمنين " خبرها، و " الباء " زائدة تأكيداً. وأن تكون التَّمِيْمِيّة، فلا تعمل شيئاً، فيكون " هم " مبتدأ، و " بمؤمنين " الخبر، و " الباء " زائدة أيضاً. وزعم أبو علي الفَارِسِيّ، وتبعه الزمخشري أن " الباء " لا تزاد في خبرها إلاّ إذا كانت عاملة، وهذا مردود بقول الفَرَزْدَقِ، وهو تميمي: [الطويل] | **180- لَعَمْرُكَ مَا مَعْنٌ بِتَارِكِ حَقِّهِ** | | **وَلاَ مُنْسِىءٌ مَعْنٌ وَلاَ مُتَيَسِّرُ** | | --- | --- | --- | إلا أنّ المختار في " ما " أن تكون حِجَازية؛ لأنه لما سقطت " الباء " صرح بالنصب قال الله تعالى:**{ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ }** [المجادلة: 2]**{ مَا هَـٰذَا بَشَراً }** [يوسف: 31]، وأكثر لغة " الحجاز " زيادة الباء في خبرها، حتى زعم بعضهم أنه لم يحفظ النصب في غير القرآن، إلاّ قول الشاعر: [الكامل] | **181- وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ** | | **تَصِلُ الْجُيوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا** | | --- | --- | --- | | **أَبْنَاؤُهَا مُتَكَنِّفُونَ أَبَاهُمُ** | | **حَنِقُو الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلاَدَهَا** | وأتى الضمير في قوله: { وما هم بمؤمنين } جمعاً اعتباراً للمعنى كما تقدّم في قوله: " آمنا ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قيل: لم أتي بخبر " ما " اسم فاعل غير مقيّد بزمان، ولم يؤت بعدها بجملة فعلية حتى يطابق قولهم: " آمنّا ": فيقال: وما آمنوا؟ فالجواب: أنه عدل عن ذلك ليفيد أن الإيمان منتف عنهم في جميع الأوقات، فلو أتى به مطابقاً لقولهم: " آمنا " فقال: وما آمنوا لكان يكون نفياً للإيمان في الزمن الماضي فقط، والمراد النَّفي مطلقاً أي: أنهم ليسوا ملتبسين بشيء من الإيمان في وقتٍ من الأوقات. فصل في سبب نزول الآية قال ابن عباس - رضي الله عنه - إنما نزلت في مُنَافقي أَهْلِ الكتاب، كعبد الله بن أبي ابن سلول ومعتب بن قُشَيْرٍ، وجدّ بن قيس وأصحابهم، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق، ويقولون: إنا لنجد نَعْتَهُ وصفته في كتابنا، ولم يكونوا كذلك إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض. فصل في حقيقة النفاق قال ابن الخَطِيْبِ: الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلّص إلا بتقسيم، وهو أنّ أحوال القلب أربعة: وهي أن تعتقد مستنداً لدليل وهو العلم، أو تعتقد لا عن دليل لكن تقليد، أو تعتقد لا عن دليل ولا تقليد وهو الجهل، أو يكون حال القلب عن هذه الأحوال كلها. وأما أحوال اللسان فثلاثة: الإقرار، والإنكار، والسكوت. فأما الأول: وهو أن يحصل العرفان القلبي، فإما أن ينضم إليه الإقرار باللسان، فإن كان الإقرار اختيارياً، فصاحبه مؤمن حقًّا، بالاتفاق. وإن كان اضطراريًّا فهذا يجب أن يعد منافقاً؛ لأنه بقلبه منكر مكذب لموجب الإقرار. فإن كان منكراً بلسانه عارفاً بقلبه، فهذا الإنكار إنْ كان اضطرارياً كان مسلماً؛ لقوله تعالى:**{ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ }** [النحل: 106]، وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً. وإن كان عارفاً بقلبه، وكان ساكتاً، فهذا السكوت إن كان اضطرارياً كما إذا خاف ذكره باللسان، فهو مسلم حقًّا، أو كما إذا عرف الله بالدليل، ثم لما تمّم بالنظر مات فهو مؤمن قطعاً؛ لأنه أتى بما كلف به، ولم يجد زَمَانَ الإقرار، فكان معذوراً فيه، وإن كان السّكوت اختيارياً، فهذا محل البحث، فميل الغَزَالي إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه الصَّلاة والسلام: **" يَخْرُجُ من النَّار من كَانَ في قَلْبِهِ ذرّةٌ من الإيمان "** وهذا قلبه مملوء من نور الإيمان، فكيف لا يخرج من النار؟ النوع الثاني: أن يحصل في القلْبِ الاعتقاد التقليدي، فإما أن يوجد معه الإقرار باللسان، أو الإنكار أو السكوت. فإن وجد مع التّقليد الإقرار باللسان، فإن كان اختياراً فهي المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا؟ وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر، فهاهنا لا كلام، وإن حكمنا هُنَاك بالإيمان وجب أنْ يحكم هاهنا بالنِّفَاق؟ لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً، فمات يكون منافقاً عند التقليد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن حصل الاعتقاد والتقليد مع الإنكار اللساني، فهذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شَكّ في الكفر، وإن كان اضطرارياً، وحكمنا بإيمان المُقَلّد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصُّورة. فإن حصل الاعتِقَادُ التقليدي مع السُّكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً فحكمه حكم القسم الثَّالث مع النَّوْعِ الأوّل إذا حكمنا بإيمان المُقَلّد. النوع الثَّالث: اعتقاد الجَاهِل، فإما أن يوجد معه الإقرار اللِّسَاني، فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المُنَافق، وإن كان اختيارياً مثل أن يعتقد بناء على شبهة أن العالم قديم، ثم بالاختيار أقرّ باللسان أن العالم مُحْدَث، وهذا غير مستبعدٍ، فهذا أيضاً من النفاق. النوع الرابع: القَلْبُ الخالي عن جميع الاعتقادات، وهذا إما أن يوجد معه الإقرار، أو الإنكار، أو السكوت. فإن وجد الإقرار، فإن كان الإقرار اختيارياً، فإن كان صاحبه في مُهْلة النظر لم يلزمه الكفر، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري هل هو صَادق فيه أم لا؟ وإن كان لا في مُهْلة النظر، ففيه نظر. وإن كان الإقرار اضطرارياً لم يكفر صاحبه؛ لأن توقّفه إذا كان في مُهْلة النظر، وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً. فإن كان مع القَلْب الخالي الإنكار باللِّسَان، فحكمه على العكس من حكم القِسْمِ العاشر. فإن حصل مع القلب الخالي السُّكوت، فهذا إن كان في مُهْلة النظر، فذلك هو الواجب، وإن كان خارجاً عن مُهْلة النظر وجب تكفيره، ولا يحكم عليه بالنِّفَاق ألبتة. فصل في بيان أقبح الكفر اختلفوا في أنّ كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المُنَافق؟ قال قوم: كفر الأصلي أقبح؛ لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان. وقال آخرون: بل المنافق أيضاً كاذبٌ باللسان، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه، ولذلك قال تعالى:**{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا }** [الحجرات: 14]، وقال تعالى:**{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }** [المنافقون: 1] ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة: أحدها: أنه قصد التَّلبيس، والكافر الأصلي ما قصد ذلك. وثانيها: أنّ الكافر على طبع الرجال، والمُنَافق على طبع الخُنُوثة. وثالثها: أنَّ الكافر ما رضي لنفسه بالكذب، ولم يرض إلاَّ بالصدق، والمنافق رضي بذلك. ورابعها: أنَّ المنافق ضمّ إلى كفره الاستهزاء، بخلاف الكافر الأصلي، ولأجل غلظ كفره قال تعالى:**{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ }** [النساء: 145]. وخامسها: قال كجاهد: إنه - تعالى - ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ثَنّى بذكر الكفار في آيتين، ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية، وذلك يدلّ على أنَّ المُنَافق أعظم جرماً، وفي هذا نظر [لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم] لأنه قد يكون عظم جرمهم لضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي، كالمُخَادعة والاستهزاء، وطلب الغَوَائل وغير ذلك، ويمكن أن يُجَاب بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدلُّ على أنَّ الاهتمام بدفع شرهم أشدُّ من الاهتمام بِدَفْعِ شرّ الكُفار، وذلك يدلّ على أنهم أعظم جرماً من الكفار، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فصل في ادعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر ذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً وهو: أنّ المنافقين كانوا مؤمنين بالله، واليوم الآخر، ولكنهم كانوا منكرين نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - فلم كذبوا في ادّعائهم الإيمان بالله، واليوم الآخر؟ وأجاب فقال: إن حملنا الآية على مُنَافقي المشركين فلا إشكال؛ لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله، ومنكرين البعث والنشور. وإن حملناها على مُنَافقي أهل الكتاب - وهم اليهود - فإنما كذبهم الله - تعالى - لأن إيمان اليَهُود بالله ليس بإيمان؛ لأنّهم يعتقدونه جسماً، وقالوا: عزيرٌ ابن الله، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان، فلما قالوا: آمنّا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً؛ لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل، وباللِّسَان يوهمون المسلمين بقولهم: إنا آمنا بالله مثل إيمانكم، فلهذا كذبهم الله - تعالى - فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } يعني المنافقين من الأوس والخزرج، ومن كان على أمرهم. وأخرج ابن اسحق وابن جرير عن ابن عباس. أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها. هي في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود، ومن المنافقين من الأوس والخزرج. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } قال: المراد بهذه الآية المنافقون. وأخرج عبد الرزاق وابن جريرعن قتادة في قوله { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } حتى بلغ { وما كانوا مهتدين } قال: هذه في المنافقين. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله { ومن الناس من يقول آمنا بالله } الآية. قال: هذا نعت المنافق. نعت عبداً خائن السريرة، كثير الأخلاف، يعرف بلسانه، وينكر بقلبه، ويصدق بلسانه، ويخالف بعمله، ويصبح على حال، ويمسي على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة، كلما هبت ريح هب فيها. وأخرج ابن المنذر عن محمد بن سيرين قال: لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين }. وأخرج عبد بن حميد عن يحيى بن عتيق قال: كان محمد يتلو هذه الآية عند ذكر الحجاج ويقول: أنا لغير ذلك أخوف { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين }. وأخرج ابن سعد عن أبي يحيى قال سأل رجل حذيفة وأنا عنده فقال: ما النفاق؟ قال: أن تتكلم باللسان، ولا تعمل به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
[علامات المنافقين] { وَمِنَ ٱلنَّاسِ } شروع في بـيان أن بعضَ من حُكيتْ أحوالُهم السالفة ليسوا بمقتصِرين على ما ذكر من محض الإصرارِ على الكفر والعناد، بل يضُمّون إليه فنوناً أُخَرَ من الشر والفساد، وتعديدٌ لجناياتهم الشنيعةِ المستتبعة لأحوال هائلةٍ عاجلة وآجلة، وأصلُ ناسٍ أُناسٌ، كما يشهد له إنسانٌ وأناسيُّ وإنسٌ، حُذفت همزته تخفيفاً كما قيل: لوقة في ألوقة، وعُوّض عنها حرفُ التعريف، ولذلك لا يُكاد يُجمع بـينهما، وأما في قوله: [مجزوء الكامل] | **إن المنايا يطَّلِعْـ** | | **ـنَ على الأُناسِ الآمنينا** | | --- | --- | --- | فشاذ، سموا بذلك لظهورهم وتعلُّقِ الإيناسِ بهم كما سُمّي الجنُ جناً لاجتنانهم. وذهب بعضُهم إلى أن أصلَه النَّوَسُ وهو الحركة، انقلبت واوه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وبعضُهم إلى أنه مأخوذ من نِسيَ، نقلت لامه إلى موضع العين فصار نَيَساً، ثم قلبت ألفاً، سُمّوا بذلك لنسيانهم، ويُروى عن ابن عباس أنه قال: سُمي الإنسانُ إنساناً لأنه عُهد إليه فنِسي، واللام فيه إما للعهد، أو للجنس المقصور على المُصرّين حسبما ذكر في الموصول، كأنه قيل: ومنهم أو من أولئك، والعدولُ إلى الناس للإيذان بكثرتهم، كما ينبىء عنه التبعيضُ، ومحلُ الظرف الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبار مضمونِه، أو نعتٌ لمبتدإٍ، كما في قوله عز وجل:**{ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ }** [الجن، الآية 11] أي وجمعٌ منا الخ، ومن في قوله تعالى: { مَن يِقُولُ } موصولة أو موصوفة، ومحلُها الرفعُ على الخبرية، والمعنى وبعضُ الناس، أو وبعضٌ من الناس الذي يقول، كقوله تعالى:**{ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ }** [التوبة، الآية 61] الآية، أو فريق يقول، كقوله تعالى:**{ مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ }** [الأحزاب، الآية 23] الخ، على أن يكون مناطُ الإفادةِ والمقصودُ بالأصالة اتصافُهم بما في حيز الصلة أو الصفة، وما يتعلق به من الصفات جميعاً، لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورين. وأما جعلُ الظرف خبراً كما هو الشائعُ في موارد الاستعمال فيأباه جزالةُ المعنى، لأن كونَهم من الناس ظاهرٌ، فالإخبارُ به عارٍ عن الفائدة كما قيل، فإن مبناه توهمُ كونِ المرادِ بالناس الجنسَ مطلقاً، وكذا مدارُ الجواب عنه بأن الفائدةَ هو التنبـيهُ على أن الصفاتِ المذكورةَ تنافي الإنسانية، فحقُّ من يتصفُ بها ألا يُعلمَ كونُه من الناس، فيُخبَرَ به ويُتعجَّبَ منه، وأنت خبـير بأن الناسَ عبارة عن المعهودين، أو عن الجنس المقصور على المصرّين، وأياً ما كان فالفائدةُ ظاهرة، بل لأن خبريةَ الظرف تستدعي أن يكون اتصافُ هؤلاء بتلك الصفاتِ القبـيحةِ المفصَّلة في ثلاثَ عشْرةَ آيةٍ عنواناً للموضوع مفروغاً عنه، غيرَ مقصودٍ بالذات، ويكونُ مناطَ الإفادة كونُهم من أولئك المذكورين، ولا ريب لأحدٍ في أنه يجب حملُ النظم الجليلِ على أجزلِ المعاني وأكملِها، وتوحيدُ الضمير في (يقول) باعتبار لفظةِ (مَن)، وجمعُه في قوله: { آمنا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ } وما بعده باعتبار معناها، والمرادُ باليوم الآخِرِ من وقت الحشرِ إلى ما لا يتناهىٰ، أو إلى أن يدخُلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ، إذ لا حدَّ وراءه، وتخصيصُهم للإيمان بهما بالذكر مع تكرير الباءِ لادعاء أنهم قد حازوا الإيمانَ من قُطريه، وأحاطوا به من طرفيه، وأنهم قد آمنوا بكلَ منهما على الأصالة والاستحكام، وقد دسوا تحته ما هم عليه من العقائد الفاسدة حيث لم يكن إيمانُهم بواحد منهما إيماناً في الحقيقة، إذ كانوا مشركين بالله بقولهم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ عُزَيرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ }** [التوبة، الآية 30] وجاحدين باليوم الآخر بقولهم:**{ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً }** [البقرة، الآية 80] ونحو ذلك، وحكايةُ عبارتهم لبـيان كمالِ خبثهم ودعارتِهم، فإن ما قالوا لو صدر عنهم لا على وجه الخِداعِ والنفاقِ وعقيدتُهم عقيدتُهم لم يكن ذلك إيماناً، فكيف وهم يقولونه تمويهاً على المؤمنين واستهزاءً بهم { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ردٌّ لما ادعَوْه ونفيٌ لما انتحلوه. وما حجازية، فإن جوازَ دخولِ الباء في خبرها لتأكيد النفي اتفاقيٌّ بخلاف التميمية، وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية الموافقةِ لدعواهم المردودةِ للمبالغة في الرد بإفادة انتفاءِ الإيمانِ عنهم في جميع الأزمنة لا في الماضي فقط كما يفيده الفعلية. ولا يُتوهمَن أن الجملة الاسمية الإيجابـية تفيد دوام الثبوت، فعند دخول النفي عليها يتعين الدلالة على نفي الدوام، فإنها بمعونة المقام تدل على دوام النفي قطعاً، كما أن المضارع الخاليَ عن حرف الامتناع يدل على استمرار الوجود وعند دخول حرف الامتناع عليه يدل على استمرار الامتناع، لا على امتناع الاستمرار، كما في قوله عز وجل:**{ وَلَوْ يُعَجّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُم بِٱلْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ }** [يونس، الآية 11] فإن عدم قضاءِ الأجل لاستمرار عدم التعجيل لا لعدم استمرارِ التعجيل، وإطلاقُ الإيمان عما قيدوه به للإيذان بأنهم ليسوا من جنس الإيمان في شيء أصلاً، فضلاً عن الإيمان بما ذكروا، وقد جُوِّز أن يكون المراد ذلك، ويكون الإطلاق للظهور، ومدلولُ الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان، واعتقادُه بخلافه، لا يكون مؤمناً، فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوّه بكلمتي الشهادة - فارغَ القلب عما يوافقه أو ينافيه مؤمنٌ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
قيل فيه: إن الناس اسم جنس واسم الجنس لا يخاطب به الأولياء. وقال بعضهم: ليس الإيمان ما يتزين به العبد قولاً وفعلاً لكن الإيمان جرى السعادة فى سابق الأزل وأما ظهورها على الهياكل فربما تكون عوارى وربما تكون حقائق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
ثبتوا على نفاقهم، ودأبوا على أن يلبِّسوا على المسلمين، فهتَكَ الله أستارهم بقوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } كذا قيل: | **من تحلى بغير ما هو فيه** | | **فضح الامتحان ما يَدَّعِيه** | | --- | --- | --- | ولما تجردت أقوالهم عن المعاني كان وبال ما حصلوه منها أكثر من النفع الذي توهموه فيها، لأنه تعالى قال:**{ إِنَّ المُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ }** [النساء: 145] ولولا نفاقهم لم يزدد عذابهم. ويقال لما عَدِموا صدق الأحوال لم ينفعهم صدق الأقوال، فإن الله تعالى قال:**{ واللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }** [المنافقون: 1] فكانوا يقولون نشهد إنك لرسول الله، وكذلك من أظهر من نفسه ما لم يتحقق به افتضح عند أرباب التحقيق في الحال، وقيل: | **أيها المدعي سليمى هواها** | | **لستَ منها ولا قلامة ظفر** | | --- | --- | --- | | **إنما أنت في هواها كواوٍ** | | **أُلْصِقت في الهجاء ظلماً بعمرو** | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } هؤلاء اهل الدعاوى الذي يزينون ظَواهرَهم بشعار المخلصين ويُخربُونَ بواطنهم بسوء اخلاق المنافقين كلامهم كلام الصدّيقين وافعالهم افعال المكذبين وقيل ان الناس اسم جنسٍ واسم الجنس لا تخاطب به الاولياء وقال بعضهم ليس الايمان ما يتزيّن العبيد قولاً وفعلاً لكن الايمان جرى السّعادة فى سابق الازل وامّا ظهورها على الهياكل فربّما يكون عواري وربّما يكون حقائق { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } اي يخادعون اولياء الله مِنْ حيث اقرار الايمان بالقلوب واخِفاء التداهُن في النفوس { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } حين لا يعلمون تفرسَ اهل الولاية فيفتضحون عندهم واما خدعهم مع اهل الايمان من حيث الظواهر قولاً وفعلاً ودَسَائسهم في البواطن حِقْداً وبعداً وايضاً يخادعون الله بالفرار والذين أمنوا بالاقرار وقال بعض العراقيين الخداع والمكر تنبيه من جهة شهود السعايات والالتفات الى الطاعات كي لا يعتقد فيها بانها اسباب الوصول الحق كلا { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } اي دعوته تشغلها قبول الحق وتلهيها بقبول الخلق وايضاً اي غفلة عن ذكر العقبى وهمة مشغولة بحب الدّنيا { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } بتبعيدهم من قربه وتشغيلهم عن ذكره وقيل { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } بخلوّها من العصمة والتوفيق والرعاية وقال بعضهم بميلهم الى نفوسهم وتعظيم طاعتهم عندهم ومن مال الى شيء عَمِي عن غيبه فزادهم الله مرضاً بان حَسَّن عندهم قبائحهم فافتخروا بها وقال سهل المرض الرياءُ والعجب وقلة الاخلاص وذلك مرض لا يدَاوى الا بالجوع والتقطع وقال ايضاً مرضٌ بقلة المعرفة بنعم الله تعالى والقعود عن القيام بشكرها والغفلة عنها وهذا مرض القلب الذي ربُما يتعدّى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } اي لا تنكروا اولياء الله ولا تشوّشوا قلوبَ المريدين بغيبة شيوخهم عندهم ولا تلقوهم الى تهلكة الفراق وقنطرة النفاق وايضاً لا تخربوا مزارعَ الايمان في قلوبكم بالركون الى الدّنيا ولذاتها امّا قولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فاوقَعَهم اللهُ في شر الاستدراج وحجَبَهم عن اصلاح المنهاج فُرأوا مسَاوئهم المحاسِن فاحتجبوا عن المعنى وخرجوا بالدّعوى ويحسبون انهم يحسنون صنعا في ترك نصيحة العلماء ومصَادفة الاولياء وهذا معنى قوله تعالى { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } وقيل { هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } بعصيان الناصحين لهم ولكن لا يشعرون لانّهم محجوبون عن طريق الانابة والهداية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ من الناس } لما افتتح سبحانه وتعالى كتابه بشرح حاله وساق لبيانه ذكر الذين اخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى باضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بافواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم وهم اى المنافقون اخبث الكفرة وابغضهم الى الله لانهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعا واستهزاء ولذلك طول فى بيان خبثهم. قال القاشانى الاقتصار فى وصف الكفار المصرين المطبوع على قلوبهم على آيتين والاطناب فى وصف المنافقين فى ثلاث عشرة آية للاضراب عن اولئك صفحا اذ لا ينجع فيهم الكلام ولا يجدى عليهم الخطاب واما المنافقون فقد ينجع فيهم التوبيخ والتعبير وعسى ان يرتدعوا بالتشنيع عليهم وتفظيع شأنهم وسيرتهم وتهجير عادتهم وخبث نيتهم وسريرتهم وينتهوا بقبيح صورة حالهم وتفضيحهم بالتمثيل بهم وبطريقتهم فتلين قلوبهم وتنقاد نفوسهم وتزكى بواطنهم وتمضحل رذائلهم فيرجعون عما هم عليه ويصيرون من المستثنى فى قوله تعالى**{ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت لله المؤمنين أجرا عظيما }** النساء 146. والناس اسم جمع للانسان سمى به لانه عهد اليه فنسى قال تعالى**{ ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما }** طه 115. ولذلك جاء فى تفسير قوله تعالى**{ إن الإنسان لربه لكنود }** العاديات 6 اى نساء للنعم ذكار للمحن وقيل لظهوره من آنس اى ابصر لانهم ظاهرون مبصرون ولذلك سموا بشرا كما سمى الجن جنا لاجتنانهم اى استتارهم عن اعين الناس وقيل هو من الانس الذى هو ضد الوحشة لانهم يستأنسون بامثالهم او يستأنس ارواحهم بابدانهم وابدانهم بارواحهم واللام فيه للجنس ومن فى قوله { من يقول } موصوفة اذ لا عهد فكأنه قال ومن الناس ناس يقولون اى يقرون باللسان والقول هو التلفظ بما يفيد ويقال بمعنى المقول وللمعنى المتصور فى النفس المعبرعنه باللفظ وللرأى وللمذهب مجازا ووحد الضمير فى يقول باعتبار لفظ من وجمعه فى قوله { آمنا } وقوله { وما هم } باعتبار معناها لان كلمة من تصلح للواحد والجمع او اللام فيه للعهد والمعهود هم الذين كفروا ومن موصولة مراد بها عبد الله بن ابى بن سلول واصحابه ونظراؤه من المنافقين حيث اظهروا كلمة الاسلام ليسلموا من النى عليه السلام واصحابه واعتقدوا خلافها واكثرهم من اليهود فانهم من حيث انهم صمموا على النفاق دخلوا فى عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس فان الاجناس انما تتنوع بزيادات يختلف فيها ابعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثانى { آمنا بالله } اى صدقنا بالله { وباليوم الآخر } والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر الى ما لا ينتاهى اى الوقت الدائم الذى هو آخر الاوقات المنقضية والمراد به البعث او الى ان يدخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار لانه آخر الايام المحدودة اذ لا حد وراءه وسمى بالآخر لتأخره عن الدنيا وتخصيصهم للايمان بهما بالذكر له ادعاء انهم قد حازوا الايمان من قطريه واحاطوا به من طرفيه وايذان بانهم منافقون فيما يظنون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق لان القوم كانوا يهودا وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر ايمانا كلا ايمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وان الجنة لا يدخلها غيرهم وان النار لن تمسهم الا أياماً معدودة وغيرها ويرون المؤمنين انهم آمنوا مثل ايمانهم وحكاية عبارتهم لبيان كمال خبثهم فان ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن ذلك ايمانا فكيف وهم يقولونه تمويها على المسلمين واستهزاء بهم فكان خبثا الى خبث وكفرا الى كفر { وما هم بمؤمنين } ما نائبة عن ليس ولهذا عقب بالباء اى ليسوا بمصدقين لانهم يضمرون خلاف ما يظهرون بل هم منافقون وفى الحكم عليهم بانهم ليسوا بمؤمنين نفى ما ادعوه على سبيل البت والقطع لانه نفى اصل الايمان منهم بادخال الباء فى خبر ما ولذا لم يقل وما هم من المؤمنين فان الاول ابلغ من الثانى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | دلت الآية على ان الدعوى مردودة اذا لم يقم عليها دلائل الصحة قال قائلهم من تحلى بغير ما فيه فضح الامتحان ما يدعيه فان من مدح نفسه ذم ومن ذم نفسه مدح قالوا فرعون عليه لعنات الله**{ وانا من المسلمين }** يونس90 فقيل وكنت من المفسدين وقال يونس عليه السلام**{ لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين }** الأنبياء 87 فقيل له**{ فلولا انه كان من المسبحين }** الصافات 143 قال الحافظ قدس سره | **خوش بود كر محك تجربه آيد بميان تاسيه روى شود هركه دروغش باشد** | | | | --- | --- | --- | - حكى - ان شيخا كان له تلميذ يدعى انه امين والشيخ يعلم منه خلاف ذلك وهو يرد على الشيخ فى ذلك ويدعى الامانة ويطلب منه ان يكشف له سرا من اسرار الله تعالى فاخذ الشيخ يوما تلميذا من اصحابه وخبأه فى بيت وعمد الى كبش فذبحه والقاه فى عدل ودخل ذلك التلميذ المدعى فرأى الشيخ ملطخا بالدماء والعدل امامه والسكين فى يده فقال له يا سيدى ما شأنك فقال له غاظنى فلان يعنى ذلك التلميذ فقتلته يعنى التلميذ يعنى بقتله مخالفة هواه حتى لا يكذب الشيخ فتخيل التلميذ انه فى العدل فقال الشيخ هذه امانة فاستر على وادفن معى هذا المذبوح الذى فى هذا العدل فدفنه معه فى الدار وقصد الشيخ نكاية ذلك التلميذ وان يفعل معه ما يخرجه وجاء ابو ذلك المخبوء يطلب ابنه فقال له الشيخ هو عندى فمضى الرجل فلما كبر على الرجل نكاية الشيخ مشى الى والد ذلك المخبوء وأخبره ان الشيخ قتله ودفنه معه ورفع ذلك الى السلطان فتوقف السلطان فى ذلك الامر لما يعرفه من جلالة الشيخ وبعث اليه بالقاضى والفقهاء واخذ ذلك التلميذ يسب الشيخ ووقف الشهود حتى حضروا الى العدل فعاينوا الكبش وخرج التلميذ المخبوء وافتضح وندم حيث لا ينفعه الندم كذا فى الرسالة المسماة بالامر المحكم المربوط فيما يلزم اهل طريق الله من الشروط للشيخ الاكبر قدس سره الاطهر فظهر من هذا ان الاسرار لا توهب الا للامناء والانوار لا تفيض الا على الادباء قال الحافظ قدس سره | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **-حديث دوست نكويم مكر بحضرت دوست كه آشنا سخن آشنانكه دارد** | | | | --- | --- | --- | وفى التأويلات النجمية { ومن الناس } هم الذين نسوا الله ومعاهدته يوم الميثاق فمنهم { من يقول آمنا بالله } يقولون بافواههم ما ليس فى قلوبهم فان الايمان الحقيقى ما يكون من نور الله الذى يقذفه الله فى قلوب خواصه { وباليوم الآخر } اى بنور الله يشاهد الآخرة فيؤمن به فمن لم ينظر بنور الله فلا يكون مشاهدا لعالم الغيب فلا يعلم الغيب فلا يكون مؤمنا بالله وباليوم الآخر ولهذا قال { وما هم بمؤمنين } اى بالذين يؤمنون من نور الله تعالى وفيه معنى آخر وما هم بمستعدين للهداية الى الايمان الحقيقى لانهم فى غاية الغفلة والخذلان انتهى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ)
قلت: { من } موصوفة مبتدأ، والخبر مقدم، أي: ومن الناس ناس يقولون كذا، والمخادعة: إظهار خلاف ما يخفي من المكروه، وأصل الخدع: الإخفاء، ومنه المخدع للبيت الذي يخبأ فيه المتاع. وقيل: الفساد لأن المنافقين يفسدون إيمانهم بما يُخْفُون، وجملة { وما يشعرون } حالية، أي: غير شاعرين، والشعور: التفطن، وفعله من باب كَرُمَ ونَصَرَ. وليت شعري: أي: ليت فطنتي تدرك هذا، وجملة { في قلوبهم مرض } تعليلية للمخادعة، والمرض: الضعف والفتور، وهو هنا مرض القلوب بالشك والنفاق. والعياذ بالله. يقول الحقّ جلّ جلاله: { وَمِنَ النَّاسِ } مَن هم مغموص عليهم بالنفاق كبعض اليهود والمنافقين، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يقولون: { آمَنَّا بِاللَّهِ وبِاليَومِ الآخِر } وما هُم في عداد المؤمنين، { يُخَادِعُونَ } بزعمهم { اللَّهَ وّالَّذينَ آمَنُوا } بما يظهرون من الإيمان، { وَمَا يَخْدَعُونَ } في الحقيقة { إلاَّ أَنفُسَهُمْ } لأن وبال خداعهم راجع إليهم، { وَمَا يَشْعُرُونَ } أن خداعهم وبال عليهم، وإنما حصلت لهم هذه المخادعة لأن { في قُلُوبِهِم } مرضاً من الشك والحسد، فقلوبهم مذبذبة، وأنفسهم مغمومة، { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } على مرضهم بما ينزل عليهم من الآيات التي تفضحهم، { وَلَهُمْ } في الآخرة - إذا قدموا على الله - { عَذَابٌ } موجع بسبب تكذيبهم رسول الله أو كذبهم على الله. هذا مُضَمَّنُ الآية. افتتح الحق - جلّ جلاله - بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، ثم ثنى بالكافرين الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاء وخداعاً، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار. الإشارة: ومن الناس مَن يترامى بالدعوى على الخصوصية، ويدعي تحقيق مشاهدة الربوبية، وهو في الدرك الأسفل من العمومية، يظهر خلوص الإيمان وتحقيق العرفان، وهو في أودية الشكوك والخواطر حيران، وفي فيافي القطيعة والفَرْقِ ظمآن، لسانه منطلق بالدعوى، وقلبه خارب من الهدي، يخادع الله بالرضا عن عيوبه ومساوئه، ويخادع المسلمين بتزيين ظاهره، وباطنه معمور بحظوظه ومهاويه، يتزيى بِزِيِّ العارفين ويتعامل معاملة الجاهلين، ويصدق عليه قول القائل: | **أمَّا الخِيَامُ فَإنَّها كخِيَامهمْ وأَرَى نِسَاءَ الحيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا** | | | | --- | --- | --- | وما يخادع في الحقيقة إلا نفسه، حيث حرمها الوصول، وتركها في أودية الأكوان تجول، قلبه بمرض الفرق والقطعية سقيم، وهو يظن أنه في عداد مَن يأتي الله بقلب سليم، فزاده الله مرضاً على مرضه حيث رضي بسقمه وعيبه، وله عذاب الحرص والتعب في ضيق الحجاب والنصب بسبب كذبه على الله، وإنكاره على أولياء الله، فجزاؤه البعد والخذلان، وسوء العاقبة والحرمان، عائذاً بالله من المكر والطغيان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |