surah_name
stringclasses
113 values
revelation_type
stringclasses
2 values
ayah
stringlengths
2
1.15k
tafsir_book
stringclasses
84 values
tafsir_content
stringlengths
0
644k
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
المعنى: معناه بيان الصراط المستقيم، إذ كان كل طريق من طرق الحق صراطاً مستقيماً. والمعنى صراط من أنعمت عليهم بطاعتك. القراءة وقرأ حمزء بضم الهاء من ذلك: وفي أيديهم " وإليهم " حيث وقع. وروى الدوري عنه بضم الهاء في قوله: **{ فعليهم غضب من الله }** وقرأ يعقوب بضم كل هاء قبلها ياء ساكنة في التثنية وجمع المذكر والمؤنث، نحو: " عليهما " وفيهما " عليهن " و " فيهن " ، وضمّ ميم الجمع ووصلها بواو في اللفظ ابن كثير وأبو جعفر. وعن نافع فيه خلاف كثير. وعن غيره لا نطول بذكره، وهو مذكور في كتب القراءات. فمن قرأ بكسر الهاء وإسكان الميم قال: إنه أمن من اللبس إذا كانت الألف في التثنية قد دلت على الاثنين ولا ميم في الواحد، فلما لزمت الميم الجمع حذفوا الواو وأسكنوا الميم طلباً للتخفيف. وحجة من قرأ " عليهم " انهم قالوا ضم الهاء هو الأصل لأن الهاء إذا انفردت من حرف متصلٍ بها قيل: " هم فعلوا " ومن ضم الميم إذا لقيها ساكن بعد الهاء مكسورة قال: لمّا احتجت إلى الحركة رددت الحرف إلى أصله فضممت وتركت الهاء على كسرتها، لأنه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردها إلى الأصل ومن كسر الميم فالساكن الذي لقيها، والهاء مكسورة ثم اتبع الكسرة الكسرة. الاعراب (والذين) في موضع جرٍ بالاضافة، ولا يقال في الرفع (اللذون)، لأنه إسم ليس يتمكن. وقد حكي اللذون شاذا، كما قيل الشياطون، وذلك في حال الرفع ولا يقرأ به، وقرأ صراط من أنعمت عليهم: عمر بن الخطاب وعبد الله بن زبير، وروي ذلك عن أهل البيت عليهم السلام. والمشهور الأول. والنعمة التي أنعم بها على المذكورين وإن لم تذكر في اللفظ فالكلام بدل عليها لا لما قال: إهدنا الصراط المستقيم، وبيّنا المراد بذلك، ثم بيّن أن هذا صراط من أنعمت عليهم بها، فلم يحتج إلى إعادة اللفظ كما قال النابغة الذبياني: | **كأنك من جمال بني أقيش** | | **يقعقع خلف رجليه بشن** | | --- | --- | --- | لما قال جمال بني أقيش قال يقعقع، ومعناه جمل يقعقع خلف رجليه، ونظير ذلك كثيراً جداً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
قوله جل اسمه: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } الهداية لغة: الإرشاد بلطف، ولهذا يستعمل في الخير لا في الشر وقوله تعالى**{ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ }** [الصافات:23]. يحتمل أن يكون على سبيل التهكّم ومنه الهديّة، وهوادي الوحش لمقدّماتها، والفعل منه: هَدى. وقيل: معناه الدلالة على ما يوصِل إلى المطلوب. ونُقض بقوله**{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }** [القصص:56]. وقيل: بل الدلالة الموصِلة إلى المطلوب، وهو أيضاً منقوض بقوله:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت:17]. والحمل على المجاز في كل منهما والحقيقة في الأخرى متصوَّر. وقيل: إنّه تارة تتعدّى بنفسها، وتارة باللام أو بإلى، كما في قوله تعالى:**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }** [الإسراء:9]. وقوله:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى:52] ومعناه على الاول الايصال، وعلى الأخيرين إراءة الطريق. وفي الكشاف: إنّ أصله ان يعدّى باللام أو إلى، فعومِل معاملةَ " اختارَ " في قوله تعالى:**{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ }** [الأعراف:155]. والصراطُ: الطريقُ الواضح المتّسع. وأصله السين. لأنه من سرط الطعام إذا ابتلَعه. فكأنه يسرط السابلة، ولهذا سمّي لقماً، لأنّه يلتقمهم، فمَن قرأ بالسين - كابن كثير برواية قنبل ورويس عن يعقوب - راعى الأصل، ومن قرأ بالصاد، فلما بَيْن الصاد والطاء من المواخاة في الاطباق والاستعلاء، كقولهم: مُصيطر، في مُسيطر. وقرأ حمزة باشمام الصاد الزاي، ليكون أقرب الى المبدل عنه، إذ قد يشمّ الصاد صوت الزاي، وفُصحاهنّ اخلاص الصاد وهي لغة قريش، ويجمع على " فُعُل " ككِتاب على كُتُب، ويستوي فيه المذكّر والمؤنث، كالطريق والسبيل. واعلم أنّ الأمر والدعاء يتشاركان صيغةً ومعنىً، لأن كلاً منهما طلب، وإنّما يتفاوتان بالاستعلاء والتسفّل، أو بالرتبة. وأمّا معنى هذا الدعاء ففيه وجوه: منها: أنّ معناه: ثبّتنا على الدين الحقّ، لأن الله قد هَدى الخلقَ كلّهم الى الصراط أي طريق الحق من ملّة الاسلام، إلاّ انّ الإنسان قد تزلُّ قدمُه عن جادته، وترد عليه الخواطرُ الرديّة فيحسن منه أن يسألَ الله التثبُّت على دينهِ، والزيادة على هذا، كما قال الله تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى }** [محمد:17]. وهذا كقولك لمن يأكل الطعام عندك: كُلْ، أي: دُمْ على أكله. ومنها: أن المراد دلّنا على الدين الحقّ في مستقبل العمر، كما دللتنا عليه في الماضي. ويجوز الدعاء بالشيء الذي يكون حاصلاً كقوله تعالى:**{ قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ }** [الأنبياء:112]، وليس فيه تحصيل للحاصل. ومنها: أنّ نفس الدعاء عبادةٌ شريفةٌ من جملة العبادات. وفيه اظهار للانقطاع إليه تعالى، ويجوز أن يكون لنا فيه مصلحة من الخضوع والخشوع والتذلّل، وسائر ما يوجب تليين القلوب والتبتّل إليه، فتحسن المسألة. وقيل في معنى الصراط المستقيم وجوه: أحدها: أنّه كتابُ الله وهو المروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، وعن علي (عليه السلام)، وابن مسعود. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثانيها: إنّه الإسلام، وهو المرويُّ عن جابر وابن عبّاس. وثالثها: إنّه دين الله الذي لا يقبل غيره، عن محمد بن الحنفيّة. والرابع: إنّه النبيّ والأئمة القائمون مقامه، وهو المروي في أخبار أصحابنا والمأثور من أئمّتنا وأنوارنا (عليهم السلام). والأوْلى حمل الآية على العموم، ليكون أجمع وأشبه منه بكلام من له الأحديّة الجمعيّة. قال بعض المحقّقين: هداية الله تتنوّع أنواعاً لا يحصيها عدّ، لكنّها في أجناس مرتبة. الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكّن المرءُ من الإهتداء الى مصَالحه. كالقوّة العقليّة، والحواسّ الباطنة، والمَشاعر الظاهرة، كما في قوله:**{ ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }** [طه:50]. والثاني: نصْبُ الدلائل الفارقة بين الحقّ والباطل في الاعتقادات، والصلاح والفساد في الأعمال، حيث قال:**{ وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ }** [البلد:10]. وقال:**{ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصّلت:17]. والثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكُتب، وايّاها عنّى بقوله:**{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }** [الأنبياء: 73]. وقوله:**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }** [الإسراء:9]. والرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختصّ بنيله الأنبياءُ والأولياء، وإيّاه عنى بقوله:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ }** [الأنعام:90]. وقوله:**{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ }** [العنكبوت:69]. فالمطلوب ها هنا إمّا زيادة ما منحوه من الهُدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المرتّبة عليه، فإذا قال العارف الواصل: اهْدِنَا، عنَى ارشِدنا طريقَ السيرِ فيكَ لتَمحو عنّا ظُلمات أحوالنا، وتميط غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسِكَ، فنراكَ بنوركَ. مكاشفة [الصراط ومرور الانسان عليه] اعلم إنّ معرفة حقيقة الصراط واستقامتها والمرو عليه والضلال عنه، من المعارف القرآنية التي يختص بدركها أهل المكاشفة والمشاهدة، وليس لغيرهم من سائر المسلمين إلاّ مجرّد التصديق والإذعان به تسليماً وايماناً بالغيب، لا ببصيرة حاصلة من نور اليقين ونعم ما قيل: مَن لا كشْف له لا عِلْم له. واللمعة اليسيرة من هذا العلم: هي إنّ الموجودات الممكنة منقسمة إلى قائمة ومتحركة، والعبارة من الأولى؛ عالَم الأمر والقضاء والإرادة:**{ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ }** [القمر:50]. ومنه نشأ الملائكةُ المقرّبون القائمون بأمره تعالى في منازلهم ومراتبهم، المفطورون على كمالهم الأصلي، لا يتعدّونه، كل له مقام معلوم، منهم سجود لا يركعون، ومنهم ركوع لا يسجدون. والعبارة من الثانية؛ عالَم الخلْق والفعل والتقدير، قال:**{ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }** [الأنبياء:104]. وعالَم الخلْق دائم الحركة والانتقال والحدوث والزوال، ونحن قد أقمنا البرهان على تجدّد الطبائع الجسميّة، وسيلان الجواهر الماديّة برهاناً قطعيّاً، وبينّا أن غاية جميع هذه الحركات والانقلابات الإرادية والطبيعيّة هو الله تعالى، وان جميع الموجودات العالية والسافلة بتوجّهون نحوه ويولّون شطره بما يسري إليهم من نور عشقه وفيض رحمته، وهذا المعنى ممّا يمكن إدراكه بالحدس والتجربة، لما نشاهد من كلّ موجود نراه شوقاً إلى ما هو أعلى منه، وحركة إلى ما يشتاقه ويتمنّاه، ومعاد كلّ موجود إلى ما هو مبدأه، ومرجعه إلى ما هو منشأه، وكلّ ما هو أعلى مبدءاً يكون أرفع غاية وأشرف مآباً ومرجعاً، فمرجع العنصر إلى العنصر كماء المطَر انفصَل من البحر أولاً واتّصل به ثانياً كان بحراً ثمّ بخاراً، ثمّ انعقد سحاباً، ثم تقاطَر أمطاراً، ثم جرى عيوناً وأنهاراً، ثمّ اتّصل بالبحر فصار بحراً كما كان بعد أن تطوّر أطواراً، وكذا مرجع النبات مع زيادة منزلة وبركة، كحال الحبّة في تقاليب الأطوار إلى أن تبلغ مرتبة الثمار، فيبتدي أوّلها وهو لبٌّ يدفن في الأرض وكاد أن يفسد ويغيب عن ذاته في الأماكن الغريبة، ثمّ أفادها الله قوّة محرّكة تستحيل بها من حال إلى حال حتّى تنتهي إلى كمالها الأصلي، فتبلغ إلى درجة اللبّ الذي كانت عليه في بدؤ أمرها مع أعداد كثيرة من أفراد نوعه وفوائد زائدة من القشور والأنوار والأوراق والأزهار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكذلك حال الحيوان، فهو أعظم قوساً في العروج إلى الله وأبعد نزولاً وصعوداً من النبات وصورة الأركان:**{ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [هود:56]. وأمّا الإنسان - أي الحقيقي لا الصوري - فهو الغاية والمقصود الأصلي من جميع الخلائق والأكوان، ولأجله خلقت المكوّنات وترتّبت الموجودات ونشأت المواليد والآباء والأُمّهات، فمنازل سيره وصعوده إلى الله واقعة على النصف الصعودي لدائرة الإمكان، على عكس مراتب نزوله من عند الله الواقعة على النصف النزولي لهذه الدائرة، وذلك لأنّ الله مبدأه ومعاده، وهو المهتدي المنعَم عليه المعتني به من أوّل الأمر إلى آخر العهد فلم يزل الإنسان الذي سبقت له المشيّة الأزليّة أن يستعمله الله لسياقة حكمته الى غايتها، منظوراً إليه في سائر مراتب الاستيداع من حيث أفراد الإرادة المنبعثة عن العلْم الأزلي في مقام القلَم الأعلى العقلي، ثمّ في مقام اللوح النفسي، ثمّ في مرتبة الطبيعة باعتبار ظهور حكمتها في الأجسام، ثمّ في العرش المحدّد للزمان والمكان مستوى الاسم الرحمن، ثمّ في الكرسي الكريم مستوى الاسم الرحيم، ثمّ في السموات السبع، ثمّ في العناصر، ثمّ في المواليد، وهلمّ إلى حين استقراره بصفة صورة الجمع بعد استيفاء مراتب الاستيداع، مخصوصاً بمزيد الاعتناء، موسوماً بسِمة التوفيق والهداية، مهتمّا به اهتمامً تامّاً مراعى في كل عالَم وحضرة يمرّ عليهما بحسن الرعاية، مخدوماً بخدمة أهل ذلك العالَم والمرتبة، ليتمّ به وبخدمته وإمداده وحسن تلقّيه أولاً، ومشايعته ثانياً، ذواتهم وصورهم بحسب ما يدركونه فيه من سِمة العناية وأثر الإختصاص. وما من عالَم من العوالم العلويّة مرّ عليه إلاّ وهو بصدد التعويق في الإنحراف المعنوي، إن لم تتداركه العناية الإلهيّة، لغلبة أحكام بعض النشآت، أو صفة بعض الأرواح الذي يتّصل به حكمه عليه، وكذلك بعض الأفلاك بالنسبة إلى البواقي، فيتعوّق أو ينحرف عمّا يقتضيه حكم الاعتدال الجمعي، وصورة الصراط الوسطي الربّاني الذي هو شأن من سبقَت له العناية في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمة الكون إلى غايتها، ثمّ الأمثَل فالأمثل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذا دخَل عالَمَ المواليد وسيّما من حين تعدّى مرتبة المعدِن إلى مرتبة النبات وعالَمه، ثمّ منه إلى عالَم الحيوان، إن لم تصحبه العناية الأزليّة، ولم يصحبه الحقّ بحسن المعونة والحراسة والرعاية، وإلاّ حيف عليه، فانه بصدد آفات كثيرة، لأنّه عند دخوله عالَم النبات، إن لم يكن محروساً معتنىً به، وإلاّ فينجذب ببعض المناسبات التي تشتمل عليها جمعيّته إلى مزاج ردئٍ، ينحرف به عن صراط الحقّ فيخرج منه تارة أخرى إلى باب العناصر، ويبقى فيه حائراً عاجزاً، حتّى يعان ويؤذن له في الدخول مرّة اخرى. فربما عرضت له آفة من العناصر، كبَردٍ مسدّد أو حرٍّ مفرط أو رطوبة زائدةٍ، أو يبس غالبٍ، فيتلف ويخرج ليستأنف دخولاً آخر، وهكذا مراراً شتّى حسب ما شاء الله وقضاه وقدّره. ثم على تقدير سلامته أيضاً في ما ذكرناه بنعمة الحراسة والرعاية وسائر النَعم التي يستدعيها فقْره، فإنّه قد يخرج على غير الوجه الذي يقتضي تكوين النشأة الحيوانيّة منه، فإذا دخل في باب الحيوانيّة، تضاعفت حاجتُه إلى الحفظ والتربية والصيانة والحراسة من الآفات والمضادّات لواحدٍ واحدٍ من أعضائه وقواه الحيوانيّة بعد قواه النباتية، فهو مفتقر الى الهداية والتوفيق، ونعمة السلامة والحراسة والرعاية في كل مرتبةٍ وصورةٍ صورةٍ ونشأةٍ نشأةٍ، إلى حال مسقط النطفة وحال الولادة، فهو مفتقر إلى أن يخرجه الله مخرجاً صدقاً ويدخله مدخلاً كريماً من حيث ظاهره وباطنه. فالمختصّان بمسقط النطفة حال التوليد من أحكام الزمان والمكان، شاهدان طيّ كثير من أحواله البطانة، والمختصّان بمسقط الرأس حال الولادة، شاهدان على معظم أحواله الظاهرة، وسرّ الابتداء في السلوك إلى جانب الحق، فالعادةُ الإلهيّة جارية بأنّ من اختصّ بمزيد العناية ونعمة الحراسة، وأثر الإختصاص من بداية أمره، وشروعه من منبع المشيّة الإلهيّة الى هذا المقام وهو مقام العقل والتكليف والدعوة أن يهديه إلى صراطه ويسوقه إلى تمام النعمة، وغاية الحكمة، وغاية الايجاد، وزينة المعاد، وصورة الكمال الوجودي، فأين من يكون أحديّ السير من حين صدوره من غير الحقّ الى عرصة الوجود العيني والنزول الكوني، لم يتعوق من حيث حقيقته وروحانيّته في عالَم من العوالِم، ونشأة من النشئآت، وحضرة من الحضرات ممن يتعوّق ويتردّد لتصادم الموانع والآفات، ويتكرّر وُلُوجه وخروجه المقتضيان لكثافة حُجُبه، وكثرة تقلّبه في المحن والعوائق - نعوذ بالله منها. فقوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ } ، بيانٌ للمعونة المطلوبة في الآية السابقة، فكأنّه قال: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدِنَا فهذه الآية وما يتلوها كالأجوبة لأسئلة ربّانية، كما قال بعض العرفاء: فكأنّ لسان الربوبيّة يقول عند قول العبد: اهِدِنا الصِراط: أيُّ صراطٍ تَعنى؟ فالصراطات كثيرة كلّها لي، لما تقرّر واشتهر انّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، فيقول لسان العبوديّة: اريد منها: المستقيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فيقول لسان الربوبيّة: كلّها مستقيمة من حيث اتّهج إلى غايتها كلّها، وإليّ مصير من يمشي عليها جميعاً. فأيّ استقامة تقصد في سؤلك يا عبدي؟ فيقول لسان العبوديّة: اريد من بين الجميع: { صِرَاطَ الذينَ انْعَمْتَ عَلَيهِم }. فيقول لسان الربوبية: وَمَن الذي لم أنعم عليه؟ وهل في الوجود شيء لم تسعه رحمتي ولم تشمله نعمتي؟ فيقول لسان العبوديّة: إنّ رحمتك واسعة ونعمك سابغة شاملة، لكنّي لست أبغي إلاّ صراط الذين انعمت عليهم النعَمَ الظاهرة والباطنة الصافية من كدر الغضب ومحنته، وشائبة الضلال ونكبته، فإنّ السلامة من قوارع الغضَب لا تقنعني، إذا لم تكن النعم المسدّلة إليّ مطرزة بعلم الهداية المخلصة من محنة الحيرة والضلالة، وبيداء التيه وورطات الشبهة والشك والتمويه، وإلاّ فأيّة فائدة في تنعُّمٍ ظاهرّيٍ بأنواع النعم مع تألّم باطني بهواجم التلبيسات المانعة من الاطمينان والسكون، ورواجم الريب والظنون. هذا في الوقت الحاضر - فدع ما تتوقّعه من اليوم الآخر، فتذكّر عند هذا قوله (صلّى الله عليه وآله) حكاية عن ربّه أنّه قال: **" قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. فإذا قال العبد: { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، يقولُ الله: ذكَرني عبدي، وإذا قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، يقولُ الله: حَمَدَني عَبدي. وإذا قال: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، يقول الله: عَظَّمني عبدي، وإذا قال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } ، يقول الله: مَجَّدني عَبدي، وفي رواية فوّضَ إليَّ عبدي. وإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، يقول الله: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقيم، يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ".** فاعرف كيف تسأل، تنل من فضل الله ما تؤمل. فصل [الانسان أشرف الخلائق] واعلم أنّ الإنسان المهتدي بنور الله، أشرف الخلائق كلّها، وأبدع ما في الإمكان، لأن الله اصطفاه لقُربه، وأضافه إلى نفسه، من الله مبدأه وإلى الله منتهاه، قد باشَر الحقّ ايجاده بنفخه فيه من روحه، وتخمير جسده بيديه، واختار لعبدِه الأسماء كما لنفسه، وآثرَ الخيرة له من لدن نزوله من عنده إلى حين صعوده إليه، في كل صورة يتلبّس بها، أو مقامٍ يمرّ عليه، أو نشأةٍ يظهر بها نفسه، وموطنٍ يتعيّن فيه النشأة، وزمانٍ يحويه من حيث تقيّده به وتغيّره معه، ومكانٍ يستقرّ فيه من حيث هو متحيّزٌ به وحاصلٌ في دائرته. وأول كل ذلك ومبدأه هو من حال تعلّق الإرادة الإلهيّة به عند تعيّنه بعينه الثابت في علمه الأزلي، ثمّ اتّصال حكم القدرَة به لإبرازه في أطوار الوجود، ومروره على المراتب الإلهية والكونيّة، وله في كل عالَم وحضرةٍ يمرّ عليه صورة تناسبه من حيث ذلك العالَم أو الحضرة، ووديعة يأخذها من جملة النعم، من التعديل والتسوية، وتماميّة الخِلقة، وحسْن الصورة، والاعتدال، وحسّن الخلق والعدالة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فكم بين من باشرَ الحقُّ تسويته وتعديلَه، وجمَع له بين يديه المقدّستين، ثمّ نفَخ بنفسه فيه من روحه نفخاً استلزم معرفةَ الأسماء كلّها، وسجودَ الملائكة له أجمعين، وإجلاسه مرتبة الخلافة عنه في التكوين، وبين من خلقه بيده الواحدة، أو بواسطة ما شاء من خلْقه ولم يقبل من حكَمي التسوية والتعديل ما قَبله هذا النائب الربانيّ، وكون الملك ينفخ فيه الروح بالاذن. كما ورد في الشريعة عنه (صلّى الله عليه وآله) انّه قال: يجمع أحدكم في بطن امّه أربعين يوماً نطفة، ثمّ أربعين يوماً علقة، ثمّ أربعين يوماً مضغة، ثمّ يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، فيقول: يا ربّ، أذكر أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيد، ما رِزْقُهِ، وما أجَلهُ، ما عَمَلُه؟ فالحق يملي والملك يكتب. فأين هذا من قوله:**{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }** [الحجر:29]. شتّان بينهما ها هنا أضاف المباشرة إلى نفسه بضمير الإفراد الرافع للاحتمال، ولهذا قرع بذلك المتكبّر اللعين المتأبي عن السجود له، ولعنه وأخزاه بقوله:**{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }** [ص:75]. وقد وقع التأكيد في هذا المعنى منه (صلى الله عليه وآله) بأمور كثيرة، منها قوله: إنّ الله خلق آدمَ على صورتِه - وبرواية - على صورة الرحمن، ولقوله في التأكيد الرافع للاحتمال الذي ركن إليه أرباب العقول السخيفة، الجاهلون بأسرار الشريعة والحقيقة، في وصيته بعض أصحابه في الغزو: إذا ذبحت فاحسن الذبِحة، وإذا قتلت فاحسن القِتلة، واجتنب الوجه فإن الله خلق آدمَ على صورته. وقال أيضاً (صلوات الله عليه وآله): في هذا المعنى: إذا خلق خلقاً للخلافة مسَحَ بيمينه على ناصيته، فنبّه على مزيد الاهتمام والخصوصيّة. وأشار أيضاً في حديث آخر ثابت: أنّ الذي باشَر الحقُّ سبحانه ايجاده أربعة أشياء ثمّ سرَدها فقال: خلَق جنّة الخُلد بيده، وكتَب التوراة بيده، وغرَس شجرةَ طوبى بيده، وخلَق آدمَ بيده. وقال أيضاً (صلّى الله عليه وآله): الإنسان أعجب موجود خُلق. وكما أنّ هذه الخصائص والكرامات؛ من كونه مخلوقاً على صورة الرحمن، منفوخاً فيه من روحه تعالى، مكرَّماً بكرامة تعليم الأسماء، محمولاً في برّ الأجساد وبحر الأرواح، مُخمّراً طينته العقلية والنفسية باليدين مخصوصاً بخلافة الله تعالى في العالمين الكبير والصغير مسجوداً لملائكة الله في النشأتين الجسمانيّة والروحانيّة، إنما هي للانسان المعنوي الحقيقي، لا لهذه الأشباه والأمثال من الأعداد الصوريّة، فكذلك الوصول إليه بالعروج الروحي والسفر المعنوي على صراط الله المستقيم، يختصّ به دون غيره، وإلاّ فكل ماشٍ من الحيوان وغيره مارُّ على صراطه الذي يخصّه، متوجّهاً شطرَ الحقّ. وكما انّ لكل جسم مكاناً مخصوصاً، وفيه معنى طبيعيّاً يحركه الى حيّزه ويجرّه إلى مطلوبه ولا يقف به دونه، فكذلك كل نفْس خرجت من معدن مخصوص من معادن الأرواح، ففيها معنى يحرّكها إلى معدنه الأصلي، ولا يقف بها دونه، واختلاف أحوال هذه النفوس البشريّة من اختلاف مباديها المعبَّر عنها بالمعادن في قوله (صلّى الله عليه وآله): الناس معادنٌ كمعادِن الذهبِ والفضّةِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في هذا الكتاب المجيد بقوله تعالى**{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ }** [البقرة:60]. وحركات الجوارح آثار تلك المعاني التي أودعتها القُدرة الأزليّة في النفوس الآدميّة، إتماماً للحكمة، وتوسيعاً للرحمة في سائر الأمّة، واهتماماً بهذا المعنى المجذوب المحبوب؛ فالنفوس التي لا يكون بينها وبين الحقّ واسطة، تنجذب إلى جنابه طبعاً كانجذاب إبرة من حديد إلى مغناطيس لا تتناهى قوّته، وهذه النفوس هي العرفاء بالله حقّاً، وقوله:**{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }** [المائدة:54]، كناية عن أهل الله العارفين به. وإنّما عرفه هؤلاء معرفةً حقيقيةً وايماناً كشفيّاً وإحساناً، لأنّهم الذين وقَع لهم التجلّي في الأزل بالذات ولغيرهم بالعرض، فاستغرقوا بكليّتهم في معرفته عند قوله:**{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }** [الأعراف:172]، وأجابوا بقولهم { بَلَىٰ } ، ايماناً وايقاناً لا تكلّفاً وتقليداً، أو مجازفة ونفاقاً. ولقد أفصح عن هذا المعنى شيخ الطائفة عبد الله الأنصاري حيث قال: " إلهي تلطّفت لأوليائك فعرَفوكَ، ولولا تلطّفتَ لأعدائك لما جحدوكَ " فهذه حكم النفوس التي لم تكن بينها وبين الحقّ واسطة في البداية، فلا جرم هم المجذوبون إليه تعالى الواصلون إليه في النهاية، وغيرهم إما سالكون، أو واقفون بالعوائق البدنيّة، أو مردودون إلى أسفل سافلين بالعقائد المهلكة الشيطانيّة. فقد قارَن الحقُّ سبحانه بين السالك والمجذوب في العطاء والنصيب، فقال عزَّ مِن قائل:**{ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }** [الشورى:13]. وقد وقع التنبيه منه (صلّى الله عليه وآله) على هذا المعنى فقال في جنازة واحد من أصحابه: **" اهتزّ عرش الرحمن لموته "** ، وقال في حقّ طائفة اخرى لما ذكر: **" إن الموت ينتقي خيار الناس، الأمثَل فالأمثل، حتّى لا يبقى إة حثالة كحثالة التمْر أو الشعير، لا يبالي الله بهم ".** فأين من يهتزّ بموته عرش الرحمن ممّن لا يبالي الله به أصلاً، فكما هو الأمر آخراً فكذا هو الأمر أولاً. بل الخاتمة عين الرجوع إلى السابقة، فافهم واغتنم. فلنرجع متمّمين لما وقع الشروعُ فيه مستعينين بالله وهدايته. تأييد استبصاري ومما يؤيّد ما أصّلناه، ويؤكّد ما قرّرناه من الحركة الجوهريّة، والسلوك الباطني المستمرّ للانسان وغيره من الأكوان، قول الشيخ الإلهي والعارف الربّاني في الفتوحات المكيّة في باب تقلّب باطن الإنسان: إنّ الحقَّ لم يزل في الدنيا متجلّياً للقلوب دائماً، فتتنوع الخواطر فيها لتجلّيه، وإن تنوّع الخواطر في الإنسان عينُ التجلّي الإلهي من حيث لا يشعر بذلك إلاّ أهل الله، كما انّهم يعلمون انّ الصور الظاهرة في الدنيا والآخرة في جميع الموجودات كلّها ليس غير تنوّع التجلي، فهو الظاهر، إذ هو عين كلّ شيء، وفي الآخرة يكون باطن الإنسان ثابتاً، فإنّه عين ظاهر صورته في الدنيا، والتبدّل فيه حقيٌّ وهو خلقه الجديد في كلّ زمان، الذي هو في لبس منه، وفي الآخرة يكون ظاهره مثل باطنه في الدنيا، ويكون التجلّي الإلهي له دائماً بالفعل، فيتنوّع ظاهرُه في الآخرة كما يتنوّع باطنه في الدنيا في الصور التي يكون فيها التجلي الإلهي ينصبغ بها انصباغاً، فذلك هو التضاهي الإلهي الخيالي، غير أنّه في الآخرة ظاهر وفي الدنيا باطن، فحكم الخيال مستصحب للانسان في الآخرة وللحق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وذلك هو المعبَّر بالشأن الذي هو فيه الحقّ من قوله:**{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }** [الرحمن:29]. ثمّ قال أيضاً: فكل ظاهرٍ في العالَم صورة ممثّلة كتابيّة مضاهية لصورة إلهيّة، لأنّه تعالى لا يتجلّى للعالَم الاّ بما يناسب العالَم في عين جوهر ثابت، كما أنّ الإنسان من حيث أصل جوهره ثابتٌ أيضاً، فترى الثابت بالثابت منك وهو الغيب منك ومنه، وترى الظاهر بالظاهر وهو الشاهد والمشهود والشهادة منك ومنه، وكذا تدركه، وكذا تدرك ذاتَك، غير أنّك معروف في كلّ صورة، أنّك انتَ لا غيرُك، كما انّك تعلم أنّ زيداً في تنوّعه في كيفياته من خجَل ووجَل ومرَض وعافية ورضىً وغضب، وكل ما يتقلب فيه من الاحوال، أنه زيد لا غير، وكذلك الامر في كل احد. فصل [في تحقيق الصراط واستقامته] اعلم إن الصراط لا يكون صراطاً إلا بمرور المارّةِ عليه وقد مرّت الإشارة إلى ان الخلائق كلّها متوجّهة شطرَ الحقّ توجُّهاً غريزيّاً وحركة جِبِليّة نحو مسبّب الأسباب، وفي هذه الحركة الجِبِلّية لا يتصوّر في حقّهم الضلال والانحراف عمّا عيّن الله لكلّ منهم، والله آخذٌ بناصِيته، كما قال الله:**{ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [هود:56]. وما من موجود في عالَم الخلْق إلاّ وهو حيوان ماشٍ فيكون دابّة. وكل دابّة فالربّ آخذٌ بناصيتها، وعليه رزقها، ويعلم مستقرَّها ومستودعَها، كما قال تعالى:**{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }** [هود:6]، فتكون مفطورة على المشي على نهج الاستقامة من غير ضلال، وأمّا المسمّى إنساناً، فلوجود الاختيار المخالف للطبع فيه، ومزاحمة قوّة الوهم الذي يعتريه، يتصور في حقّه الضلالُ والغوايةُ والنكالُ والغَباوةُ من جهة حركاتِه الإختيارية المورِثةِ له قُرباً أو بُعداً من الله، المثمِرةِ له سعادةً أو شقاوةً في الدار الآخرة، فيحتاج الى من يهديه، ويذكّر له العهد القديم، ويثبّته على الصراط المستقيم. فالهادي هو الله بالحقيقة بواسطة الكتاب والرسول (صلّى الله عليه وآله)، من يقومُ مقامَه من الأئمة الهداة (عليهم السلام)، فيختصّ الإنسان من بين سائر المخلوقات، بأن هداه الله بالهدايتين الكونيّة والوضعيّة من جهة حركتيه الاضطراريّة والاختياريّة، وجمع لأجله بين الدعوتين العامّة والخاصّة، وشرع له الشريعتين، وساسه بالسياستين المطبوعة والمجعولة، وأوجب عليه طاعة الحكمين: التكويني والتدويني، وذلك لاشتماله على مبدأ الحركتين: الذاتية والإراديّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أما الحركة الذاتية له، فهي حركة جوهريّة، لها كسائر الحركات فاعلٌ وقابلٌ، ومسافةٌ وبدايةٌ ونهايةٌ، إلا انّ الحركة في الجوهر تُخالف غيرَها في أمر، وهو أنّ مسافة هذه الحركة هي عين المتحرّك حقيقة ووجوداً وغيره كمالاً ونقصاً، بخلاف الحركة في سائر المقولات، فإنّ المسافة فيها تُباين ذاتَ المتحرّك كما هو المقرّر عند العقلاء. ونحن قد بيّنا صحّة الحركة في مقولة الجوهر في أسفارنا ببيانات برهانيّة، يضطرّ أهل النظر على الاعتراف بها، والآيات القرآنيّة الدالّة على هذه الحركة، وخصوصاً ما للانسان كثيرة. منها: في باب حركة الجواهر الأرضية في ذاتها، كقوله تعالى:**{ وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ }** [النحل:88]. وقوله:**{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَاتُ }** [إبراهيم: 48]. ومنها: في باب حركة الجواهر السماويّة في ذاتها، كقوله**{ وَٱلسَّمَٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }** [الزمر:67]. وقوله:**{ يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ }** [الأنبياء:104]. ومنها: في تقلّب الانسان في أطوار الوجود، بقوله:**{ يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ }** [الانشقاق:6]. وقوله:**{ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ }** [الواقعة:61] وقوله:**{ وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ }** [الزخرف:14]. ومنها: في انقلاب الكلّ إليه كقوله**{ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }** [الروم:11]. وقوله:**{ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ }** [الأنبياء:93]. وقوله:**{ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }** [ق:15]. ففاعل هذه الحركة الذاتيّة الانسانيّة - أي محرّكها - هو الله وقابلها - أي موضوعها - هو النفس الإنسانيّة باعتبار قوّتها الاستعداديّة النفسانيّة، وعقلها المنفعل الهيولاني، وابتداعها من حين كونها ساذجة عن جميع الصوَر الإدراكيّة الجزئية والكلّية، وإليه الإشارة في قوله:**{ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }** [الإنسان:1]. وانتهاؤها حالته التي يكون عليها في القيامة. ومسافتها منازل الإنسان بحسب أكوانه الجوهريّة التدريجيّة، ودرجاته الوجوديّة بحسب قُربه وبُعده من الله، فله تكوّن بعد تكوّن على نعت الاتّصال التدريجي من الأكثف فالأكثف إلى الألطَف فالألطفِ، فينتقل من كلّ ظاهر إلى باطنه، ومن كلّ صورة الى معناها، فيدخل من الجماديّة والنباتيّة، ومن الحيوانيّة إلى البشريّة، ومن التجسّم الى التروّح، وينقلب من الدنيا الى الآخرة. وبالجملة من نشاة إلى نشأة إلى أن ينتهي الى موطنه الذي تعيّن له عند الله. وبهذا المعنى يكون الموتُ طبييعيّاً للإنسان، لا كَمَا زعمَه الأطبّاء وغيرهم من أنه بواسطة نفاد الحرارة الغريزيّة، أو غلبة الرطوبة عليها، أو لاجل تناهي القوى البدنيّة لكونها جسمانيّة، إلى غير ذلك من آرائهم القاصرة. وذلك لأنّ النفس الإنسانيّة - كما علمت - متقلّبةٌ في أكوانها الجوهريّة وكلّما انطوت لها نشأةٌ دخلت في نشأة تتلوها. ففي هذه النشاة الدنيويّة تطوّرت بجميع الأطوار الداخلة في عالم الشهادة، من الجسميّة والجماديّة والنباتيّة على درجاتها، والحيوانيّة على مراتبها، فإذا تمّ لها آخر هذه المراتب الواقعة في هذه النشأة، أخذت في الإنقطاع والولوج في النشأة الآخرة، وأطوارها الداخلة في عالَم الغيب بحسب الطِباع الأصليّ لها، من غير قَسر قاسرٍ وسياق سائقٍ خارجي، بل يسوقها سائقٌ داخليّ جبليّ من جانب الله تعالى كما قال جلّ ذكره: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ }** [ق:21]. وقوله:**{ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا }** [الزمر:42]. ومما يؤيّد هذا ما ذكره الشيخ المحقّق في الباب الرابع والثمانين ومأتين من الفتوحات حيث قال: اعلم أن الروح الإنساني أوجده الله منذ أوجده مدبراً لصورة طبيعيّة حسيّة له، سواء كان في الدنيا، أو في البرزخ، أو في الدار الآخرة، أو حيث كان. فأول صورة لبسها، الصورة التي أخذ عليه فيها الميثاق بالإقرار بربوبيّة الحقّ عليه، ثمّ إنّه حُشِر من تلك الصورة الى هذه الصورة الجسميّة الدنيويّة، وحُبس بها في رابع شهر من تكوين صورة جسده في بطن أمّه إلى ساعة موته، فإذا ماتَ حُشر الى صورة اخرى من حين موته إلى سؤالِه، فإذا جاء وقتُ سؤاله، حُشر من تلك الصورة الى صورة جسدِه الموصوف بالموت، فيحيى به، ويؤخذ بأسماع الناس وأبصارهم عن حياته بذلك الروح، إلاّ من خصّه الله بالكشف على ذلك من نبيٍّ أو وليٍّ من الثقلين. وأمّا سائر الحيوان، فإنّهم يشاهدون حياته وما هو فيه عيناً، ثمّ يحشر بعد السؤال إلى صورة أخرى في البرزخ يمسك فيها، بل تلك الصورة [هي] عين البرزخ، والنوم والموت في ذلك على السواء إلى نفخة البعث، فينبعث من تلك الصورة ويحشر الى الصورة التي فارقَها في الدنيا، إن كان بقي عليه سؤال. فإن لم يكن من أهل ذلك الصنف، حُشر في الصورة التي يدخل بها الجنّة. والمسؤول يوم القيامة أيضاً إذا فرغ من سؤاله، حُشر الى الصورة التي يدخل بها الجنّة أو النار. وأهل النار كلّهم مسؤولون، فإذا دخلوا الجنّة واستقرّوا فيها، ثمّ دعوا الى الرؤية ونودوا، حُشروا في صورة لا تصلح إلاّ للرؤية، فإذا عادوا حُشروا في صورة تصلَح للجنّة، وفي كلّ صورة يُحشر يُنسئ الصورة السابقة التي كان عليها، ويرجع حكمه الى حكم الصورة التي انتقل إليها وحُشر فيها. فإذا دخل سوق الجنة، ورأى ما فيه من الصوَر، فأيّة صورة رآها واستحسنها حُشر فيها، فلا يزال في الجنة دائماً يُحشر من صورة الى صورة إلى ما لا نهاية له ليعلم بذلك الاتّساع الإلهي، فكما لا تتكرر عليه صورة التجلّي، كذلك يحتاج هذا المتجلّى له أن يقابل كلّ صورة تتجلّى له بصورة اخرى ينظر إليه في تجلّيه، فلا يزال يُحشر في الصور دائماً يأخذها من سوق الجنّة، ولا يقبل من تلك الصور التي في السوق ولا يستحسن منها إلاّ ما يناسب صورة التجلّي الذي يكون في المستقبل، لأنّ تلك الصورة هي كالاستعداد الخاصّ لذلك التجلّي - فاعلم هذا فإنّه من لُباب المعرفة الإلهيّة -. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولو تفطّنت لعلِمت أنّك الآن كذلك تُحشر في كل نفس في صورة الحال التي أنت عليها، ولكن يحجبك عن ذلك رؤيتك المعهودة، وإن كنتَ تحسّ بانتقالك في أحوالك التي عنها تتصرّف في ظاهرك وباطنك، ولكن لا تعلم انّها صور لروحك تدخل فيها في كل آن، وتحشر فيها، ويبصرها العارفون صوراً صحيحة [ثابتة] ظاهرة العين. انتهى كلامه الشريف النوري، وفيه من الفوائد الكشفيّة مما لا يمكن وصفُه فضلاً وشرفاً، إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين. وأما الحركة الإرادية للإنسان إلى الله، فهي حركة في الكيف النفساني، معدّة له في سرعة اللحوق له إلى الله من جهة استكمال كِلا جزئَيه العلمي والعملي بواسطة الأفكار والأذكار الملطفة له والأعمال والأفعال المقرّبة إيّاه الى الله، وجنس هذه الحركة مما يتطرّق فيه الصواب والخطأ، والاستقامة على الصراط والضلال، بخلاف الحركة الأولى، لكونها جوهريّة ذاتيّة متوجّهة شطرَ كعبة الحقّ لا يتصور فيها الخطأ والانحراف، والانتكاس، ولا تكون إلاّ على وجه الصواب والاستقامة، كما في قوله:**{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ }** [البقرة:148]. فقوله: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } إشارة إلى الحركة الغريزية الشوقية المفطورة عليها جميع المكوّنات، وقوله: { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } إشارة إلى هذه الحركة الإراديّة للإنسان، التي بها يقع الاستباق للخيرات، وسرعة الانسياق إلى الدار الآخرة، والالتحاق بملكوت ربّنا الأعلى. ولقائل أن يقول: إذا كان الكلّ متوجّه إلى الله تعالى توجّهاً غريزيّاً نحو الفطرة الأخرويّة والكمال الوجودي والفعليّة، فأين الشقاوة للكفار وأهل المعاصي إذا كان الجميع من أحبّاء الله، المفطورة على طاعة الحقّ، والتقرّب منه، فيلزم كون الناس كلهم سعداء مقرّبين؟ فنقول: اعلم أنّ هذا التوجّه الغريزي للأشياء كلّها نحو مسبّب الأسباب، لا ينافي شقاوةَ الأشقياء وعذاب الكفار والمنافقين والعاصين، فإنّ السعادة شيء، والقُرب من الله يرفع الوسائط شيءٌ آخر، وكذا يجب أن يعلم أنّ الفعليّة الوجوديّة وقوّة التجوهر الحاصلة للنفوس الإنسانيّة من جهة انسلاخها من هذا البدن، وخروجها من القوّة إلى الفعل، وحدّة بصرها بسبب رفع الغواشي الماديّة، لا تنافي الشقاوة الأخرويّة، بل تؤكّدها، فإنّ غمور النفس بهذا البدن الكثيف، يوجب لها حالة كالخدر والسكْر لها، لأجل تلك الحالة، لا يمكنها إدراك الأمور الأخرويّة من المَثوبات واللذّات التي تكون للسعداء، والعقوبات والآلام التي تكون للأشقياء. فإذا خرجت من غشاوة الدنيا، وزال عنها سكْر الطبيعة وتخديرها، وحانَ وقتُ أن يقعَ بصرُها إلى ذاتها، فإن كانت من جملة الأشقياء المردودين، واطّلعت على ما اكتسبته من النقائص والآفات، تتألّم بها أشدّ الآلام، وخروجها من القوّة إلى الفعل، ووجود القوّة الدرّاكة فيها، وزوال مانع الإدراك عنها، يوجبان أن تطّلع على صحيفة ذاتها وما كسبته من السعادة أو الشقاوة، فتلتذّ غاية التلذّذ أو تتألّم غاية التألّم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فقد ظهر أنّ فعلية الوجود وتأكّده في الجملة، لا ينافيان الشقاوة بإدراك الآلام الحاصلة من الكفر والمعاصي، وكذا الرجوع الإضطراري إلى الحضرة الإلهيّة لا ينافي الشقاوة والعذاب، فإنّ أنوار النفوس الإنسانيّة، إنّما هبطت كالكواكب الى هذا القالب الفاني مدّة هذا الكون الجسماني وغربت فيه، وستطلع عند خراب القالب، وانقطاع عمره، وبوار نشأته من مغربها إلى مشرقها الأصلي، وخالقها وباريها، إمّا مظلمةً منكسفةً وإمّا زاهرة مشرقة. والزاهرة المشرِقة غير محجوبة عن الحضرة الإلهيّة، والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة، إذ المرجع والمصير للكلّ إليه كما مرّ، إلا انّها ناكسةُ الرؤوس عن جهة أعلى علّيين الى جهة أسفل سافلين، منقلبة الوجود الى الدنيا ولذّاتها وطيّباتها التي هي بعينها منشأ آلام الآخرة وخبثياتها. أَوَ لاَ ترى النبات في نموّه ونشوئه يتقارب الى عالم السماء والضياء، إلا انّه منكوس الرأس، متوجّه نحو السِفل، ولذلك قال تعالى:**{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ }** [السجدة:12] فبيّن انّ نفوس الأشقياء أيضاً عند ربّهم، إلا انّهم منكوسون منحوسون، قد انقلبت وجوهُهم الى أقفيتهم، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق الى جهة تحت، وذلك حكم الله وقضاؤه فيمن حرمه توفيقه ولم يهد له سلوك صراطه المستقيم، نعوذُ بالله من الضلال، والعدول عن منهج أهل الكمال. فإن قلت: إذا كان الكلّ مفطوراً على حبّه تعالى وطلبه والتشوّق إليه، فما سبب تفاوت هذه النفوس الإنسانيّة في الهداية والضلال، والطاعة والمعصية؟ قلنا: لتفاوتها في الصفاء والكدورة، والقوّة والضعف، والشرافة والخسّة، وبحسب ما يتّفق لها من الأسباب البدنية والأحوال الدنيويّة من الاستعدادات الماديّة، والعوارض الإتفاقية المتسلسلة المنتهية إلى الأمور العلوية، والقضاء السابق الأزلي. فالأرواح الإنسية متفاوتة بحسب أصل الفطرة الأولى، مختلفة في الصفاء والكدورة، والضعف والقوّة، مترتّبة في درجات القُرب والبُعد من الله تعالى، والموادّ السفليّة الواقعة بإزائها متباينة في اللطافة والكثافة، ومزاجاتها متفاوتة في القُرب والبُعد من الاعتدال الحقيقي، فقابليّتها لما يتعلّق بها من الأرواح متفاوتة، وقد قدّر الله تعالى في القضاء السابق بإزاء كل روح ما يناسبه من المودّ وبازاء كلّ معنى ما يحاذيه من الصورة، فألطف الموادّ والصوَر لأشرف الأرواح وأنوار النفوس. وقد علمت سابقاً، أن تفاوت النفوس البشرية - المتخالفة الحقائق - ، لتفاوت أصولها ومعادنها العقليّة، ومفاتيح أبوابها الإلهيّة، ومن أجلها ومن أجل تفاوتها في الإدراكات والإرادات والأشواق، وقَع الاختلاف بينها في الهداية والضلال، والطاعة والعصيان، والتوفيق والخذلان، والسعادة والشقاوة، وحسن العاقبة وسوءها، والثواب والعقاب، والجنّة والنار. فإن قلت: ما الفائدة في التكليف بالطاعات، والدعوة بالآيات، والأمر والنهي، والترغيب والترهيب، إذا كان الجميع منتهياً الى قضاء الله وتقديره، وما تأثير السعي والجهد والطاعة والعبادة؟ قلنا: هذه الأمور من جملة الأشياء الواقعة بقضاء الله وقدَره، والأسباب المقدّرة التي جعلها الله تعالى مهيّجات للأشواق والإرادات، ومحرّكات ودواعي الى طلب الخيرات، واكتساب الدرجات، ومحرّضات على أعمال حسنة مورثة لعادات محمودة، وأخلاق جميلة، وملكات فاضلة مزكيّة للنفوس، منوّرة للقلوب، مقرّبة إيّاها الى الله، نافعة في معاشنا ومعادنا، يحسن بها حالنا في دنيانا، وتحصل بها سعادة عقبانا، أو محذّرات من الشرور والقبائح، والذنوب والرذائل المكدّرة للنفوس، المسوّدة للقلوب، مما يضرّنا في العاجل ونشقى به في الآجل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكذلك السعي والجدّ والتدبير والحذر، مهيِّئة لمطالبنا، موصِلة إيّانا الى مقاصدنا، مخرِجة لكمالاتِنا من القوّة الى الفعل، كما قال (صلّى الله عليه وآله) لمن سأله: هل يغني الدواء والرُقْية من قدَر الله؟ فقال: **" الدواءُ والرقية أيضاً من قدَرِ الله ".** ولمّا قال (صلّى الله عليه وآله): **" جفَّ القلمُ بما هو كائن ". قيل: ففيمَ العملُ؟ فقال: " اعملُوا فكلٌ ميسِّر لِما خُلقَ له ".** ولما سئل: أنحنُ في أمرٍ فُرغ منه أو في أمرٍ مستأنَف؟ فقال: **" في أمرٍ مفروغٍ منه وفي أمرٍ مستأنف ".** فإن قلت: لِماذا وقعَ هذا التفاضُلُ والتخالفُ في أصل الفِطَر والغرائز ولم تتساو في الشرف والخسّة؟ فما بالنا كنّا مختلفين في الجواهر بحسب الصفاء والكدورة، ولم نتشاكل في السعادة ولا نتعادل، فصار السعيدُ مبروراً والشقيُّ محروماً؟ وما سبب التفاوت في هذه القسمة من خزانة الغيب، الزيادة والنقصان في النصيب من الرحمة الإلهيّة؟ وما هذا الحيف والجورُ لنا؟ وأين عدلُ الله فينا وكُلّنا عبيدُه والمحتاجون إلى قسمته ورزقه وقد قال الله:**{ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }** [ق:29]. فنُجيبك: يا أخا الطريقة بعد ما زالت عنك الدهشة، وآب إليك القرار، ورجعت السكينة والوقار، فلستَ أولَ من زلَّ في هذا المقام، واستنفر من هذا الكلام، ثمَّ رجع وتاب وآمن وأناب، بمثل ما قال الشاعر: | **هون على بصري ما شقّ منظره** | | **فإنّما يقظات العين كالحلم** | | --- | --- | --- | أما كون الشريفِ شريفاً والخسيسِ خسيساً، فليس بجعْل جاعلٍ وتأثير مؤثّر. وأما السؤال بأنّه لِمَ خلق الله الشيءَ الخسيس في العالم، ولم يجعل الايجادَ مقصوراً على الأشرف؟ فجوابك؛ بأنّه لو اقتصر على الممكن الأشرف في الايجاد، لبقيت كلّ الموجودات طبقةً واحدة، بل انحصرت في العقل الأول، ولبقيت المراتبُ الباقيةُ في كتْم العَدم مع إمكان وجودها، فكان حَيفاً عليها وجَوراً، لا عدلاً وقسطاً. فالعناية الإلهيّة تقتضي نظم الوجود على أحسن ما يمكن، فلو أمكن أحسن مما هو عليه الآن، لوُجِد من جود الواهب المنّان، ولو تساوت الموجودات في الشرف والكمال والنقص والتمام، لفاتَ الحُسن في ترتيب النظام، وارتفع الصلاح، ولو لم توجد النفوسُ الشقيّة والطبايع الغليظةُ لكان لا تتمشّى أمورهم ولا تتهيّأ مصالحهم، وبقي الاحتياج إليها في العالَم مع فقْدها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | كما لو كان البصل زعفراناً، والدِفلى أقحواناً، أو لم يوجد البصل والدُفلى أصلاً لحرمت الناس من منافعها، وتضرّروا في فقْدها مع إمكان وجودها. وكما لا يختلج في صدرك أنّ البصَل لِمَ لمْ يكن زعفراناً، والقيصوم ضَيْمَراناً، والكلْب أسداً والوهمُ عقلاً؛ فيجب أن لن ينقدح في بالك أنّ الباقل لماذا لم يكن سَحْباناً، والفقير سلطاناً، والشقيّ سعيداً، والجاهل الشرّير عالِماً خيّراً؟ إذ لو كان كذلك، لاضطرّ السلطان إلى صنعة الكنْس، والحكيمُ المتألّه الى مباشرة الرجس، فما بقي التناسل على تقدير التماثل، وبطل النظام، ووقع الهَرْج والمَرْج، فلم يكن ذلك عدلاً بل كان ظُلماً وجوراً. ثمّ إنّ الدنيَّ لا يتألّم من دناءته، والخسيسَ لا يتضرّر من خسّته، والجاهلَ جهلاً بسيطاً لا يتعذّب بجهله، والعامي الأعمى البصيرة لا يشقى بعماه الأصلي، لكون كلّ منهم لم يغيّر ما هو عليه ليتألّم بفقْد كمالِه، ويتعذّب بضدّ حالِه، بل كلّ أحدٍ يعشق ذاتَه ويحبُّ نفسَه، وإن كان خسيساً دَنِياً. وفي المَثَل السائر: غِثُّكَ خير من سمين غيرك. فمَن أساء عمله وأخطأ في اعتقاده، فإنّما ظلَم نفسَه بظُلمة جوهره وسوء استعداده، وكان أهلاً للشقاوة، ينادي على لسان الحال، مهلاً فيداك أوكتا وفُوكَ نفَخ، وإنّما قصُر استعداده وأظلمَ جوهره لعدم إمكان كونه أحسن مما وجد. كما لا يمكن أن يحصل من أعمى القلبِ البصيرةُ، وأن يلِدَ القِردُ إنساناً في أحسن صورة وأكمل سيرة:**{ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }** [هود:118- 119]. وبالجملة، تفاوت الخَلْق في الكمال والنقص، والسعادة والشقاوة، إمّا بأمور ذاتيّة جوهريّة، وإمّا بأمور عارضة كسبيّة بواسطة الأعمال والأفعال. فالاختلاف بحسب الأمور الذاتيّة بمحض العناية الإلهية المقتضية لحسن الترتيب وفضيلة النظام، وليس منشأ للإشكال أصلاً كما علمت. وإمّا بحسب العوارض اللاحقة، فهي من اللوازم والتوابع الحاصلة بمصادمات الأسباب، وكل آفة وشرّ يلحق الشيء بسبب أمر خارج إتّفاقي، فليس مما يدوم عليه، بل يزول بزوال سببه، وسيعود الشيءُ الى ما كان عليه أولاً من طبيعته الأصليّة، والأسباب الإتّفاقية غير دائمة ولا أكثريّة الوجود. اللّهم إلاّ أن تنقلب طبيعةُ الشيء الى طبيعة أخرى، فتكون هذه الثانية طبيعة أصليّة، والكلام فيها عائد من أنّ ما يكون عارضاً غريباً لها يزول عنها بسرعة، فعلم من هذا انّ أكثر أحوال الشيء الخير والسلامة، وأن الآفة والشرّ من النوادر الاتّفاقية. وأمّا حديث الانتقام الإلهي بالغضب والعقوبات الدائمة للكفّار، فسيأتي الكلام فيه في تحقيق قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم }. ولنرجع إلى ما كنّا بصدده إنشاء الله. مشاهدة إشراقية اعلم أنّ الصراط الذي إذا سلكتَ عليه، وثبّت الله عليك أقدامك، حتّى أوصلك إلى الجنّة، صورةُ الهدى الذي أنشأته لنفسك في الدار الدنيا، بما هداك الله من الأعمال القلبيّة والبدنيّة، فهو في هذه الدار لا تشاهَد له صورة حسيّة، وأما في القيامة، وعلى منظر أصحاب البصيرة الغالب عليهم شهود النشأة الآخرة، فقد مُدّ لك جسراً محسوساً على متن جهنّم، أوّله في الموقف وآخره على باب الجنة، كل من يشاهده يعرف أنّه صنعَتُك وبناؤكَ، ويعلم أنّه قد كان في الدنيا جسراً ممدوداً على متن جهنمك من نار طبيعتك التي فيها ظلّ حقيقتك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ظلٌّ ذو ثلاث شُعَب، غير ظليل ولا يغنيها من اللهب بل هو الذي يقودها الى لهب الشهوات، ويضرم فيها نار النفْس الحيوانية. فالإنسان الكامل السالك الى الله، المهتدي بنوره، يعجل بقيامته بإطفاء نار جحيمه بنور ايمانه ونار توبته في الموطن الذي ينفعه لقيامته، ويقبل منه توبته، وهو موطن الدنيا، فإنّ بعد قيامه الدار الأخرى، لا ينفع فيها عملٌ، إذ لا تكليف فيها بعملٍ. لأنّها موطن الجزاء. والصراط قد علمتَ أنّه صراطان: صراط الوجود، وصراط الايمان والتوحيد، فالمشرك لا قَدم له على صراط الوجود، والمعطَّل لا قدَم له على صراط الوجود أيضاً. ومن أشرك بالله فهو من الموقف الى النار مع المعطّلة، ومن أهل النار الذين هم أهلها، إلاّ المنافقين، فلا بدّ لهم أن ينظروا الى الجنة وما فيها من النعيم، فيطمعون على حسب داعيتهم وشوقهم الى الكمال، فذلك نصيبهم من نعيم أهل الجنان، ثمّ يُصْرَفون الى النار. وهذا من عدل الله فيهم فقوبلوا بأعمالهم. وأما الموحّد، فلا يخلّد في النار، إنّما يُمْسَك ويُسأل ويُعذّب على الصراط، والصراط على متْن جهنم كما مرّ غائب فيها الكلاليب التي فيها، يمسكهم الله عليه. ولمّا كان الصراط في النار، وما ثَمَّ طريقٌ الى الجنّة إلاّ عليه، قال تعالى:**{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }** [مريم:71- 72] ومن عرف معنى هذا القول عرف أنّ مكان النار ما هو. تصوير ايماني قد ورَد في صفة الصراط: أنّه أدقّ من الشَعْر وأَحَدُّ من السيف. وكذا علم حقيقة الايمان والتوحيد، والعمل بالأركان والتجريد، ولا تزال في كل ركعة من الصلاة تقول: { أهْدِنا الصِّراطَ المُستَقيم }. فلأمر مّا أوجب الله عليك ذلك، فأعظمُ الأمور وأجلّها منفعة لك، تحقيق هذا الصراط وعرفانه، فإنّه أدقُّ من الشَعْر وأحدُّ من السيف، فظهوره في الدنيا ظهور عقليٌّ، وفي الآخرة ظهور حسّي أبينُ وأوضحُ من ظهوره في الدنيا، إلاّ لمن دعى الى الله على بصيرة كما قال تعالى:**{ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي }** [يوسف:108]. وقد جاء في الخبر أيضاً: إن الصراط يظهر يوم القيامة منه للأبصار على قدْر نور المارّين عليه، فيكون دقيقاً في حقّ بعض، وعريضاً في حقّ آخرين، يصدّق هذا الخبر قوله تعالى:**{ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم }** [الحديد:12] والسعي مشي، وما ثَمَّ طريقٌ الى الله إلاّ الصراط وإنّما قال: بأيمانِهم، لأنّ المؤمن في الآخرة لا شمال له، كما انّ الكافر لا يمين له. هذا بعض أحوالك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير الصافي في تفسير كلام الله الوافي/ الفيض الكاشاني (ت 1090 هـ)
{ (5)إيّاكَ نَعْبُدُ } في تفسير الإِمام عليه السلام قال الله تعالى: قُولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم إِيّاك نعبد أيّها المنعم علينا نطيعك مخلصين موحّدين مع التذلل والخضوع بلا رياء ولا سمعة. وفي رواية عامية عن الصادق عليه السلام: يعني لا نريد منك غيرك لا نعبدك بالعوض والبدل كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك. أقول: إِنّما انتقل العبد من الغيبة إلى الخطاب لأنه كان بتمجيده (لتمجيده خ ل) لله سبحانه وتعالى يتقرب إِليه متدرجاً إلى أن يبلغ في القرب مقاماً كأنّ العلم صار له عياناً والخبر شهوداً والغيبة حضوراً. { وَإِيّاكَ نَسْتَعِيْنُ }: على طاعتك وعبادتك وعلى دفع شرور أعدائك ورد مكائدهم والمقام على ما أمرت، كذا في تفسير الإمام عليه السلام. قيل: المستتر في نعبد ونستعين للقاري ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أوله ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عباداتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها وتجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدّم إِيّاك للتعظيم له والاهتمام به وللدلالة على الحصر. { (6) إهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }: في المعاني وتفسير الإمام عن الصادق عليه السلام يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جنّتك والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: يعني أدِمْ لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا. أقول: لما كان العبد محتاجاً إلى الهداية في جميع اموره آناً فآناً ولحظة فلحظة فادامة الهداية هي هداية أخرى بعد الهداية الأولى فتفسير الهداية بإِدامتها ليس خروجاً عن ظاهر اللفظ. وعنه عليه السلام الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير واستقام وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام: وهي الطريق إلى معرفة الله وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة فأما الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنّم. وعنه عليه السلام: ان الصراط أمير المؤمنين عليه السلام. وفي رواية أخرى: ومعرفته. وفي أخرى: أنه معرفة الامام، وفي اخرى: نحن الصراط المستقيم. والقمّي عنه عليه السلام: الصراط أدقّ من الشّعر وأحدّ من السيف فمنهم من يمر عليه مثل البرق ومنهم من يمر عليه مثل عدو الفرس ومنهم من يمر عليه ماشياً ومنهم من يمر عليه حبواً ومنهم من يمر عليه متعلقاً فتأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً. وفي رواية أخرى: أنه مظلم يسعى الناس عليه على قدر أنوارهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | أقول: ومآل الكل واحد عند العارفين بأسرارهم. وبيانه على قدر فهمك أن لكل انسان من ابتداء حدوثه إلى منتهى عمره انتقالات جبلية باطنية في الكمال وحركات طبيعية ونفسانية تنشأ من تكرار الأعمال وتنشأ منها المقامات والأحوال فلا يزال ينتقل من صورة إلى صورة ومن خلق إلى خلق ومن عقيدة إلى عقيدة ومن حال إلى حال ومن مقام إلى مقام ومن كمال إلى كمال حتى يتصل بالعالم العقلي والمقربين ويلحق بالملأ الأعلى والسابقين إن ساعده التوفيق وكان من الكاملين أو بأصحاب اليمين إن كان من المتوسطين أو يحشر مع الشياطين وأصحاب الشمال إن ولاه الشيطان وقارنه الخذلان في المآل وهذا معنى الصراط المستقيم، ومنه ما إذا سلكه أوصله إلى الجنّة وهو ما يشتمل عليه الشرع كما قال الله عز وجل:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52] صراط الله وهو صراط التوحيد والمعرفة والتوسط بين الأضداد في الأخلاق والتزام صوالح الأعمال. وبالجملة: صورة الهدى الذي أنشأه المؤمن لنفسه ما دام في دار الدنيا مقتدياً فيه بهدى إمامه وهو أدق من الشعر وأحدّ من السيف في المعنى مظلم لا يهتدي إليه إلا من جعل الله لو نوراً يمشي به في الناس يسعى الناس عليه على قدر أنوارهم. وروي عن الصادق عليه السلام أن الصورة الإنسانية هي الطريق المستقيم إلى كل خير والجسر الممدود بين الجنّة والنار. أقول: فالصراط والمار عليه شيء واحد في كل خطوة يضع قدمه على رأسه أعني يعمل على مقتضى نور معرفته التي هي بمنزلة رأسه بل يضع رأسه على قدمه أي يبني معرفته على نتيجة عمله الذي كان بناؤه على المعرفة السابقة حتى يقطع المنازل إلى الله وإلى الله المصير. وقد تبيّن من هذا أن الإمام هو الصراط المستقيم وأنه يمشي سوياً على الصراط المستقيم وأن معرفته معرفة الصراط المستقيم ومعرفة المشي على الصراط المستقيم وإن من عرف الامام ومشى على صراطه سريعاً أو بطيئاً بقدر نوره ومعرفته إِيّاه فاز بدخول الجنّة والنجاة من النار ومن لم يعرف الإمام لم يدر ما صنع فزل قدمه وتردّى في النار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
فى معاملاتنا مع اهل مملكتنا والكثرات الخارجة من مملكتنا بالتّوسط بين افراط التنصّر وتفريط التّهوّد فانّ الافراط وهو التّجاوز عن الطّريق بعد الوصول اليه يمنعنا عن مشاهدة جمالك بعد ما منحتنا بها، والتّفريط ايضاً يقصّر بنا عن الحضور لديك. والهداية هى ارائة الطّريق سواء كانت مع الايصال الى المطلوب او الى الطّريق او مجرّدة عنهما، وسواء عديّت بنفسها او بالى او بالّلام، والصّراط بالصّاد والسّراط بالسّين والزراط بالزّاء الطّريق وقرء هاهنا بالصّاد والسّين والصّراط الظّاهر ظاهر ومستقيمه معلوم والمستوى منه ما كان فى حاقّ الوسط او مستقيماً وقد يقال المستقيم للطّريق الّذى يكون على اقرب الخطوط الى المقصود وهكذا المستوى والطّريق فى الحركات الاينيّة هو المسافة بين مبدء الحركة ومنتهاها سواء صارت جادّة وطريقاً فى الارض او لم تصر، وهكذا الحال فى الحركات الوضعيّة ويكون المسافة وحدودها فى هاتين الحركتين موجودة قبل الحركة وامّا الحركات الكيفيّة والكمّيّة والجوهريّة فالطّريق فيها وهى مراتب الكيف والكمّ الطّارئة على الجسم المتحرّك ومراتب الصّور الجوهريّة المتعاقبة على الجوهر المتحرّك غير موجود لا قبل الحركة ولا بعدها بل هو كالحركة القطعيّة الّتى لا وجود لها لا قبل الحركة ولا بعدها بل وجودها يكون فى الذّهن بسبب رسم وصول المتحرّك الى حدود المراتب امراً متّصلاً وحدانيّاً فيه والموجود من الطّريق فيها هو مرتبة من الكيف او الكّم او الجوهر الّتى وجودها كالحركة التّوسطيّة عين قوّة عدمها وتكوّنها عين قوّة تصرفها ولذلك اشكل الامر على كثير من اهل النّظر فى بقاء موضوع محفوظ فى هذه الحركات خصوصاً فى الحركات الكميّة والجوهريّة بناء على انّ الجسم التّعليمىّ منتزع عن الجسم الطّبيعى وبتبدّله يتبدّل الجسم الطّبيعىّ وبتبدّله يتبدّل الموضوع وهكذا الحال فى توارد الصّور الجوهريّة فى الحركات الجوهريّة والحقّ انّ الموضوع محفوظ بكمّ ما وصورة ما محفوظين فى ضمن الكمّيّات والصّور الواردة بحافظ شخصىّ غيبىّ ومادّة باقية بكمّ ما وصورةٍ ما فانّ الاتّصال الوحدانىّ مساوٍ للوحدة الشخصيّة وكل مكوّن من الجماد والنّبات والحيوان متحرّك من اوّل تكوّنه فى الكيف والكمّ بل فى الصّور الجوهريّة حتّى ينتهى الى كماله الّلائق بنوعه او شخصه وهذا معنى كون الكون فى التّرقى فانّ الحركة خروجٌ تدريجاً من القوّة الى الفعل والخروج من القوّة الى الفعل معنى التّرقّى وكلّ من هذه خروجه من القوّة الى الفعل من اوّل تكوّنه الى كماله الّلائق به يكون على الصّراط المستقيم والفعليّات الّلائقة به ان لم يمنعه مانع ولم يعقه عائق سوى الانسان من افراد الحيوان فانّه بحسب استكمال بدنه يخرج على الصّراط المستقيم الّلائق بنوعه وشخصه ان لم يعقه عائق وبحسب استكمال نفسه ايضاً يخرج من القوّة الى الفعل على الصّراط الّلائق بنوعه وشخصه ما لم يحصل له استقلال فى اختياره فاذا حصل له استقلال فى اختياره وحان اوان تمرينه وتكليفه فقد يخرج من القوى الى الفعليّات الّلائقة بنوع الانسان من دون حصول فعليّة مخالفة لنوعه متخلّلة بين تلك الفعليّات حتّى يصل الى آخرة فعليّاته وهى مقام الاطلاق والولاية الكليّة وعلويّة علىّ (ع) وهذا نادر وكثيراً ما يخرج من القوى الى الفعليّات الّلائقة به بتخلّل فعليّات غير لائقة به فيكون خروجه الى الفعليّات لا على الصّراط المستقيم الانسانىّ بل قد يعوّد صراطه الى غير الفعليّات الّلائقة به وقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشّمال }** اشارة الى هؤلاء الّسّلاك، وقد يخرج الانسان الى الطّرق المعوجّة والفعليّات الغير الّلائقة به من دون فعليّة لائقة به فقد ينتهى فى تلك الفعليّات فيصير أخسّ من البهائم او السّباع او الشّيطان وقد يقف فيمسخ بصورة الفعليّة الّتى وقف عليها ولمّا كان الصّراط المستقيم الانسانىّ ادقّ الامور بحيث لا يمكن لكلّ بصير تمييزه، وأحدّ الامور بحيث لا يمكن لكلّ سالك سلوكه من غير زلّة الى احد الطّرفين، وأخفى الامور بحيث لا يمكن لكلّ مدركٍ ادراكه وكان الاشخاص مختلفين فى السّير عليه بحسب فطرتهم وبحسب الاسباب والمعاونات الخارجة وصف بأنّه أدقّ من الشّعر وأحدّ من السّيف وانّه مظلم يسعى النّاس عليه على قدر انوارهم ولكون تلك الفعليّات الّلائقة بالانسان صور مراتب انسانيّة الانسان ومحفوفة بفعليّات الافراط والتّفريط الّتى هى انموذجات الجحيم ومخرجة للانسان فى كلّ مرتبة وفعليّة من صورة من صور مراتب النّيران وموصلة الى صورة مرتبة من مراتب الجنان ورد انّ الصّورة الانسانيّة هى الطّريق المستقيم الى كلّ خير والجسر الممدود بين الجنّة والنّار؛ وانّ الصّراط ممدود على متن جهنّم، ولمّا كان السّلوك على الصّراط الانسانىّ والخروج من القوى الى الفعليّات الانسانيّة مستلزماً للتّوسط بين الافراط والتّفريط فى الاعمال البدنيّة والاحكام الشّرعيّة وفى الاعمال القلبيّة يعنى الاخلاق النّفسيّة والاحوال الطّارئة وفى الاوصاف العقليّة والعقائد الدينيّة وكان التّوسّط فى ذلك مستلزماً للسّلوك على الصّراط الانسانىّ فسّر الصّراط بالتّوسط فى الاعمال والاحوال والاخلاق والعقائد والتّوسّط فى الاعمال مثل التّوسط فى الاكل والشّرب المشار اليه بقوله تعالى { كلوا واشربوا } فانّه اباحةٌ للاكل والشّرب او استحباب او وجوب ومنع عن الامساك { وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } فانّه منع صريحاً عن الافراط، ومثل التّوسط فى الانفاقات المشار اليه بقوله تعالى**{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ }** [الإسراء: 29]، ومثل قوله تعالى فى الصّدقات الواجبة او المستحبّة**{ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ }** [الأنعام: 141]، ومثل قوله تعالى فى الصّلاة او فى مطلق العبادات البدنيّة**{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً }** [الإسراء: 110]، والتّوسط فى الاحوال كالتّوسط بين الجذب والسّلوك الصّرف، والتّوسط بين القبض والبسط، والتّوسط بين الخوف والرّجاء، والتّوسط فى الاخلاق كالتّوسط بين الشره والخمود المسمّى بالعفّة، والتّوسط بين التّهوّر والجبن المسمّى بالشجاعة، والتّوسط بين الجزبرة والبلاهة المسمّى بالحكمة، والتّوسط بين الظلم والانظلام المسمّى بالعدالة، والتّوسّط فى العقائد كالتّوسط بين التّنزيه المحدّد والتّشبيه المجسّم فى الحقّ الاوّل تعالى شأنه، والتّوسط بين حصر النّبى (ص) والامام (ع) على المرتبة الجسمانيّة واعلائهما الى مرتبة الآلهة فى اعتقاد النّبوّة والامامة، والتّوسط بين الجسمانيّة الطّبيعيّة والروحانيّة الصّرفة فى اعتقاد المعاد وطبقات الجنان ولذّاتها ودركات النيران وآلامها، ولمّا كان الخارج الى الفعليّات الانسانيّة والسّالك على الصّراط المستقيم يصير متحقّقاً بتلك الفعليّات فاذا بلغ الى مقام من مقامات الآلهه وصار به نبيّاً او خليفة وصار بنفسه طريقاً وصراطاً مستقيماً من مقام بشريّته ومقامات روحانيّته وصار ولايته الّتى هى البيعة معه والاتّصال به بنحو مخصوص وكيفيّة خاصّة طريقاً انسانيّاً لانّها طريق الى روحانيّته وروحانيّته طريق حقيقة الى الله صحّ ما ورد عن الصّادق (ع) من انّها الطّريق الى معرفة الله وهما صراطان صراط فى الدّنيا وصراط فى الآخرة فامّا الصّراط فى الدّنيا فهو الامام المفترض الطّاعة؛ من عرفه فى الدّنيا واقتدى بهديه مرّ على الصّراط الّذى هو جسر جهنّم فى الآخرة، ومن لم يعرفه فى الدّنيا زلّت قدمه عن الصّراط فى الآخرة فتردى فى نار جهنّم، وما ورد عنه انّ الصّراط امير المؤمنين (ع) وزيد فى خبرٍ: ومعرفته، وما ورد انّه معرفة الامام (ع) وما ورد من قولهم: نحن الصّراط المستقيم وصحّ ان يقال انّ بشريّة الامام ومعرفة بشريّته من دون معرفة نورانيّته والاتّصال ببشريّته والبيعة معه طريق الى الطّريق الى الله وانّ الطّريق الى الله هو نورانيّة الامام (ع) ومعرفتها والاتّصال بها ويسمّى الاتّصال بالامام (ع) ومعرفته بحسب نورانيّته عند الصّوفيّة بالحضور والفكر واوّل مرتبة ذلك الاتّصال والمعرفة هو ظهور الامام بحسب مقام مثاله على صدر السّالك الى الله وليس المراد بهذا الفكر والحضور ما اشتهر بين مرتاضى العجم من جعل صورة الشيخ نصب العين بالتّعمّل وان كان ورد عن ائمّتنا (ع) الاشعار بمثل هذا المعنى فانّه ورد عن الصّادق (ع) وقت تكبيرة الاحرام تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحداً من الائمّة (ع) نصب عينيك، فانّه تقيّد بالصّورة وشبيه بعبادة الاصنام بل المراد انّ السّالك ينبغى ان يجلو مرآة قلبه بالذّكر والاعمال المأخوذة من شيخه، فاذا اجتلى الذّهن وقوى الذّكر وخلا القلب من الاغيار ظهر الشّيخ بمثاله على السّالك فانّ الذّكر المأخوذ منه نازلة وجوده فاذا قوى تمثّل بصورته واذا ظهر الشّيخ بمثاله على السّالك فانّ الذّكر المأخوذ منه نازلة وجوده فاذا قوى تمثّل بصورته واذا ظهر الشّيخ بمثاله رفع كلفة التّكليف عنه والتذّ بحضوره عند محبوبه ورأى انّ كلّ ما يرد عليه انّما هو من محبوبه فيلتذّ بها ولو لم يكن ملائماً لانّه يراها من محبوبه وحينئذٍ قد يكون ظهور الشّيخ بنحو ظهور المباين الخارج على المباين، وقد يكون بنحو الحلول فى وجوده، وقد يكون بنحو الاتّحاد، وقد يكون بنحو فناء السّالك وبقاء الشّيخ وحده وللسّالك فى كلّ من المراتب مراتب ودرجات وحالات وورطات مهلكات اذا اغتّر وخرج من تصرّف الشّيخ ومن عرض حاله عليه فانّه كثيراً يغتّر بما يشاهده من غير تميّز ويعتقد ما عاينه من غير عرض على بصير حتّى يبيّن له سالمه عن سقيمه فيظهر منه ما لا يرضيه الشّرع من مثل انّى انا الله، وليس فى جبّتى سوى الله ويظهر منه اعتقاد الحلول والاتّحاد والوحدة الممنوعة والاباحة والالحاد فى الّشريعة المطهّرة، ولمّا كان السّالك على الفعليّات الانسانيّة يصير الفعليّة الاخيرة صورة له وسائر الفعليّات تصير كالمادّة وشيئيّة الشيئ بصورته لا بمادّته صحّ اضافة الطّريق اليه باعتبار انّه الفعليّة الاخيرة وصحّ تفسيره به باعتبار انّه متحقّق بجميع الفعليّات، ولمّا كانت السّورة تعليماً للعباد كيف يحمدونه ويلتجؤن اليه ويدعونه فقوله تعالى اهدنا تلقين لكلّ العباد ان يدعوه للهداية فمعنى اهدنا بالنّسبة الى غير المسلم دلّنا على الطّريق الّذى هو النّبىّ الّذى هو الطّريق اليك او اوصلنا اليه وبالنّسبة الى المسلم دلّنا على الطّريق الّذى هو الولىّ الّذى يؤمن به او اوصلنا او ابقنا على الصّراط الّذى هو الاسلام باختلاف نظره فانّه ان كان ناظراً الى اسلامه وراضياً به فالمعنى أدمنا، وان كان ملتفتاً الى انّ الاسلام طريق الى الايمان فالمعنى دلّنا او أوصلنا الى الايمان، وبالنّسبة الى المؤمن الغير الحاضر عند شيخه بحسب نورانيّته أدمنا على الطّريق او أوصلنا او دلّنا بحسب اختلاف نظره وبالنّسبة الى الحاضر عند شيخه بحسب نورانيّته أدمنا او اذهب بنا على الطّريق، وبهذه الاعتبارات اختلفت الاخبار فى تفسير " اهدنا " ولمّا كان السّلوك على الصّراط المستقيم الانسانىّ لا يحصل الاّ بالولاية والولاية هى النّعمة الحقيقيّة وبها يصير الاسلام نعمة ابدل تعالى عنه قوله تعالى { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير تفسير فرات الكوفي/ فرات الكوفي (ت القرن 3 هـ)
{ اهْدِنا الصِّراطَ المْستَقيمَ، صِراطَ الذِّينَ أنْعَمْتَ عَلَيهمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيهمْ وَلا الضّالّينَ } قال: حدثنا فرات بن إبراهيم الكوفي قال: حدثني عبيد بن كثير قال: حدثنا محمد بن مروان قال: حدثنا عبيد بن يحيى بن مهران العطار قال: حدثنا محمد بن الحسين عن أبيه عن جدّه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [في قوله عز وجل. ص] [ { إهدنا الصراط المستقيم } **" دين الله الذي نزل به جبرئيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.ب،ر] { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالّين } قال: شيعة عليّ الذين أنعمت عليهم بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام لم تغضب عليهم ولم يضلّوا ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تفسير كتاب الله العزيز/ الهواري (ت القرن 3 هـ)
[قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }. هذا دعاء؛ سأله المؤمنون الهدى والاستقامة في كل قول وعمل. { اهْدِنَا } أي: أرشدنا. قال بعض المفسرين: { الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } ، يعني الطريق المستقيم إلى الجنة، وهو دين الإِسلام. ذكروا عن ابن مسعود وابن عمر قالا: ترك النبي عليه السلام طرفَ الصراط عندنا وطرفَه في الجنة. قوله: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }. يعني بالإِسلام. قال بعضهم: { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هم الأنبياء؛ وهو كقوله:**{ أُوْلَئِكَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ... }** إلى آخر الآية. [سورة مريم:58] والإِسلام يجمعهم جميعاً. قوله: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ } يعني اليهود. { وَلاَ الضَّالِّينَ } يعني النصارى. والمشركون كلهم مغضوب عليهم وكلهم ضالون، ولكن اليهود والنصارى يقرأون الكتابين: التوراة والإِنجيل وينتحلونهما، ويزعمون أنهم يدينون بهما. وقد حرَّفوهما، وهم على غير هدى. ذكروا عن الحسن أنه قال: المغضوب عليهم اليهود، والضالون النصارى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
ما لم يكن عندنا من الدين حتى يتم عندنا، والذين اهتدوا زادهم هدى، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى، أو أدمنا عليه، والأصل اهدنا الصراط، أو إلى الصراط، والمراد هدى البيان، أو هدى الإيصال بأن نقيم عليه، ولا نموت على خلافه، أو التوفيق للعمل والتقوى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
الهداية تطلق على الدلالة، وخصها بعضهم بالدلالة المصحوبة باللطف وأُجيب عما عساه يتجه إلى هذا من سؤال عن قول الله تعالى:**{ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ }** [الصافات: 23] الذي تنافي الهداية فيه اللطف المزعوم بأن الآية واردة مورد التهكم على حد**{ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }** [التوبة: 34] وكما قال الشاعر:- | **وخيل قد دلفت لها بخيل** | | **تحية بينهم ضرب وجيع** | | --- | --- | --- | والهداية في القرآن ذات مدلولات متعددة، فلذلك تأتي تارة مسنداً فعلها إلى الله وحده ومنفيا عمن سواه، كما في قوله تعالى في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم:**{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ }** [القصص: 56] وفي قوله:**{ وَمَآ أَنتَ بِهَادِي ٱلْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ }** [النمل: 81] وقوله:**{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ }** [البقرة: 272] ويُسند فعلها تارة إلى غيره تعالى كإسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52] وإسناده إلى النبيين من قبله كما في قوله عزّ من قائل:**{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }** [الأنبياء: 73] وإسناده إلى القرآن في قوله سبحانه:**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }** [الإسراء: 9] وتأتي تارة محصورة في المؤمنين وحدهم دون الكافرين كما في قوله سبحانه في وصف القرآن:**{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2] وقوله:**{ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }** [النمل: 2] وقوله:**{ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ }** [لقمان: 3] وقوله سبحانه في وصف المؤمنين:**{ وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ }** [الحج: 24] وقوله:**{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }** [العنكبوت: 69] وقوله: { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } وقوله:**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }** [محمد: 17] وقوله:**{ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ }** [محمد: 4- 5] وقوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ }** [يونس: 9] وقوله في النبيين:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ }** [الأنعام: 90] وتأتي تارة شاملة للمؤمنين والكفار كما في قوله سبحانه:**{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }** [الإنسان: 3] وقوله:**{ وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ }** [البلد: 10] بل تأتى تارة نصا في الكفار وحدهم كما في قوله سبحانه:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت: 17] ومن هذا الباب قول الله تعالى:**{ ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }** [طه: 50] وقوله:**{ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ }** [الأعلى: 3]. وقد استظهر أصحابنا رحمهم الله من هذا أن الهداية تنقسم إلى قِسمين: هداية بيان، وهداية توفيق، فهداية البيان تعم المؤمن والكافر ويُحمل عليها نحو قوله تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } ، وأما هداية التوفيق فهي محصورة في المؤمنين، ويُحمل عليها نحو قوله عز وجل: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } ، وهداية البيان يصح إسناد فعلها إلى غير الله تعالى كما في قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فإن المراد بهدايته صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستقيم دعاؤه إليه المقرون ببيان معالمه، أما هداية التوفيق فليست من مقدور البشر وإنما هي من مقدور القادر على كل شيء الذي يصرف القلوب كيف يشاء، وإذا نظرنا إلى الآيات التي أوردناها وجدنا أن الهداية أوسع مدلولا وأكثر تشعبا مما ذكره أصحابنا، فمدلولها يشمل هداية الدين وغيرها، ومتعلقها الإِنسان المخاطب بهداية الدين وغيره من المخلوقات، لذلك أميل إلى ما قاله بعض أئمة التفسير في القديم والحديث في تفسير الهداية وتقسيمها إلى أقسام:- الأول: هداية الوجدان الطبيعي والإِلهام الفطري، وتكون للإِنسان وغيره منذ الولادة، فالمولود يشعر بحاجته إلى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته، ويُلهم امتصاص الثدي بمجرد وصوله إلى فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثاني: هداية الحواس والمشاعر، وهي تتميم للهداية المذكورة في القسم الأول، وهي أيضا مشتركة بين الإِنسان وغيره، بل غير الإِنسان أكمل فيها وفيما قبلها منه فإن حواس الحيوان وإلهامه تكمل له بعد ولادته بقليل، أما الإِنسان فإنه يتدرج فيها في زمن طويل، ولذلك لا تظهر عليه عقب الولاده علامات إدراك الأصوات والمرئيات، وعندما يبصر لا يمكنه تحديد المسافات فيرى البعيد قريبا وتحدثه نفسه بأن يمد إليه يده وهذا الغلط في الحس لا ينفك عن الإِنسان حتى بعد نموه وكماله، ألا تراه يرى النجم نقطة في السماء وهو قد يكون أكبر من الأرض بملايين المرات، وهذان القسمان داخلان في عموم قوله تعالى:**{ ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }** [طه: 50] وقوله:**{ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ }** [الأعلى: 3]. الثالث: هداية العقل وهي خاصة بالإِنسان من بين الكائنات الحية المستقرة في الأرض وهذا لأن الإِنسان ينوء بثقل أمانة الخلافة في الأرض وهو كائن اجتماعي تتوقف مصالحه على التعارف والتفاهم بين بني جنسه ولم يعط من قوة المشاعر الباطنة والظاهرة ما يكفيه للقيام بما تقتضيه الحياة الاجتماعية كما أعطى النحل والنمل فإن الله قد وهبها من الإِلهام الفطري ما يكفيها لأن تعيش مجتمعه يؤدي كل واحد منها وظيفة العَمَل لجميعها ويؤدي الجميع وظيفة العمل للواحد، وهذا سبب الترابط بين أفرادها ووجود النظام فيما بينها. أما الإِنسان فلم تكن له هذه الخاصية ولم يتوفر له هذا الإِلهام، ومع ذلك فهو يتميز عنها بما منحه من شرف الخلافة في الأرض والسيادة فيها، وقد وهبه الله في مقابل ذلك هداية العقل التي هي أقوى من هداية الحس والمشاعر، فإن العقل هو الذي يصحح أخطاء الحواس والمشاعر ويكشف عن أسباب هذه الأخطاء، فعندما يرى البصر الكبير صغيرا على البعد، ويرى العود المستقيم معوجا في الماء، ويذوق الصفراوي الحلو فيحس منه المرارة يحكم العقل في ذلك فيفند هذه الأخطاء ويبين أسبابها، وحمل بعضهم على هذه الهداية قول الله سبحانه**{ وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ }** [البلد: 10]. الرابع: هداية الدين، فإن العقل وحده لا يستطيع أن يقوّم سلوك الإِنسان المعوج، ويهدي فكره المنحرف فإن الخطأ يتسلط عليه كما يتسلط على الحس، وقد يتأثر عقل الإِنسان بالجو الذي يعيش فيه، والمحيط الذي يتربى وسطه، فيستحسن ما يستقبحه غيره، ويستقبح ما يستحسنه سواه، وقد تستعلى عواطفه أو رغباته على العقل فتطمس نوره وتوهن قواه، ولذلك ينساق كثير من الناس - مع ما أتوه من قوة التفكير - وراء شهواتهم وعواطفهم، غير مبالين بالمصير الذي تؤديهم إليه، بل يسخّرون أحيانا طاقاتهم العقلية والحسية للوصول إل ما يهدفون إليه من مقاصد دنيئة، بدلا من استخدام العقل فيما يؤول إلى سعادة الإِنسان الشخصية والنوعية، ولا تقف رغبات الإِنسان عند حد معين، ولذلك كثيرا ما تفضي به إلى التطاول إلى ما فيه يد غيره، وعدم المبالاة بإمتهان كرامة بني جنسه، فيؤدي الأمر إلى التنازع والتدافع والتقاتل والتفاني، ولا تغني تلك الهدايات شيئا، وهذا أمر مشاهد حتى في الشعوب والأمم التي تعد نفسها أرقى من غيرها حضارة، ولا أدل على ذلك مما يحصل أحيانا في سلسلة الحروب الدولية، من إبادة شعوب أو استرقاقها، واهلاك الحرث والنسل بالوسائل العلمية، التي تستخدمها عقول ضلت سبيل الرشد وأخفقت في بناء مجتمع بشري ينعم بالسعادة والهناء والإِستقرار، ومن ثم كان الإِنسان بحاجة إلى هداية أسمى من الهدايات السابقة الذكر تملأ القلب خشية من سلطة غيبية أعلى وأجل من تصورات البشر ومدارك العقول والأفكار، وتضع حدودا للأعمال ورسوما لكل ما تتطلبه حياة الإِنسان فلا يعدو أحد على غيره، كما تصل الإِنسان بالغيب الذي يتطلع إليه وما هو ببالغه إلا من طريق هذه الهداية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | هذا وقد أودع في غريزة كل إنسان الشعور بهذه القوة الغيبية التي لا يحاط بها علما، والتي تهيمن على الوجود كله وإليها يرد الإِنسان بفطرته كل ما لا يعرف له سببا لأنها هي التي تهب كل موجود ما يكون به قوام وجوده، كما أودع في غريزة كل أحد بأن هذه الحياة الدنيا ليست هي الحياة النهائية التي يحياها الإِنسان ولذلك يتطلع كل أحد إلى حياة أوسع منها. والهدايات الثلاث السابقة لا تصل إلى تحديد ما يجب على الإِنسان لذي القوة الغيبية الذي خلقه في أحسن تقويم وسخر له ما يحتاج إليه كما لا تصل إلى تحديد ما تكون به السعادة في الحياة الأخرى، ومن هنا كانت ضرورته إلى الدين وإفتقاره إلى توجيهه، والهدايات الثلاث السابقة مشتركة بين البر والفاجر، ويرى بعض المفسرين أنها يشار إليها جميعا بقوله تعالى:**{ وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ }** [البلد: 10] وبعضهم يرى دخول الهداية الرابعة ضمن الإِشارة وهذه الهداية الرابعة - أعني هداية الدين - قد يشارك فيها الفاجر إذا فسرت بالبيان دونما إذا فسرت بالتوفيق كما أسلفنا من قبل، وهداية التوفيق تنقسم إلى ثلاث مراتب:- المرتبة الأولى: التوفيق لقبول الحق والعمل به وإليها الإِشارة بنحو قوله عز وجلَّ: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ }** [البقرة: 272]. المرتبة الثانية: التوفيق للإِستمرار على الحق والإِستزادة منه، وإليها الإِشارة بنحو قوله تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }** [العنكبوت: 69] فإن الجهاد نفسه لا يكون إلا بهداية توفيقية من الله سبحانه، وقوله:**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }** [محمد: 17] واختُلف في هذه الهداية، هل هي مكتسبة من العبد نظراً إلى العمل يسببها؟ نحو الجهاد الوارد في قوله عزَّ وجل: { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا } ، أو هي هبة من الله لعبده نظرا إلى أن الله هو الذي أفاضها عليه، والاختلاف باختلاف الاعتبارات ليس غير، ولذلك تصح نسبة إكتسابها إلى العبد كما تصح نسبة هبتها إلى الله تعالى. المرتبة الثالثة: التوفيق لجوار الله سبحانه في جنات عدن وإليها الإِشارة بقوله عز وجل:**{ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }** [محمد: 4- 6] وقوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ }** [يونس: 9] وهذه هي أسمى مراتب الهدايات وأرقى منازل المهتدين، وجميع الهدايات السابقة سُلّم للصعود إليها، ووسائل للحصول عليها. والأصل في كلمة هدى أن تستعمل بمعنى الإِمالة - هكذا نقل القرطبي في تفسيره - واستدل له بقوله تعالى:**{ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ }** [الأعراف: 156] أي ملنا، وبحديث عائشة في الصحيحين: **" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهادى بين رجلين "** أي يتمايل من المرض، ومنه الهدية لأنها تمال من مِلك إلى مِلك والهَدْيُ للحيوان الذي يساق إلى الحرم، لأنه يمال به من مكان إلى مكان، وفي الاستدلال لذلك بقوله تعالى: { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } نظر فإنه من هاد يهود وليس من هدى يهدي. ويتعدى فعل الهداية إلى المفعول الثاني بنفسه كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:**{ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً }** [مريم: 43] ويتعدى إليه باللام نحو قوله سبحانه حكاية عن أهل الجنة:**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ }** [الأعراف: 43] ويتعدى إليه بإلى نحو قوله عز وجل**{ وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ }** [الحج: 24]. وللعلماء آراء في التفرقة بين معنى الهداية إن تعدت بِنَفْسِها إلىالمفعول الثاني ومعناها إن تعدت إليه بحرف. ولم تقم أدلة على صحة آرائهم بل قامت على دحض بعضها لذلك استغنيت عن ذكرها. وَطلبُ الهداية هنا محمول على طلب المزيد منها، أو على طلب التوفيق للاستمرار عليها لأن الإِنسان عرضة للخطأ والضلال والتأثر بالمؤثرات الداخلية والخارجية، وبهذا يجاب عما لو سُئل: أليس مَن حمد الله بمحامده، ووصفه بصفاته، وخصه بالعبادة والإِستعانة مهتديا؟ فلماذا يطلب منه الهداية؟ وهل هو إلا تحصيل حاصل؟.. والصراط الطريق ومنه قول الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **أمير المؤمنين على صراط** | | **إذا اعْوجَّ الموارد مستقيم** | | --- | --- | --- | وقول الآخر: | **وطِئْنَا أرضهم بالخيل حتى** | | **تركناهم أذل من الصراط** | | --- | --- | --- | وأصله السراط بالسين لأنه يسترط السابلة أي يبتلعها، أو يسترطه السابل بالقطع، ولذلك سمي لَقَمًا لأنه يلتقم السالك، أو يلتقمه السالك وأُبدلت السين صادا لمكان الطاء. روى الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } بالصاد، وروى البخاري في تاريخه وسعيد بن منصور وعبد بن وحميد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ { السراط المستقيم } بالسين، والقراءة بالسين أخرجها ابن الأنباري عن ابن كثير، أحد القراء السبعة والرواية عنه مختلفة، فقد روى عنه أيضا الصاد والمضارعة بينها وبين الزاي، وأخرج ابن الأنباري أيضا عن حمزة أنه كان يقرأ (الزراط) بالزاي الخالصة، قال الفرّاء: وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين، وهذه القراءة رواها الأصمعي عن أبي عمرو، وذكر ابن عطية وأبو حيان في تفسيرهما عن بعض اللغويين، أنه قال ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زايا، ولم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا. ثم ذكر أن هذا الكلام حكاه أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد، وقد مر أن هذه القراءة أسندها ابن الأنباري إلى حمزة، وهو أحد القراء السبعة، وأنها لغة عذرة وكلب وبني القين، فتخطئة بعض اللغويين للأصمعي في نقلها عن ابي عمرو تسرّع منه، وأبو حيان الذي نقل هذه التخطئة كما نقلها ابن عطية نقل من بعد عن ابي جعفر الطوسي، وهو أحد أئمة التفسير من الشيعة الإِمامية، أنه قال: " الصراط بالصاد لغة قريش، وهي اللغة الجيدة وعامة العرب يجعلونها سينا، والزاي لغة عذرة وكعب وبني القين " والجمهور قرأوا بالصاد. وللمفسرين أقوال في معنى الصراط ترجع إلى ما قاله ابن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وهو كذلك في لغة جميع العرب. قيل: هو القرآن، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن علي كرم الله وجهه مرفوعا، ورواه ابن جرير موقوفا عليه، ويشهد له ما رواه أحمد والترمذي عن علي مرفوعا في فضائل القرآن، " وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم " وقد تقدم الحديث بتمامه في مقدمة التفسير، وهذا القول أخرجه ابن المنذر ووكيع وعبد بن وحميد وأبو بكر الأنباري والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن مسعود. وقيل هو الإِسلام أخرجه وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه، عن جابر بن عبد الله ونص ما رووا عنه أنه قال: (هو دين الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض)، وأخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك عن ابن مسعود وناس من الصحابة وروى ابن جرير عن محمد بن الحنفية أنه قال: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو الإِسلام، رواه عنه ابن جرير ايضا، ويشهد لهذا التفسير قول الله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }** [الأنعام: 161] كما يشهد له ما اخرجه أحمد والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شُعَب الإِيمان عن النوّاس ابن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تَفَرّقوا، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإِنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإِسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم "** قال ابن كثير: - بعدما أورد بعض أسانيد الحديث - وهو إسناد حسن صحيح. وقيل: هو السُّنَّة ذكره بعض المفسرين عن بعض الصحابة. وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمرو، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن عساكر عن عاصم الأحول عن أبي العالية، وجاء فيه عن عاصم الأحول أنه ذكر للحسن البصري تفسير أبي العالية فقال: صدق ابو العاليه ونصح، وأخرج الحاكم وصححه عن أبي العالية عن ابن عباس مثله. قال قطب الأئمة رحمه الله في الهيميان: " ويُقدر مضاف أي اهدنا اتِّباعهم، وفيه تكلف بعيد، وتجوز تسمية أشخاصهم طريقا ووجهه أنهم واسطة إلى الجنة لمن اقتدى بهم ممن أنعم الله عليه، وعلى هذا الأخير يكون الخطاب لغيره صلى الله عليه وسلم وغير أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قيل: وهو قوي في المعنى ". وأخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر القرطبي في تفسيره عن الفضيل بن عياض أنه قال: هو طريق الحج، قال القرطبي: وهذا خاص والعموم أولى. وهذه الأقوال كلها ما عدا الأخير متحدة في المعنى وإن اختلفت في اللفظ، فإن الإِسلام يتمثل في تعاليم القرآن وهديه، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وهدى أصحابه رضي الله عنهم، فلا يختلف تفسير من فسره بالقرآن عن تفسير من فسّره بالإِسلام أو السنة أو الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وإنما اختلفت العبارات لإِختلاف الإِعتبارات، وقد أوردنا سابقا كلام ابن تيميه، الذي أوضح فيه أن مثل هذا لا يُعد خلافا، وانتقد الفخر الرازي تفسير الصراط المستقيم بالإِسلام أو القرآن نظرا إلى أن قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } والبدلية تقتضي صحة حلول البدل محل المبدل منه، فكأنه قيل: إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، والأمم السابقة لم يكن لها القرآن والإِسلام، ورد عليه أبو حيان في البحرالمحيط بأن هذا لا يتأتي له إلا إذا صح أن الذين أنعم الله عليهم هم متقدمون، قال: " وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم الله عليهم ": ورد الألوسي على الفخر بما حاصله أن الفخر نفسه اختار فيما اختار من الوجوه التي ارتضاها أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الإِفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال، وأكد ذلك بقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }** [البقرة: 143] قال الألوسي: " فياليت شعري ماذا يقول لو قيل له لو لم يكن هذا للمتقدمين من الأمم، وتلونا عليه الآية التي ذكرها، وسبحان من لا يُرد عليه ". هذا وقد تقدم ما يدل على صحة تفسير الصراط المستقيم بالإِسلام من القرآن والحديث، ومما يؤكد ذلك قول الله تعالى:**{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }** [الأنعام: 153] ولا معنى لما يقوله الفخر، من أن الأمم لم يكن لها إسلام، فإن الإِسلام لم تختص به هذه الأمة فحسب، بل هو مشترك بينها وبين جميع الأمم، التي اتبعت هدى أنبيائها فإن المرسلين ما بعثوا لتفريق الدين بل بعثوا لجمعه وتوحيده، وينص على ذلك قول الله تعالى:**{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }** [الشورى: 13] وإذا كانت شرائع النبيين قد اختلفت باختلاف الظروف التي واجهوها، وأحوال الأمم التي بعثوا فيها، فإن أصول دينهم لم تختلف، إذ لم يأت رسول إلا ويدعو إلى توحيد الله وعدم إشراك غيره في العبادة، وهذا هو الإِسلام عينه. ومما يدل على ما قلناه قول الحق سبحانه**{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }** [آل عمران: 67] وقد حكى الله عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أنهما كانا يقولان - وهما يرفعان قواعد البيت العتيق -:**{ رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ }** [البقرة: 128] وقال عز وجل:**{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
تهيأ لأصحاب هذه المناجاة أن يسعوا إلى طلب حظوظهم الشريفة من الهداية بعد أن حمدوا الله ووصفوه بصفات الجلالة ثم أتبعوا ذلك بقولهم { إياك نعبد وإياك نستعين } الذي هو واسطة جامع بين تمجيد الله تعالى وبين إظهار العبودية وهي حظ العبد بأنه عابد ومستعين وأنه قاصر ذلك على الله تعالى، فكان ذلك واسطة بين الثناء وبين الطلب، حتى إذا ظنوا بربهم الإقبال عليهم ورجَوا من فضله، أفضوا إلى سُؤَل حظهم فقالوا { اهدنا الصراط المستقيم } فهو حظ الطالبين خاصة لما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم، فهذا هو التوجيه المناسب لكون الفاتحة بمنزلة الديباجة للكتاب الذي أُنزل هدى للناس ورحمة فتتنزل هاته الجملة مما قبلها منزلة المقصد من الديباجة، أو الموضوع من الخطبة، أو التخلص من القصيدة، ولاختلاف الجمل المتقدمة معها بالخبرية والإنشائية فصلت هذه عنهن، وهذا أَوْلى في التوجيه من جعلها جواباً لسؤال مقدر على ما ذهب إليه صاحب «الكشاف». والهداية الدلالة بتلطف ولذلك خصت بالدلالة لما فيه خير المدلول لأن التلطف يناسب من أريد به الخير، وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه لأن معناه معنى الإرشاد، ويتعدى إلى المفعول الثاني وهو المهدى إليه بإلى وباللام والاستعمالان واردانِ، تقول هديته إلى كذا على معنى أوصلته إلى معرفته، وهديته لكذا على معنى أرشدته لأجل كذا**{ فاهدوهم إلى صراط الجحيم }** الصافات 23،**{ الحمد لله الذي هدانا لهذا }** الأعراف 43 وقد يعدى إلى المفعول الثاني بنفسه كما هنا على تضمينه معنى عرف قيل هي لغة أهل الحجاز وأما غيرهم فلا يعديه بنفسه وقد جعلوا تعديته بنفسه من التوسع المعبر عنه بالحذف والإيصال. وقيل الفرق بين المتعدي وغيره أن المتعدي يستعمل في الهداية لمن كان في الطريق ونحوه ليزداد هدى ومصدره حينئذٍ الهداية، وأما هداه إلى كذا أو لكذا فيستعمل لمن لم يكن سائراً في الطريق ومصدره هُدى، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى أن المتعدي بالحرف إنما عدي لتقويته والتقوية إما أن يقصد بها تقوية العامل لضعفه في العمل بالفرعية أو التأخير، وإما أن يقصد بها تقوية معناه، والحق أن هذا إن تم فهو أغلبي على أنه تخصيص من الاستعمال فلا يقتضي كون الفعل مختلف المعنى لأن الفعل لا تختلف معانيه باعتبار كيفية تعديته إلا إذا ضمن معنى فعل آخر، على أن كلاً من الهُدَى والهداية اسم مصدر والمصدر هو الهَدْي. والذي أراه أن التعدية والقصور ليسا من الأشياء التي تصنع باليد أو يصطلح عليها أحد، بل هي جارية على معنى الحدث المدلول للفعل فإن كان الحدث يتقوم معناه بمجرد تصور من قام به فهو الفعل القاصر وإن كان لا يتقوم إلا بتصور من قام به ومن وقع عليه فهو المتعدي إلى واحد أو أكثر، فإن أشكلت أفعال فإنما إشكالها لعدم اتضاح تشخص الحدث المراد منها لأن معناها يحوم حول معان متعددة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهدَى متعد لواحد لا محالة، وإنما الكلام في تعديته لثان فالحق أنه إن اعتبر فيه معنى الإراءة والإبانة تعدى بنفسه وإن اعتبر فيه مطلق الإرشاد والإشارة فهو متعد بالحرف فحالة تعديته هي المؤذنة بالحدث المتضمن له. وقد قيل إن حقيقة الهداية الدلالة على الطريق للوصول إلى المكان المقصود فالهادي هو العارف بالطرق وفي حديث الهجرة «إن أبا بكر استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خِريتاً» وإن ما نشأ من معاني الهداية هو مجازات شاع استعمالها. والهداية في اصطلاح الشرع حين تسند إلى الله تعالى هي الدلالة على ما يرضي الله من فعل الخير ويقابلها الضلالة وهي التغرير. واختلف علماء الكلام في اعتبار قيد الإيصال إلى الخير في حقيقة الهداية فالجمهور على عدم اعتباره وأنها الدلالة على طريق الوصول سواء حصل الوصول أم لم يحصل وهو قول الأشاعرة وهو الحق. وذهب جماعة منهم الزمخشري إلى أن الهداية هي الدلالة مع الإيصال وإلا لما امتازت عن الضلالة أي حيث كان الله قادراً على أن يوصل من يهديه إلى ما هداه إليه، ومرجع الخلاف إلى اختلافهم في أصل آخر وهو أصل معنى رضى الله ومشيئته وإرادته وأمره، فأصحاب الأشعري اعتبروا الهداية التي هي من متعلق الأمر، والمعتزلة نظروا إلى الهداية التي هي من متعلق التكوين والخلْق، ولا خلاف في أن الهداية مع الوصول هي المطلوبة شرعاً من الهادي والمهدي مع أنه قد يحصل الخطأ للهادي وسوء القبول من المهدي وهذا معنى ما اختار عبد الحكيم أنها موضوعة في الشرع لقدر المشترك لورودها في القرآن في كل منهما قال**{ إنك لا تهدي من أحببت }** القصص 56 وقال**{ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }** فصلت 17 والأصل عدم الاشتراك وعدم المجاز. والهداية أنواع تندرج كثرتها تحت أربعة أجناس مترتبة الأول إعطاء القوى المحركة والمدركة التي بها يكون الاهتداء إلى انتظام وجود ذات الإنسان، ويندرج تحتها أنواع تبتدىء من إلهام الصبي التقام الثدي والبكاء عند الألم إلى غاية الوجدانِيَّات التي بها يدفع عن نفسه كإدراك هول المهلكات وبشاعة المنافرات، ويجلب مصالحه الوجودية كطلب الطعام والماء وذودِ الحشرات عنه وحك الجلد واختلاج العين عند مرور ما يؤذي تجاهها، ونهايتها أحوال الفكر وهو حركة النفس في المعقولات أعني ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول في البديهيات وهي القوة الناطقة التي انفرد بها الإنسان المنتزعة من العلوم المحسوسة. الثاني نصب الأدلة الفارقة بين الحق والباطل والصواب والخطأ، وهي هداية العلوم النظرية. الثالث الهداية إلى ما قد تقْصُر عنه الأدلة أو يفضي إعمالها في مثله إلى مشقة وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب وموازين القسط وإليها الإشارة بقوله تعالى في شأن الرسل | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا }** الأنبياء 73. الرابع أقصى أجناس الهداية وهي كشف الحقائق العُليا وإظهار أسرار المعاني التي حارت فيها أَلباب العقلاء إما بواسطة الوحي والإلهام الصحيح أو التجليات، وقد سمى الله تعالى هذا هدى حين أضافه للأنبياء فقال**{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }** الأنعام 90. ولا شك أن المطلوب بقوله { اهدنا } الملقَّن للمؤمنين هو ما يناسب حال الداعي بهذا إن كان باعتبار داع خاص أو طائفة خاصة عندما يقولون اهدنا، أو هو أنواع الهداية على الجملة باعتبار توزيعها على من تأهل لها بحسب أهليته إن كان دعاء على لسان المؤمنين كلهم المخاطبين بالقرآن، وعلى كلا التقديرين فبعض أنواع الهداية مطلوب حصوله لمن لم يبلغ إليه، وبعضها مطلوب دوامه لمن كان حاصلاً له خاصة أو لجميع الناس الحاصل لهم، وذلك كالهداية الحاصلة لنا قبل أنْ نسألها مثل غالب أنواع الجنس الأول. وصيغة الطلب موضوعة لطلب حصول الماهية المطلوبة من فعل أو كف فإذا استعملت في طلب الدوام كان استعمالها مجازاً نحو**{ يأيها الذين آمَنوا آمِنوا }** النساء 136 وذلك حيث لا يراد بها إلا طلب الدوام. وأما إذا استعملت في طلب الدوام للزيادة مما حصل بعضُه ولم يحصل بعضه فهي مستعملة في معناها وهو طلب الحصول لأن الزيادة في مراتب الهداية مثلاً تحصيل لمواد أخرى منها. ولما كان طلب الزيادة يستلزم طلب دوام ما حصل إذ لا تكاد تنفع الزيادة إذا انتقض الأصل كان استعمالها حينئذٍ في لازم المعنى مع المعنى فهو كناية. أما إذا قال { اهدنا الصراط المستقيم } من بلَغَ جميع مراتب الهداية ورقَى إلى قمة غاياتها وهو النبي صلى الله عليه وسلم فإن دعاءه حينئذٍ يكون من استعمال اللفظ في مجاز معناه ويكون دعاؤه ذلك اقتباساً من الآية وليس عين المراد من الآية لأن المراد منها طلب الحصول بالمزيد مع طلب الدوام بطريقة الالتزام ولا محالة أن المقصود في الآية هو طلب الهداية الكاملة. والصراط الطريق وهو بالصاد وبالسين وقد قرىء بهما في المشهورة وكذلك نطقت به بالسين جمهور العرب إلا أهل الحجاز نطقوه بالصاد مبدلة عن السين لقصد التخفيف في الانتقال من السين إلى الراء ثم إلى الطاء قال في «لطائف الإشارات» عن الجعبري إنهم يفعلون ذلك في كل سين بعدها غين أو خاء أو قاف أو طاء وإنما قلبوها هنا صاداً لتُطابقَ الطاء في الإطباق والاستعلاء والتفخم مع الراء استثقالاً للانتقال من سفل إلى علو ا هـ. أي بخلاف العكس نحو طَسْت لأن الأول عمل والثاني ترك. وقَيسٌ قلبوا السين بين الصاد والزاي وهو إشمام وقرأ به حمزة في رواية خلف عنه. ومن العرب من قلب السين زاياً خالصة قال القرطبي وهي لغة عُذرة وكلب وبني القَيْن وهي مرجوحة ولم يُقرأ بها، وقد قرأ باللغة الفصحى بالصاد جمهور القراء وقرأ بالسين ابن كثير في رواية قنبل، والقراءة بالصاد هي الراجحة لموافقتها رسم المصحف وكونها اللغة الفصحى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قيل كيف كتبت في المصحف بالصاد وقرأها بعض القراء بالسين؟ قلت إن الصحابة كتبوها بالصاد تنبيهاً على الأفصح فيها، لأنهم يكتبون بلغة قريش واعتمدوا على علم العرب فالذين قرأوا بالسين تأولوا أن الصحابة لم يتركوا لغة السين للعلم بها فعادلوا الأفصح بالأصل ولو كتبوها بالسين مع أنها الأصل لتوهم الناس عدم جواز العدول عنه لأنه الأصل والمرسوم كما كتبوا المصيطر بالصاد مع العلم بأن أصله السين فهذا مما يَرجِع الخلاف فيه إلى الاختلاف في أداء اللفظ لا في مادة اللفظ لشهرة اختلاف لهجات القبائل في لفظ مع اتحاده عندهم. والصراط اسم عربي ولم يقل أحد من أهل اللغة أنه معرب ولكن ذَكر في «الإتقان» عن النقاش وابن الجوزي أنه الطريق بلغة الروم وذكر أن أبا حاتم ذكر ذلك في كتاب «الزينة» له وبنى على ذلك السيوطي فزاده في «منظومته في المعرب». والصراط في هذه الآية مستعار لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله لأن ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه. والمستقيم اسم فاعل استقام مطاوع قومته فاستقام، والمستقيم الذي لا عوج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيماً وهو الجادة لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره فلا يضل فيه سالكه ولا يتردد ولا يتحير. والمستقيم هنا مستعار للحق البين الذي لا تخلطه شبهة باطل فهو كالطريق الذي لا تتخلله بُنَيَّات، عن ابن عباس أن الصراط المستقيم دين الحق، ونقل عنه أنه ملة الإسلام، فكلامه يفسر بعضُه بعضاً ولا يريد أنهم لقنوا الدعاء بطلب الهداية إلى دين مضى وإن كانت الأديان الإلٰهية كلها صُرُطاً مستقيمة بحسب أحوال أممها يدل لذلك قوله تعالى في حكاية غَواية الشيطان**{ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم }** الأعراف 16. فالتعريف في الصراط المستقيم تعريف العهد الذهني، لأنهم سألوا الهداية لهذا الجنس في ضمن فرد وهو الفرد المنحصر فيه الاستقامة لأن الاستقامة لا تتعدد كما قال تعالى**{ فماذا بعد الحق إلا الضلال }** يونس 32 ولأن الضلال أنواع كثيرة كما قال**{ ولو أعجبك كثرة الخبيث }** المائدة 100 وقد يوجه هذا التفسير بحصول الهداية إلى الإسلام فعلمهم الله هذا الدعاء لإظهار منته وقد هداهم الله بما سبق من القرآن قبل نزول الفاتحة ويهديهم بما لحق من القرآن والإرشاد النبوي. وإطلاق الصراط المستقيم على دين الإسلام ورد في قوله تعالى**{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً }** الأنعام 161. والأظهر عندي أن المراد بالصراط المستقيم المعارف الصالحات كلها من اعتقاد وعمل بأن يوفقهم إلى الحق والتمييز بينه وبين الضلال على مقادير استعداد النفوس وسعة مجال العقول النيرة والأفعال الصالحة بحيث لا يعتريهم زيغ وشبهات في دينهم وهذا أولى ليكون الدعاء طلب تحصيل ما ليس بحاصل وقت الطلب وإنَّ المرء بحاجة إلى هذه الهداية في جميع شؤونه كلها حتى في الدوام على ما هو متلبس به من الخير للوقاية من التقصير فيه أو الزيغ عنه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والهداية إلى الإسلام لا تُقْصَر على ابتداء اتباعه وتقلده بل هي مستمرة باستمرار تشريعاته وأحكامه بالنص أو الاستنباط. وبه يظهر موقع قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } مصادفاً المحز. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ)
وقوله تعالى { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }. لم يبين هنا من هؤلاء الذين أنعم عليهم. وبين ذلك في موضع آخر بقوله**{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَـٰئِكَ رَفِيقاً }** النساء 69. تنبيهان الأول يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم. - أعني الفاتحة - بأن نسأله أن يهدينا صراطهم. فدل ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم. وذلك في قوله { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين، فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم.. الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم، وأن إمامته حق. الثاني قد علمت أن الصديقين من الذين أنعم الله عليهم. وقد صرح تعالى بأن مريم ابنة عمران صديقة في قوله**{ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ }** المائدة 75 الآية - وإذن فهل تدخل مريم في قوله تعالى { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } الفاتحة 7 أو لا؟ الجواب أن دخولها فيهم يتفرع على قاعدة أصولية مختلف فيها معروفة، وهي هل ما في القرآن العظيم والسنة من الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة الذكور تدخل فيه الإناث أو لا يدخلن فيه إلا بدليل منفصل؟ فذهب قوم إلى أنهن يدخلن في ذلك. وعليه فمريم داخلة في الآية واحتج أهل هذا القول بأمرين الأول إجماع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجمع. والثاني ورود آيات تدل على دخولهن في الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها، كقوله تعالى في مريم نفسها**{ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ }** التحريم 12، وقوله في امرأة العزيز**{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ }** يوسف 29، وقوله في بلقيس**{ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ }** النمل 43، وقوله فيما كالجمع المذكر السالم**{ قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً }** البقرة 38 الآية - فإنه تدخل فيه حواء إجماعاً. وذهب كثير إلى أنهن لا يدخلن في ذلك إلا بدليل منفصل. واستدلوا على ذلك بآيات كقوله**{ إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ }** إلى قوله**{ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }** الأحزاب 35 وقوله تعالى**{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ }** النور 30، ثم قال**{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ }** النور 31 الآية - فعطفهن عليهم يدل على عدم دخولهن. وأجابوا عن حجة أهل القول الأول بأن تغليب الذكور على الإناث في الجمع ليس محل نزاع. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وإنما النزاع في الذي يتبادر من الجمع المذكر ونحوه عند الإطلاق. وعن الآيات بأن دخول الإناث فيها. إنما علم من قرينة السياق ودلالة اللفظ، ودخولهن في حالة الاقتران بما يدل على ذلك لا نزاع فيه. وعلى هذا القول فمريم غير داخلة في الآية. وإلى هذا الخلاف أشار في مراقي السعود بقوله | **وما شمول من للأنثى جنف وفي شبيه المسلمين اختلفوا** | | | | --- | --- | --- | وقوله { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }. قال جماهير من علماء التفسير { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود و { ٱلضَّآلِّينَ } النصارى. وقد جاء الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعاً مغضوباً عليهم جميعاً، فإن الغضب إنما خص به اليهود، وإن شاركهم النصارى فيه، لأنهم يعرفون الحق وينكرونه ويأتون الباطل عمداً، فكان الغضب أخص صفاتهم. والنصارى جهلة لا يعرفون الحق، فكان الضلال أخص صفاتهم. وعلى هذا فقد يبين أن { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود. قوله تعالى فيهم**{ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ }** البقرة 90 الآية - وقوله فيهم أيضاً**{ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** المائدة 60 الآية - وقوله**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ }** الأعراف 152 الآية - وقد يبين أن الضالين النصارى، قوله تعالى**{ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** المائدة 77. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ)
بيان قوله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } الخ أما الهداية فيظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط، وأما الصراط فهو والطريق والسبيل قريب المعنى، وقد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثم بيَّن أنه الصراط الذي يسلكه الذين أنعم الله تعالى عليهم، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سُئِل الهداية إليه وهو بمعنى الغاية للعبادة أي إن العبد يسأل ربه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط. بيان ذلك ان الله سبحانه قرر في كلامه لنوع الإِنسان بل لجميع من سواه سبيلاً يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى**{ يا أيُّها الإِنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه }** الإنشقاق 6. وقال تعالى**{ وإليه المصير }** التغابن 3. وقال**{ ألا إلى الله تصير الأمور }** الشورى 53. إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلاله على أن الجميع سالكوا سبيل، وانهم سائرون إلى الله سبحانه. ثم بيَّن أن السبيل ليس سبيلاً واحداً ذا نعتٍ واحد بل هو متشعب إلى شعبتين، منقسم إلى طريقين، فقال**{ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوُّ مبين وأنِ اعبدوني هذا صراط مستقيم }** يس 60-61. فهناك طريق مستقيم وطريق آخر ورائه، وقال تعالى**{ فإني قريب أُجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلَّهم يرشدون }** البقرة 186. وقال تعالى**{ ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }** غافر 60. فبيَّن تعالى أنه قريب من عباده وأن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون**{ أُولئك ينادون من مكان بعيد }** فصلت 44 فبيّن أن غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة. فتبيَّن أن السبيل إلى الله سبيلان سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين، وسبيل بعيد وهو سبيل غيرهم، فهذا نحو اختلاف في السبيل وهناك نحو آخر من الاختلاف، قال تعالى**{ إن الذين كذَّبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تُفتّح لهم أبواب السماء }** الأعراف 40. ولولا طروق من متطرق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو، وقال تعالى**{ ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى }** طه 81. والهوي هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر آخذ في السفالة والانحدار، وقال تعالى**{ ومن يتبدل الكفر بالإِيمان فقد ضلَّ سواء السبيل }** البقرة 108، فعرَّف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله فقد ضلّ، وعند ذلك تقسم الناس في طرقهم ثلثه أقسام من طريقه إلى فوق وهم الذين يؤمنون بآيات الله ولا يستكبرون عن عبادته، ومن طريقه إلى السفل، وهم المغضوب عليهم، ومن ضل الطريق وهو حيران فيه وهم الضالون، وربما اشعر بهذا التقسيم قوله تعالى { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضَّالِّين }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلاث، أعني طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين فهو من الطريق الأول الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلاَّ أن قوله تعالى**{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات }** المجادلة 11. يدل على أن نفس الطريق الأول أيضاً يقع فيه انقسام. وبيانه أن كل ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى**{ ومن يتبدل الكفر بالإِيمان فقد ضلَّ سواء السبيل }** البقرة 108. وفي هذا المعنى قوله تعالى**{ أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌّ مبين وأنِ اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضلَّ منكم جِبلاً كثيراً }** يس 60-61. والقرآن يعد الشرك ظلماً وبالعكس، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لما قضي الأمر**{ إني كفرت بما أشركتمون من قبلُ إنَّ الظَّالمين لهم عذاب أليم }** إبراهيم 22. كما يعد الظلم ضلالاً في قوله تعالى**{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }** الأنعام 82، وهو ظاهر من ترتيب الاهتداء والأمن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال على ارتفاع الظلم ولبس الإِيمان به، وبالجملة الضلال والشرك والظلم أمرها واحد وهي متلازمة مصداقاً، وهذا هو المراد من قولنا إن كل واحد منها مُعرف بالآخر أو هو الآخر، فالمراد المصداق دون المفهوم. إذا عرفت هذا علمت أن الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضالين صراط لا يقع فيه شرك ولا ظلم البته كما لا يقع فيه ضلال البته، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه، ولا في ظاهر الجوارح والأركان من فعل معصية أو قصور في طاعة، وهذا هو حق التوحيد علماً وعملاً إذ لا ثالث لهما وماذا بعد الحق إلاَّ الضلال؟ وينطبق على ذلك قوله تعالى**{ الَّذِين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }** الأنعام 82، وفيه تثبيت للأمن في الطريق ووعد بالاهتداء التام بناءً على ما ذكروه من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم، فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم. ثم إنه تعالى عرف هؤلاء المنعم عليهم الذين نسب صراط المستقيم إليهم بقوله تعالى**{ ومن يطع الله والرسول فأُولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً }** النساء 69. وقد وصف هذا الإِيمان والإِطاعة قبل هذه الآية بقوله**{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلاَّ قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً }** النساء 65-66. فوصفهم بالثبات التام قولاً وفعلاً وظاهراً وباطناً على العبودية لا يشذ منهم شاذ من هذه الجهة ومع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعاً لأولئك المنعم عليهم، وفي صف دون صفهم لمكان مع ولمكان قوله | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وحسن أولئك رفيقاً }** النساء 69 ولم يقل فأولئك من الذين. ونظير هذه الآية قوله تعالى**{ والذين آمنو بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم }** الحديد 19. وهذا هو الحاق المؤمنين بالشهداء والصديقين في الآخرة، لمكان قوله عند ربهم، وقوله لهم أجرهم. { فأُولئك } وهم أصحاب الصراط المستقيم أعلى قدراً وأرفع درجة ومنزلة من هؤلاء وهم المؤمنون الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم من الضلال والشرك والظلم، فالتدبر في هذه الآيات يوجب القطع بأن هؤلاء المؤمنين و شأنهم هذا الشأن فيهم بقية بعد، لو تمت فيهم كانوا من الذين أنعم الله عليهم، وارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم ولعلّهم نوع من العلم بالله، ذكره في قوله تعالى**{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }** المجادلة 11. فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي أرفع النعم قدراً، يربو على نعمة الإِيمان التام، وهذا أيضاً نعت من نعوت الصراط المستقيم. ثم إنه تعالى على أنه كرر في كلامه ذكر الصراط والسبيل لم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيم واحد، وعد لنفسه سبلاً كثيرة، فقال عزّ من قائل**{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }** العنكبوت 69. وكذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى أحد من خلقه إلاَّ ما في هذه الآية { صراط الذين أنعمت عليهم } الآية ولكنه نسب السبيل إلى غيره من خلقه، فقال تعالى**{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة }** يوسف 108. وقال تعالى**{ سبيل من أناب إليَّ }** لقمان 15. وقال**{ سبيل المؤمنين }** النساء 115، ويعلم منها أن السبيل غير الصراط المستقيم فإنه يختلف ويتعدد ويتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما يشير إليه قوله تعالى**{ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم }** المائدة 15-16، فعد السبل كثيرة والصراط واحداً وهذا الصراط المستقيم، إما هي السبل الكثيرة وإما أنها تؤدي إليه باتصال بعضها إلى بعض واتحادها فيها. وأيضا قال تعالى**{ وما يؤمن أكثرهم بالله إلاَّ وهم مشركون }** يوسف 106. فبين أن من الشرك وهو ضلال ما يجتمع مع الإِيمان وهو سبيل، ومنه يعلم أن السبيل يجامع الشرك، لكن الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال ولا الضالين. والتدبر في هذه الآيات يعطي أن كل واحد من هذه السبل يجامع شيئاً من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، وإن كلا منها هو الصراط المستقيم لكنه غير الآخر ويفارقه لكن الصراط المستقيم يتحد مع كل منها في عين أنه يتحد مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة وغيرها كقوله | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وأنِ اعبدوني هذا صراط مستقيم }** يس 61. وقوله تعالى**{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملّة إبراهيم حنيفاً }** الأنعام 161. فسمى العبادة صراطاً مستقيماً وسمى الدين صراطاً مستقيما وهما مشتركان بين السبل جميعاً، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما أن للبدن أطواراً في حياته هو عند كل طور غيره عند طور آخر، كالصبي والطفولية والرهوق والشباب والكهولة والشيب والهرم لكن الروح هي الروح وهي متحدة بها والبدن يمكن أن تطرأ عليه أطوار تنافي ما تحبه وتقتضيه الروح لو خليت ونفسها، بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها، والبدن مع ذلك هو الروح أعني الإِنسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو صراط المستقيم إلاَّ أن السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتبعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت أن الإِيمان وهو سبيل ربما يجامع الشرك والضلال لكن لا يجتمع مع شيء من ذلك الصراط المستقيم، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده، والجميع على الصراط المستقيم أو هي هو. وقد بيّن الله سبحانه هذا المعنى، أعني اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحق والباطل في كلامه، فقال تعالى**{ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما توقدون عليه في النار ابتغآء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال }** الرعد 17. فبين أن القلوب والأفهام في تلقي المعارف والكمال مختلفة، مع كون الجميع متكئة منتهية إلى رزق سماوي واحد، وسيجيء تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد، وبالجملة فهذا أيضاً نعت من نعوت الصراط المستقيم. وإذا تأملت ما تقدم من نعوت الصراط المستقيم تحصل لك أن الصراط المستقيم مهيمنٌ على جميع السبل إلى الله والطرق الهادية إليه تعالى، بمعنى أن السبيل إلى الله إنما يكون سبيلاً له موصلاً إليه بمقدار يتضمنه من الصراط المستقيم حقيقة، مع كون الصراط المستقيم هادياً موصلاً إليه مطلقاً ومن غير شرط وقيد، ولذلك سمّاه الله تعالى صراطاً مستقيماً، فإن الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطاً إذا بلعت بلعاً، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه ولا يدفعهم عن بطنه، والمستقيم هو الذي يريد أن يقوم على ساق فيتسلط على نفسه وما لنفسه كالقائم الذي هو مسلط على أمره، ويرجع المعنى إلى أنه الذي لا يتغير أمره ولا يختلف شأنه، فالصراط المستقيم ما لا يتخلف حكمه في هدايته وإيصاله سالكيه إلى غايته ومقصدهم قال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً }** النساء 175. أي لا يتخلف أمر هذه الهداية، بل هي على حالها دائماً، وقال تعالى**{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيماً }** الأنعام 125-126. أي هذه طريقته التي لا يختلف ولا يتخلف، وقال تعالى**{ قال هذا صراط عليَّ مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاَّ من اتبعك من الغاوين }** الحجر 41-42. أي هذه سنَّتي وطريقتي دائماً من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله**{ فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً }** فاطر 43. وقد تبيّن مما ذكرناه في معنى الصراط المستقيم أُمور. أحدها أن الطرق إلى الله مختلفة كمالاً ونقصاً وغلاءً ورخصاً، في جهة قربها من منبع الحقيقة والصراط المستقيم كالإِسلام والإِيمان والعبادة والإِخلاص والإِخبات، كما أن مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود والطغيان والمعصية كذلك، قال سبحانه**{ ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون }** الأحقاف 19 وهذا نظير المعارف الإِلهية التي تتلقاها العقول من الله فإنها مختلفة باختلاف الاستعدادات ومتلونة بألوان القابليات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى**{ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها }** الرعد 17الآية. وثانيها أنه كما أن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل، فكذلك أصحابه الذين مكنهم الله تعالى فيه وتولى أمرهم وولاهم أمر هداية عباده حيث قال**{ وحسن أولئك رفيقاً }** النساء 69. وقال تعالى**{ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاه وهم راكعون }** المائدة 55. والآية نازلة في أمير المؤمنين علي عليه السلام بالأخبار المتواترة وهو عليه السلام أول فاتح لهذا الباب من الأمة وسيجيء تمام الكلام في الآية. وثالثها أن الهداية إلى الصراط يتعين معناها بحسب تعيّن معناه، وتوضيح ذلك أن الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح، وفيه أن تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز، وغيرهم يعدونه إلى المفعول الثاني بإلى، وقوله هو الظاهر، وما قيل إن الهداية إذا تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها، فهي بمعنى الإِيصال إلى المطلوب، وإذا تعدت بإلى فبمعنى إراءة الطريق، مستدلاً بنحو قوله تعالى**{ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء }** القصص 56 حيث أن هدايته بمعنى إراءة الطريق ثابتة فالمنفى غيرها وهو الإِيصال إلى المطلوب قال تعالى**{ وهديناهم صراطاً مستقيماً }** النساء 69. وقال تعالى**{ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }** الشورى 52. فالهداية بالإِيصال إلى المطلوب تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، والهداية بإراءة الطريق بإلى، وفيه أن النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية التي هي قائمة بالله تعالى، لا نفي لها أصلاً، وبعبارة أُخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة، مضافاً إلى أنه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ يا قوم اتبعونِ أهدكم سبيل الرشاد }** غافر 38. فالحق أنه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية، ومن الممكن أن يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار. وبالجملة فالهداية هي الدلالة وإراءة الغاية بإراءة الطريق وهي نحو إيصال إلى المطلوب، وإنما تكون من الله سبحانه، وسنته سنة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ويتحقق به وصول العبد إلى غايته في سيره، وقد بيَّنه الله سبحانه بقوله**{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام }** الأنعام 125. وقوله**{ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء }** الزمر 23. وتعدية قوله تلين بإلى لتضمين معنى مثل الميل والاطمئنان، فهو إيجاده تعالى وصفاً في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئن إليه، وكما أن سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه فلكل سبيل هداية قبله تختص به. وإلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى**{ والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }** العنكبوت 69. إذ فرق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله، وبين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الأول يريد سلامة السبيل ودفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني فإنه إنما يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به، وكذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصه بنفسه جلّت عظمته. ورابعها أن الصراط المستقيم لما كان أمراً محفوظاً في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها ودرجاتها، صح أن يهدي الله الإِنسان إليه وهو مهدي فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سبله ثم يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أن قوله تعالى { اهدنا الصراط } وهو تعالى يحكيه عمّن هداه بالعبادة من هذا القبيل، ولا يرد عليه أن سؤال الهداية ممن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل وهو محال، وكذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل ولا يتعلق به سؤال، والجواب ظاهر. وكذا الإِيراد عليه بأن شريعتنا أكمل وأوسع من جميع الجهات من شرائع الأمم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم؟ وذلك أن كون شريعة أكمل من شريعة أمٌر، وكون المتمسك بشريعة أكمل من المتمسك بشريعة أمر آخر وراءه، فإن المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع كون شريعته أكمل وأوسع ليس بأكمل من نوح وإبراهيم عليهما السلام مع كون شريعتهما أقدم وأسبق، وليس ذلك إلاَّ أن حكم الشرائع والعمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكن فيها والتخلق بها، فصاحب مقام التوحيد الخالص وإن كان من أهل الشرائع السابقة أكمل وأفضل ممن لم يتمكن من مقام التوحيد ولم تستقر حياة المعرفة في روحه ولم يتمكن نور الهداية الإِلهية من قلبه، وإن كان عاملاً بالشريعة المحمدية التي هي أكمل الشرائع وأوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة ويسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن أعجب ما ذكر في هذا المقام، ما ذكره بعض المحققين من أهل التفسير جواباً عن هذه الشبهة أن دين الله واحد وهو الإِسلام، والمعارف الأصلية وهي التوحيد والنبوّة والمعاد وما يتفرع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع، وإنما مزية هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي أن الأحكام الفرعية فيها أوسع وأشمل لجميع شؤون الحيوة، فهي أكثر عناية بحفظ مصالح العباد، على أن أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة والموعظة والجدال الأحسن، ثم أن الدين وإن كان ديناً واحداً والمعارف الكلية في الجميع على السواء، غير أنهم سلكوا سبيل ربهم قبل سلوكنا، وتقدموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه هذا. أقول وهذا الكلام مبنى على أصول في مسلك التفسير مخالفة للأصول التي يجب أن يبتنى مسلك التفسير عليها، فإنه مبني على أن حقائق المعارف الأصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب والدرجات، وكذا سائر الكمالات الباطنية المعنوية، فأفضل الأنبياء المقربين مع أخس المؤمنين من حيث الوجود وكماله الخارجي التكويني على حد سواء، وإنما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعي من غير أن يتكي على تكوين، كما أن التفاضل بين الملك والرعية إنما هو بحسب المقام الجعلي الوضعي من غير تفاوت من حيث الوجود الإِنساني هذا. ولهذا الأصل أصل آخر يبنى عليه، وهو القول بأصالة المادة ونفي الأصالة عمّا وراءها والتوقف فيه إلاَّ في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل، وقد وقع في هذه الورطة من وقع، لأحد أمرين إما القول بالاكتفاء بالحسِّ اعتماداً على العلوم المادية وإما إلغاء التدبر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العامي. وللكلام ذيل طويل سنورده في بعض الأبحاث العلمية الآتية أن شاء الله تعالى. وخامسها أن مزية أصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، وكذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنما هو بالعلم لا العمل، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبيّن مما مرّ أن العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيتهم إلاَّ العلم، وأما ما هذا العلم؟ وكيف هو؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها }** الرعد 17. ويشعر بهذا المعنى قوله تعالى**{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }** المجادلة 11، وكذا قوله تعالى**{ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه }** فاطر 10، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب وهو الاعتقاد والعلم، وأما العمل الصالح فشأنه رفع الكلام الطيب والامداد دون الصعود إليه تعالى، وسيجيء تمام البيان في البحث عن الآية. بحث روائي في الكافي عن الصادق عليه السلام في معنى العبادة قال العبادة ثلاثة قوم عبدوا الله خوفاً، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء، وقوم عبدوا الله عزّ وجل حباً، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة. وفي نهج البلاغة أن قوماً عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار. وفي العلل والمجالس والخصال، عن الصادق عليه السلام أن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفاً من النار فتلك عبادة العبيد، وهي رهبة، ولكني أعبده حباً له عز وجل فتلك عبادة الكرام، لقوله عزّ وجلّ { وهم من فزعٍ يومئذٍ آمنون }. ولقوله عزّ وجلّ { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ، فمن أحب الله عزّ وجلَّ أحبه، ومن أحبه الله كان من الآمنين، وهذا مقام مكنون لا يمسه إلاَّ المطهرون. أقول وقد تبيّن معنى الروايات مما مرّ من البيان، وتوصيفهم عليهم السلام عبادة الأحرار تارة بالشكر وتارة بالحب، لكون مرجعهما واحداً، فإن الشكر وضع الشيء المنعم به في محله، والعبادة شكرها أن تكون لله الذي يستحقها لذاته، فيعبد الله لأنه الله، أي لأنه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحب إلاَّ الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لأنه هو، وهو معبود لأنه جميل محبوب، وهو معبود لأنه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد. وروي بطريق عامي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى { إِيَّاك نعبد } الآية، يعني لا نريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك. أقول والرواية تشير إلى ما تقدم، من استلزام معنى العبادة للحضور وللإِخلاص الذي ينافي قصد البدل. وفي تحف العقول عن الصادق عليه السلام في حديث ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإِدراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لأن الصفة غير الموصوف، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الحديث. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام في معنى قوله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم } يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنّتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك. وفي المعاني أيضاً عن علي عليه السلام في الآية، يعني، أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا. أقول والروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شهبة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهدي، فالرواية الأولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقاً والثانية إلى اتحادها مفهوماً. وفي المعاني أيضاً عن علي عليه السلام الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير واستقام، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة. وفي المعاني أيضاً عن علي عليه السلام في معنى { صراط الذين } الآية أي قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك، لا بالمال والصحة، فإنهم قد يكونون كفاراً أو فساقاً، قال وهم الذين قال الله**{ ومن يطع الله والرسول فأُؤلئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً }** النساء 69. وفي العيون عن الرضا عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول **" قال الله عزّ وجل قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد { بسم الله الرَّحمن الرَّحيم } قال الله جلَّ جلاله بدأ عبدي باسمي، وحق عليَّ أن أتمم له أموره، وأبارك له في أحواله، فإذا قال { الحمد لله رب العالمين } ، قال الله جلَّ جلاله حمدني عبدي، وعلم أن النعم التي له من عندي وأن البلايا التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، وإذا قال { الرَّحمن الرَّحيم } ، قال الله جلَّ جلاله شهد لي عبدي أني الرَّحمن الرَّحيم أُشهدكم لأوفرن من رحمتي حظه ولأجزلن من عطائي نصيبه، فإذا قال { مالك يوم الدين } ، قال الله تعالى أُشهدكم، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين، لأسهلن يوم الحساب حسابه، ولأتقبلن حسناته ولأتجاوزن عن سيئآته، فإذا قال { إِيَّاك نعبد } ، قال الله عزّ وجلَّ صدق عبدي، إياى يعبد أُشهدكم لأثيبنه على عبادته ثواباً يغبطه كل من خالفه في عبادتة لي، فإذا قال { وإِيَّاك نستعين } ، قال الله تعالى بي استعان عبدي وإليَّ التجأ، أُشهدكم لأعيننه على أمره، ولأغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم } ، إلى آخر السورة، قال الله عزّ وجلَّ هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، وقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمّل وآمنته مما منه وجل "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أقول وروى قريباً منه الصدوق في العلل عن الرضا عليه السلام، والرواية كما ترى تُفسر سورة الفاتحة في الصلاة فهي تؤيد ما مرّ مراراً أن السورة كلام له سبحانه بالنيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة وإظهار العبودية من الثناء لربه وإظهار عبادته، فهى سورة موضوعة للعبادة، وليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها وأعني بذلك أولاً أن السورة بتمامها كلام تكلم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبية ونصب نفسه في مقام العبودية. وثانياً أنها مقسمة قسمين، فنصف منها لله ونصف منها للعبد. وثالثاً أنها مشتملة على جميع المعارف القرآنية على إيجازها واختصارها، فإن القرآن على سعته العجيبة في معارفه الأصلية وما يتفرع عليها من الفروع من أخلاق وأحكام في العبادات والمعاملات والسياسات والاجتماعيات ووعد ووعيد وقصص وعبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد والنبوة والمعاد وفروعاتها، وإلى هداية العباد إلى ما يصلح به أولاهم وعقباهم، وهذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظ وأوضح معنى. وعليك أن تقيس ما يتجلى لك من جمال هذه السورة التي وضعها الله سبحانه في صلاة المسلمين بما يضعه النصارى في صلاتهم من الكلام الموجود في إنجيل متى 6 - 9 - 13 وهو ما نذكره بلفظه العربي، " أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجّنا من الشرير آمين ". تأمل في المعاني التي تفيدها ألفاظ هذه الجمل بعنوان أنها معارف سماوية، وما تشتمل عليه من الأدب العبودي، إنها تذكر أولاً أن أباهم وهو الله تقدس اسمه في السماوات!! ثم تدعو في حق الأب بتقدس اسمه وإتيان ملكوته ونفوذ مشيئته في الأرض كما هي نافذة في السماء، ولكن من الذي يستجيب هذا الدعاء الذي هو بشعارات الأحزاب السياسية أشبه؟ ثم تسأل الله إعطاء خبز اليوم ومقابلة المغفرة بالمغفرة، وجعل الاغماض عن الحق في مقابل الاغماض، وماذا هو حقهم لو لم يجعل الله لهم حقاً؟ وتسأله أن لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير، ومن المحال ذلك، فالدار دار الامتحان والاستكمال وما معنى النجاة لولا الابتلاء والامتحان؟. ثم العجب مما ذكره بعض المستشرقين من علماء الغرب وتبعه بعض من المنتحلين أن الإِسلام لا يربو على غيره في المعارف، فإن جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد وتصفية النفوس بالخلق الفاضل والعمل الصالح، وإنما تتفاضل الأديان في عراقة ثمراتها الاجتماعية!! بحث آخر روائي في الفقيه وتفسير العيّاشي عن الصادق عليه السلام قال الصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السلام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي المعاني عن الصادق عليه السلام قال هي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأما الصراط في الدنيا فهو الإِمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمُه في الآخرة فتردى في نار جهنم. وفي المعاني أيضاً عن السجاد عليه السلام قال ليس بين الله وبين حُجّته حجابٌ، ولا لله دون حجته سترٌ، نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم ونحن عيبة علمه، ونحن تراجمة وحيه ونحن أركان توحيده ونحن موضع سره. وعن ابن شهراشوب عن تفسير وكيع بن الجراح عن الثوري عن السّدي، عن اسباط ومجاهد، عن ابن عباس في قوله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم } ، قال قولوا معاشر العباد! أرشدنا إلى حب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام. أقول وفي هذه المعاني روايات أُخَر، وهذه الأخبار من قبيل الجري، وعد المصداق للآية، واعلم أن الجري وكثيراً ما نستعمله في هذا الكتاب اصطلاحٌ مأخوذ من قول أئمة أهل البيت عليهم السلام. ففي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية، ما في القرآن آيةٌ إلاَّ ولها ظهر وبطن وما فيها حرفٌ إلاَّ وله حدٌّ، ولكل حدٍ مُطَّلَعٌ ما يعني بقوله ظهر وبطن؟ قال ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بَعدُ، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلما جاء منه شيء وقع الحديث. وفي هذا المعنى روايات أُخَر، وهذه سليقة أئمه أهل البيت فإنهم عليهم السلام يُطبقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد وان كان خارجاً عن مورد النزول، والاعتبار يساعده، فإن القرآن نُزِّلَ هدىً للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد وواجب الخلق وواجب العمل، وما بيَّنه من المعارف النظرية حقائق لا تختص بحال دون حال ولا زمان دون زمان، وما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعه من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد ولا عصر دون عصر لعموم التشريع. وما ورد من شأن النزول وهو الأمر أو الحادثة التي تعقب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها لأن البيان عامٌّ والتعليل مطلقٌ، فإن المدح النازل في حق أفراد من المؤمنين أو الذم النازل في حق آخرين معللاً بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرُهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم وهكذا، والقرآن أيضاً يدل عليه، قال تعالى**{ يهدي به الله من اتبع رضوانه }** المائدة 16 وقال**{ وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه }** فصلت 41-42. وقال تعالى**{ إنَّا نحن نزّلنا الذِّكر وإنا له لحافظون }** الحجر 9. والرواياتُ في تطبيق الآيات القرآنية عليهم ع أو على اعدائهم أعني روايات الجري، كثيرةٌ في الأبواب المختلفة، وربما تبلغ المئين، ونحن بعد هذا التنبيه العام نترك إيراد أكثرها في الأبحاث الروائية لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلاَّ ما تعلّق بها غرض في البحث فليتذكر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير الوجيز/ الواحدي (ت 468 هـ)
{ إيَّاك نعبدُ } أَيْ: نخصُّك ونقصدك بالعبادة، وهي الطَّاعة مع الخضوع. { وإيَّاك نستعين }: ومنك نطلب المعونة. { اهدنا الصراط المستقيم } ، أَيْ: دُلَّنا عليه، واسلكْ بنا فيه، وثبِّتنا عليه. { صراط الذين أنعمتَ عليهم } بالهداية، وهم قومُ موسى وعيسى عليهما السَّلام قبل أن يُغيِّروا نعمَ الله عزَّ وجلَّ. وقيل: هم الذين ذكرهم الله عزَّ وجلَّ في قوله تعالى:**{ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم..... }** الآية. { غير المغضوب عليهم } ، أَيْ: غير الذين غضبتَ عليهم، وهم اليهود، ومعنى الغضب من الله تعالى: إرادةُ العقوبة. { ولا الضَّالين } ، أَيْ: ولا الذين ضلُّوا، وهم النَّصارى، فكأنَّ المسلمين سألوا الله تعالى أن يهديهم طريق الذين أنعم عليهم ولم يغضب عليهم، كما غضب على اليهود، ولم يضلُّوا عن الحقِّ كما ضلَّت النَّصارى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري (مـ 1921م)
شرح الكلمات: إهدنا: أرشدنا وأدم هدايتنا. الصراط: الطريق الموصل إلى رضاك وجنّتك وهو الإسلام لك. المستقيم: الذي لا ميل فيه عن الحق ولا زيغ عن الهدى. معنى الآية: بتعليم من الله تعالى يقول العبد في جملة إخوانه المؤمنين سائلا ربّه بعد أن توسل إليه بحمده والثناء عليه وتمجيده، ومعاهدته أن لا يَعْبدَ هو وإخوانه المؤمنون إلا هو، وأن لا يستعينوا إلا به. يسألونه أن يُديم هدايتهم للإسلام حتى لا ينقطعوا عنه. من هداية الآية: الترغيب في دعاء الله والتضرع إليه وفي الحديث الدعاء هو العبادة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ)
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، يعنى نوحد، كقوله سبحانه في المفصل**{ عَابِدَاتٍ }** [التحريم:5]، يعنى موحدات، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [آية: 5] على عبادتك، { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [آية: 6]، يعنى دين الإِسلام؛ لأن غير دين الإسلام ليس بمستقيم، وفى قراءة ابن مسعود: ارشدنا، { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، يعنى دلنا على طريق الذين أنعمت عليهم، يعنى النبيين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة، كقوله سبحانه:**{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ }** [مريم: 58]، { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } ، يعنى دلنا على دين غير اليهود الذين غضب الله عليهم، فجعل منهم القردة والخنازير، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [آية: 7]، يقول: ولا دين المشركين، يعنى النصارى. قال: حدثنا عبيدالله، قال حدثنى أبى، عن الهذيل، عن مقاتل، عن مرثد، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" يقول الله عز وجل: قسمت هذه السورة بينى وبين عبدى نصفين، فإذا قال العبد: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، يقول الله عز وجل: شكرنى عبدى، فإذا قال: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، يقول الله: مدحنى عبدى، فإذا قال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } ، يقول الله: أثنى علىَّ عبدى، ولعبدى بقية السورة، وإذا قال: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، يقول الله: هذه لعبدى إياى يستعين، وإذا قال: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، يقول الله: فهذه لعبدى، وإذا قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، يقول الله: فهذه لعبدى، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، فهذه لعبدى ".** قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنا الهذيل، عن مقاتل، قال إذا قرأ أحدكم هذه السورة فبلغ خاتمتها، فقال: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، فليقل: آمين، فإن الملائكة تؤمن، فإن وافق تأمين الناس، غفر للقوم ما تقدم من ذنوبهم. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى هذيل، عن وكيع، عن منصور، عن مجاهد، قال: لما نزلت فاتحة الكتاب رنَّ إبليس. قال: حدثنا عبيدالله، قال: حدثنى أبى، عن صالح، عن وكيع، عن سفيان الثورى، عن السدى، عن عبد خير، عن على، رضى الله عنه، فى قوله عز وجل:**{ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي }** [الحجر: 87]، قال: هى فاتحة الكتاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ ٱلصِّرَاطَ } (6) - وَنَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا إلى طَرِيقِ الحَقِّ، والخَيْرِ والسَّعَادَةِ، وهُوَ الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي يُوصِلُنَا إلَيْكَ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ)
{ ٱهْدِنَا } ، قال علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) وأبيّ بن كعب: أرشدتنا فهذا كما يقال للرجل الذي يأكل: كل، والذي يقرأ: إقرأ، وللقائم: قم لي حتّى أعود لك أي دُم على ما أنت عليه. وقال السدّي ومقاتل: أرشدنا، يقال: هديته للدّين وهديته الى الدين هدىً وهدايةً، قال الحسن بن الفضل: الهدى في القرآن على وجهين: الوجه الأول: هدى دعاء وبيان كقوله:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52]، وقوله:**{ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }** [الرعد: 7] و**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ }** [فصّلت: 17]. الوجه الثاني: هدى توفيق وتسديد كقوله:**{ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ }** [النحل: 93]، وقوله:**{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }** [القصص: 56]. و { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } الطريق الواضح المستوي، قال عامر بن الطفيل: | **خشونا أرضهم بالخيل حتّى** | | **تركناهم أذل من الصراط** | | --- | --- | --- | وقال جرير: | **أمير المؤمنين على صراط** | | **إذا اعوجّ الموارد مستقيم** | | --- | --- | --- | الإختلاف في قراءة الصراط وفى الصراط خمس قراءات: بالسين وهو الأصل، سمّي الطريق سِراطاً لأنّه يسترط المارّة. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن حمدويه، حدّثنا محمود بن آدم، حدّثنا سفيان عن عمر عن ثابت قال: سمعت ابن عباس قرأ السِراط بالسين، وبه قرأ ابن كثير [من] طريق.... ويعقوب [من] طريق..... وبإشمام السين وهي رواية أبي حمدون عن الكسائي، وبالزاي وهي رواية أبي حمدون عن سليم عن حمزة. وبإشمام الزاي وهي قراءة حمزة في أكثر الروايات والكسائي في رواية نهشل والشيرازي. وبالصاد قراءة الباقين من القرّاء. وكلّها لغات فصيحة صحيحة إلاّ إن الاختيار الصاد؛ لموافقة المصحف لأنها كتبت في جميع المصاحف بالصاد. ولأن آخرتها بالطاء لأنهما موافقتان في الاطباق والاستعلاء. واختلف المفسّرون في { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد، وأبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري قالا: أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني، حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، حدّثنا الحسين بن علي عن حمزة الزيّات عن أبي المختار الطائي عن [ابن] أبي أخ الحرث الأعسر عن الحرث عن علي قال: **" سمعت النبي صلى الله عليه وسلم [يقول]: " الصراط المستقيم كتاب الله عزّ وجلّ ".** وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا حامد بن محمد، حدّثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدّثنا زكريا بن عديّ عن مقتضي عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال: الصراط المستقيم كتاب الله عزّ وجلّ. وأخبرنا عبد الله، أخبرنا عبد الرَّحْمن بن محمد، حدّثنا ليث، حدّثنا عقبة بن سليمان، حدّثنا الحسين بن صالح عن أبي عقيل عن جابر قال: الصراط المستقيم الإسلام، وهو أوسع مما بين السماء والأرض [وإنما كان] الصراط المستقيم الإسلام لأن كل دين وطريق [غير] الإسلام فليس بمستقيم. وروى عاصم الأحول عن أبي العالية الرياحي: هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قال عاصم: فذكرت ذلك للحسن فقال: صدق أبو العالية ونصح. وقال بكر بن عبد الله المزني: **" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عن الصراط المستقيم، فقال: سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ".** وقال سعيد بن جبير: يعني طريق [الحق]. وقال السدّي: أرشدنا إلى دين يدخل صاحبه به الجنة ولا يعذب في النار أبداً، ويكون خروجه من قبره إلى الجنة. وقال محمد بن الحنفية: هو دين [الله] الذي لا يقبل من عباده غيره. أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله العايني، حدّثنا أبو الحسين محمد بن عثمان النصيبي ببغداد، حدّثنا أبو القاسم [....] ابن نهار، حدّثنا أبو حفص المستملي، حدّثنا أبي، حدّثنا حامد بن سهل، حدّثنا عبد الله بن محمد العجلي، حدّثنا إبراهيم بن جابر عن مسلم بن حيان عن أبي بريدة في قول الله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } قال: صراط محمد صلى الله عليه وسلم وآله (عليهم السلام). وقال عبد العزيز بن يحيى: يعني طريق السواد الأعظم. [وقال] أبو بكر الورّاق: يعني صراطاً لا تزيغ به الأهواء يميناً وشمالا. وقال محمد بن علي النهدي: يعني طريق الخوف والرجاء. وقال أبو عثمان الداراني: [يعني] طريق العبودية. وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله بهرات يقول: سمعت أبا الحسن عمر بن واصل العنبري يقول: سمعت [سهل] بن عبد الله التستري يقول: طريق السنّة والجماعة لأن البدعة لا تكون مستقيمة. وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر: حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب الأصم: حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي: أخبرنا أبو بكر بن عيّاش عن عاصم عن زر عن أبي وائل عن عبد الله قال: **" خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّين، خطّاً عن يمينه وخطّاً عن شماله ثم قال: " هذه السُبُل، وعلى كلّ سبيل منهما شيطان يدعو إليه، وهذا سبيل الله " ، ثم قرأ { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } ".** وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، حدّثنا معمّر بن سفيان الصغير، حدّثنا يعقوب بن سفيان الكبير، حدّثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدّثنا معاوية بن صالح أن عبد الرَّحْمن بن جبير بن نصر حدّثه عن أبيه جبير عن نواس بن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" " ضرب الله مثلا (صراطاً مستقيماً) وعلى جانبي الصراط ستور مرخاة فيها أبواب مفتّحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه بالصراط: الإسلام. والستور حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على الصراط كتاب الله عزّ وجلّ، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
بعد أن آمنت بالله سبحانه وتعالى إلهاً ورباً.. واستحضرت عطاء الألوهية ونعم الربوبية وفيوضات رحمة الله على خلقه. وأعلنت أنه لا إله إلا الله. وقولك:**{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ }** [الفاتحة: 5] أي أن العبادة لله تبارك وتعالى لا نشرك به شيئا ولا نعبد إلا إياه.. وأعلنت أنك ستستعين بالله وحده بقولك:**{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }** [الفاتحة: 5]. فإنك قد أصبحت من عباد الله. ويعلمك الله سبحانه وتعالى الدعاء الذي يتمناه كل مؤمن.. وما دمت من عباد الله، فإن الله جل جلاله سيستجيب لك.. مصداقا لقوله سبحانه:**{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }** [البقرة: 186]. والمؤمن لا يطلب الدنيا أبدا.. لماذا؟.. لأن الحياة الحقيقية للإنسان في الآخرة. فيها الحياة الأبدية والنعيم الذي لا يفارقك ولا تفارقه. فالمؤمن لا يطلب مثلا أن يرزقه الله مالا كثيراً ولا أن يمتلك عمارة مثلا.. لأنه يعلم أن كل هذا وقتي وزائل.. ولكنه يطلب ما ينجيه من النار ويوصله إلى الجنة. ومن رحمة الله تبارك وتعالى أنه علمنا ما نطلب.. وهذا يستوجب الحمد لله.. وأول ما يطلب المؤمن هو الهداية والصراط المستقيم: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]. والهداية نوعان: هداية دلالة وهداية معونة. هداية الدلالة هي للناس جميعا.. وهداية المعونة هي للمؤمنين فقط المتبعين لمنهج الله. والله سبحانه وتعالى هدى كل عباده هداية دلالة أي دلهم على طريق الخير وبينه لهم.. فمَنْ أراد أن يتبع طريق الخير اتبعه.. ومَنْ أراد ألا يتبعه تركه الله لما أراد. هذه الهداية العامة هي أساس البلاغ عن الله. فقد بَيَّنَ الله تبارك وتعالى في منهجه بافعل ولا تفعل ما يرضيه وما يغضبه.. وأوضح لنا الطريق الذي نتبعه لنهتدي. والطريق الذي لو سلكناه حق علينا غضب الله وسخطه.. ولكن هل كل مَنْ بين له الله سبحانه وتعالى طريق الهداية اهتدى؟.. نقول لا.. واقرأ قوله جل جلاله:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }** [فصلت: 17]. إذن هناك مَنْ لا يأخذ طريق الهداية بالاختيار الذي أعطاه الله له.. فلو أن الله سبحانه وتعالى أرادنا جميعا مهديين.. ما استطاع واحد من خلقه أن يخرج على مشيئته. ولكنه جل جلاله خلقنا مختارين لنأتيه عن حب ورغبة بدلا من أن يقهرنا على الطاعة.. ما الذي يحدث للذين اتبعوا طريق الهداية والذين لم يتبعوه وخالفوا مراد الله الشرعي في كونه؟ الذين اتبعوا طريق الهداية يعينهم الله سبحانه وتعالى عليه ويحببهم في الإيمان والتقوى ويحببهم في طاعته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . واقرأ قوله تبارك وتعالى:**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }** [محمد: 17]. أي أن كل من يتخذ طريق الهداية يعينه الله عليه.. ويزيده تقوى وحبا في الدين.. أما الذين إذا جاءهم الهدى ابتعدوا عن منهج الله وخالفوه.. فإن الله تبارك وتعالى يتخلى عنهم ويتركهم في ضلالهم. واقرأ قوله تعالى:**{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }** [الزخرف: 36]. والله سبحانه وتعالى قد بَيَّنَ لنا المحرومين من هداية المعونة على الإيمان وهم ثلاثة كما بَيَّنْهُم لنا في القرآن الكريم:**{ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }** [النحل: 107].**{ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ }** [المائدة: 108]**{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }** [البقرة: 258]. إذن فالمطرودون من هداية الله في المعونة على الإيمان هم الكافرون والفاسقون والظالمون.. الحق سبحانه وتعالى يقول: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] ما هو الصراط؟.. إنه الطريق الموصلة إلى الغاية. ولماذا نص على أنه الصراط المستقيم. لأن الله سبحانه وتعالى وضع لنا في منهجه الطريق المستقيم.. وهو أقصر الطرق إلى تحقيق الغاية.. فأقصر طريق بين نقطتين هو الطريق المستقيم. ولذلك إذا كنت تقصد مكانا فأقصر طريق تسلكه هو الطريق الذي لا اعوجاج فيه ولكنه مستقيم تماما. ولا تحسب أن البعد عن الطريق المستقيم يبدأ باعوجاج كبير. بل باعوجاج صغير جدا ولكنه ينتهي إلى بُعد كبير. ويكفي أن تراقب قضبان السكة الحديد.. عندما يبدأ القطار في اتخاذ طريق غير الذي كان يسلكه فهو لا ينحرف في أول الأمر إلا بضعة ملليمترات.. أي أن أول التحويلة ضيق جدا وكلما مشيت اتسع الفرق وازداد اتساعا. بحيث عند النهاية تجد أن الطريق الذي مشيت فيه يبعد عن الطريق الأول عشرات الكيلو مترات وربما مئات الكيلو مترات.. إذن فأي انحراف مهما كان بسيطا يبعدك عن الطريق المستقيم بعدا كبيرا.. ولذلك فإن الدعاء: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] أي الطريق الذي ليس فيه إعوجاج ولو بضعة ملليمترات.. الطريق الذي ليس فيه مخالفة تبعدنا عن طريق الله المستقيم. لذلك فإن الإنسان المؤمن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهديه إلى أقصر الطرق للوصول إلى الغاية.. وما هي الغاية؟ انها الجنة والنعيم في الآخرة.. ولذلك نقول يا رب اهدنا وأعنا على أن نسلك الطريق المستقيم وهو طريق المنهج ليوصلنا إلى الجنة دون أن يكون فيه أي اعوجاج يبعدنا عنها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولقد قال الله سبحانه وتعالى في حديث قدسي: إنه إذا قال العبد: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] يقول جل جلاله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل. يقول الحق تبارك وتعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] ما معنى { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7]؟.. اقرأ الآية الكريمة:**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً }** [النساء: 69]. وأنت حين تقرأ الآية الكريمة فأنت تطلب من الله تبارك وتعالى أن تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. أي أنك تطلب من الله جل جلاله.. أن يجعلك تسلك نفس الطريق الذي سلكه هؤلاء لتكون معهم في الآخرة.. فكأنك تطلب الدرجة العالية في الجنة.. لأن كل مَنْ ذكرناهم لهم مقام عال في جنة النعيم.. وهكذا، فإن الطلب من الله سبحانه وتعالى هو أن يجعلك تسلك الطريق الذي لا اعوجاج فيه، والذي يوصلك في أسرع وقت إلى الدرجة العالية في الآخرة. وعندما نعرف أن الله سبحانه وتعالى قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.. تعرف أن الاستجابة تعطيك الحياة العالية في الآخرة وتمتعك بنعيم الله. ليس بقدرات البشر كما يحدث في الدنيا.. ولكن بقدرة الله تبارك وتعالى.. وإذا كانت نعم الدنيا لا تعد ولا تحصى.. فكيف بنعم الآخرة؟ لقد قال الله سبحانه وتعالى عنها:**{ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }** [ق: 35]. أي أنه ليس كل ما تطلبه فقط ستجده أمامك بمجرد وروده على خاطرك - ولكن مهما طلبت من النعم ومهما تمنيت فالله جل جلاله عنده مزيد.. ولذلك فإنه يعطيك كل ما تشاء ويزيد عليه بما لم تطلب ولا تعرف من النعم.. وهذا تشبيه فقط ليقرب الله تبارك وتعالى صورة النعيم إلى أذهاننا، ولكن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وبما أن المعاني لابد أن توجد أولا في العقل ثم يأتي اللفظ المعبر عنها.. فكل شيء لا نعرفه لا توجد في لغتنا ألفاظ تعبر عنه. فنحن لم نعرف اسم التليفزيون مثلا إلا بعد أن أخترع وصار له مفهوم محدد. تماما كما لم نعرف اسم الطائرة قبل أن يتم اختراعها.. فالشيء يوجد أولا ثم بعد ذلك يوضع اللفظ المعبر عنه. ولذلك فإن مجامع اللغات في العالم تجتمع بين فترة وأخرى لتضع أسماء لأشياء جديدة اخترعت وعرفت مهمتها. وما دام ذلك هو القاعدة اللغوية، فإنه لا توجد ألفاظ في لغة البشر تعبر عن النعيم الذي سيعيشه أهل الجنة، لأنه لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على القلب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . ولذلك فإن كل ما نقرؤه في القرآن الكريم يقرب لنا الصورة فقط. ولكنه لا يعطينا حقيقة ما هو موجود. ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى حين يتحدث عن الجنة في القرآن الكريم يقول:**{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ }** [محمد: 15]. أي أن هذا ليس حقيقة الجنة ولكنها مثل فقط، يقرب ذلك إلى الأذهان.. لأنه لا توجد ألفاظ في لغات البشر يمكن أن تعطينا حقيقة ما في الجنة. وقوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [الفاتحة: 7].. أي غير الذين غضبت عليهم يا رب من الذين عصوا. ومنعت عنهم هداية الإعانة.. الذين عرفوا المنهج فخالفوه وارتكبوا كل ما حرمه الله فاستحقوا غضبه. ومعنى غير { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [الفاتحة: 7] أي يا رب لا تيسر لنا الطريق الذي نستحق به غضبك. كما استحقه أولئك الذين غيروا وبدلوا في منهج الله ليأخذوا سلطة زمنية في الحياة الدنيا وليأكلوا أموال الناس بالباطل. وقد وردت كلمة { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [الفاتحة: 7] في القرآن الكريم في قوله تعالى:**{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة: 60]. وهذه الآيات نزلت في بني إسرائيل. وقول الله تعالى: " ولا الضالين " هناك الضال والْمُضِل.. الضال هو الذي ضل الطريق فاتخذ منهجا غير منهج الله.. ومشى في الضلالة بعيدا عن الهدى وعن دين الله.. ويقال ضل الطريق أي مشى فيه وهو لا يعرف السبيل إلى ما يريد أن يصل إليه.. أي أنه تاه في الدنيا فأصبح وليا للشيطان وابتعد عن طريق الله المستقيم.. هذا هو الضال.. ولكن المضل هو مَنْ لم يكتف بأنه ابتعد عن منهج الله وسار في الحياة على غير هدى.. بل يحاول أن يأخذ غيره إلى الضلالة.. يغري الناس بالكفر وعدم اتباع المنهج والبعد عن طريق الله.. وكل واحد من العاصين يأتي يوم القيامة يحمل ذنوبه.. إلا المضل فإنه يحمل ذنوبه وذنوب من أضلهم مصداقا لقوله سبحانه:**{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }** [النحل: 25]. أي أنك وأنت تقرأ الفاتحة تستعيذ بالله أن تكون من الذين ضلوا.. ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يأتِ هنا بالمضلين. نقول إنك لكي تكون مضلا لابد أن تكون ضالا أولا.. فالاستعاذة من الضلال هنا تشمل الاثنين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | لأنك ما دمت قد استعذت من أن تكون ضالا فلن تكون مضلا أبدا. بقي أن نتكلم عن ختم فاتحة الكتاب. بقولنا آمين أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه جبريل عليه السلام أن يقول بعد قراءة الفاتحة آمين، فهي من كلام جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست كلمة من القرآن. وكلمة آمين معناها استجب يارب فيما دعوناك به من قولنا: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ \* صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 6-7] أي أن الدعاء هنا له شيء مطلوب تحقيقه. وآمين دعاء لتحقيق المطلوب.. وكلمة آمين اختلف العلماء فيها.. أهي عربية أم غير عربية. وهنا يثور سؤال.. كيف تدخل كلمة غير عربية في قرآن حكم الله بأنه عربي..؟ نقول أن ورود كلمة ليس من أصل عربي في القرآن الكريم. لا ينفي أن القرآن كله عربي. بمعنى أنه إذا خوطب به العرب فهموه.. وهناك ألفاظ دخلت في لغة العرب قبل أن ينزل القرآن.. ولكنها دارت على الألسن بحيث أصبحت عربية وألفتها الأذان العربية. فليس المراد بالعربي هو أصل اللغة العربية وحدها.. وإنما المراد أن القرآن نزل باللغة التي لها شيوع على ألسنة العرب. وما دام اللفظ قد شاع على اللسان قولا وفي الآذان سمعا. فإن الأجيال التي تستقبله لا تفرق بينه وبين غيره من الكلمات التي هي من أصل عربي.. فاللفظ الجديد أصبح عربيا بالاستعمال وعند نزول القرآن كانت الكلمة شائعة شيوع الكلمة العربية. واللغة ألفاظ يصطلح على معانيها. بحيث إذا أطلق اللفظ فهم المعنى. واللغة التي نتكلمها لا تخرج عن اسم وفعل وحرف.. الاسم كلمة والفعل كلمة والحرف كلمة.. والكلمة لها معنى في ذاتها ولكن هل هذا المعنى مستقل في الفهم أو غير مستقل.. إذا قلت محمد مثلا فهمت الشخص الذي سمى بهذا الاسم فصار له معنى مستقل.. وإذا قلت كتب فهمت أنه قد جمع الحروف لتقرأ على هيئة كتابة.. ولكن إذا قلت ماذا وهي حرف فليس هناك معنى مستقل.. وإذا قلت " في " دَلَّتْ على الظرفية ولكنها لم تدلنا على معنى مستقل. بل لابد أن تقول الماء في الكوب.. أو فلان على الفرس.. غير المستقل في الفهم نسميه حرفا لا يظهر معناه إلا بضم شيء له.. والفعل يحتاج إلى زمن، ولكن الاسم لا يحتاج إلى زمن. إذن الاسم هو ما دل على معنى مستقل بالفهم وليس الزمن جزءا منه.. والفعل ما دل على فعل مستقل بالفهم والزمن جزء منه.. والحرف دل على معنى غير مستقل.. ما هي علامة الفعل؟!.. هي أنك تستطيع أن تسند إليه تاء الفاعل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . أي تقول كتبت والفاعل هو المتكلم.. ولكن الاسم لا يضاف إليه تاء الفاعل فلا تقول محمدت.. اذا رأيت شيئا يدل على الفعل أي يحتاج إلى زمن.. ولكنه لا يقبل تاء الفاعل فإنه يكون اسم على فعل. آمين من هذا النوع ليست فعلا فهي اسم مدلوله مدلول الفعل.. معناه استجب.. فأنت حين تسمع كلمة " آه " إنها اسم لفعل بمعنى أتوجع.. وساعة تقول " أف " اسم فعل بمعنى أتضجر.. وآمين اسم فعل بمعنى استجب.. ولكنك تقولها مرة وأنت القارئ، وتقولها مرة وأنت السامع. فساعة تقرأ الفاتحة تقول آمين.. أي أنا دعوت يارب فاستجب دعائي.. لأنك لشدة تعلقك بما دعوت من الهداية فإنك لا تكتفي بقول اهدنا ولكن تطلب من الله الاستجابة. وإذا كنت تصلي في جماعة فأنت تسمع الإمام وهو يقرأ الفاتحة.. ثم تقول آمين. لأن المأموم أحد الداعين.. الذي دعا هو الإمام، وعندما قلت آمين فأنت شريك في الدعاء.. ولذلك فعندما دعا موسى عليه السلام أن يطمس الله على أموال قوم فرعون ويهلكهم قال الله لموسى:**{ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }** [يونس: 89]. أي أن الخطاب من الله سبحانه وتعالى موجه إلى موسى وهارون، ولكن موسى عليه السلام هو الذي دعا.. وهارون أمَّنَ على دعوة موسى فأصبح مشاركا في الدعاء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ }: إلى آخرها: اهْدِ: صيغةُ أمرٍ ومعناها الدعاءُ. وهذه الصيغةُ تَرِدُ لمعانٍ كثيرةٍ ذَكرها الأصوليون. وقال بعضهم: إنْ وَرَدَتْ صيغة افعَلْ من الأعلى للأَدنى قيل فيها أمرٌ، وبالعكس دعاءٌ، ومن المساوي التماسٌ. وفاعلُه مستترٌ وجوباً لما مَرَّ، أي: اهدِ أنت، ونا مفعول أول، وهو ضميرٌ متصلٌ يكونُ للمتكلم مع غيرِه أو المعظِّم نفسَه، ويستعملُ في موضع الرفع والنصب والجر بلفظٍ واحدٍ: نحو: قُمنَا وضرَبَنَا زيدٌ وَمَرَّ بنا، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيرُه من الضمائر. وقد زعم بعض الناس أن الياء كذلك. تقول: أكرمَنَي وَمرِّ بي، وأنت تقومين يا هند، فالياء في المثال الأول منصوبةٌ المحلِّ، وفي الثاني مجرورتُه، وفي الثالث مرفوعتُه. وهذا ليس بشيء، لأن الياءَ في حالة الرفع ليست تلك الياءَ التي في حالة النصب والجر، لأن الأولى للمتكلمِ، وهذه للمخاطبةِ المؤنثةِ. وقيل: بل يشاركه لفظُ " هُمْ " ، تقول: هم نائمون وضربَهم ومررت بهم، ف " هم " مرفوعُ المحلِّ ومنصوبُه ومجرورهُ بلفظٍ واحدٍ، وهو للغائِبِين في كل حال، وهذا وإن كان أقربَ من الأول، إلا أنه في حالة الرفع ضميرٌ منفصل، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متصلٌ، فافترقا، بخلاف " نا " فإن معناها لا يختلف، وهي ضمير متصلٌ في الأحوال الثلاثة. والصراطَ: مفعول ثان، والمستقيمَ: صفتُه، وقد تَبِعه في الأربعة من العشرة المذكورة. وأصل " هَدَى " أن يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجر وهو إمَّا: إلى أو اللام، كقوله تعالى:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52]**{ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }** [الإسراء: 9]، ثم يُتَّسَعُ فيه، فيُحذَفُ الحرفُ الحرفُ فيتَعَدَّى بنفسِه، فأصلُ اهدِنا الصراط: اهدنا للصراط أو إلى الصراطِ، ثم حُذِف. والأمرُ عند البصريين مبنيٌّ وعند الكوفيين معرب، وَيدَّعون في نحو: " اضرب " أنَّ أصله: لِتَضْرِب بلام الأمر، ثم حُذِف الجازم وَتِبِعه حرفُ المضارعة وأُتِيَ بهمزة الوصل لأجلِ الابتداء بالساكن، وهذا ما لا حاجة إليه، وللردِّ عليهم موضع أَلْيَقُ به. ووزن اهْدِ: افْعِ، حُذِفَت لامُه وهي الياء حَمْلاً للأمر على المجزوم والمجزوم تُحذف منه لامُه إذَا كَانَتْ حرفَ علةٍ. والهدايةُ: الإِرشادُ أو الدلالةُ أو التقدمُ، ومنه هَوادِي الخيل لتقدُّمِها قال امرؤ القيس: | **67ـ فَأَلْحَقَه بالهاديات ودونَه** | | **جواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيًّلِ** | | --- | --- | --- | أو التبيينُ نحو:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ }** [فصلت: 17]. أي بَيَّنَّا لهم، أو الإِلهامُ، نحو:**{ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }** [طه: 50] أي ألهمه لمصالِحه، أو الدعاءُ كقوله تعالى:**{ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }** [الرعد: 7] أي داعٍ. وقيل هو المَيلُ، ومنه**{ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ }** [الأعراف: 56]، والمعنى: مِلْ بقلوبنا إليك، وهذا غَلَطٌ، فإنَّ تَيْكَ مادة أخرى من هادَ يَهُود. وقال الراغب: " الهدايةُ دَلالةٌ بلطفٍ ومنه الهَدِيَّةُ وهوادي/ الوحش أي المتقدِّماتُ الهاديةُ لغيرها، وخُصَّ ما كان دلالةً بَهَدَيتُ، وما كان إعطاءً بأَهْديت. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | والصراطُ: الطريقُ المُسْتَسْهَل، وبعضُهم لا يقيِّدُه بالمستسهلِ، قال: | **68ـ فَضَلَّ عن نَهْج الصراطِ الواضِحِ** | | | | --- | --- | --- | ومثله: | **69ـ أميرُ المؤمنين على صِراطٍ** | | **إذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مستقيمِ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **70ـ شَحَنَّا أرضَهم بالخيلِ حتى** | | **تَرَكْناهُمْ أَذَلَّ من الصِّراطِ** | | --- | --- | --- | أي الطريق، وهو مشتق من السِّرْطِ، وهو الابتلاعُ: إمَّا لأن سالكه يَسْتَرِطه أو لأنه يَسْتَرِط سالكَه، ألا ترى إلى قولهم: " قَتَلَ أرضاً عالِمُها وقتلت أرضٌ جاهلَهَا " ، وبهذين الاعتبارين قال أبو تمام: | **71ـ رَعَتْه الفيافي بعدما كان حِقْبةً** | | **رعاها وماءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ ساكِبُهْ** | | --- | --- | --- | وعلى هذا سُمِّي الطريق لَقَماً ومُلْتَقِماً لأنه يلتقِمُ سالكه أو يلتقمُه سَالِكُه. وأصلُه السينُ، وقد قَرَأ به قنبل حيث وَرَدَ، وإنما أُبدلَتْ صاداً لأجل حرف الاستعلاء وإبدالُها صاداً مطردٌ عنده نحو: صَقَر في سَقَر، وصُلْح في سُلْح، وإصْبَع في اسبَع، ومُصَيْطِر في مُسَيْطر، لما بينهما من التقارب. وقد تُشَمُّ الصادُ في الصراطِ ونحوهِ زاياً، وقرأ به خلف حيث وَرَد، وخلاَّد الأول فقط، وقد تُقْرَأ زاياً مَحْضَةً، ولم تُرْسم في المصحف إلا بالصادِ مع اختلافِ قراءاتِهم فيها كما تقدم. والصِّراطُ يُذَكَّر ويؤنَّث، فالتذكيرُ لغة تميم، وبالتأنيث لغة الحجاز، فإنْ استُعْمل مذكَّراً جُمِعَ في القلة على أَفْعِلة، وفي الكثرة على فُعُل، نحو: حِمار وأَحْمِرة وحُمُر، وإن استعمل مؤنثاً فقياسُه أَن يُجْمع على أَفْعُل نحو: ذِراع وأَذْرُع. والمستقيم: اسم فاعل من استقام بمعنى المجرد، ومعناه السويُّ من غير اعوجاج وأصله: مُسْتَقْوِم، ثم أُعِلَّ كإعلالِ نَسْتعين، وسيأتي الكلامُ مستوفى على مادته عند قوله تعالى: { يُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته، لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة ولهذا أرشد الله إليه لأنه الأكمل. والهداية هٰهنا: الإرشاد والتوفيق وقد تُعدَّى بنفسها { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ } وقد تعدى بإلى**{ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ }** [الصافات: 23] وقد تُعدى باللام**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا }** [الأعراف: 43] أي وفقنا وجعلنا له أهلاً، وأمّا { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فهو في لغة العرب: الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ثم تستعير العرب الصراط في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج، واختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير { ٱلصِّرَاطَ } وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو (المتابعة لله وللرسول)، فروي أنه كتاب الله، وقيل: إنه الإسلام، قال ابن عباس: هو دين الله الذي لا اعوجاج فيه، وقال ابن الحنفية: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره، وقد فسّر الصراط بالإسلام في حديث (النواس بن سمعان) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويْحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجْه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم "** وقال مجاهد: الصراط المستقيم: الحق، وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم، قال ابن جرير رحمه الله: والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنياً به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم لأن من وُفِّق لما وفِّق له من أنعم عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين فقد وفّق للإسلام. (فإن قيل): فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وهو متصف بذلك؟ فالجواب: أن العبد مفتقر في كل ساعةٍ وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها واستمراره عليها، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونه والثبات والتوفيق، فقد أمر تعالى الذين آمنوا بالإيمان:**{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }** [النساء: 136]، والمراد الثباتُ والمداومةُ على الأعمال المعينة على ذلك والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }؛ أي أرشِدنا الطريقَ القائمَ الذي ترضاهُ؛ وهو الإسلامُ. وهذا دعاءٌ؛ ومِثْلُهُ بلفظِ الأمرِ؛ لأن الأمرَ لِمن دونكَ؛ والمسألةَ لِمن فوقِكَ. فإن قِيْلَ: ما معنى قولِكم: إهْدِنَا! وأنتم مهتَدُونَ؟ قِيْلَ: هذا سؤالٌ في مستقبلِ الزَّمان عند دعوةِ الشَّيطان. وَقِيْلَ: معناه: ثَبتْنَا على الطَّريقِ المستقيمِ؛ لا تُقَلِّبْ قلُوبَنا بمعصيَتِنا. ونظيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى في قصَّة إبراهيمَ عليه السلام:**{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [البقرة: 131] أي أُثْبُتْ على الإسْلامِ. وفي { ٱلصِّرَاطَ } أربعُ لغاتٍ: صِراط بالصَّاد؛ وسِراط بالسِّين، وبالزاي الخالصَةِ، وبإشْمَام الصَّاد والزَّاي، وكلُّ ذلك قد قُرِئَ به؛ فبالسِّين قراءة قُنْبُلٍ، وبإشْمَامِ الزَّاي قراءةُ خَلَفٍ؛ وقرأ الباقون بالصاد الصَّافيةِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
معناه ثبتنا، لأنهم كانوا مهتدين، وإنما هو رغبة إلى الله أن يثبتنا على ذلك حتى يأتي الموت ونحن عليه. وقيل: معناه / ألهمنا الثبات على الصراط المستقيم، وهو دين الإسلام، وهو مروي عن ابن عباس. و " هَدَى " يكون بمعنى: " أَرْشَد " ، نحو قوله:**{ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ }** [ص: 22]، أي أرشدنا. ويكون بمعنى " بَيَّنَ " كقوله:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ }** [فصلت: 17]، أي بينّا لهم الصواب من الخطأ، فاستحبوا الخطأ. ويكون بمعنى " أَلْهَمَ " كقوله:**{ ثُمَّ هَدَىٰ }** [طه: 50]، / أي ألهم الذَّكَر من الحيوان إلى إتيان الأنثى. وقيل: معناه ألهم المصلحة ويكون هدى بمعنى " وَفَّقَ " كما قال "**{ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }** [البقرة: 258] أي لا يوفقهم. والصراط المستقيم كتاب الله. وهو مروي عن النبي [عليه السلام]. وقال ابن عباس: " هو الطريق إلى الله عز وجل ". وعن جماعة من الصحابة أنه الإسلام. وقال جابر بن عبد الله: " هو الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض ". وعن أبي العالية أنه: " رسول الله صلى الله عليه وسلم / وصاحباه ابو بكر وعمر ". وهو قول الحسن. وأصله الطريق الواضح. وقال ابن الحنفية: " هو دين الله تعالى ". وسمي مستقيماً لأنه لا عوج فيه ولا خطأ. وقيل: سمي بذلك لاستقامته بأهله إلى الجنة. وأصل { ٱلْمُسْتَقِيمَ }: " الْمُسْتَقْوِم " ، فألقيت حركة الواو على القاف وبقيت الواو ساكنة فقلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. كما قالوا ميزان، وهو من الوزن. وأصله " مِوْزَان " ، ثم قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وكذلك يقلبون الياء واواً إذا انضم ما قبلها نحو " مُوقِنٍ " و " موسِرٍ " لأنه من اليقين واليسار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ)
وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }. فهو - والله أعلم - على إضمار الأَمر، أي: قل: ذا. ثم لم يجعل له أن يَسْتثنى في القول به، بل ألزمه القول بالقول فيه. ثم هو يتوجه وجهين: أحدهما: يحال القول به على الخبر عن حاله؛ فيجب ألا يستثنى في التوحيد، وأن من يَسْتَثْني فيه عن شَكٍّ يُسْتَثْنَى. والله - تعالى - وصف المؤمنين بقوله تعالى:**{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ... }** الآية [الحجرات: 15]. وكذلك **" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال: " إيمان لا شكَّ فيه " ".** والثاني: عن الأحوال التي ترد في ذلك. لكنه إذا كان ذلك على اعتقاد المذهب لم يجز الشك فيه؛ إذ المذاهب لا تعتقد لأوقات، إنما تعتقد للأبد؛ لذلك لم يجز الثناء فيه في الأبد. وبالله التوفيق. ثم قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } يتوجه وجهين: أحدهما: إلى التوحيد، وكذا رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: " كُلُّ عبادةٍ في القرآنِ فهو توحيدٌ ". والوجه الآخر: أن يكون على كل طاعة أن يعبد الله بها، وأصلها يرجع إلى واحد؛ لما على العبد أن يوحد الله - تعالى - في كل عبادة لا يُشرك فيها أحداً، بل يخلصها فيكون موحِّداً لله تعالى بالعبادة والدين جميعاً. وعلى ذلك قطعُ الطمع، والخوف، والحوائج كلها عن الخلقِ. وتوجيهُ ذلك إلى الله تعالى بقوله:**{ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ }** [فاطر: 15] وعلى ذلك المؤمن لا يطمعُ في الحقيقة بأحدٍ غير الله، ولا يرفع إليه الحوائج، ولاَ يخاف إلا من الوجه الذي يخشى أن الله جعله سبباً لوصول بلاءٍ من بلاياه إليه على يديه؛ فعلى ذلك يخافُه، أو يرجو أن يكون الله تعالى جعلَ سببَ ما دفعه إليه على يديه، فبذلك يرجو ويطمع، فيكون ذلك من الضَّالِّين، فيكون في ذلك التعوُّذُ من جميع أنواع الذنوب، والاستهداءُ إلى كل أنواع البر. وقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. فذلك طلب المعونة من الله تعالى على قضاء جميع حوائجه ديناً ودنيا. ويحتمل أن يكون هو على أثر الفزع إلى الله بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } على طلب التوفيقِ لما أَمر به، والعصمة عما حذَّره عنه، وكذلك الأَمر البيّن في الخلق من طلب التوفيق، والمعونة من الله، والعصمةِ عن المنهي عنه جرت به سنة الأَخيار. والله الموفق. ثم لا يصلح هذا على قول المعتزلة؛ لأن تلك المعونةَ على أَداءِ ما كلف قد أَعطى؛ إذ هو على قولهم لا يجوز أن يكون مكلفاً قد بقي شيء - مما به أَداءُ ما كلف - عند الله، وطلبُ ما أُعْطِي كتمانُ العطيةِ، وكتمانُ العطيةِ كفرانٌ؛ فيصير كأَنَّ الله أَمر أَن يَكْفُر نعمَهُ ويكتمها ويطلبها منه تعنتاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وظنُّ مثله بالله كفرٌ. ثم لا يخلو من أَن يكون عند الله ما يُطْلب لم يُعطه التمام إذاً، أَوْ ليس عندهُ فيكون طلبه استهزاءً به، إذ مَنْ طَلَب إلى آخَرَ مَا يَعْلم أنه ليس عنده فهو هازئ به في العرف، مع ما كان الذي يُطلب إما أن يكون لله ألا يعطيه مع التكليف فيبطل قولهم؛ إذ لا يجوز أَن يكلف وعنده ما به الصلاح في الدين فلا يعطى، أَوْ ليس له أَلا يعطى فكأَنه قال: اللهم لا تَجُرْ. وَمَنْ هذا عِلْمهُ بربه فالإسلام أَولى به، وهذا مع ما كان لا يدعو الله أَحدٌ بالمعونة إلا ويطمئن قلبهُ أَنه لا يذل عند المعونة، ولا يزيغ عند العصمة، وليس مثلهُ يملك الله عند المعتزلة. ولا قوة إلا بالله. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خبر القسمة: **" الله يقول: هذا بَيْني وبينَ عبْدي نِصْفين ".** وذلك يحتمل: أن يكون كل حرف من ذلك بما فيها جميعاً الفزعُ إلى الله بالعبادة، والاستعانة ورفع الحاجة إليه، وإظهار غناه - جل وعلا - عنه؛ فيتضمن ذلك الثناء عليه، وطلب الحاجة إليه. ويحتمل: أن يكون الحرفُ الأَول لله بما فيه عبادتُه وتوحيدهُ، والثاني للعبد بما فيه طلبُ معونته وقضاءُ حاجته. ويؤيد ذلك بقية السورة أنه أُخرج على الدعاء فقال الله - عز وجل -: **" هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ".** وقوله: { ٱهْدِنَا }. قال ابنُ عباس - رضي الله عنهما -: أرْشِدْنا. والإرشاد، والهداية واحد، بل الهدايةُ في حق التوفيق أقربُ إلى فهم الخلق من الإرشاد بما هي أعم في تعارفهم. ثم القول بالهداية يُخرَّج على وجوهٍ ثلاثة: أحدها: البيانُ. ومعلومٌ أن البيانَ قد تقدم من الله لا أحد يريد به ذلك لمضى ما به البيان من كتابٍ وسنةٍ، وإلى هذا تذهب المعتزلة. والثاني: التوفيقُ له، والعصمةُ عن زيغة. وذلك معنى قوله: " اللهمَّ اهْدِنَا فيمَنْ هَدَيْتَ " ، وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ \* صِرَاطَ ٱلَّذِينَ } وصَفَهم إلى آخر السورة، ولو كان على البيان على ما قالت المعتزلة فهو والمغضوب عليهم في ذلك سواء، فثبت أَنه على ما قلنا دون ما ذهبوا إليه. والثالث: أَن يكون على طلب خلق الهداية لنا؛ إذ نسب إليه من جهة الفعل، وكل ما يفعله خلق؛ كأَنه قال: اخلُق لنا هدايتنا، وهو الاهتداءُ منا. وبالله التوفيق. ثم تأويل طلب الهداية، ممن قد هداه الله يتوجه وجهين: أحدهما: طلب الثبات على ما هداه الله، وعلى هذا معنى زيادات الإيمان، أنها بمعنى الثبات عليه، وذلك كرجلين ينظران إلى شيء فيرفع أَحدهما بصره عنه، جائز القول بازدياد نظر الآخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ووجه آخر: على أن في كل حال يخاف على المرءِ ضد الهدى، فيهديه مكانه أبداً فيكون له حكم الاهتداءِ؛ إذْ في كل وقت إيمانٌ منه دفع به ضده. وعلى ذلك قوله:**{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ... }** الآية [النساء: 136] ونحو ذلك من الآيات. وقد يحتمل أيضاً معنى الزيادةِ هذا النوعُ. وبالله التوفيق. وأما { ٱلصِّرَاطَ } فهو الطريق والسبيل في جميع التآويل وهو قوله:**{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي... }** الآية [الأنعام: 153]، وقوله:**{ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ }** [يوسف: 108]. ثم اختلفوا فيما يراد به: فقال بعضهم: هو القرآن. وقال بعضهم: هو الإيمان. وأيهما كان فهو القائم الذي لا عوج له، والقيِّم الذي لا اختلاف فيه، مَنْ لزِمهُ وصَلَ إلى ما ذكر. وبالله التوفيق. وقوله: { ٱلْمُسْتَقِيمَ }. قيل: هو القائم بمعنى الثابت بالبراهين والأَدلة، لا يُزيله شيء، ولا ينقضُ حُجَجه كيدُ الكائدين، ولا حيلُ المريبين. وقيل: { ٱلْمُسْتَقِيمَ } الذي يستقيم بمن تمسك به حتى يُنجيه، ويدخله الجنة. وقيل: { ٱلْمُسْتَقِيمَ } بمعنَى: يُستقامُ به؛ كقوله:**{ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً }** [النمل:86]، أي: يُبْصَرُ به. يدل عليه قوله:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ... }** الآية [فصلت: 30]، فالمستقيم هو المتبع له. وبالله التوفيق. ثم ذكر من ذكر من المُنعَم عليهم؛ ولله على كل مؤمن نعَمٌ بالهداية. وما ذكر دليل على أن " الصراط " هو الدين؛ لأَنه أنعم به على جميع المؤمنين. لكن تأْويل من يردُّ إلى الخُصوص يتوجه وجهين: أحدهما: أنه أَنعم عليهم بمعرفة الكتب والبراهين، فيكون على التأْويل الثاني من القرآن والأدلة. والثاني: أن يكون لهم خصوص في الدين قُدِّموا به على جميع المؤمنين؛ كقول داود، وسليمان:**{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [النمل: 15]، وعلى هذا الوجه يكون { ٱهْدِنَا }. ووجه آخر: وهو المخصوص الذي خص به كثيراً من المؤمنين من بين غيرهم، لكن الثُّنْيَا يدل على صرف الإرادة إلى جملة المؤمنين؛ إذ انصرف إلى غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وقولَهُ: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }. على قول المعتزلة: ليس لله على أحد من المؤمنين نعمة ليست على المغضوب عليهم ولا الضالين؛ إذ لا نعمة من الله على أحد إلا الأَصلح في الدين والبيان للسبيل المرضي، وتلك قد كانت على جميع الكفرة فيبطل على قولهم الثُّنْيَا. والله الموفق. ثم اختلف فى { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }. منهم من قال: هو واحد؛ إذ كل ضال قد استحق الغضب عليه، وكل مغضوب عليه استحق الوصف بالضلال. ومنهم من قال: { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } هم اليهود، وإنما خصوا بهذا: بما كان منهم من فضل تمرد وعُتُو لم يكن ذلك من النصارى نحو إنكارهم بعيسى، وقصدهم قتله مما لم يكن ذلك من النصارى. ثم قولهم في الله:**{ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ... }** الآية [المائدة: 64]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقولهم:**{ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ... }** الآية [آل عمران: 181]. وقول الله تعالى فيهم:**{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ... }** الآية [المائدة: 82]. وكفرِهم برسول الله صلى الله عليهم وسلم بعد استفتاحهم، وشدة تعنتهم، وظهور النفاق؛ فاستحقوا بذلك اسم الغضب عليهم، وإن كانوا شركاء غيرهم في اسم الضلال. وبالله التوفيق. وفي هذا وجه آخر: أَن يُحْمل الذنوب على وجهين: منها ما يوجب الغضب: وهو الكفر - ومنها ما يوجب اسم الضلال - وهو ما دونه - كقول موسى:**{ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ }** [الشعراء: 20]. ورؤية الهداية لأَهلها والتعوذ به من كل ضلال، ومن جميع ما يوجب مقته وغضبه - وبالله النجاة والخلاص - مع ما في خبر القسمة، وعد جليل من رب العالمين في إجابة العبد مما يرفع إليه من الحوائج، إذْ قال: **" قسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين "** ثم صَيَّر آخر السورة لعبده، وليس في صلاته سوى إظهار الفقر، ودفع الحاجة، وطلب المعونة، والاستهداء إلى ما ذكر مع التعوذ عما وصف، وليس ذلك مما يوصف به العبد أَنَّه له؛ فثبت أن له في ذلك إجابة ربه فيما أمره به، ووعد ذلك، وهو لا يخلف وعده. فأَنَّى يحتمل ذلك بعد أمره العبدَ بالذي تضمنه أول السورة، فقام به العبد مع لُؤمه وجفائه، والله بكرمه وجوده لا ينجز له ما وعد؟! لا يكون هذا أَلبتة، وقد قال:**{ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ }** [غافر: 60] وغير ذلك مما فيه الإنجاز، وأنه لا يخلف الميعاد. ثم قد جعلت - بما جاء من الحديث في تلاوتها - أن قدمها على التوراة، والإنجيل، وعدلها بثلثي القرآن، وجعلها شفاءً من أَنواع الأدواء للدين، والنفس، والدنيا، وجعلها معاذاً من كل ضلال، وملجأً إلى كل نعمة. وبالله نستعين. مع ما أَوضح - في الأَسماء التي لقب بها فاتحة القرآنَ - عظيمَ موقعه، وجليلَ قدره، وهو أن سمَّاه فاتحة القرآن بما به يفتح القرآن، وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يفتتح القراءَة به وسمى فاتحة الكتاب بما به يفتتح كتابة المصاحف والقرآن. وسمى أُم القرآن لما يؤم غيره في القراءَة. وقيل: الأُم بمعنى الأَصل، وهو ألا يحتمل شيء مما فيه النسخَ ولا الرفعَ فصار أصلاً. وسمى المثاني؛ لما يثنى في الركعات، ولا قوة إلا بالله. وفي قوله: { ٱهْدِنَا } إلى آخره وجهان سوى ما ذكرنا؛ إذ قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } دعاء كاف عما تضمن إلى آخر السورة؛ إذ ليس فيها غير تفسير هذه الجملة. أحدهما: تذكير نعم الله على الذين يقبلون دينه في قلوبهم، والتوفيق لهم بذلك، وأفضاله عليهم بما ليس لهم عليه. والثاني: تعوذهم عن زيغ ومقت، وضلال، وذنب، والتجاؤم إليه في ذلك بقوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ)
قوله: { ٱهْدِنَا } أي زدنا هداية وأدمنا عليها، والهداية تطلق على الدلالة والتبيين وإن لم يحصل وصول نحو**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ }** [فصلت: 17] أي بينا لهم، وتطلق عليهما مع الوصول للخير وهو المراد هنا، ومادة الهداية تتعدى لمفعولين: الأول بنفسها، والثاني إما كذلك كما هنا، وإما باللام أو إلى، قال تعالى:**{ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }** [الإسراء: 9]**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52]. قوله: { ٱلصِّرَاطَ } هو في الأصل الطريق الحسي، والمراد به هنا دين الإسلام، ففيه استعارة تصريحية أصلية، حيث شبه دين الإسلام بالطريق الحسي، بجامع أن كلاً موصل للمقصود، واستعير اسم المشبه به للمشبه، وأصل صراط بالصاد سراط بالسين، وبها قرأ قنبل حيث ورد: إبدلت صاداً لأجل حرف الاستعلاء، وقد تشم الصاد زاياً وبه قرأ خلف وكلها سبعي، لكن لم ترسم في المصحف إلا بالصاد و { ٱلصِّرَاطَ } يذكر ويؤنث، فالتذكير لغة تميم، والتأنيث لغة الحجاز، وجمعه صرط ككتاب وكتب. قوله: { ٱلْمُسْتَقِيمَ } اسم فاعل من استقام، أي استوى من غير اعوجاج، وأصله مستقوم أعل كإعلال { نَسْتَعِينُ }. قوله: (ويبدل منه) أي بدل كل من كل، أتى به زيادة في مدح الصراط. قوله: { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } الإنعام إيصال الإحسان إلى الغير، بشرط أن يكون ذلك الغير من العقلاء، فلا يقال: أنعم فلان على فرسه، ولا على حماره. قوله: (بالهداية) أشار بذلك إلى أن المراد بالمنعم عليها المؤمنون، وهو أحد أقوال للمفسرين، وقيل: هم المذكورون في قوله تعالى:**{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ }** [النساء: 69] وقيل: هم الأنبياء خاصة، وقيل: المراد بهم أصل فهدينا موسى وعيسى قبل التحريف والنسخ، وحذف متعلق { أَنْعَمْتَ } ليؤذن بالعموم، فيشمل كل نعمة، ونعم الله تعالى لا تحصى باعتبار أفرادها، قال تعالى:**{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }** [إبراهيم: 34] وأما باعتبار جملتها فتحصى لأنها قسمان: دنيوية وأخروية. والأول: إما وهبي أو كسبي، والوهبي: إما روحاني كنفخ الروح والتزيين بالعقل والفهم والفكر والنطق، أو جسماني كتخلق البدن والقوى الحالة فيه والصحة وكمال الأعضاء، والكسبي كتزكية النفس وتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والفضائل. والثاني: وهو الأخروي، أنه يغفر ما فرط منه، وينزله أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الأبدين ودهر الداهرين. قوله: { عَلَيْهِم } لفظ { عَلَيْهِم } الأول في محل نصب على المفعولية، والثاني في محل رفع نائب { ٱلْمَغْضُوبِ } وفيه عشر لغات، ست مرويات عن القراء الثلاثة، الأول منها سبعيات وهي: كسر الهاء وضمها مع إسكان الميم فيهما، وكسر الهاء وضم الميم بواو بعد الضمة، وكسر الهاء والميم بياء بعد الكسرة للإشباع، وضم الهاء الميم بواو بعد الضمة وبدونها، وأربع لم يقرأ بها وهي: ضم الهاء مع كسر الميم وأدخال ياء بعدها، وضم الهاء وكسر الميم من غير ياء، وكسر الهاء مع ضم الميم، وكسر الهاء والميم من غير ياء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | قوله: (ويبدل من الذين بصلته) أي بدل كل من كل، ولا يضر إبدال النكرة من المعرفة، وقيل: نعت لـ { ٱلَّذِينَ }. واستشكل بأنه يلزم نعت المعرفة بالنكرة وهو لا يصح، لأن { غَيْرِ } متوغلة في الإبهام، لا تتعرف بالإضافة كمثل وشبه وشبيه. وأجيب بجوابين، الأول: أن { غَيْرِ } إنما تكون نكرة إذا لم تقع بين ضدين، فأما إذا وقعت بين ضدين، فتتعرف حينئذ بالإضافة تقول: عليك بالحركة غير السكون، والآية من هذا القبيل والثاني: أن الموصول أشبه النكرات في الإبهام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات، و { غَيْرِ } من الألفاظ الملازمة للإضافة لفظاً أو تقديراً، فإدخال أل عليها خطأ، وقد يستثنى بها حملاً على إلا، كما يوصف بإلا حملاً عليها. قوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ } بكسر الراء بدل كما قال المفسر، أو نعت وتقدم ما فيه، وهذه قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بالنصب على الحال أو الاستثناء، والغضب ثوران دم القلب لإرادة الانتقام، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: **" اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم، ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه "** فإذ وصف به الله تعالى، فالمراد به الانتقام أو إرادة الانتقام، فهو صفة فعل أو صفة ذات، وبنى الغضب للمجهول، ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم، تعليماً لعباده الأدب، حيث أسند الخير لنفسه، وأبهم في الشر، نظير قوله تعالى:**{ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا }** [الكهف: 79]،**{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا }** [الكهف: 82]،**{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }** [الشعراء: 80]. قوله: (وهم اليهود) أي لقوله تعالى فيهم**{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }** [المائدة: 60] الآية، والحديث: **" إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين النصارى ".** قوله: (غير) { ٱلضَّآلِّينَ } أشار بذلك إلى أن { لاَ } بمعنى غير فهي صفة، ظهر إعرابها فيما بعدها، ويؤيدها قراءة عمر بن الخطاب وإبي بن كعب، و(غير) { ٱلضَّآلِّينَ } يدل { لاَ } وأتى بلا ثانياً، لتأكيد معنى النفي المفهوم من { غَيْرِ } ولئلا يتوهم عطف { ٱلضَّآلِّينَ } على { غَيْرِ } فيكون من وصف { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } والضلال يطلق على الخفاء والغيبة، ومنه قولهم: ضل الماء في اللبن، والهلاك ومنه قوله تعالى:**{ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ }** [السجدة: 10] والنسيان ومنه قوله تعالى:**{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ }** [البقرة: 282] والعدول عن الطريق المستقيم وهو المراد هنا، وفي { ٱلضَّآلِّينَ } مدان: مد لازم على الألف بعد الضاد وقبل اللام المشددة، وعارض على الياء قبل النون للوقف. قوله: (وهم النصارى) أي لقوله تعالى:**{ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }** [المائدة: 77]. قوله: (إفادة أن المهتدين) أي المذكورين بقوله: { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو مصدوق { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } و(غير) { ٱلضَّآلِّينَ } فمصدوق العبارات الثلاث هم المؤمنون، لكن استشكل بأن تفسير { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بالفرق الأربعة المذكورة في سورة النساء، لا يشتمل بقية المؤمنين، وتفسير { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } و { ٱلضَّآلِّينَ } باليهود والنصارى، لا يشتمل بقية طوائف الكفار، فمقتضى ذلك، أن بقية المؤمنين ليسوا ممن أنعم الله عليهم، وسائر طوائف الكفار خارجون من وصف الغضب والضلال، فالمبدل منه يخرجهم، والبدل يدخلهم في المبدل منه، والمخلص من هذا الإشكال، أن يفسر المنعم عليهم بجميع المؤمنين، كما درج عليه المفسر في قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } (الهداية) ويراد من { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } و { ٱلضَّآلِّينَ } عموم الكفار اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | إن قلت: ما فائدة الاتيان بـ { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } الخ، بعد قوله: { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أجيب: بأن الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف، فقوله: { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يوجب الرجاء الكامل، وقوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } الخ، يوجب الخوف الكامل، فيتقوى الإيمان بالرجاء والخوف. - فائدة - لفظ آمين ليس من الفاتحة، بل ولا من القرآن قطعاً؛ بل يسن الإتيان بها القارئ الفاتحة، مفوصلة منها بسكتة ليتميز ما هو قرآن، عما ليس بقرآن، ولكل داع، وهي اسم فعل على الصحيح بمعنى استجب، مبني على الفتح، ويجوز فيه مد الهمزة وقصرها، وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى، والتقدير: يا آمين. ورد بوجهين: الأول: أنه لو كان كذلك، لكان ينبغي أن يبنى على الضم، لأنه منادى مفرد معرفة. الثاني: أن أسماء الله تعالى توقيفية، وهو من خصوصيات هذه الأمة، لم يعط لأحد قبلهم، إلا ما كان من موسى وهارون، لما ورد في الحديث: **" إن الله أعطى أمتي ثلاثاً لم تعط أحداً قبلهم، السلام وهو تحية أهل الجنة، وصفوف الملائكة، وآمين، إلا ما كان من موسى وهارون "** ومعناه: أن موسى دعا على فرعون، وأمن هارون، فقال الله تعالى عندما ذكر دعاء موسى: قد أجيبت دعوتكما، ولم يذكر مقالة هارون فسماه داعياً. وقال علي رضي الله عنه: آمين خاتم رب العالمين، ختم بها دعاء عباده. وفي الخبر: **" أن آمين كالطابع الذي يطبع به على الكتاب ".** وفي حديث آخر: **" آمين درجة في الجنة ".** قال أبو بكر: إنه حرف يكتب به لقائله درجة في الجنة، وقال وهب بن منبه: آمين أربعة أحرف، يخلق الله من كل حرف ملكاً يقول: اللهم أغفر لكل من قال آمين. قوله: (والله أعلم بالصواب) الخ، هذه العبارة من وضع تلامذة المحلي، لما عرفت أنه قد شرع في تفسير النصف الأول فكمل الفاتحة، وارتحل إلى رضوان الله تعالى، فيبعد أن يأتي بعبارة تشعر الانتهاء، والصواب ضد الخطأ و(المرجع) الرجوع، و(المآب) مرادف، وقوله: (وحسبنا الله) أي كافينا، وقوله: (ونعم الوكيل)، أي المفوض إليه الأمر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
أي: ألهمنا الطريق الهادي، وأرشدنا إليه، ووفقنا له. قال الإمام الراغب في تفسيره: " الهداية دلالة بلطف. ومنه الهداية، وهوادي الوحش وهي متقدّماتها لكونها هادية لسائرها. وخص ما كان دلالة بفعلت نحو: هديته الطريق، وما كان من الإعطاء بأفعلت نحو: أهديت الهدية، ولما يصور العروس على وجهين: قيل فيه: هديت وأهديت. فإن قيل: كيف جعلت الهدى دلالة لطف وقد قال تعالى:**{ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ }** [الصافات: 23]. وقال تعالى:**{ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }** [الحج: 4]. قيل: إن ذلك حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال: | **وخيلٍ قد دَلفتُ لها بِخيلٍ** | | **تحيةُ بينهم ضَرْبٌ وَجيعُ** | | --- | --- | --- | والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولاً وفعلاً، وهي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول، ولا الثالث إلا بعد الثاني. فأول المنازل: إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيراً وإما طوعاً - كالمشاعر الخمسة والقوة الفكرية، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات، وبعض خصّ به الإنسان، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى:**{ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }** [طه: 50]. وقوله تعالى:**{ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ }** [الأعلى: 3]. وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى:**{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ }** [النحل: 68]. وقوله تعالى:**{ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا }** [الزلزلة: 5]. وقال في الإنسان بما أعطاه من العقل، وعرفه من الرشد:**{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ }** [الإِنْسَاْن: 3]. وقال:**{ وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ }** [البلد: 10]. وقال في ثمود:**{ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت: 17]. وثانيهما: الهداية بالدعاء وبعثه الأنبياء عليهم السلام. وإياها عني بقوله تعالى:**{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }** [السجدة: 24]. وبقوله:**{ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }** [الرعد: 7] وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله عز وجل، وتارة إلى النبي عليه السلام، وتارة إلى القرآن. قال الله تعالى:**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }** [الإسراء: 9]. وثالثها هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل:**{ وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ }** [الحج: 24]. وقوله:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ }** [الأنعام: 90]. وقوله:**{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }** [العنكبوت: 69]. وهذه الهداية هي المعنية بقوله:**{ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ }** [الحديد: 28]. ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل فيقال: هو آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها. ويصح أن يقال: اكتسبوها من حيث إنهم توصلوا إليها باجتهادهم. فمن قصد سلطاناً مسترفداً فأعطاه، يصح أن يقال: إن السلطان خوّله. ويصح أن يقال: فلان اكتسب بسعيه، ولانطواء ذلك على الأمرين، قال تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ }** [محمد: 17]. وقال:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ }** [يونس: 9]. فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذه الهداية يصح أن يقال: هي مباحة للعقلاء كلهم، ويصح أن يقال: هي محظورة إلا على أوليائه، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها. ومن ذلك قيل: إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص، بتقديم عبادات. وقد قال بعض المحققين: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا البصير، ولا يعمل به إلا اليسير. ألا ترى أن نجوم السماء ما أكثرها ولا يهتدى بها إلا العلماء. وقال بعض الأولياء: إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيلٍ مرَّ على قِلات وغدران، فيتناول كل قَلْت منها بقدر سعته - ثم تلا قوله -:**{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }** [الرعد: 17] وقال بعضهم: هي كمطرٍ أتى على أرضين فينفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به. والمنزلة الرابعة: من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد، وإياها عنى الله بقوله:**{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَٰرُ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا }** [الأعراف: 43]. فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفي عن أحد بوجه. ومنها ما ينفى عن بعض وثبت لبعض، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:**{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }** [القصص: 56]. وقال:**{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ }** [البقرة: 272]. وقال:**{ وَمَآ أَنتَ بِهَادِ ٱلْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ }** [الروم: 53]. فإنه عنى الهداية - التي هي التوفيق وإدخال الجنة - دون التي هي الدعاء لقوله تعالى:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52]. وقال في الأنبياء:**{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }** [الأنبياء: 73]. فقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فسّر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة: الأول: أنه عني الهداية العامة، وأمر أن ندعو بذلك - وإن كان هو قد فعله لا محالة - ليزيدنا ثوابا بالدعاء، كما أمرنا أن نقول: اللهم صلِّ على محمد. الثاني: قيل: وفقنا لطريق الشرع. الثالث: احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات، واعصمنا من الشبهات. الرابع: زدنا هدى استنجاحاً لما وعدت بقولك:**{ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }** [التغابن: 11]. وقولك:**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى }** [محمد: 17]. الخامس: قيل: علمنا العلم الحقيقي فذلك سبب الخلاص، وهو المعبر عنه بالنور في قوله:**{ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ }** [النور: 35]. السادس: قيل: هو سؤال الجنة، لقوله تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ \* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ }** [محمد: 4-5]. وقال:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ }** [يونس: 9]. فهذه الأقاويل اختلفت باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها، والجميع يصح أن يكون مراداً بالآية - إذ لا تنافي بينها - وبالله التوفيق ". اهـ كلام الراغب. وبه يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم، وأن الوجوه المأثورة في آيةٍ ما - إذا لم تتناف - صح إرادتها كلها؛ ومثل هذا يسمى: اختلاف تنوع لا اختلاف تضادّ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | كما أشار لذلك شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مبحث له مهم، نأثره عنه هنا، لما فيه من الفوائد الجليلة. قال رحمه الله: ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين: أحدهما ليس فيه تضاد وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقا، وإنما هو اختلاف تنوّع أو اختلاف في الصفات أو العبارات. وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب. فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسماً مثل قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فكل المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة تدل بها على بعض صفاته، وكل ذلك حق بمنزلة ما يُسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته. فيقول بعضهم: الصراط المستقيم كتاب الله أو اتباع كتاب الله. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو السُّنة والجماعة. ويقول الآخر: الصراط المستقيم طريق العبودية، أو طريق الخوف والرضا والحب، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسُّنة، أو العمل بطاعة الله، أو نحو هذه الأسماء والعبارات. ومعلوم أن المسمى هو واحد، وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته؛ وكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه. ومنه قسم آخر وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التمثيل لا على سبيل الحدّ والحصر - مثل أن يقول قائل من العجم: ما معنى الخبز؟ فيشار له إلى رغيف - وليس المقصود مجرد عينه، وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص تمثيلاً. وهذا كما إذا سئلوا عن قوله:**{ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ }** [فاطر: 32]. أو عن قوله:**{ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }** [النحل: 128]. أو عن الصالحين أو الظالمين، ونحو ذلك من الأسماء العامة الجامعة التي قد يتعسّر أو يتعذّر على المستمع أو المتكلم ضبط مجموع معناه، إذ لا يكون محتاجاً إلى ذلك فيذكر له من أنواعه وأشخاصه ما يحصل به غرضه، وقد يستدل به على نظائره: فإن الظالم لنفسه هو تارك المأمور فاعل المحظور. والمتقصد هو فاعل الواجب وتارك المحرّم. والسابق هو فاعل الواجب والمستحب وتارك المحرم والمكروه. فيقول المجيب بحسب حاجة السائل: الظالم الذي يُفوت الصلاة، أو الذي لا يسبغ الوضوء، أو الذي لا يتم الأركان ونحو ذلك. والمقتصد الذي يصلي في الوقت - كما أمر - والسابق بالخيرات الذي يصلي الصلاة بواجباتها ومستحباتها ويأتي بالنوافل المستحبة معها. وكذلك يقول مثل هذا في الزكاة والصوم والحج وسائر الواجبات. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فمن ادعى علمه فهو كاذب، والصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه كما أخذوا عنه السُّنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن كان من الناس من غيّر السُّنة، فمن الناس من غير بعض معاني القرآن - إذ لم يتمكن من تغيير لفظه. وأيضاً فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن، كما خفى عليه بعض السنة، فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب، والله أعلم. وتقدم في مقدمة الكتاب بسط لهذا البحث فارجع إليه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً في تحقيق هذه الآية: كل عبدٍ مضطر دائماً إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم. فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلا به، فمن فاته هذا الهدى فهو: إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين؛ وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدي الله**{ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً }** [الكهف: 17]. فإن الصراط المستقيم: أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه. وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن تعلم: ما أمر به في ذلك الوقت، وما نهى عنه؛ وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور؛ وكراهة لترك المحظور. والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن والإسلام وطرق العبودية، وكل هذا حق، فهو موصوف بهذا وبغيره، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته؛ بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه، وإن انقطع رزقه مات - والموت لا بد منه - فإن كان من أهل الهداية، كان سعيداً بعد الموت، وكان الموت موصلاً له إلى السعادة الدائمة الأبدية، فكيون رحمة في حقه. وكذلك النصر - إذا قدّر أنه قُهر وغُلب حتى قُتل - فإذا كان من أهل الهداية إلى الاستقامة مات شهيداً، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه. فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر، بل لا نسبة بينهما، فلهذا كان هذا الدعاء مفروضاً عليهم في الصلوات - فرضِها ونفلِها - وأيضاً فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين**{ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً \* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }** [الطلاق: 2-3] وكان من المتوكلين**{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ }** [الطلاق: 3]، وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن ينصر الله ينصره وكان من جند الله، وجند الله هم الغالبون. فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر. فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب تحصل به كل منفعة، وتندفع به كل مضرة. فائدة الصراط المستقيم أصله الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ويستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة. فالطرق الواضح للحسّ، كالحق للعقل، في أنه: إذا سير بهما أبلغا السالك النهاية الحسنى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
* تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ)
{ ٱهْدِنَا } أي أرشدنا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }: لك اللهم نـخشع، ونذلّ، ونستكين، إقراراً لك يا ربنا بـالربوبـية لا لغيرك. كما: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عبـاس، قال: قال جبريـل لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد: إياك نعبد، إياك نوحد ونـخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك. وذلك من قول ابن عبـاس بـمعنى ما قلنا، وإنـما اخترنا البـيان عن تأويـله بأنه بـمعنى نـخشع، ونذل، ونستكين، دون البـيان عنه بأنه بـمعنى نرجو ونـخاف، وإن كان الرجاء والـخوف لا يكونان إلا مع ذلة لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ الـمُذَلَّل الذي قد وطئته الأقدام وذللته السابلة: مُعَبَّداً. ومن ذلك قول طَرَفة بن العبد: | **تُبـارِي عِتَاقاً ناجياتٍ وأتْبَعَتْ** | | **وَظِيفـاً وَظِيفـاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ** | | --- | --- | --- | يعنـي بـالـمَوْر: الطريق، وبـالـمعبَّد: الـمذلّل الـموطوء. ومن ذلك قـيـل للبعير الـمذلل بـالركوب فـي الـحوائج: مُعَبَّد، ومنه سمي العبد عبدا لذلّته لـمولاه. والشواهد من أشعار العرب وكلامها علـى ذلك أكثر من أن تـحصى، وفـيـما ذكرناه كفـاية لـمن وفق لفهمه إن شاء الله تعالـى. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. قال أبو جعفر: ومعنى قوله: { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وإيَّاك ربنا نستعين علـى عبـادتنا إياك وطاعتنا لك وفـي أمورنا كلها لا أحداً سواك، إذ كان من يكفر بك يستعين فـي أموره معبوده الذي يعبده من الأوثان دونك، ونـحن بك نستعين فـي جميع أمورنا مخـلصين لك العبـادة. كالذي: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنـي بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عبـاس: { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال: إياك: نستعين علـى طاعتك وعلـى أمورنا كلها. فإن قال قائل: وما معنى أمر الله عبـاده بأن يسألوه الـمعونة علـى طاعته؟ أوَ جائز وقد أمرهم بطاعته أن لا يعينهم علـيها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين علـى طاعتك، إلا وهو علـى قوله ذلك معان، وذلك هو الطاعة، فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه؟ قـيـل: إن تأويـل ذلك علـى غير الوجه الذي ذهبت إلـيه وإنـما الداعي ربه من الـمؤمنـين أن يعينه علـى طاعته إياه، داعٍ أن يعينه فـيـما بقـي من عمره علـى ما كلفه من طاعته، دون ما قد تَقَضَّى ومضى من أعماله الصالـحة فـيـما خلا من عمره. وجازت مسألة العبد ربَّه ذلك لأن إعطاء الله عبده ذلك مع تـمكينه جوارحه لأداء ما كلفه من طاعته وافترض علـيه من فرائضه، فضل منه جل ثناؤه تفضَّل به علـيه، ولطف منه لطف له فـيه ولـيس فـي تركه التفضل علـى بعض عبـيده بـالتوفـيق مع اشتغال عبده بـمعصيته وانصرافه عن مـحبته، ولا فـي بسطه فضله علـى بعضهم مع إجهاد العبد نفسه فـي مـحبته ومسارعته إلـى طاعته، فساد فـي تدبـير ولا جور فـي حكم، فـيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم الله، وأمره عبده بـمسألته عونه علـى طاعته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وفـي أمر الله جل ثناؤه عبـاده أن يقولوا: { إيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بـمعنى مسألتهم إياه الـمعونة علـى العبـادة أدل الدلـيـل علـى فساد قول القائلـين بـالتفويض من أهل القدر، الذين أحلوا أن يأمر الله أحداً من عبـيده بأمر أو يكلفه فرض عمل إلا بعد إعطائه الـمعونة علـى فعله وعلـى تركه. ولو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا لبطلت الرغبة إلـى الله فـي الـمعونة علـى طاعته، إذ كان علـى قولهم مع وجود الأمر والنهي والتكلـيف حقاً واجبـاً علـى الله للعبد إعطاؤه الـمعونة علـيه، سأله عبده ذلك أو ترك مسألة ذلك بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور. ولو كان الأمر فـي ذلك علـى ما قالوا، لكن القائل: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إنـما يسأل ربه أن لا يجور. وفـي إجماع أهل الإسلام جميعاً علـى تصويب قول القائل: اللهم إنا نستعينك وتـخطئتهم قول القائل: اللهم لا تـجر علـينا، دلـيـل واضح علـى خطأ ما قال الذين وصفت قولهم، إذْ كان تأويـل قول القائل عندهم: اللهم إنا نستعينك، اللهم لا تترك معونتنا التـي تَرْكُهَا جور منك. فإن قال قائل: وكيف قـيـل: { إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فقدم الـخبر عن العبـادة، وأخرت مسألة الـمعونة علـيها بعدها؟ وإنـما تكون العبـادة بـالـمعونة، فمسألة الـمعونة كانت أحق بـالتقديـم قبل الـمعان علـيه من العمل والعبـادة بها. قـيـل: لـما كان معلوماً أن العبـادة لا سبـيـل للعبد إلـيها إلا بـمعونة من الله جل ثناؤه، وكان مـحالاً أن يكون العبد عابداً إلا وهو علـى العبـادة معانٌ، وأن يكون معاناً علـيها إلا وهو لها فـاعل كان سواء تقديـم ما قدم منهما علـى صاحبه، كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجتك فأحسن إلـيك فـي قضائها: قضيت حاجتـي فأحسنت إلـيَّ، فقدمت ذكر قضائه حاجتك. أو قلت: أحسنت إلـيّ فقضيت حاجتـي، فقدمت ذكر الإحسان علـى ذكر قضاء الـحاجة لأنه لا يكون قاضياً حاجتك إلا وهو إلـيك مـحسن، ولا مـحسناً إلـيك إلا وهو لـحاجتك قاض. فكذلك سواء قول القائل: اللهم إنا إياك نعبد فأعنّا علـى عبـادتك، وقوله: اللهم أعنا علـى عبـادتك فإنا إياك نعبد. قال أبو جعفر: وقد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من الـمقدَّم الذي معناه التأخير، كما قال امرؤ القـيس: | **ولَوْ أَنَّ ما أسْعَى لأدنَى مَعِيشَةٍ** | | **كَفـانِـي ولَـمْ أَطْلُبْ قَلِـيـلٌ مِنَ الـمَالِ** | | --- | --- | --- | يريد بذلك: كفـانـي قلـيـل من الـمال ولـم أطلب كثـيراً. وذلك من معنى التقديـم والتأخير، ومن مشابهة بـيت امرىء القـيس بـمعزلٍ من أجل أنه قد يكفـيه القلـيـل من الـمال ويطلب الكثـير، فلـيس وجود ما يكفـيه منه بـموجب له ترك طلب الكثـير. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فـيكون نظير العبـادة التـي بوجودها وجود الـمعونة علـيها، وبوجود الـمعونة علـيها وجودها، ويكون ذكر أحدهما دالاًّ علـى الآخر، فـيعتدل فـي صحة الكلام تقديـم ما قدم منهما قبل صاحبه أن يكون موضوعاً فـي درجته ومرتبـاً فـي مرتبته. فإن قال: فما وجه تكراره: { إِيَّاكَ } مع قوله: { نَسْتَعِينُ } وقد تقدم ذلك قبل نعبد؟ وهلا قـيـل: إياك نعبد ونستعين، إذْ كان الـمخبر عنه أنه الـمعبود هو الـمخبر عنه أنه الـمستعان؟ قـيـل له: إن الكاف التـي مع «إيّا»، هي الكاف التـي كانت تتصل بـالفعل، أعنـي بقوله: { نَعْبُدُ } لو كانت مؤخرة بعد الفعل. وهي كناية اسم الـمخاطب الـمنصوب بـالفعل، فكثُرِّتْ ب«إيَّا» متقدمة، إذ كانت الأسماء إذا انفردت بأنفسها لا تكون فـي كلام العرب علـى حرف واحد، فلـما كانت الكاف من «إياك» هي كناية اسم الـمخاطب التـي كانت تكون كافـا وحدها متصلة بـالفعل إذا كانت بعد الفعل، ثم كان حظها أن تعاد مع كل فعل اتصلت به، فـيقال: اللهم إنا نعبدك ونستعينك ونـحمدك ونشكرك وكان ذلك أفصح فـي كلام العرب من أن يقال: اللهم إنا نعبدك ونستعين ونـحمد كان كذلك إذا قدمت كناية اسم الـمخاطب قبل الفعل موصولة ب«إيَّا»، كان الأفصح إعادتها مع كل فعل. كما كان الفصيح من الكلام إعادتها مع كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلة به، وإن كان ترك إعادتها جائزاً. وقد ظن بعض من لـم يـمعن النظر أن إعادة «إياك» مع «نستعين» بعد تقدمها فـي قوله: { إياكَ نَعْبُدُ } بـمعنى قول عديّ بن زيد العبـادي: | **وجاعلُ الشَّمْس مِصْراً لا خَفَـاءَ بهِ** | | **بـينَ النَّهارِ وبـينَ اللَّـيْـل قَدْ فَصَلاَ** | | --- | --- | --- | وكقول أعشى همدان: | **بـينَ الأشَجِّ وبـينَ قَـيْسٍ بـاذِخٌ** | | **بَخْ بَخْ لوَالدِه وللـمَوْلُودِ** | | --- | --- | --- | وذلك جهل من قائله من أجل أن حظ «إياك» أن تكون مكرّرة مع كل فعل لـما وصفنا آنفـاً من العلة، ولـيس ذلك حكم «بـين» لأنها لا تكون إذا اقتضت اثنـين إلاّ تكريراً إذا أعيدت، إذ كانت لا تنفرد بـالواحد. وأنها لو أفردت بأحد الاسمين فـي حال اقتضائها اثنـين كان الكلام كالـمستـحيـل وذلك أن قائلاً لو قال: الشمس قد فصلت بـين النهار، لكان من الكلام خـلْفـاً لنقصان الكلام عما به الـحاجة إلـيه من تـمامه الذي يقتضيه «بـين». ولو قال القائل: «اللهم إياك نعبد» لكان ذلك كلاماً تاماً. فكان معلوماً بذلك أن حاجة كل كلـمة كانت نظيرة «إياك نعبد» إلـى «إياك» كحاجة «نعبد» إلـيها، وأن الصواب أن تكرّر معها «إياك»، إذ كانت كل كلـمة منها جملة خبر مبتدأ، وبـينا حكم مخالفة ذلك حكم «بـين» فـيـما وفق بـينهما الذي وصفنا قوله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
«إيا» ضمير منفصل للمنصوب، واللواحق التي تلحقه من الكاف والهاء والياء في قولك إياك، وإياه، وإياي، لبيان الخطاب والغيبة والتكلم، ولا محل لها من الإعراب، كما لا محل للكاف في أرأيتك، وليست بأسماء مضمرة، وهو مذهب الأخفش وعليه المحققون، وأما ما حكاه الخليل عن بعض العرب «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب» فشيء شاذ لا يعوّل عليه، وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، كقوله تعالى**{ قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ }** الزمر 64،**{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِى رَبّا }** الأنعام 164. والمعنى نخصك بالعبادة، ونخصك بطلب المعونة. وقرىء " إياك " بتخفيف الياء، وأياك بفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء. قال طفيل الغنوي | **فهَيَّاكَ والأَمْرَ الَّذِي إنّ تَرَاحَبَتْ مَوَارِدُهُ ضاقَتْ عليْكَ مَصادِرُه** | | | | --- | --- | --- | والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل. ومنه ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج، ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى، لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع. فإن قلت لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت هذا يسمى الالتفات في علم البيان قد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله تعالى**{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }** يونس 22. وقوله تعالى**{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَـٰباً فَسُقْنَاهُ }** فاطر 9. وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات | **تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بالأَثْمَدِ ونَامَ الخَلِيُّ ولَم تَرْقُد ِ وبَاتَ وباتَتْ لَهُ لَيْلةٌ كلَيْلَةِ ذِي العائرِ الأرْمَدِ وذٰلِكَ مِنْ نَبَإ جَاءَني وخبِّرْتُهُ عنْ أَبي الأَسوَدِ** | | | | --- | --- | --- | وذلك على عادة افتتانهم في الكلام وتصرفهم فيه، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد. ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، فقيل إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك ولا نستعينه، ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به. فإن قلت لم قرنت الاستعانة بالعبادة؟ قلت ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته. فإن قلت فلم قدّمت العبادة على الاستعانة؟ قلت لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها. فإن قلت لم أطلقت الاستعانة؟ قلت ليتناول كل مستعان فيه، والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله { ٱهْدِنَا } بياناً للمطلوب من المعونة، كأنه قيل كيف أعينكم؟ فقالوا اهدنا الصراط المستقيم، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض. وقرأ ابن حبيش " نستعين " ، بكسر النون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
اللغة: العبادة في اللغة هي الذلة يقال: طريق معبّد أي: مذلل بكثرة الوطء قال طرفة: | **تُبَارِي عِتَاقاً ناجِياتٍ وَأَتْبعَت** | | **وَظِيِفاً وظيِفاً فَوْقَ مَورٍ مُعبَّد** | | --- | --- | --- | وبعير معبّد: إِذا كان مطلياً بالقطران وسمي العبد عبداً لذلته وانقياده لمولاه والاستعانة طلب المعونة يقال: استعنته واستعنت به. الإعراب: قال أبو إِسحاق إِبراهيم بن السري الزجاج: موضع إِياك نصب بوقوع الفعل عليه وموضع الكاف في إِياك خفض بإِضافة إِيا إِليها اسم للضمير المنصوب إِلا أنه ظاهر يضاف إِلى سائر المضمرات نحو قولك: إِيّاك ضربت وإِيّاه ضربت وإِيّاي حدثت. ولو قلت: أيّا زيد حدثت كان قبيحاً لأنه خص به المضمر. وقد روى الخليل عن العرب: إِذا بلغ الرجل الستين فإِيّاه وإِيا الشوابّ وهذا كلام الزجاج ورد عليه الشيخ أبو علي الفارسي فقال: إن إيّا ليس بظاهر بل هو مضمر يدل على ذلك تغير ذاته وامتناع ثباته في حال الرفع والجر وليس كذلك الاسم الظاهر ألا ترى أنه يعتقب عليه الحركات في آخره ويحكم له بها في موضعه من غير تغير نفسه فمخالفته للمظهر فيما وصفناه يدل على أنه مضمر ليس بمظهر. قال: وحكى السراج عن المبرد عن أبي الحسن الأخفش أنه اسم مفرد مضمر يتغير آخره كما تتغير أواخر المضمرات لاختلاف أعداد المضمرين والكاف في إياك كالتي في ذلك وهي دالة على الخطاب فقط مجردة عن كونها علامة للمضمر فلا محل لها من الإعراب. وأقول: وهكذا الحكم في إِياي وإِيانا وإِياها في أنها حروف تلحق إيّا فالياء في إِياي دليل على التكلم والهاء في إِياه تدل على الغيبة لا على نفس الغائب ويجري التأكيد على إِيا منصوباً تقول: إِياك نفسك رأيت وإِياه نفسه ضربت وإِياهم كلهم عنيت فاعرفه ولا يجيز أبو الحسن إِياك وايّا زيد ويستقل روايتهم عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإِياه وإيّا الشواب ويحمله على الشذوذ لأن الغرض في الإِضافة التخصيص والمضمر على نهاية التخصيص فلا وجه لإضافته والأصل في نستعين: نستعوِن لأنه من المعونة والعون لكن الواو قلبت ياء لثقل الكسرة عليها فنقلت كسرتها إلى العين قبلها فتصير الياء ساكنة لأن هذا من الإعلال الذي يتبع بعضه بعضاً نحو أعان يعين وقام يقوم وفي شرحه كلام وربما يأتي مشروحاً فيما بعد إن شاء الله وقولـه نعبد ونستعين مرفوع لوقوعه موقعاً يصلح للاسم ألا ترى أنك لو قلت أنا عابدك وأنا مستعينك لقام مقامه وهذا المعنى عمل فيه الرفع وأما الإعراب في الفعل المضارع فلمضارعته الاسم لأن الأصل في الفعل البناء وإِنما يعرب منه ما شابه الأسماء وهو ما لحقت أوله زيادة من هذه الزيادات الأربع التي هي: الهمزة والنون والتاء والياء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | المعنى: قولـه تعالى: { إِياك نعبد وإِياك نستعين } أدل على الاختصاص من أن نقول نعبدك ونستعينك لأن معناه نعبدك ولا نعبد سواك ونستعينك ولا نستعين غيرك كما إذا قال الرجل إِياك أعني فمعناه لا أعني غيرك ويكون أبلغ من أن يقول أعنيك والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه لأنها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع مع التعظيم بأعلى مراتب التعظيم ولا يستحق إلا بأصول النعم التي هي خلق الحياة والقدرة والشهوة ولا يقدر عليه غير الله تعالى فلذلك اختص سبحانه بأن يعبد ولا يستحق بعضنا على بعض العبادة كما يستحق بعضنا على بعض الشكر وتحسن الطاعة لغير الله تعالى ولا تحسن العبادة لغيره وقول من قال: إن العبادة هي الطاعة للمعبود يفسد بأن الطاعة موافقة الأمر وقد يكون موافقاً لأمره ولا يكون عابداً له ألا ترى أن الإبن يوافق أمر الأب ولا يكون عابداً له وكذلك العبد يطيع مولاه ولا يكون عابداً له بطاعته إِياه والكفار يعبدون الأصنام ولا يكونون مطيعين لهم إِذ لا يتصور من جهتهم الأمر ومعنى قولـه إِياك نستعين إِياك نستوفق ونطلب المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلها والتوفيق هو أن يجمع بين جميع الأسباب التي يحتاج إِليها في حصول الفعل ولهذا لا يقال فيمن أعان غيره وفّقه لأنه لا يقدر أن يجمع بين جميع الأسباب التى يحتاج إليها في حصول الفعل وأما تكرار قولـه إِياك فلأنه لو اقتصر على واحد ربما توهم متوهم أنه لا يتقرب إِلى الله تعالى إِلا بالجمع بينهما ولا يمكنه أن يفصل بينهما وهو إِذا تفكر في عظمة الله تعالى كان عبادة وإن لم يستعن به وقيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال الدار بين زيد وبين عمرو ولو اقتصر على واحد فقيل بين زيد وعمرو كان جائزاً قال عدي بن زيد: | **وجَاعِلُ الشَّمْسَ مِصْراً لاَ خَفَاءَ بِهِ** | | **بَيْنَ النَّهارِ وبَينَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلا** | | --- | --- | --- | وقال أعشى همدان: | **بَينَ الأَشَجِّ وبَينَ قَيْسٍ باذِخٌ** | | **بَخ بَخْ لِوَالدِه وَلِلْمَوْلودِ** | | --- | --- | --- | وهذا القول فيه نظر لأن التكرير إنما يكون تأكيداً إِذا لم يكن محمولاً على فعل ثان. وإِياك الثاني في الآية محمول على نستعين ومفعول له فكيف يكون تأكيداً وقيل أيضاً إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة فإِن قيل: إن عبادة الله تعالى لا تتأتى بغير إعانة منه فكان يجب أن يقدم الإستعانة على العبادة فالجواب: أنه قدم العبادة على الاستعانة لا على الإعانة وقد تأتي بغير استعانة وأيضاً فإِن أحدهما إِذا كان مرتبطاً بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال: قضيت حقي فأحسنت إِلي وأحسنت إِلي فقضيت حقي وقيل إن السؤال للمعونة إِنما يقع على عبادة مستأنفة لا على عبادة واقعة منهم وإِنما حسن طلب المعونة وإِن كان لا بد منها مع التكليف على وجه الانقطاع إليه تعالى كقولـه | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ }** [الأنبياء: 112] ولأنه ربما لا يكون اللطف في إِدامة التكليف ولا في فعل المعونة به إِلا بعد تقديم الدعاء من العبد وقد أخطأ من استدل بهذه الآية على أن القدرة مع الفعل من حيث إن القدرة لو كانت متقدمة لما كان لطلب المعونة وجه لأن للرغبة إِلى الله تعالى في طلب المعونة وجهين: أحدهما: أن يسأل الله تعالى من ألطافه وما يقوي دواعيه ويسهل الفعل عليه ما ليس بحاصل ومتى لطف له بأن يعلمه أن له في فعله الثواب العظيم زاد ذلك في نشاطه ورغبته. والثاني: أن يطلب بقاء كونه قادراً على طاعته المستقبلة بأن تجدد له القدرة حالا بعد حال عند من لا يقول ببقائها وأن لا يقول ببقائها وأن لا يفعل ما يضادها وينفيها عند من قال ببقائها. وأما العدول عن الخبر إلى الخطاب في قولـه إِياك نعبد إِلى آخر السورة فعلى عادة العرب المشهورة وأشعارهم من ذلك مملوءة قال لبيد: | **بَاتَتْ تَشكَّى إِليَّ النَّفْسَ مُجْهِشَةً** | | **وقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعاً بَعْدَ سَبْعِينا** | | --- | --- | --- | وقال أبو كثير الهذلي: | **يَا لَهْفَ نَفْسِي كانَ جِدَّةُ خالِدِ** | | **وبَياضُ وَجْهِكَ لِتُّرَابِ الأعْفَرِ** | | --- | --- | --- | فرجع من الإخبار عن النفس إلى مخاطبتها في البيت الأول ومن الإخبار عن خالد إلى خطابه في البيت الثاني. وقال الكسائي: تقديره قولوا إِياك نعبد أو قل يا محمد هذا كما قال الله تعالى:**{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا }** [السجدة: 12] أي يقولون ربنا أبصرنا وقال:**{ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ }** [الرعد: 23] أي: يقولون سلام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
وأما قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على سبيل التعظيم للآمر فما لم يثبت بالدليل أن لهذا العالم إلهاً واحداً. قادراً على مقدورات لا نهاية لها، عالماً بمعلومات لا نهاية لها، غنياً عن كل الحاجات، فإنه أمر عباده ببعض الأشياء، ونهاهم عن بعضها، وأنه يجب على الخلائق طاعته والانقياد لتكاليفه ـ فإنه لا يمكن القيام بلوازم قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ثم إن بعد الفراغ من المقام المذكور لا بدّ من تفصيل أقسام تلك التكاليف، وبيان أنواع تلك الأوامر والنواهي، وجميع ما صنف في الدين من «كتب الفقه» يدخل فيه تكاليف الله، ثم كما يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب هذه الشريعة فكذلك يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب الشرائع التي قد كان أنزلها الله تعالى على الأنبياء المتقدمين، وأيضاً يدخل فيه الشرائع التي كلف الله بها ملائكته في السموات منذ خلق الملائكة وأمرهم بالاشتغال بالعبادات والطاعات، وأيضاً «فكتب الفقه» مشتملة على شرح التكاليف المتوجهة في أعمال الجوارح، أما أقسام التكاليف الموجودة في أعمال القلوب فهي أكبر وأعظم وأجل، وهي التي تشتمل عليها «كتب الأخلاق»، و «كتب السياسات»، بحسب الملل المختلفة والأمم المتباينة، وإذا اعتبر الإنسان مجموع هذه المباحث وعلم أنها بأسرها داخلة تحت قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } علم حينئذٍ أن المسائل التي اشتملت هذه الآية عليها كالبحر المحيط الذي لا تصل العقول والأفكار إلا إلى القليل منها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة، ليكون أدل على الاختصاص، وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود، فكأن المعلوم صار عياناً والمعقول مشاهداً والغيبة حضوراً، بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عياناً ويناجيه شفاهاً. اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطاً للسامع، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس، كقوله تعالى:**{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }** [يونس: 22] وقوله:**{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَـٰباً فَسُقْنَاهُ }** [فاطر: 9] وقول امرىء القيس: | **تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثمدِ** | | **ونامَ الخليُّ ولم تَرْقُدِ** | | --- | --- | --- | | **وباتَ وباتَتْ له ليلة** | | **كَلَيْلَةِ ذي العائرِ الأرْمَدِ** | | **وَذَلِكَ منْ نَبَأ جاءني** | | | | **وَخبرْتهُ عَن أَبي الأَسْودِ** | | | وإيا ضمير منصوب من فصل، وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب، كالتاء في أنتَ والكاف في أرأيتك. وقال الخليل: إيا مضاف إليها، واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، وهو شاذ لا يعتمد عليه. وقيل: هي الضمائر، وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به، وقيل: الضمير هو المجموع. وقرىء { إِيَّاكَ } بفتح الهمزة و «هياك» بقلبها هاء. والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبَّد أي مذلل، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة، ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى. والاستعانة: طلب المعونة وهي: إما ضرورية، أو غير ضرورية والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل. وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه، وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات، والضمير المستكن في الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة، وحاضري صلاة الجماعة. أو له ولسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما (معناه نعبدك ولا نعبد غيرك) وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة سنية بينه وبين الحق، فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها ملاحظة له ومنتسبة إليه، ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا }** [التوبة: 40] على ما حكاه عن كليمه حين قال:**{ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ }** [الشعراء: 62] وكرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير، وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي، ويعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأقول: لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدر عنه، فعقبه بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ليدل على أن العبادة أيضاً مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونة منه وتوفيق، وقيل: الواو للحال والمعنى نعبدك مستعينين بك. وقرىء بكسر النون فيهما وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من إياك، وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر، وهي قراءة شاذة مردودة لأن إيا ضوء الشمس، وقرأ بعضهم أياك، بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم هياك بالهاء بدل الهمزة كما قال الشاعر | **فَهَيَّاكَ والأَمْرَ الذي إن تَراحَبَتْ موارِدُهُ ضاقَتْ عليكَ مَصادِرُهْ** | | | | --- | --- | --- | ونستعين بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع، سوى يحيى بن وثاب والأعمش فإنهما كسراها، وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم، والعبادة في اللغة من الذلة، يقال طريق معبد، وبعير معبد، أي مذلل. وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف. وقدم المفعول، وهو إياك، وكرر للاهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، وهذا كما قال بعض السلف الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل، وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى**{ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }** هود 123،**{ قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا }** الملك 29،**{ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً }** المزمل 9 وكذلك هذه الآية الكريمة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، وهو مناسب لأنه لما أثنى على الله، فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى، فلهذا قال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك، ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك، وهو قادر عليه كما جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "** وفي صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم **" يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال الله حمدني عبدي، وإذا قال { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيم } قال الله أثنى علي عبدي، فإذا قال { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قال الله مجدني عبدي، وإذا قال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل "** وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } يعني إياك نوحد ونخاف ونرجوك يا ربنا لا غيرك { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } على طاعتك، وعلى أمورنا كلها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وقال قتادة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يأمركم أن تخلصوا له العبادة، وأن تستعينوه على أموركم. وإنما قدم { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } على { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم. والله أعلم. فإن قيل فما معنى النون في قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فإن كانت للجمع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟ وقد أجيب بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد، والمصلي فرد منهم، ولا سيما إن كان في جماعة، أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها، وتوسط لهم بخير، ومنهم من قال يجوز أن تكون للتعظيم كأن العبد قيل له إذا كنت داخل العبادة، فأنت شريف، وجاهك عريض، فقل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وإن كنت خارج العبادة، فلا تقل نحن، ولا فعلنا، ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لاحتياج الجميع إلى الله عز وجل، وفقرهم إليه. ومنهم من قال إياك نعبد ألطف في التواضع من إياك عبدنا لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعله نفسه وحده أهلاً لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى كما قال بعضهم | **لا تَدْعُنِي إِلاَّ بيا عَبْدَها فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمائِي** | | | | --- | --- | --- | وقد سمى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعبده في أشرف مقاماته فقال**{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ }** الكهف 1**{ وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ }** الجن 19،**{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً }** الإسراء 1 فسماه عبداً عند إنزاله عليه، وعند قيامه في الدعوة وإسرائه به، وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين حيث يقول**{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ }** الحجر 97 - 99 وقد حكى الرازي في تفسيره عن بعضهم أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق، والرسالة من الحق إلى الخلق، قال ولأن الله يتولى مصالح عبده، والرسول يتولى مصالح أمته، وهذا القول خطأ، والتوجيه أيضاً ضعيف لا حاصل له، ولم يتعرض له الرازي بتضعيف ولا رد. وقال بعض الصوفية العبادة إما لتحصيل ثواب، أو درء عقاب، قالوا وهذا ليس بطائل، إذ مقصوده تحصيل مقصوده، وإما للتشريف بتكاليف الله تعالى، وهذا أيضاً عندهم ضعيف، بل العالي أن يعبد الله لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال، قالوا ولهذا يقول المصلي أصلي لله، ولو كان لتحصيل الثواب ودرء العقاب لبطلت الصلاة. وقد رد ذلك عليهم آخرون، وقالوا كون العبادة لله عز وجل لا ينافي أن يطلب معها ثواباً، ولا أن يدفع عذاباً كما قال ذلك الأعرابي أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، إنما أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم **" حولها ندندن ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أي نخصك بالعبادة من توحيد وغيرهونطلب المعونة على العبادة وغيرها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
قوله عز وجل: { إِيَاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قوله: { إِيَّاكَ } هو كناية عن اسم الله تعالى، وفيه قولان: أحدهما: أن اسم الله تعالى مضاف إلى الكاف، وهذا قول الخليل. والثاني: أنها كلمة واحدة كُنِّيَ بها عن اسم الله تعالى، وليس فيها إضافة لأن المضمر لا يضاف، وهذا قول الأخفش. وقوله: { نَعْبُدُ } فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن العبادة الخضوع، ولا يستحقها إلا الله تعالى، لأنها أعلى مراتب الخضوع، فلا يستحقها إلا المنعم بأعظم النعم، كالحياة والعقل والسمع والبصر. والثاني: أن العبادة الطاعة. والثالث: أنها التقرب بالطاعة. والأول أظهرها، لأن النصارى عبدت عيسى عليه السلام، ولم تطعه بالعبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم مطاع، وليس بمعبودٍ بالطاعة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ إِيَّاكَ } الخليل: إيا: اسم مضاف إلى الكاف، الأخفش إياك: كلمة واحدة، لأن الضمير لا يضاف. { نَعْبُدُ } العبادة: أعلى مراتب الخضوع تقرباً، ولا يستحقها إلا الله ـ تعالى ـ، لإنعامه بأعظم النعم، كالحياة والعقل والسمع والبصر، أو هي لزوم الطاعة، أو التقرب بالطاعة، أو المعنى " إياك نؤمل ونرجوا " مأثور والأول أظهر { نَسْتَعِينُ } على عبادتك أو هدايتك أمروا بذلك كما أمروا بالحمد له، أو أخبروا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. إن قلت: لِمَ قدمت العبادة على الاستعانة مع أن الاستعانة سبب فيها؟ أجاب الزمخشري: بأن العبادة وسيلة والاستعانة مقصد فقدمت الوسيلة قبل (الحاجة). قال ابن عرفة: بل الصواب العكس (فالعبادة) هي المقصد. قال: وكان يمشي لنا الجواب عن ذلك بأن هذا أقرب لكمال الافتقار وخلوص النية فإنّ المكلف إذا (أَقَرّ أوّلا بأن لاَ قُدْرة) له على الفعل إلا بالله، ثم فعل العبادة فإنّه قد تحول نيته بعد ذلك (وتزهو نفسه) ويتوهّم أن الفعل الواقع منه بقدرته استقلالا، فإذا أقر بعد الفعل بأن الاستعانة له عليه إلا بالله كان (نفيا) للتهمة وأقرب لمقام التذلّل والخضوع. قلت: وقال بعض الناس العبادة مقصد باعتبار الحكم الشرعي والاستعانة مقصد باعتبار نية المكلف في طلبه لأنه (أخبر) أنه إنما يعبد الله لا غيره، ثم أخبر أنه لا يستعين على تلك العبادة إلا بالله. قلت: وأجاب القاضي العماد (عن) السؤال بثلاثة أوجه: -الأول: طلب المعونة من الله لا يكون إلا بعد معرفته ومعرفته هو التوحيد (وهي) العبادة. -الثاني: يحتمل أن ترجع (العبادة) لتوحيد الله والاستعانة طلب معونته على حوائج الدنيا والآخرة وأول السورة في توحيد الله تعالى وآخرها للعبد كما في حديثه:... **" قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين ".** قدم العبادة ليكون ما هو لله بإزاء ما هو لله، وما هو للعبد بإزاء ما هو للعبد. -الثالث: طلب المعونة عبادة خاصة وإياك نعبد عامة، والعام مقدم على الخاص. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
إِيَّاكَ: كلمة ضمير خُصَّت بالإضافةِ إلى المُضْمَر، ويُسْتَعْمل مقدماً على الفعل. وإيَّاكَ أَسْأَلُ؛ ولا يُسْتَعملُ مؤخراً إلاّ منفصلاً؛ فيُقالُ، ما عنيتُ إِلاَّ إِيَّاك. وهو مفعولٌ مُقَدَّمٌ على " نعبد " قُدِّم للاختصاصِ، وهوَ واجِبُ الانفصالِ. واخْتلَفُوا فيه: هَلْ هو مِنْ قَبِيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهورُ: على أنه مُضْمَرٌ. وقال الزَّجَّاجُ رحمه الله تعالى: هو اسمٌ ظاهر. والقائِلُون بأَنَّهُ ضميرٌ اخْتَلَفُوا فيه على أربَعةِ أقوالٍ: أحدُهما: أنه كلمةُ ضَمِيرٍ. والثاني: عَلَى أَنَّ " إِيَّا " وَحْدَهُ ضَمِيرٌ، وما بَعْدَهُ اسمٌ مُضَافٌ إليه يبيّن ما يُرادُ به [من تكلّم وغيبة وخطابِ]. وثَالِثُها: أَنَّ " إِيَّا " وحده ضميرٌ، وما بعده حُرُوفٌ تبين ما يُرادُ به [من تكلم وغيبة وخطاب]. ورابعُها: أَنَّ " إيَّا " عمادٌ وما بعده هو الضميرُ، وشذّت إضافته إلى الظاهِرِ في قولِهِم: " إذا بلغ الرَّجُلَ السِّتِّينَ، فإياه وإِيَّا الشَّواب " بِإِضَافَةِ " إِيَّا " إلى " الشواب " ، وهذا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الكَافَ، والهاء، والياء في محلّ جر، إِذا قُلْتَ: " إِيَّاكَ إِيَّاه إِيَّايَ " وقد أَبْعَدَ بعضُ النَّحوِيِّينَ، فجعل له اشْتِقاقَاً، ثُمَّ قال: هَلْ هو مشتقٌّ من " أَوَّ "؛ كقول الشاعر في ذلك: [الطويل] | **62- فَأَوِّ لِذِكْرَاهَا إِذَا ما ذَكَرْتُهَا** | | **..................** | | --- | --- | --- | أَوْ منْ " آيَة "؛ كقوله [الرجز] | **63- لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ آيَائِهِ** | | | | --- | --- | --- | وهل وَزْنُه: " إفْعَل، أو فَعِيل، أو فَعُول " ثم صَيرَّه التصريفُ إلى صِيغةِ " إِيَّا "؟ وهذا الذي ذكره لا يُجدِي فائدةً، مع أنَّ التصريفَ والاشتقاق لاَ يَدْخُلاَن في المتوغِّلِ في البناءِ وفيه لُغاتٌ: أَشْهرُها: كَسْرُ الهمزةِ، وتَشْدِيدُ اليَاءِ، ومنها، فَتْحُ الهمزةِ وإبدالُها هاء مع تشديدِ الياءِ وتَخْفِيفهَا؛ قال الشَّاعر: [الطويل] | **64- فَهَيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذِي الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ** | | **مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلِيْكَ مَصَادِرُهْ** | | --- | --- | --- | وقال بعضُهم: " إِيَّاكَ " بالتَخْفِيفِ مرغوبٌ عنه؛ لأنه يَصِيرُ: " شَمْسَك نعبد "؛ فإِنَّ إِيَاةَ الشمسِ: ضَوْؤُها - بكسر الهَمزةِ، وقد تُفْتَحُ. وقيل: هي لها بمنزلةِ الهَالةِ للقمر، فإذا حذفت التاءَ، مَدَدْتَ؛ قال: [الطويل] | **65- سَقَتْهُ إِيَاءُ الشَّمْسِ إِلاَّ لِثَاتِهِ** | | **أُسِفَّ فَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ** | | --- | --- | --- | وقد قٌرِىءَ ببعضِهَا شَاذًّا. وللضَّمائِرِ تَقسيمٌ مُتَّسع لا يحتمله هذا الكتاب، وإنما يأتي في غُضُونِه ما يليقُ به. و " نَعْبُدُ " فعلٌ مضارعٌ مرفوع؛ لتجردِه من الناصبِ والجازمِ، وقِيل: لوقوعِه موقعَ الاسمِ، وهذا رأْيُ البصريين. ومعنى المضارع المشابه، يعني: أنه أشبه الاسمَ في حركاتِهِ، وسكناتِه، وعدَدَ حُرُوفِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ " ضَارِباً " يُشْبه " يَضْرِب " فيما ذكرت، وأنه يشيع ويختصُّ في الأزمانِ كما يشيعُ الاسمُ، ويختص في الأَشْخاصِ، وفَاعِلُهُ مستترٌ وُجُوباً لما مَرّ في الاستعاذة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والعبادَةُ: غايةُ التذللِ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفْضَالِ، وهو الباري - تعالى - وهو أبلغ من العُبُوديةِ؛ لأن العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ، ويُقالُ: طريقٌ مُعَبَّدٌ، أَيْ: مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه. وقال طَرَفَة في ذلك: [الطويل] | **66- تُبَارِي عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ** | | **وَظِيفاً وظيفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ** | | --- | --- | --- | ومنه: العَبْدُ؛ لِذلَّتِهِ، وبَعيرٌ معبَّدٌ: أَيْ مُذلَّلٌ بِالقَطِرَان. وقيل: العبادةُ التَّجَرُّدُ، ويُقالُ: عَبَدْتُ اللهَ - بالتخفيف فقط - وعَبَّدْتُ الرجلَ - بالتشديدِ فقط، أَيْ: ذللتُه، واتخذتُه عبداً. وفي قوله تعالى: " إِيَّاكَ نَعْبُد " التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ، إِذْ لو جرى الكلامُ على أصله، لَقِيل: الحمد لله، ثم قيل: إِيَّاهُ نَعبدُ، والالتفاتُ: نوعٌ مِن البلاغَةِ. قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله -: والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه: أحدُها: أن المصلِّي كان أَجْنَبِيًّا عند الشروعِ في الصَّلاةِ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله - تعالى - بألفاظ الغيبة، إلى قوله: " يَوْمِ الدِّينِ " ، ثم إنه تعالى كأنه قال له: حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً، ربًّا، رحماناً، رحيماً، مالكاً ليوم الدين، فَنعْمَ العبدُ أنت، فرفعنا الحجابَ، وأبدلنا البُعدَ بالقُرْبِ، فتكلّم بالمخاطبة وقل: إياك نعبد. الثاني: أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ، [والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِل] على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ. ومن الالتفَاتِ - إلاّ كونه عَكْسَ هذا - قولُه تبارك وتعالى:**{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }** [يونس: 22] ولم يَقُلْ: " بكم "؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله: [المتقارب]. | **67- تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ** | | **وَنَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ** | | --- | --- | --- | | **وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ** | | **كَلَيْلَةِ ذِي العَائِرِ الأَرْمَدِ** | | **وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي** | | **وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ** | وقد خَطَّأَ بعضُهم الزمخشريَّ - رحمه الله تعالى - في جَعْلِه هذا ثَلاثةَ التفاتَاتٍ، وقال: بل هما التفاتان: أحدُهما: خُروجٌ مِنَ الخطابِ المفتتح به في قولِهِ: " لَيْلُك " ، إلى الغَيْبَةِ في قوله: " وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ ". والثاني: الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلُّم، في قولِه: " مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ ". والجوابُ: أَنَّ قولَه أَوّلاً: " تَطَاوَلَ لَيْلُك " فيه التفاتٌ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ: " تطاول لَيْلِي "؛ لأنه هو المقصودُ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبةِ، ثُمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل. وقُرِىءَ شاذًّا: " إِيَّاكَ يُعْبَدُ " على بنائِهِ للمفعول الغائبِ؛ ووجهُهَا على إِشْكالِهَا: أن فيها استعارةً والتفاتاً: أما الاستعارةُ: [فإنه اسْتُعِير] فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْعِ، والأصل: أنت تُعْبَد، وهو شائع؛ كقولِهم: " عَسَاكَ، وعَسَاهُ، وعَسَانِي " في أحدِ الأقوالِ؛ وقول الآخر: [الرجز] | **68- يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا** | | **وَطَالَمَا عَنَّيْتَنَا إِلَيْكَا** | | --- | --- | --- | فالكافُ في " عَصَيْكَا " نائبةٌ عن التاءِ، والأصل: " عَصَيْتَ ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما الالتفاتُ: فكان من حَقِّ هذا القارىء أَنْ يَقْرأَ: " إِيَّاكَ تُعْبَدُ " بالخطابِ، ولكنه التفت من الخطاب في " إِيَّاكَ " إلى الغَيْبَةِ في " يُعْبَدُ " إلاّ أن هذا الالتفاتَ غَرِيبٌ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه: [الطويل] | **69- أَأَنْتَ الهِلاَلِيُّ الَّذِي كُنْتَ مَرَّةً** | | **سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ** | | --- | --- | --- | فقال: " بِهِ " بعد قوله: " أَنْتَ " و " كُنْتَ ". و " إيَّاكَ " واجبُ التقديم على عامله؛ لأَنَّ القاعدَةَ أَنَّ المفعولَ به إذا كان ضميراً - لو تأخر عم عامله - وجب اتصالُهَ وَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ. وتَحَرَّزُوا بقولِهِم: " لو تأَخَّرَ عنه وجب اتصالُه " ، من نحو: " الدرهم إياه أعطيتك " لأنك لو أخرتَ الضميرَ هنا فقلتَ: " الدِّرْهَمُ أَعْطَيْتُكَ إِيَّاهُ " لم يَلْزم الاتصالُ، لما سيأتي بل يجوزُ: " أعطيتكَهُ ". فصل في معنى العبادة قال ابنُ الخَطِيب رحمه الله تعالى: العبادةُ عبارةٌ عن الفعل الذي يؤتى به لغرضِ تَعْظِيم الغَيْرِ، من قولهم: طريقٌ مُعبَّدٌ، أَيْ: مذلّلٌ، فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، معناه: لا أعبد أحداً سواك، ويدلّ على هذا الحصر وجوه: فَذَكَر من جملتها: تسميَة الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين، وكونَهُ قادراً بأن يُمْسِكَ السّماءَ بلا إعانة، وأَرْضاً بلا دِعَامة، ويُسَيِّرُ الشمسَ والقمر، ويسكن القُطْبَيْن، ويخرجُ من السَّماءِ تارة النَّارَ؛ وهو البرق، وتارة الهواءَ؛ وهو الريح، وتارة الماء؛ وهو المطر. وأما في الأرضِ فتارةً يُخْرج الماء من الحَجَرِ؛ وتارةً يخْرج الحجرَ من الماء؛ وهو الجمد، ثم جعل في الأرض أجساماً مُقيمةً لا تسافر؛ [وهي الجبال]، وأجساماً مسافرة لا تقيم؛ وهي الأنهار، وخسف بقارون فجعل الأَرضَ فَوْقَهُ، ودفع محمداً - عليه الصلاة والسلام - إلى قَاب قَوْسَيْن، وجعل الماء ناراً لى قوم فرعون؛ لقوله:**{ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً }** [نوح: 25]، وجعل النارَ بَرْداً وسلاماً على إِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - ورفع مُوسَى - عليه السلام - فوق الطُّورِ، وغرق الدنيا من التّنُّورِ، وجعل البحر يبساً لموسى - عليه الصلاة والسلام - فهذا من أداة الحَصْرِ. والكلام في " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " كالكَلاَمِ في " إِيَّاكَ نَعْبُدُ ". والواو: عاطِفَةٌ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى، ولا تقتضى تَرْتِيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكُوفيينَ ولها أحكام تختص بها تأتي إن شاء الله تعالى. وأصل " نَسْتَعِين ": " نَسْتَعْوِنُ "؛ مَثْلُ: " نَسْتَخْرِجُ " في الصحيح؛ لأنه من العَوْنِ، فاسْتُثْقِلَتِ الكسرةُ على الوَاوِ، فنقلت إلى السَّاكن قَبْلَها، فسكنت الواوُ بعد النَّقْلِ وانكَسَر ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ياءً. وهذه قاَعِدَةٌ مطّردَةٌ؛ نَحْوُ: " مِيزَان، ومِيِقَات " ، وهما من: الوَزْنِ، والوَقْتِ. والسِّينُ فيه معناها: الطلبُ، أَيْ نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي لـ " استفعل " وله مَعََانٍ أُخَرٌ: الاتخاذُ: نحو: " اسْتَعْبِدْهُ " أي: اتخذْهُ عبداً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والتحولُ؛ نحو: " اسْتَحْجَرَ الطِّينُ " أَيْ: صار حجراً، ومنه قوله: " إِنَّ الْبُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ " أي: تتحولُ إلى صفة النُّسور. ووجُودُ الشَّيْءِ بمعنى ما صِيغَ منه؛ نحو: " اسْتَعْظَمَهُ " أَيْ: وجده عظيماً. وعَدُّ الشَّيْء كذلك، وإِن لم يكُنْ؛ نحو: " اسْتَحْسَنَهُ ". ومطاوعةُ " أَفْعَل "؛ نحو: " أَشْلاَه فَاسْتَشْلَى ". وموافقتُه له أيضاً؛ نحو: " أَبَلَّ الْمَرِيضُ وَاسْتَبَلَّ ". وموافقةُ " تَفَعَّلَ "؛ نحو: " اسْتَكْبَرَ " بمعنى " تكبر ". وموافقةُ " افْتَعَلَ "؛ نحو: " اسْتَعْصَمَ " بمعنى " اعْتَصَمَ ". والإِغْنَاءُ عن المجرد؛ نحو: " اسْتَكَفّ " و " اسْتَحْيَا " ، لم يتلفظ لهما بمجردِ استغناء بهما عنه. والإِغْنَاءُ بهما عن " فَعَلَ " أي المجرد الملفوظ به نحو: " اسْتَرْجَعَ " و " استعان " ، أَيْ: رجع وحَلَق عانته. وقُرىءَ: " نِسْتَعينُ " بكسرْ حرف المضارعة؛ وهي لُغَةٌ مطردةٌ في حروف المُضَارعة. وذلك بشرط ألا يكن حرفُ المضَارعة ياءً؛ لثقل ذلك، على أنَّ بعضَهُم قال: " ييجَلُ " ، مضارع " وجَلَ " ، وكأنه قصد إلى تَخْفِيفِ الواو إلى الياء، فكسر ما قبلها لتنقلب؛ وقد قُرِىء: " فإنَهم ييلَمُون " [النساء: 104]، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناءِ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إِنْ شاء الله تعالى. وأن يكون المُضَارعُ من ماضٍ مكسورِ العَيْن؛ نحو: " تِعْلَمُ " من " عَلِمَ " ، أو في أوله همزةُ وصلٍ، نحو " نِسْتَعِينُ " من " اسْتَعَانَ " ، أو تاءُ مُطَاوَعةٍ؛ نحو: " نِتَعَلَّمُ " من " تَعَلَّمَ " ، فلا يجوزُ في " يضْربُ " و " يقتلُ " كسر حرف المُضَارعة؛ لعدم الشُّروط المذكورة. والاستعانَةُ: طلبُ العَوْنِ: وهو المُظَاهرة والنصرة، وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة. وقال ابنُ الخَطِيبِ: كأنه يقولُ: شَرَعْتُ في العبادَةِ، فأستعين بك في إتمامها، فلا تمنعني من إتمامها بالمَوْتِ، ولا بالمرضِ، ولا بقلب الدَّواعي وتَغَيُّرِهَا. وقال البَغَوِيُّ - رحمه الله تعالى - فإن قِيل: لم قدم ذِكْرَ العِبَادةِ على الاستعانَةِ، والاستعانةُ لا تكون إلاَّ قبل العبادة؟ قلنا: هذا يلزمُ من جَعَلَ الاستعانَة قبلَ الفعل، ونحن نَجْعلُ التوفِيقَ، والاستعانَة مع الفعل، فلا فرق بيت التقديم والتأخير. وقيل: الاستعانَةُ نوعُ تعبُّدٍ، فكأنه ذكر جملة العبادَةِ أوّلاً، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها وأطلق كُلاًّ من فِعْلَيْ العبادَةِ والاستعانَةِ فلم يذكر لهما مفعولاً؛ ليتناول كلَّ معبود به، وكلَّ مُسْتَعان [عليه]، أَوْ يكون المرادُ وقوعَ الفعلِ من غير نظر إلى مفعول؛ نحو: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ }** [البقرة: 60] أي أوقعوا هذين الفِعْلَيْنِ. فصل في نظم الآية قال ابنُ الخَطِيْبِ - رحمه الله تعالى -: قال تعالى: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " فقدَّمَ قولَه: " إيَّاك " على قوله: " نعبد " ولم يقل: " نعبدك " لوجوه: أحدُها: أنه - تبارك وتَعَالَى - قدّم ذِكْرَ نَفْسِهِ؛ لينبه العَابِدَ على أن المعبودَ هو اللهُ - تعالى - فلا يتكاسَلُ في التعظيم. وثانيها: أَنَّه إِنْ ثقلت عليك العبادات والطاعات وصعبت، فَاذْكُرْ أوَّلاً قولَه: " إياك "؛ لتذكرني، وتحضر في قلبك معرفتي، فإذا ذكرتَ جَلاَلي وعظمتي، وعلمتَ أني مولاك، وأنك عبدي؛ سهلت عليك تلك العبادة. وثالثها: أن القديمَ الواجبَ لذاتِه متقدمٌ في الوجودِ على لمحدث الممكن لذاته، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار. فصل في نون " نعبد " قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله تعالى -: لقائلٍ أَنْ يقولَ: النُّون في قوله تعالى: " نعبد " إما أن تكون نونَ الجمع، أو نونَ العظمةِ، والأول باطِلٌ، لأن الشخصَ الواحدَ لا يكون جَمْعاً، والثاني باطل أيضاً؛ لأن عند أداء العبوديةِ، اللاَّئق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعَجْز والذّلة لا بالعَظَمَةِ. واعلم أنه يمكن الجوابُ عنه مِنْ وُجُوه: أحدها: أنّ المرادَ مِنْ هذه النونِ نونُ الجَمْعِ، وهو تنبيه على أنَّ الأَوْلَى بالإنسان، أَنْ يؤدي الصَّلاة بالجماعة. الثاني: أنَّ الرجلَ إِنْ كان يُصَلِّي في جماعة، فقوله: " نعبد " ، المُرَاد منه ذلك الجمعُ، وإن كان يصلّي وحده كان المراد أني أعبدك، والملائكةُ معي. الثالث: أنَّ المُؤْمِنين إخوةٌ، فلو قال: " إياك أعبدُ " كان قد ذكر عبادَةَ نفسِه، ولم يذكر عبادَةَ غَيْرِه، أما إذا قال: " إياك نعبدُ " كان قد ذكر عبادَة نفسِه، وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { اهدنا الصراط المستقيم } بالصاد. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن الأنباري عن ابن عباس. أنه قرأ { اهدنا السراط } بالسين. وأخرج أبن الأنباري عن عبد الله بن كثير. أنه كان يقرأ { السراط } بالسين. وأخرج ابن الأنباري عن الفراء قال: قرأ حمزة { الزراط } بالزاي قال الفراء: و { الزراط } باخلاص الزاي. لغة لعذرة، وكلب، بني العين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } يقول ألهمنا دينك الحق. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } قال ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال { الصراط } الطريق. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والمحاملي في أماليه من نسخة المصنف والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } قال: هو الإِسلام، وهو أوسع مما بين السماء والأرض. وأخرج ابن جريج عن ابن عباس قال { الصراط المستقيم } الإِسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة { الصراط المستقيم } الإِسلام. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان عن النّواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" ضرب الله صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرقوا. وداع يدعو من فوق: الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك. لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه. فالصراط الإِسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم ".** وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو بكر بن الأنباري في كتاب المصاحف والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإِيمان عن عبد الله بن مسعود في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } قال: هو كتاب الله. وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود قال: إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين. ياعباد الله هذا الصراط فاتبعوه، { والصراط المستقيم } كتاب الله فتمسكوا به. وأخرج ابن أبي شيبة والدارمي والترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول **" ستكون فتن قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله. فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل وليس بالهزل، وهو حبل الله المتين، وهو ذكره الحكيم، وهو الصراط المستقيم ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال { الصراط المستقيم } الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال { الصراط المستقيم } تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طرفه، والطرف الآخر في الجنة. واخرج البيهقي في الشعب من طريق قيس بن سعد عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال **" القرآن هو النور المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم ".** وأخرج عبد بن حميد وابن جريج وابن أبي حاتم وابن عدي وابن عساكر من طريق عاصم الأحول عن أبي العالية في قوله { الصراط المستقيم } قال: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده قال: فذكرنا ذلك للحسن فقال: صدق أبو العالية، ونصح. وأخرج الحاكم وصححه من طريق أبي العالية عن ابن عباس في قوله { الصراط المستقيم } قال: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية الرياحي قال: تعلموا الإسلام، فإذا علمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإن { الصراط المستقيم } الإسلام، ولا تحرفوا يميناً وشمالاً. وأخرج سعيد بن منصور في سننه وابن المنذر والبيهقي في كتاب الرؤية عن سفيان قال: ليس في تفسير القرآن اختلاف إنما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا.... وأخرج ابن سعد في الطبقات وأبو نعيم في الحلية عن أبي قلابة قال: قال أبو الدرداء: إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً. وأخرج ابن سعد عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس يحدث عن الخوارج الذين أنكروا الحكومة فاعتزلوا علي بن أبي طالب قال: فاعتزل منهم اثنا عشر ألفاً، فدعاني علي فقال: اذهب إليهم فخاصمهم، وادعهم إلى الكتاب والسنة، ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذوو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة. وأخرج ابن سعد عن عمران بن مناح قال: فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم.في بيوتنا نزل فقال: صدقت، ولكن القرآن جمال ذو وجوه يقول...ويقولون...ولكن حاججهم بالسنن فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً. فخرج ابن عباس إليهم، فحاججهم بالسنن، فلم يبق بأيديهم حجة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تفسير القرآن/ التستري (ت 283 هـ)
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [5] أي نخضع ونذلّ ونعترف بربوبيتك ونوحّدك ونخدمك، ومنه اشتق اسم العبد. { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [5] أي على ما كلفتنا بما هو لك، وإليك المشيئة والإرادة فيه، والعلم والإخلاص لك، ولن نقدر على ذلك إلاَّ بالمعونة والتسديد لنا منك، إذ لا حول لنا ولا قوة إلاَّ من عندك. فقيل له: أليس قد هدانا الله إلى الصراط المستقيم؟ قال: بلى، ولكن طلب الزيادة منه كما قال:**{ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }** [ق:35] فكان معنى قوله: " اهدنا ": أمددنا منك بالمعونة والتمكين. وقال مرة أخرى " اهدنا " معناه أرشدنا إلى دين الإسلام الذي هو الطريق إليك بمعونة منك، وهي البصيرة، فإنا لا نهتدي إلاَّ بك، كما قال:**{ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }** [القصص:22] أي يرشدني قصد الطريق إليه. قال: وسمعت سهلاً يحكي عن محمد بن سوار عن سفيان عن سالم عن أبي الجعد عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" يقول الله عزَّ وجلَّ: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. قال: فإذا قال العبد: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قال تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قال الله تعالى: أثنى عَليّ عبدي، وإذا قال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } يقول الله: فهذه الآيات لي ولعبدي بعدها ما سأل، وإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إلى آخره يقول الله عزَّ وجلَّ: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ".** قال سهل: معنى قوله: " مجدني عبدي " أي وصفني بكثرة الإحسان والإنعام، وقال سهل: وروي عن مجاهد أنه قال: آمين اسم من أسماء الله تعالى، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما حسدتكم النصارى على شيء كما حسدتكم على قولكم آمين. وحكى محمد بن سوار عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلاَّ مؤمن، فإذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن الله يرضى على قائلها، ويقبل صلاته، ويجيب دعاءه "** وحكى الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إذا قال الإمام: " ولا الضالين " قولوا: آمين، فإن الملائكة يقولون آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
على ترك زكاتنا، وأيضاً إياك نعبد بالعمل الخالص أى: إياك نعبد بقطع العلائق والأعواض، وإياك نستعين على الثبات على هذه الحال فإنا بك لا بنا. وأيضًا إياك نعبد بالإخلاص وإياك نستعين على المكاشفة لأسرارنا. وأيضًا إياك نعبد بالإرادة وإياك نستعين عليه بالهمة. وأيضًا إياك نعبد بالعلم وإياك نستعين عليه بالمعرفة. وأيضًا إياك نعبد عبادة مَن يعلم أنه بتوفيقك وتيسيرك قد عبدك وبك نستعين على قبولها وتصحيحها من عندك. وأيضًا إياك نعبد بأمرك وإياك نستعين عليها بفضلك. وأيضًا إياك نعبد بالدعاوى وإياك نستعين أن تسقط عنا الدعاوى تمررنا إلى رياض الحقائق. وأيضًا إياك نعبد ظاهرًا وإياك نستعين عليها باطنًا، إياك نعبد فأسقط بإياك عنا رؤية العبادة، وإياك نستعين فأزل عنا بإياك رؤية الاستعانة. وأيضًا إياك نعبد فأهلنا لعبادتك وإياك نستعين فلا تحرمنا معونتك إياك نعبد فأخلص عبادتنا وإياك نستعين فأعذنا من رؤية عبادتنا. وأيضًا إياك نعبد على المشاهدة، وإياك نستعين على النازلة. قال الجنيد: إن الله عز وجل خص قوماً بمعرفة عبوديته، فأفردوا له العبودية ثم أخرجهم عن ذلك فعرفوا أنفسهم، وما تولى الله من ذلك لهم فقالوا: وإياك نستعين على عبادتنا إذ لا يمكن أداؤها إلا بك، فبك عبدنا كذلك، وبك استعنا على شكر النعمة فيه. وقال القاسم: إياك نعبد بالتوفيق، وإياك نستعين على شكر ما وفقتنا له من عبادتك. سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا جعفر الفرغلى يقول: من أقر بإياك نعبد وإياك نستعين فقد برئ من الجبر والقدر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
معناه نعبدك ونستعين بك. والابتداء بذكر المعبود أتمُّ من الابتداء بذكر صفته - التي هي عبادته واستعانته، وهذه الصيغة أجزل في اللفظ، وأعذب في السمع. والعبادة الإتيان بغاية ما في (بابها) من الخضوع، ويكون ذلك بموافقة الأمر، والوقوف حيثما وقف الشرع. والاستعانة طلب الإعانة من الحق. والعبادة تشير إلى بذل الجهد والمُنَّة، والاستعانة تخبر عن استجلاب الطول والمِنَّة، فبالعبادة يظهر شرف العبد، وبالاستعانة يحصل اللطف للعبد. في العبادة وجود شرفه، وبالاستعانة أمان تلفه. والعبادة ظاهرها تذلل، وحقيقتها تعزز وتجمُّل: | **وإذا تذللت الرقاب تقرباً** | | **مِنَّا إليك، فعزُّها في ذُلِّها** | | --- | --- | --- | وفي معناه: | **حين أسلَمْتَني لذالٍ ولام** | | **ألقيتني في عينِ وزاي** | | --- | --- | --- | فصل: العبادة نزهة القاصدين، ومستروح المريدين، ومربع الأنس للمحبين، ومرتع البهجة للعارفين. بها قُرَّةُ أعينهم، وفيها مسرة قلوبهم، ومنها راحة أرواحهم. وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: **" أرِحنا بها يا بلال "** ولقد قال مخلوق في مخلوق: | **يا قوم ثاري عند أسمائي** | | **يعرفه السامع والرائي** | | --- | --- | --- | | **لا تدعني إلا بيا عبدها** | | **فإنه أصدق أسمائي** | والاستعانة إجلالك لنعوت كرمه، ونزلك بساحة جوده، وتسليمك إلى يد حكمه، فتقصده بأمل فسيح، وتخطو إليه بخطو وسيع، وتأمل فيه برجاء قوي، وتثق بكرم أزلي، وتنكل على اختيار سابق، وتعتصم بسبب جوده (غير ضعف). | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اي بمعونتك نعبدك لا بحولنا وقوّتنا وايّاك نستعين بتمام عبوديتك ودوام سَتْرك علينا حتَى نرى فضلك ولا ننظر الى اعمالنا ايّاك نعبد اي ايّاك نعبد لا برؤية المعاملات وطلب المكافآت واياك نستعين اي نستعينك بمزيد العناية بنعت العصمة عن القطيعة وايضا اياك نعبد بالمراقبة واياك نستعين بكشف المشاهدة وايضاً اياك نعبد بعلم اليقين واياك نستعين بحق اليقين وايضا واياك نعبد واياك نستعين بالرّؤية وقيل إياك نعبد بقطع العلائق والاغراض واياك نستعين على ثبات هذا الحال بك ولا بنا وقيل ايّاك نعبد بالعلم وإياك نستعين بالمعرفة وقيل اياك نعبد بأمْرك واياك نستعين علينا بفضلك قال سهل اياك نعبد بهدايتك وإياك نستعين بكلايتك على عبادتك قال الانطاكىُّ انّما يعبدُ الله على اربع على الرغبة والرّهبة والحياء والمحّبة فأفضلها المحبَّةُ التي تَليها والحيَاء ثم الرَّهبةُ ثم الرَّغبةُ وقال الاستاذ العبادة بستانُ القاصدين ومستروح المريدين ومَرْتَعُ الانس للمحبين ومرتع البَهْجة للعارفين بها قوة أعينِهم وفيها مسَرَّةُ قلوبهم ومنها راحة ابدانهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ اياك نعبد واياك نستعين } بنى الله سبحانه اول الكلام على ما هو مبادى حال العارف من الذكر والفكر والتأمل فى اسمائه والنظر فى آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شانه وتأثير سلطانه ثم قفى بما هو منتهى امره وهوان يخوض لجة الوصول ويصير من اهل المشاهدة فيراه عيانا ويناجيه شفاها اللهم اجعلنا من الواصلين الى العين دون السامعين للاثر. وفيه اشارة ايضا الى ان العابد ينبغى ان يكون نظره الى المعبود اولا وبالذات ومنه الى العبادة لا من حيث انها عبادة صدرت منه بل من حيث انها نسبة شريفة ووصلة بينه وبين الحق فان العارف انما يحق وصوله اذا استغرق فى ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى انه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من احوالها الا من حيث انها ملاحظة له ومنتسب اليه ولذلك فضل ما حكى عن حبيبه حين قال**{ لا تحزن إن الله معنا }** التوبة 40. على ما حكاه عن كليمه حيث قال**{ إن معى ربى سيهدين }** الشعراء 62. وتقديم المفعول لقصد الاختصاص اى نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك والعبادة غاية الخضوع والتذلل. وعن عكرمة جميع ما ذكر فى القرآن من العبادة التوحيد ومن التسبيح الصلاة ومن القنوت الطاعة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما ان جبريل عليه السلام قال للنبى صلى الله عليه وسلم قل يا محمد { اياك نعبد } اى اياك نؤمل ونرجوا لا غيرك والضمير المستكن فى { نعبد } وكذا فى { نستعين } للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضرى صلاة الجماعة او له ولسائر الموحدين ادرج عبادته فى تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها وتجاب ولهذا شرعت الجماعة قال الشيخ الاكبر والمسك الاذفر قد سنا الله بسره الاطهر فى كتاب العظمة اذا كنى العبد عن نفسه بنون نفعل فليست بنون التعظيم واذا كنى عن الحق تعالى بضمير الافراد فان ذلك لغلبه سلطان التوحيد فى قلب هذا العبد وتحققه به حتى سرى فى كليته فظهر ذلك فى نطقه لفظا كما كان عقدا وعلما ومشاهدة وعينا وهذه النون نون الجمع فان العبد وان كان فرداني اللطيفة وحدانى الحقيقة فانه غير وحدانى ولا فرداني من حيث لطيفته ومركبها وهيكلها وقالبها وما من جزء فى الانسان الا والحق تعالى قد طالب الحقيقة الربانية التى فيه ان تلقى على هذه الجزاء ما يليق بها من العبادات وهى فى الجملة وان كانت المدبرة فلها تكليف يخصها ويناسب ذاتها فلهذه الجميعة يقول العبد لله تعالى نصلى ونسجد واليك نسعى ونحفد واياك نعبد وامثال هذا الخطاب ولقد سألنى سائل من علماء الرسوم عن هذه المسئلة وكان قد حار فيها فاجبته باجوبة منها هذا فشفى غليله والحمد لله انتهى كلام الشيخ قدس سره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وانما خصص العبادة به تعالى لان العبادة نهاية التعظيم فلا تليق الا بالمنعم فى الغاية وهو المنعم بخلق المنتفع وباعطاء الحياة الممكنة من الانتفاع كما قال تعالى**{ وكنتم أمواتا فأحياكم }** البقرة 28 الآية**{ هو الذي خلق لكم ما فى الأرض جميعاً }** البقرة 29. ولان احوال العبد ماض وحاضر ومستقبل ففى الماضى نقله من العدم والموت والعجز و الجهل الى الوجود والحياة والقدرة والعلم بقدرته الازلية وفى الحاضر انفتحت عليه ابواب الحاجات ولزمته اسباب الضروريات فهو رب الرحمن الرحيم وفى المستقبل مالك يوم الدين يجازيه باعماله فمصالحه فى الاحوال الثلاثة لا تستتب الا بالله فلا مستحق للعبادة الا الله تعالى. ثم قوله { نعبد } يحتمل ان يكون من العبادة ومن العبودة والعبادة هى العابدية والعبودة هى العبدية. فمن العبادة الصلاة بلا غفلة والصوم بلا غيبة والصدقة بلا منة والحج بلا اراءة والغزو بلا سمعة والعتق بلا اذية والذكر بلا ملالة وسائر الطاعات بلات آفة. ومن العبودة الرضى بلا خصومة والصبر بلا شكاية واليقين بلا شبهة والشهود بلا غيبة والاقبال بلا رجعة والايصال بلا قطيعة. واقسام العبادة على ما ذكره حجة الاسلام فى كتابه المسمى بالاربعين عشرة كما أن الاعتقاد التى قبلها عشرة فالمعتقدات الذات الازلية الابدية المنعوتة بصفات الجلال والاكرام الذى هو الاول والآخر والظاهر والباطن اى الاول بوجوده والآخر بصفاته وافعاله والظاهر بشهادته ومكوناته والباطن بغيبه ومعلوماته. ثم التقديس عما لا يليق بكماله او يشين بجماله من النقائص والرذائل. ثم القدرة الشاملة للممكنات. ثم العلم المحيط بجميع المعلومات حتى بدبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء وما هو اخفى منه كهواجس الضمائر وحركات الخواطر وخفيات السرائر. ثم الارادة بجميع الكائنات فلا يجري في الملك والملكوت قليل او كثير الا بقضاءه ومشيئته مريد في الازل لوجود الاشياء في اوقاتها المعينة فوجدت كما ارادها. ثم السمع والبصر لا يحجب سمعه بعد ولا رؤيته ظلام فيسمع من غير اصمخة وآذان ويبصر من غير حدقة واجفان. ثم الكلام الازلى القائم بذاته لا بصوت ككلام الخلق وان القرآن مقروء ومكتوب ومحفوظ ومع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى وان موسى سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف كما يرى الابرار ذات الله من غير شكل ولا لون. ثم الافعال الموصوفة بالعدل المحضن فلا موجود الا وهو حادث بفعله وفائض من عدله اذا لا يضاف لغيره ملكا ليكون تصرفه فيه ظلما فلا يتصور منه ظلم ولا يجب عليه فعل فكل نعمة من فضله وكل نقمه من عدله. ثم اليوم الآخر. والعاشر النبوة المشتملة على إرسال الملائكة وانزال الكتب \* واما العبادات العشرة فالصلاة والزكاة والصوم والحج وقراءة القرآن وذكر الله فى كل حال وطلب الحلال والقيام بحقوق المسلمين وحقوق الصحبة والتاسع الامر بالمعروف والنهى عن المنكر والعاشر اتباع السنة وهو مفتاح السعادة وامارة محبة الله كما قال تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله }** آل عمران 30. قال المولى الجامى قدس سره | **يا نبى الله السلام عليك انما الفوز والفلاح لديك كرنرفتم طريق سنت تو هستم از عاصيان امت تو ما نده ام زير بار عصيان بست افتم ازباي اكرنكيرى دست** | | | | --- | --- | --- | وجاء فى بيان مراتب العباد المتوجهين إلى الله ان الانسان اذا فعل برا ان قصد به امرا ما غير الحق كان من الاحرار لا من العبيد وان لم يقصد امرا بعينه بل يفعله لكونه خيرا فقط ولكونه مأمورا به لا مطلقا بل من حيث الحضور منه مع الآمر فهو الرجل فان ارتقى بحيث لا يقصد بعمله غير الحق كان تاما في الرجولية فان كان بحيث لا يفعل شيأ الا بالحق كما ورد فى قرب النوافل صار تاما فى المعرفة والرجولية وان انضم الى ما سبق حضوره مع الحق فى فعله بحيث يشهده بعين الحق لا بنفسه من حيث اضافة الشهود الى الله والفعل والاضافة اليه الا الى نفسه فهو العبد المخلص عمله فان ظهرت عليه غلبة احكام هذه المقام والذي قبله وهو مقام فبى يسمع غير متقيد بشئ منها ولا بمجموعها مع سريان حكم شهوده الاحدى فى كل مرتبة ونسبة دون الثبات على امر بعينه بل ثابتا فى سعته وقبوله كل وصف وحكم عن علم صحيح منه بما اتصف به وما انسلخ عنه فى كل وقت وحال دون غفلة وحجاب فهو الكامل فى العبودية والخلافة والاحاطة والاطلاق كذا فى تفسير الفاتحة للصدر القنوى قدس سره. قال فى التأويلات النجمية فى قوله { اياك نعبد } رجع الى الخطاب من الغيبة لانه ليس بين المملوك ومالكه الاحجاب ملك نفس المملوك فاذا عبر من حجاب ملك النفس وصل الى مشاهدة مالك النفس كما قال ابو يزيد فى بعض مكاشفاته الهى كيف السبيل اليك قال له ربه دع نفسك وتعال فللنفس اربع صفات امارة ولوامة وملهمة ومطمئنة فامر العبد المملوك بان يذكر مالكه باربع صفات بالصفة والالهية والربوبية والرحمانية والرحيمية فيعبر بعد مدح الالهية وشكر الربوبية وثناء الرحمانية وتمجيد الرحيمية بقوة جذبات هذه الصفات الاربع من حجاب ممالك الصفات الاربع للنفس فيتخلص من ظلمات ليلة رين نفسه بطلوع صبح صادق مالك يوم الدين فيبقى العبد عبدا مملوكا لا يقدر على شئ فيرحمه مالكه ويذكره بلسان كرمه على قضية وعده**{ فاذكرونى أذكركم }** البقرة 153. ويناديه ويخاطب نفسه**{ يا أيتها النفس المطمئنة }** الفجر 27. ثم يجذبه من غيبة نفسه الى شهود مالكية ربه بجذبة**{ ارجعى إلى ربك }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الفجر 28. فيشاهد جمال مالكه ويناديه نداء عبد خاضع خاشع ذليل عاجز كما قرأ بعضهم مالك يوم الدين نصبا على نداء اياك نعبد. واعلم ان النفس دنيوية تعبدو هواها الدنيوى لقوله تعالى**{ أفرأيت من اتخذ الهه هواه }** الجاثية 24. والقلب اخروى يعبد الجنة لقوله تعالى**{ ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى }** النازعات 40-41. والروح قربى يعبد القربة والعندية لقوله تعالى**{ فى مقعد صدق عند مليك مقتدر }** القمر 55. والسر حضرتى يعبد الحق تبارك لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام **" الاخلاص سر بينى وبين عبدى لا يسعه فيه مل كمقرب ولا نبى مرسل "** فلما انعم الله على عبده بنعمة الصلاة قسمها بينه وبين عبده كما قال تعالى على لسان نبيه عليه السلام **" قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل "** فتقرب العبد بنصفه الى حضرة كماله بالحمد والثناء والشكر على صفات جماله وجلاله وتقرب الرب على مقتضى كرمه وانعامه كما قال **" من تقرب الى الله شبرا تقربت اليه ذراعاBR> ".** بنصفه الى خلاص عبده من رق عبودية الاغيار باخراجه من ظلمات بعضها فوق بعض من هوى الناس ومراد القلب وتعلق الروح بغير الحق الى نور وحدانيتة وشهود فردانيته فاشرقت ارض وسماوات القلب وعرش الروح وكرسى السر بنور ربها فآمنوا كلهم اجمعون بالله الذي خلقهم وهو مالكهم وملكهم وكفروا بطواغيتهم التى يعبدونها واستمسكوا بالعروة الوثقى وجعلوا كلهم واحدا وقالوا { اياك نعبد واياك نستعين } كرر اياك للتنصيص على اختصاصه تعالى بالاستعانة ايضا والاستعانة طلب العون ويعدى بالباء وبنفسه اى نطلب العون على عبادتك او على ما لا طاقة لنا به او على محاربة الشيطان المانع من عبادتك او فى امورنا بما يصلحنا فى دنيانا وديننا والجامع للاقاويل نسألك ان تعيننا على اداء الحق واقامة الفروض وتحمل المكاره وطلب المصالح وتقديم العبادة على الاستعانة ليوافق رؤوس الآى وليعلم منه ان تقديم الوسيلة على طلب الحاجة ادعى الى الاجابة واياك نعبد لما ورثه العجب اردف اياك نستعين ازالة له وافناء للنخوة. ففى الجمع بينهما افتخار وافتقار فالافتخار بكونه عبداً عابداً والافتقار الى معونته وتوفيقه وعصمته وفيه أيضاً تحقيق لمذهب اهل السنه والجماعة اذ فيه اثبات الفعل من العبد والتوفيق من الله كالخلق ففيه رد الجبرية النافين للفعل من العبد بقوله اياك نعبد ورد المعتزلة النافين للتوفيق والخلق من الله بقوله اياك نستعين ثم تحقيقهما من العبد ان لا يخدم غير الله ولا يسأل الامن الله – حكى – عن سفيان الثورى رحمه الله انه ام قوما فى صلاة المغرب فلما قال { اياك نعبد واياك نستعين } خر مغشيا عليه فلما افاق قيل له فى ذلك فقال خفت ان يقال فلم تذهب الى ابواب الاطباء والسلاطين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفى تخصيص الاستعانة بالتقديم اقتداء بالخليل عليه السلام فى قيد النمرود حيث قال له جبريل عليه السلام هل لك من حاجة فقال اما اليك فلا فقال سله قال حسبى من سؤالى علمه بحالى بل زدت عليه فان الخليل قيد رجلاه ويداه لا غير فاما انا فقيدت الرجلين فلا اسير واليدين فلا احركهما وعينى فلا انظر بهما واذنى فلا اسمع بهما ولسانى فلا اتكلم به وانا مشرف على نار جهنم فكما لم يرض الخليل بغيرك معينا لا اريد الاعونك فاياك نستعين وكانه تعالى يقول فنحن ايضا نزيد حيث قلنا ثمة يا نار كونى بردا وسلاما على ابراهيم واما انت فقد نجيناك من النار واوصلناك الى الجنة زدنا سماع الكلام القديم وامرنا نار جهنم تقول لك جزيا مؤمن فقد اطفأ نورك لهبى قال المولى جلال الدين قدس سره | **زآتش مؤمن ازين رو اى صفى ميشود دوزخ ضعيف ومنطفى كويدش بكذر سبك اى محتشم ورنه زآتشهاى تو مرد آتشم** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ)
قلت: { إياك } مفعول { نعبد } ، وقُدِّم للتعظيم والاهتمام به، والدلالِ على الحصر، ولذلك قال ابن عباس: نعبُدك ولا نعبد معك غيرَك، ولتقديم ما هو مقدَّمٌ في الوجود وهو الملك المعبود، وللتنبيه على أن العابدَ ينبغي أن يكون نظرُه إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق، فإن العارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس، وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته، ولذلك فُضِّلَ ما حكى اللَّهُ عن حبيبه حين قال:**{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا }** [التّوبَة: 40]، على ما حكاه عن كليمه حيث قال:**{ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ }** [الشُّعَرَاء: 62]، أي: حيث صرّح بمطلوبه، و { إياك } مفعول { نستعين } وقدّم أيضاً للاختصاص والاهتمام، كما تقدم في { إياك نعبد }. وكرّر الضمير ولم يقل: إياك نعبد ونستعين لأن إظهارَه أبلغ في إظهار الاعتماد على الله، وأقطعُ في إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدحُ، ألا ترى أن قولك: بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مطالبي - أبلغ وأمدح من قولك: بك أنتصر وأحتمي... الخ؟ وَقَدَّمَ العبادة على الاستعانة ليتوافقَ رؤوسُ الآي، وليُعلمَ منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أَدْعَى إلى الإجابة، فإن مَنْ تَلبَّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وُسْعَه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلّفه الملكُ بخدمته، فقال: أعطني ما يعينُني عليها، فهو سوء أدب، وأيضاً: من استحضر الأوصافَ العِظام ما أمكنه إلا المسارعةُ إلى الخضوع والعبادة، وأيضاً: لمّا نسبَ المتكلمُ العبادةَ إلى نفسه أوْهَمَ ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدُر عنه فعقَّبه بقوله: { وإياك نستعين } ، دفعاً لذلك التوهم. والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق مُعَبَّدٌ، أي: مُذَلل، والاستعانة، طلب المعونة، والمراد طلب المعونة في المُهمات كُلِّها، أو في أداء العبادات. والضمير المستتر في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له ولسائر الموجودين. أدْرَجَ عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تُقبل ببركتها ويُجاب إليها، ولهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي. يقول الحقّ جلّ جلاله، تتميماً لتعليم عباده: فإذا أثنيتمُ عليَّ ومجدتموني وعظمتموني فأقِرُّوا لي بالربوبية، وأظهروا من أنفسكم العبودية، واطلبوا مني العون في كل وقت وقولوا: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وكأنه - جلّ جلاله - لَمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها لأنه رب العوالِم وقيومها، أصل الأصول وفروعها، أنعم عليها أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد، فهو مالكها على الإطلاق، ذكر أنه لا يستحق أن يُعبد سواه إذ لا مُنعمَ على الحقيقة إلا الله، فهو أحقُّ أن يُعبد، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد، لأنه مُسْتَبِدٌ وغير مُسْتَمدّ، والمادة من عَيْنِ الجود، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | قال البيضاوي: ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميَّز بها عن سائر الذوات، تعلَّق العلمُ بمعلوم معين، خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصُّك بالعبادة والاستعانة، لكون أدلّ على الاختصاص، وللترقي من الغَيْبة إلى الشهود، وكأن المعلومَ صار عياناً، والمعقولَ مُشاهَداً، والغيبة حضوراً، بَنَى أول الكلام على ما هو مبادئ حالِ العارفِ من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه، والنظر في آلائه، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفَّى بما هو منتهى أمرِه، وهو أن يخوض لُجَّةَ الوصول،ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عياناً ويناجيه شِفاها، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوبٍ إلى آخر، تَطْريَةً وتنشيطاً للسامع، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله:**{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ... }** [يُونس: 22]، ولم يقل بكم وقوله:**{ أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ... }** [فَاطِر: 9]، أي: ولم يقل: فساقه... انظر تمام كلامه. والالتفات هذا في قوله: { إياك نعبد } ولم يقل: إياه نعبد لأن الظاهر من قبل الغيبة، وحسنه أن الموصوف تعيَّن وصار حاضراً. قال الأقليشي: فهذه الآية هي التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم: **" فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله تعالى: هذه بيني وبين عَبْدِي ولعَبْدِيَ مَا سَأَلَ "** معناه: أيُّ عبد توجَّه إليَّ بالعبادة وسألني العون عليها فعبادته متقبلة، والعون مني له عليها حاصل حتى يُوقعها على وجهها، فالعبادة وصف العبد، والعون من الله تعالى للعبد، فلهذا قال: " فهذه بيني وبين عبدي ". قال ابن جُزَي: أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدَرية والجبرية، وأنَّ الحق بين ذلك. { الإشارة }: لمّا تجلّى الحقّ جلّ جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحَمِدَ نفسه بنفسه، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته لإظهار آثار أسمائه وصفاته، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحكمة وأبطن القدرة، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة، ويخضع له، ويتعبّد ويستمد، منه الإعانة والهداية، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية. فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف، وعالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، وعالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة، ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: { إياك نعبد } شريعة، و { إياك نستعين } حقيقة، و { إياك نعبد } إسلاماً، و { إياك نستعين } إحساناً، { إياك نعبد } عبادة، و { إياك نستعين } عبودية، { إياك نعبد } فَرْقٌ، { إياك نسعتين } جَمْعٌ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | هـ. وإن شئت قلت: { إياك نعبد } لأهل العمل لله وهم المخلصون، و { إياك نستعين } لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون، العمل لله يوجب المثوبة، والعمل بالله يوجب القُرْبَة، العمل لله يوجب تحقيق العبادة، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد، والعمل بالله نعت كل قاصد، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر، والعمل بالله قيام بإصلاح الصمائر، قاله القشيري. ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام: قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة، وقفوا مع قوله: { إياك نعبد } ،وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، وهم أهل الفناء، وقفوا مع قوله: { إياك نستعين } ، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه، وهم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وبالله التوفيق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تفسير القرآن/ علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ)
{ إياك نعبد } مخاطبة الله عز وجل { وإياك نستعين }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
القراءة: قرأ ابن كثير في رواية ابن مجاهد عن قنبل والكسائي من طريق ابن حمدون ويعقوب من طريق رويس بالسين. وكذلك في سراط، في جميع القرآن. الباقون بالصاد واشم الصاد زا يا حمزة في الموضوعين، خاصة في رواية علي بن سالم، وفي رواية الدوري وخلاد اشمامها الزاي ما كان فيه الف ولام. واما الصاد اذا سكنت وكان بعدها دال نحو: يصدر، وفاصدع، ويصدفون، فاشم الصاد الزاي حيث وقع، حمزة والكسائى وخلف ورويس. الأعراب { اهدنا }: مبني على الوقف لانه امر، والهمزة مكسورة لأن ثالث المضارع منه مكسور في نحو يهدي. وموضع النون والألف من اهدنا، نصب لأنه مفعول به والصراط منصوب لأنه مفعول ثان. فمن قرأ بالسين فلأنه الأصل، من غير سبب يمنع منه، ومن قرأ باشمام الزاي، فللمؤاخاة بين السين والطاء بحرف مجهور من مخرج السين وهو الزاء من غير ابطال للأصل ومن قرأ بالصاد بين الصاد والطاء بالاستعلاء والاطباق. والقراءة بالصاد احسن لأن فيها جمعاً بين المتشاكلين في المسموع. اللغة والتفسير ومعنى اهدنا يحتمل امرين: احدهما ـ ارشدنا. كما قال طرفة. | **للفتى عقل يعيش به** | | **حيث يهدي ساقه قدمه** | | --- | --- | --- | والثاني ـ وفقنا كما قال الشاعر: | **فلا تعجلن هداك المليك** | | **فان لكل مقام مقالا** | | --- | --- | --- | أي وفقك. والآية تدل على بطلان قول من يقول: لا يجوز الدعاء بأن يفعل الله ما يعلم أنه يفعله لأنه عبث، لأن النبي صلى الله عليه وآله كان عالماً بأن الله يهديه الصراط المستقيم، وانه قد فعل ذلك، ومع ذلك كان يدعو به. وقد تكون الهداية بمعنى أن يفعل بهم اللطف الذي يدعوهم إلى فعل الطاعة، والهدى يكون ايضاً بمعنى العلم لصاحبه لأنه مهتد على وجه المدح. والهدى يكون ان يهديه إلى طريق الجنة، كما قال الله تعالى: { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } ، وأصل الهداية في اللغة الدلالة على طريق الرشد فان قيل: ما معنى المسأله في ذلك وقد هداهم الله الصراط المستقيم، ومعلوم أن الله تعالى يفعل بهم ما هو أصلح لهم في دينهم؟ قيل: يجوز أن يكون ذلك عبادة وانقطاعاً إليه تعالى كما قال: { رب احكم بالحق } وإن علمنا أنه لا يحكم إلا بالحق، ويكون لنا في ذلك مصلحة كسائر العبادات، وكما تعبّدنا بأن نكرر تسبيحه وتحميده والاقرار بتوحيده ولرسوله بالصدق، وإن كنا معتقدين لجميع ذلك. ويجوز أن يكون المراد بذلك الزيادة في الألطاف كما قال تعالى:**{ والذين اهتدوا زدناهم هدى }** وقال:**{ يهدي به الله من اتبع رضوانه }** ويجوز أن يكون الله تعالى يعلم أن أشياء كثيرة تكون أصلح لنا، وأنفع لنا إذا سألناه، وإذا لم نسأله لا يكون ذلك مصلحة، وكان ذلك وجهاً في حسن المصلحة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | ويجوز أن يكون المراد استمرار التكليف والتعريض للثواب، لأن إدامته ليست بواجبة بل هو تفضل محض جاز أن يرغب فيه بالدعاء. ويلزم المخالف أن يقال له: إذا كان الله تعالى قد علم أنه يفعل ذلك لا محالة فما معنى سؤاله ما علم أنه يفعله، فما أجابوا به فهو جوابنا. والصراط المستقيم هو الدين الحق الذي أمر الله به من توحيده، وعد له، وولاية من أوجب طاعته. قال جرير: | **أميرالمؤمنين على صراط** | | **إذا اعوج الموارد مستقيم** | | --- | --- | --- | أي على طريق واضح. وقال الشاعر: | **فصد عن نهج السراط الواضح** | | | | --- | --- | --- | وقيل: إنه مشتق من " مسترط " الطعام، وهو ممره في الحلق، والصاد لغة قريش؛ وهي اللغة الجيدة، وعامة العرب يجعلونها سينا، والزاي لغة لعذرة، وكعب وبني القين يقولون: أزدق، فيجعلونها زاياً إذا سكنت. وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق. وبنو تميم يذكرون هذا كله. وأصل الاستقامة التقويم والاستواء في جهة الانتصار وهو ضد الاعوجاج، فمنه القيام والتقويم والتقوّم، ومنه المقاومة، لأنه بمنزلة المماثلة بما هو كالاستواء. وتقاوموا في الأمر إذا تماثلوا والاستقامة المرور في جهة واحدة. وقيل في معنى قوله: { الصراط المستقيم } وجوه: أحدها ـ إنه كتاب الله، وروي ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن علي عليه السلام وابن مسعود. والثاني ـ انه الاسلام، حكي ذلك عن جابر وابن عباس. والثالث ـ انه دين الله عز وجل الذي لا يقبل من العباد غيره. والرابع ـ انه النبي (صلى الله عليه وسلم) والأئمة (ع) القائمون مقامه صلوات الله عليهم، وهو المروي في أخبارنا. التفسير والأولى حمل الآية على عمومها لأنا إذا حملناها على العموم دخل جميع ذلك فيه فالتخصيص لا معنى له. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
قوله جل اسمه: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إيّا ضمير منفصل للمنصوب، والروادف التي بعده من الحروف لبيان الخطاب والغيبية والتكلّم، وليس لها محل من الإعراب، إذ ليست هي بأسماء مضمرة عند المحقّقين. وأما قول بعض العرب: " إذا بلغ الرجل الستّين فإيّاه وإيّا الشوابّ " فشاذ، وتقديم المفعول للدلالة على الاختصاص. فقولك للرجل: إيّاك أعني، معناه لا أعني غيرك: ولا شكّ في أنه أبلغ من أن يقول: أعنيك، كما في قوله تعالى:**{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً }** [الأنعام:164]. والمعنى: نخصّك بالعبادة ونخصّك بالاستعانة. وقرئ إياك بتخفيف الياء، وأيّاك بفتح الهمزة والتشديد، وهيّاك بقلب الهمزة هاء وقرئ بكسر النون فيهما، وهي لغة بني تميم فإنّهم يكسرون حروف المضارعة غير الياء إذا لم ينضم ما بعدها. والعبادة ضربٌ من الشكر وغايةٌ فيه، لأنها الخضوع والتذلّل، تدل على أعلى مراتب التعظيم ولا يستحقّها أحد إلاّ باعطاء أصول النعم الذي هو خلْق الحياة والقُدرة والحسّ والشهوة. و لا يقدر عليه أحدٌ إلاّ الله، فلذلك اختص سبحانه بأن يُعبد، ولا تجوز العبادة لغيره، بخلاف الطاعة، فإنّها قد تحسن لغيره، كطاعة الأب والمولى والسلطان والزوج، فمن قال: إنّ العبادة هي الطاعة، فقد أخطأ، لأنها غاية التذلّل دون الطاعة، فإنّها مجرد موافقة الأمر، ألا ترى أنّ العبدَ يطيعُ مولاه ولا يكون عابداً له؟ والكفّار يعبدون الأصنام ولا يكونون مطيعين لهم؟ إذ لا يتصور من جهتهم الأمر. فائدة إنّ في تقديم إيّاك على نَعبدُ وجوهاً: منها: أنّ في هذا التقديم تنبيهاً منه للعابد على أنّ المنظور إليه في العبادة هو المعبود نفسه، لا شيء آخر، من طلب ثواب أو دفع عقاب. ومنها: أنّه قدم نفسه لتنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله الحقّ، فلا يلتفت يميناً وشمالاً، ولا يتكاسل في الطاعات، ولا يثقل عليه تحمّل العبادات من الركوع والسجود، فإنّه إذا ذكر قوله: إيّاك، يحضر في قلبه معرفة الربّ تعالى، فبعده سهلت عليه تلك الطاعات، وهانت عليه مشقّة العبادات، ومثاله: من أراد حمل جسم ثقيلٍ، يتناول قبل ذلك ما يزيده قوّة وشدّة. فالعبدُ لمّا أراد حمل التكاليف الشاقّة، يتناول أولاً معجون معرفة الربوبيّة من قوله ايّاكَ حتّى يقوى على حمل ثقل العبوديّة. ومنها: أنّك إذا قلت: نعبدُك، بتقديم ذكر العبادة منك، فقبل أن تذكر أنّها لمن هي، فيحتمل أنّ الشيطان يقول: إنّها للاصنام، أو للأجسام كالشمس والقمر: أما إذا غيّرت هذا الترتيب وقلت أولاً: إياك، ثمّ قلت ثانياً: نعبدُ. فلم يبق مجال لهذا الاحتمال، وكان أبلغ في التوحيد، وأبعد عن احتمال الإشراك. ومنها: أنّ المعبود متقدّم في الوجود والشرف على الممكن، وكان ينبغي أن يكون ذكره متقدّماً على ذكر غيره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فائدة اخرى [سر الالتفات من الغيبة الى الخطاب] اعلم أن الدنيا لمّا كانت دار التعب والكلال، والسآمة والملال، فمن عادة فصحاء العرب التفنن في الكلام، والعدول من طرز إلى طرز، تنشيطاً للسامع، وتنبيهاً لذهنه عند العدول من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب الى التكلم، وبالعكس. وهذا أحسن من الجري على نسَق واحد، واللزوم لمسلك متكرر ومع ذلك، قد تختصّ مواقع الالتفات بزوائد فوائد من النكات، لا تحصل بدونه. وها هنا من هذا القبيل، إذ قد تقرّر في العلوم الإلهيّة، ان شدّة الإدراك، وتأكّد الصورة العلمية في الوضوح والانارة، وقوّة الشوق الى المدرَك ورسوخه، يوجبان حضور المعلوم، ولهذا قيل: المعرفة بذر المشاهدة والرؤية ثمرة اليقين. فلما ذكر الله تعالى، وأُجرِيَت عليه صفات كمالية ونعوت إلهية من كونه حقيقاً بالحمد، ربّ العالمين، موجِداً للكلّ، منعِماً عليهم بالنعم كلّها، جليلها ودقيقها، دنيويّها وأخرويّها، محسوسها ومعقولها، مالكاً لامورهم يوم الجزاء واللقاء، تميّزت بها ذاته عن سائر الذوات، وتنوّر القلب بأنوار معرفة هذه الصفات، وفتحت البصيرة بكشف هذه الآيات، وتعلّق العلم بمعلوم معيّن حاضر حضوراً إشراقياً، فخوطب بالكلام: يا من هو بالحمد حقيق، وبهذه الصفات الكمالية يليق، نخصّك بالعبادة والاستعانة. ليكون الخطاب أدلّ على هذا الاختصاص، ولاستجلاب مزيد قرْب بعد قرب في هذا التذلّل والانكسار، وطلب معونة من قربه على قربه، لأنّ ذاته غير متناه في شدة الوجود وقوّة البهاء والعظمة، لا يمكن الاكتناه بنور وجوده، فكلّما كوشف للسالك، كان المستور منه بستر الجلال وسرادق الكبرياء أعظم بما لا نسبة بينهما، إذ المنال والمشهود هناك بقدر قوّة نظر الطالب ونور بصيرته، لا بحسب المطلوب نفسه، وكلما ازداد في القرب ازداد في الاشتياق، ويكون أحوج إلى طلب المعونة لزيادة المشاهدة وكسب الإشراق، فكان أول الكلام مبنيّاً على ما هو بداية أمر السالك من الأذكار والأفكار، والتأمّل في الأسماء والنظر في الآلاء والنعماء، طلباً للاستبصار، وتقرّباً الى مشاهدة نور الأنوار، واستدلالاً من صنائعه على أسمائه وصفاته، ومن أسمائه وصفاته على انوار جماله وأسرار جلاله ثمّ صار مؤدّياً إلى منتهى سيره وغاية سفره إلى الحقّ، وهو كونه ممّن يخوض لجّة الوصول، ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عياناً، ويشاهده كفاحاً، ويشافهه شفاهاً، كما أشار إليه صاحب الإشارات، المرتقي بصفاء ضميره عن درجة أهل العبادات، الواصل الى مقامات العارفين ودرجات المكاشفين، كما يفصح عنه قوله: " وهناك " أي عند الخوض في لجّة الوصول والسفر في بحر الحقيقة بعد العبور على منازل العقول " درجات ليست أقل ممّا قبلها " بحسب كثرة العجائب، وفنون الغرائب، وتمادي الأسفار، وتباعُد المراحل، وتفاوت المنازل، لأن كل حقيقة من الحقائق الكونية، وكلّ صورة من الصور الكمالية الوجودية، التي هي ثابتة للموجود بما هو موجود في شيء من العوالِم، فهي هناك بالفعل على وجه أعلى وأشرف وأتمّ، من غير لزوم تكثّر، وتطرّق تغيّر في الحضرة الأحدية، فالذات الأحدية أرض كل الحقائق، وسماء أنوار الهويّات، يقع فيه سير المسافرين، ويدور عليه أنوار السائرين، من الله مشرقها، وإلى الله مغربها، إذ ما شأنه أن يعاين بحق اليقين وعينه، فكيف يمكن أن يدرك بعلم اليقين أو دونه؟ إلا انّ البيان قاصر عن وصفه، واللسان يكلّ عن نعته، ولهذا قال صاحب المقامات - اعتذاراً عن بيان أحوال هذا المشهد-: " آثرنا الاختصار فإنها لا يفهمها الحديث ولا تشرحها العبارة ولا يكشف عنها المقال غير الخيال، من أحبّ أن يتعرّفها فليتدرّج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة، ومن الواصلين إلى العين دون السامعين للاثر " انتهى كلامه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ونحن أيضاً قد آثرنا الاختصار في مقامٍ خرست فيه السُن الفصحاء، واتّبعنا قول سيّدنا ونبيّنا (عليه وآله الصلاة والدعاء): إذا بلغ الكلام إلى الله فامسكوا. بصيرة [سر تقدم اياك نعبد على اياك نستعين] اعلم إن الانسان مركّب من جسد كالمركَب وروح كالراكب، وهو منذ خلَقه الله في سفر الآخرة، وغاية سفره لقاء الله، لهذا خُلق وعليه فُطر وجُبل، وهو المقصود من الروح، والمقصود من الجسد اكتساب المنافع واقتناء الخيرات والتخلّص عن الشرور والآفات. وهو المعني بالعبادة والخدمة. فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتياً بالأعمال المقرّبة للروح إلى الله، تعظيماً للمعبود وخدمة له، وهو أول درجات السعادة للإنسان، وهو المراد بقوله تعالى: { إيّاك نَعبُدُ }. وأفضل أحوال الروح أن يكون مرتبطاً بالحقّ، متعلقاً به، منقطعاً عن غيره، متجرّداً عن الدنيا وما فيها، فإذا واظَب على تحصيل هذه المرتبة، وداوَم على تجريد ذاته وتخليصها عن العلائق الماديّة والغواشي الدنيوية، فعند ذلك يظهر له شيء من أنوار القدس ولوامع الغيب، فإذا تنورت ذاته بنور المعرفة والعبادة، يعلم أنّ مبدء شوقه إلى عالم الملكوت، ومحرك ذاته لطلب التقرّب إليه تعالى، لم يكن ولا يكون إلا الله مقلّب القلوب ومحرّك النفوس، وأنّه بنفسه لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات والتدرّج على هذه الدرجات، ولا يمكنه الإتيان بتحصيل شيءٍ من الكمالات العلمية والعمليّة إلا بتوفيق الله وعنايته وعصمته، وهو المراد من قوله تعالى: واياكَ نستَعينُ. وفيه ايضاً حجّة لأهل التوحيد الأفعالي، قال بعض العرفاء الموحّدين: ولولا أنّ العبد ادّعى الاستطاعة في الأفعال والاستقلال بها، لما أنزل الله عليه تكليفاً قطّ، ولا شريعة، ولهذا جعل حظّ المؤمن من هذه الدعوى أن يقول: ايّاكَ نَستعينُ، وحظّ العفراء المكاشفين ممن وقع عنهم التبرّي من الأفعال الظاهرة وجودها منهم أن يقولوا: لاَ حَولَ وَلاَ قوَةَ الاَ بالله العليّ العَظيم، فهذا القول لا يصدر على وجه الصدق إلاّ عن اولئك الكاملين العارفين بها التوحيد الأفعالي، فهو لهم خاصّة دون غيرهم، فكم بين الحالين من التبرّي والدعوى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فالمدعي مطالَب بالبرهان على دعواه، والمتبري غير مطالَب بذلك. ولا تقل: إنّ التبري أيضاً دعوى، فإنّ التبري لا يبقي شيئاً، وعلى ذلك ينطلق إسم المتبري - انتهى كلامه. وبالجملة فالمراد من قوله: ايّاكَ نَسْتَعين، طلَبُ الهداية لأقرب المناهج وأقوم الطرق إلى الله، كما وقع الافصاح عنه بعد هذه الآية بما يتلوها. بصيرة اخرى [الإشارة إلى السفر الثالث من الأسفار الأربعة] الضميران المستكنّان في هذين الفعلين، إما للنبي (صلّى الله عليه وآله) وأمته أو للإمام وحاضري صلاة الجماعة معه. أو للقاري ومن معه من الحفظة أو له ولسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عباداتهم، وخلَط حاجتَه بحاجاتهم، لعلها تُقبل ببركاتها وتجاب إليها؛ كادراج البائع غيرَ الرائج في جملة الرائج في بيع الصفقة، ومن ها هنا يُعلم سرّ شريعة الجماعات. ولتقديم ضمير المعبود والمستعان به وجوه أخرى غير ما ذكر، كالتعظيم، وتقديم ما هو مقدم في الوجود، وللاشارة إلى أن نظر العابد والتفاته ينبغي أن يكون مقصوراً على ذات المعبود أولاً وبالذات، ثم إلى العبادة، لأنها وسيلة ووصلة بينه وبين الحق، فمن كان غرضه من المعرفة والعبادة نفسه أو نفس شيء منهما، فهو ليس من الموحدين ولا من العابدين، لأنه يعبد غير الله، وهذه حال المتبجح بزينة ذاته، وإن كان بمعرفة الحق، وأما من عبَد الله وغاب عن ذاته وعن عبادته، فهو مستغرق في العبودية لله بما هي عبودية له، وانتساب إليه، نسبة الفقر والحاجة التي هي من أشرف النِسَب. فإن قُصارى مجهود العابدين تصحيح هذه النسبة ومَن كانت هذه حالته في العبادة فهو من الواصلين لا محالة. اذ ملاحظة النسبة بما هي نسبة عين ملاحظة المنسوب إليه، فهو بالحقيقة مستغرق في ملاحظة جناب القدس وغائب عن ما سواه، حتى أنه لا يلاحظ نفسه، ولا حالاً من أحوال نفسه إلا من حيث إنها ملاحظة له ومفتقرة إليه. ولهذا رجّح قول حبيب الله:**{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا }** [التوبة:40]. على قول كليمه:**{ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }** [الشعراء:62]. وبالجملة، أشرف منازل السالكين مقامُ الفقر ومنزل العبودية. والسبب العقلي فيه: ان جميع الموجودات قابلة للرحمة الإلهية، والكمال الوجودي بحسب فطرتها الإمكانية، وإنما المانع منها عن قبول الفيض الأتمّ والجود الأشمل، هو تقيّده بقيد خاص وتصوره بصورة وجوديّة مخصوصة تضاد قيداً آخر وصورة وجودية أخرى، فبقدر تخلّصه عن قيده الجزئي، وانخلاعه عن صورته المخصوصة، يستحقّ لكمال أتمّ وأعمّ، وصورة جوديّة اشمل وأكمل، فإذا تجرّد عن كل ما سوى الله، وغابَ عن كل اسم ورسم وحلية وصفة وحول وقوة، كان الله له بدلاً عن جميع ذلك، فصار الحقّ حولَه وقوّتَه وسمعَه وبصرَه ويدَه ورِجْله وجميع قواه وجوارحَه - كما ورد في الحديث القدسي - من غير تغير وتكثّر في ذاته وصفاته تعالى عن ذلك علواً كبيراً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولهذا أمثلة كثيرة: منها: أن الهيولى الأولى للاجسام، لمّا كانت في ذاتها عارية عن كلّ صورة حسّية وصفة جسمانيّة، قبلتها كلّها، بخلاف الموادّ الثانوية لها، فإنّها من حيث استعدادها الخاصّ لا تقبل إلا صورة واحدة، فكذلك النفس الإنسانيّة التي هي هيولى العقليّات، من شأنها أن تقبل سائر الصور العقلية والكمالات الملكوتية والأخلاق الحسَنة كلّها، إلاّ انّ تقيّدها ببعض الصفات، واحتجابها بحجب بعض الملكات يمنعها عن الاتّصال بما فوقها. ومنها: أنّ العناصر إذا امتزجت وتفاعلَت وانفعَل كل منها عن صاحبه، انكسرت كيفيّاتها، وكادتْ تخلَع عنها صوَرها المتضادّة الجزئية، فعند انكسارها وشدّة افتقارها إلى ما يحفظها عن الفساد، فاض عليها المبدأ الجواد بصورة كماليّة جامعة لكمالات تلك الصوَر المتعددة بوحدتها الجمعيّة، وقس عليها حال النفوس المتعدّدة عند اجتماعها في بيوت العبادة ومجالس العلم والذكْر، وتركها شواغلها الدنيويّة، كيف تُفاض عليها بركة الهيئة الجمعيّة، وتنكشف عليها صورة المسالة العلميّة التي هي أشرف من تلك الشواغل. ومنها: أنّ الجسم الملوّن الكثيف، إذا زال بالتصقيل لونُ سطحه وضوؤه، قَبِل بعد ذلك لون كل ما يقابله وضوءَه وما ذلك إلاّ لأنّ الجسم الصقيل لا لون له ولا ضوء له بالفعل، مع أنّه من شأنه أن يكون ذا لون وضوء لكونه كثيفاً. ومنها: أنّ الجسم المشف من شأنه قبول الألوان كلّها، وإذا اتّصف بلون خاصّ يمتنع عليه قبول غيره، يماثله أو يضادّه، وأما أنّ الملوّن بغير السواد، يقبل لون السواد، فلأنّ غير السواد من الألوان بالقياس إلى السواد كاللاّلون بالقياس إلى اللون، وها هنا موضعُ تأمل. ومنها: أنّ كلاً من مواضع الشعور الخمسة خالية عن الكيفيّات المحسوسة بتلك الآلة، فإنّ آلة البصر - وهي الجليديّة - شفّافة، وآلة الطعْم - وهي الرطوبة اللعابيّة - عديمة الطعم، وآلة الشمّ عديمة الرائحة، وآلة السمْع عديمة الصوت، وكذلك حكم آلة اللَمسَ، فإنّها وإن لم تكن خالية عن أوائل الكيفيات إلاّ انّها متوسّطة بينها، وقد تقرّر إنّ التوسط بين الأضداد بمنزلة الخلوّ عنها، أو لا ترى أنّك تقول للماء الفاتِر: لا حار ولا بارد؟. ولأجل خلوّ مادة كل من هذه القوى الحسّاسة عن جميع أفراد الصوَر التي هي واقعة تحت جنس محسوساتها، صارت قابلة للجميع من غير تأبٍّ وتعصٍّ عن قبول شيء منها، ما لم يعرض لها فساد أو مرض. ثمّ إنّ مادّة كلّ منها، وإن لم تكن مقيّدة بصورة الكيفية التي يقع الإحساس بها من تلك الحاسّة، ولكنّها مقيّدة بصوَر وكيفيات أخر من أجناس سائر المحسوسات، ولهذا اقتصر إدراكها على ما يخصّها ولا يتجاوز عنه إلى المحسوسات الأربع الباقية، ولخلوص القوّة المتخيّلة عن هذه الكيفيّات المحسوسة كلّها، أدركت الجميع وأحضرتها، لأنّ جوهر النفس الخياليّة غير مبصَرة ولا مسموعة ولا مشمومة ولا مذوقة ولا ملموسة، ولها قوّة قبول هذه الأشياء كلّها، فلا جَرَم تقبلها كلّها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنها: أنّ ملكة العدالة النفسانية - التي هي عبارة عن توسّط النفس الإنسانيّة في الشهوة بين الفجور والخمود، وفي الغضب بين الجُبن والتهوّر، وفي القوّة الإدراكيّة بين الجَربزة والبلاهة - لمّا كانت بمنزلة كون النفس خالية عن الإتّصاف بهذه الصفات الستّة، التي كلّ منها هيئة نفسانيّة شاغلة إيّاها إذا كانت راسخةً عن طلب الحقّ وسلوك الآخرة، صارت بسببها مستعدّة للكمال العلمي، لأنّها عند انكسار هذه القُوى وانقهارها عن طلب مشتهياتها ومقتضياتها، تخلص عن انقيادها وطاعتها، فتقع لها بقوّة عقلها الهيولاني، هيئة استعلائيّة عليها، وقوّة نوريّة استعداديّة لطاعةِ الحقِّ وانقياده، وقبولِ أنوار المعارف الإلهيّة وأسرارِ المقاصدِ الربوبيّة، فيصير عقلُه المنفعل علاّمةً بالحق، مطيعاً لله تعالى. فإذا علِمتَ حال هذه الأمثلة، فقسْ عليها حالَ السالك العارِف بالله عند عدم التفاته بما سواه، وعند كونه غير مشغول السرّ بغير الله، وغير متبجح بزينة ذاته من حيث هي ذاته، وإن كانت بصورة المعرفة وهيئة العبوديّة، بل مع غيبته عن ذاته، وغيبته عن غيبة ذاته، وفنائه عن فنائه، وحينئذ يكون باقياً ببقاء الله فوق ما كان باقياً بابقاء الله، كما كان قبل الوصول، وهذا هو مقام الفناء في التوحيد والمحو، وإليه الإشارة بقوله: { إيَّاك نَعبُدُ }. فإذا بقي في هذا المحو ولم يرجع إلى الصحو، كان مستغرقاً في الحقِّ محجوباً بالحقّ عن الخلق، كما كان قبل ذلك محجوباً بالخلق عن الحقّ، لضيق وعائه الوجودي وامتناع قبوله التجلّي الذاتي الشهودي فكذلك الموجود في مقام هذا التجلّى والشهود احتجب التفصيل عن شهوده واضمحلّت الكثرة في وجوده، ما زاغ بصرُه عن مشاهدة جمالِه وسَبَحاتِ نور جلاله، لاستغراقه في بحر التوحيد، فلا ينظر إلى ما سواه ولا يستعين إلاّ إيّاه، فيقول عند ذلك: إيّاكَ نَستَعينُ. أي في مشاهدة آلائكَ بمشاهدة ذاتِكَ وصفاتِك فحينئذ يرجع من الحقّ بالحقّ إلى الخلق، وهذا هو السفر الثالث من الأسفار الأربعة الواقعة من الكاملين المكملين. فإذا رجع بالوجود الحقّاني الموهوب إلى حالة الصَحْو بعد المَحْو، وانشرَح صدرُه ووسع الحقَّ والخَلْقَ، صار منتصباً في مقام الاستقامة كما أمر الله به الرسول - صلّى الله عليه وآله - في قوله:**{ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ }** [هود:112]، متوسّطا في صراط الحقّ بين التشبيه والتعطيل، ناظراً بعين الجمع إلى التفصيل، وإليه الإشارة بقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }. وذلك هو الفوز العظيم، والمنُّ الجسيم، فقوله: ايَّاكَ نَعْبُدُ، إشارة إلى مقام السلوك إلى الله والتقرّب إليه بالعبوديّة التامّة له، وهي مرتبة الولاية المشارُ إليها في قوله: لا يزالُ يتقرّبُ العبدُ إليَّ النوافِل حتّى أحْببتُه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقوله: وَايَّاكَ نَستَعينُ، إشارة إلى مقام الصحْو بعد المحْو، وهي مرتبة النبوة، المشار إليها في قوله تعالى: فإِذَا أحبَبتُه كُنْتُ سمعَه وبصرَه ويدَه ورِجْلَه - الحديث. بصيرة [سر تقديم العبادة على الاستعانة] قيل: قدّمت العبادة على الاستعانة، لتتوافق رؤوس الآي. وقيل: إنّ العبادة وسيلة لطلب الحاجة، وتقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأسرع للقبول. وأقول: لمّا علمتَ أنّ أشرف مراتب الإنسان - بما هو إنسان - وأجلُّ مقاماته، تحصيل نسبة الإمكان والافتقار إليه سبحانه بالعبادة والعبوديّة، ولهذا قدّم ذكر العبوديّة على ذكر الرسالة في قولك: أشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسوله، وذلك لأن الأولى عبارة عن نسبة العبد إليه تعالى، والثانية عبارة عن نسبته إلى الخلق، فالأولى تكون أقدم من الثانية بالشرف، وإن كان الرسول أفضل من الوليّ، لكونه جامعاً للمنزلتين جميعاً، فكذلك الكلام ها هنا، فإنّ العبادة لكونها وسيلة إلى الحقّ، أشرفُ من الاستعانة لكونها وسيلةً إلى الخلق. واعلم أنّ في تقديم العبوديّة على الرسالة في التشهّد وجهاً آخر، وهو: أن لكلّ من الولاية والنبوّة حدوثاً وبقاءً، فالولاية أقدم حدوثاً وأدوم بقاءً من الرسالة، فناسب التقدم الوضعي للتقديم الزماني. وجه آخر قيل: لما نسبَ المتكلمُ العبادة إلى نفسه، كأنّه أوهَم ذلك تبجحاً بزينة ذاته من جهة نسبةِ العبادة، واعتداداً منه بما يصدر عنه، فعقّبه بقوله: إيَّاكَ نَستَعينُ، ليدل على أن العبادة أيضاً مما لا يتمّ ولا يستتبّ إلاّ بمعونة منه وتوفيق. وقيل: الواو للحال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } يعنى ينبغى للقارى ان يرتقى الى مقام الحضور ويشاهد الحقّ تعالى فى مظاهره تعالى فيرى انّه ما كان مالكاً لشيىءٍ من امواله وافعاله واوصافه وذاته وانّ الله كان هو المالك للكلّ بالاستحقاق فيقع فى مقام الالتجاء ويخاطبه بلسان حاله وقاله ولسان ذاته وجميع جنوده وقواه ويظهر عبوديّته ورقيّته له تعالى بنحو حصر العبوديّة فيه فانّ مقام الحضور يقتضى التضييق فى العبوديّة بحيث لا يبقى للحاضر مجال النّظر الى غير المعبود الم تنظر الى قوله تعالى**{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا }** [النساء: 97] من غير ذكر عبادة فيه فضلاً عن حصر العبادة فيه تعالى، والى قوله تعالى**{ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ }** [العنكبوت: 56] بذكر العبادة وحصرها فيه تعالى، فانّ مقام الغيبة لا يكون فيه عبادة ولو فرض عبادة لم يكن الاّ للاسم لا لله فضلاً عن الحصر فيه تعالى، وفى مقام الحضور لا يكون غير العبادة ولا تكون العبادة الاّ لمن حضر لديه ولذلك قال تعالى فى موضع آخر { واعبدوا الله } { واعبدوا ربّكم } ويكون المقصود من اظهار العبادة والحصر فى الله تعالى تمهيداً لطّلب الاعانة منه ويقول بطريق الحصر نفعل فعل العبيد لك لا لغيرك او نصير عبيداً لك لا لغيرك { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فى دوام الحضور عندك وعدم الخروج من هذا المقام والبقاء على عبوديّتك وفى جملة الامور سوى هذا، واذا بلغ السّالك فى قراءته الى مقام الحضور عند ربّه يكون لا محالة يتجاذبه كثرات وجوده ورعايا مملكته وتتقاضى منه قضاء حاجاتها واحقاق حقوقها فيضطرّ الى الالتفات اليها والى كثرات خارجة من مملكته لاضطرار الحاجة اليها فى قضاء حقوق رعاياه ويرى انّه قلّما ينفّك فى معاملة الكثرات عن الافراط والتفريط وهما مانعان عن مقام الحضور ولذّة الوصال فيتضرّع على ربّه ويسأله الابقاء على لذّة الوصال عن الاشتغال بالاغيار ويقول { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ إِيَّاكَ } قدم للحصر، والثاني للحصر والفاصلة، ومقتضى الظاهر، إياه نعبد، وإياه نستعين، ليهدنا بلام الدعاء، أنعم عليهم بصيغ الغيبة مثل ما قبله، إلا أنه لما أتى بالأوصاف الكاملة من كمال الرحمن المشاهدة، وصفات الجلال المحمود عليها، وقدرته الكاملة بتدريج الأفهام في ذلك على وجه الغيبة، وقوى برهان ذلك صار الغائب شاهداً بتكلم معه بصيغ الخطاب، وفي صيغة الخطاب تلذذ { نَعْبُدُ } نخدم بكل ما نقدر عليه، وهذا العموم أفاده الإطلاق القابل لكل ممكن على سبيل البدلية، فيحمل على العموم الشمولى الشامل لكل أفراد البدلى، وكذا في قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } على تحصيل العبادة والمباح، وعلى دفع المعاصى عنها والمضار، وخدمته إما للثواب والهروب عن العقاب، وذلك زهد، وهى عبادة، وإما للشرف بها والنسبة إليه تعالى، وهى عبودية، وإما لإجلاله، وهى عبودية، وهى أعلى، وقدم العبادة لنتوسل بها إلى دفع المكروه، وجلب المحبوب، أو قدمها لأن المراد بها التوحيد، فذكر بعدها الاستعانة على مطلق العبادة، وأيّاً كان الأمر فالواو لا ترتب، وفى الوجه الأخير حصول التخلى قبل التجلى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
في هذه الآية الكريمة يعلم الله عبادة أن يفردوه بالعبادة وبالإِستعانة، وهذه ثمرة التوحيد وجوهر الإِيمان والآيات المتقدمة في السورة جاءت توطئة لها ومقدمة لما فيها فإن الإله الحق الذي هو رب العالمين والمتصف بالرحمة والمالك للأمر في الدنيا والآخرة جدير بأن لا تتجه العبادة إلى غيره وأن لا يتعلق القلب بسواه، ويرى الزمخشري أن الآية الكريمة جاءت لتبين الحمد المقصود في قول الله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ويتقدمها سؤال مقدر تقديره كيف تحمدونه؟ فأُجيب: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وسوغ السيد الجرجاني ذلك لأن السؤال عن كيفية الحمد لا عن ماهيته، فصح أن يجاب عنه بالإِجابة المشتملة على الحمد وعلى غيره لأن ضم غيره إليه نوع بيان لكيفيته، أي حال حمدنا أن نجمعه بسائر عبادات الجوارح والإِستعانة في المهمات، ونخص مجموعها بك، وأورد السيد الجرجاني أيضا أنه صح كون العبادة بيانا للحمد من حيث أن اقصى غاية الخضوع يقتضي اعترافا تاما بالإِنعام، ووصفا للمنعم بصفات الجلال والإِكرام، وهذا لأن الحمد اصل العبادة ورأسها كما مر أنه رأس الشكر، إِذ حقيقة العبادة شكر المنعم الحقيقي، أي اظهار الإِنقياد له بقدر الإِمكان غاية ما في الباب أن الجواب يشتمل على زيادة في البيان، ورجح السيد الجرجاني أن يكون قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } استئنافا جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها أزلا وأبدا، كأن سائلا يقول: ما شأنكم مع هذا الموصوف؟ وكيف توجهكم إليه؟. فأجيب بحصر العبادة والإِستعانة فيه، واعترض الإِمام أبو السعود ما يقوله الزمخشري " بأنه مع كونه لا حاجة إليه مما لا صحة له في نفسه فإن السؤال المقدر لا بد أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام، وتنساق إليه الأذهان والأفهام، ولا ريب في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته، على أن ما قدر من السؤال غير مطابق للجواب فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العباده حتى يتوهم أنه بيان لكيفية حمدهم، والإِعتذار بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر وتمحل لتوفيق المنزل المقرر بالمفهوم المقدر، ثم قال: وبعد اللُّتيا والتي إن فرض السؤال من جهته عز وجل فأتت نكته الإِلتفات التي أجمع عليها السلف والخلف، وإن فرض من جهة الغير يختل النظام لأبتناء الجواب على خطابه تعالى وبهذا هدم أبو السعود ما رجحه الجرجانى من أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها، وأضاف (بأن تناسي جانب السائل بالكلية وبناء الجواب على خطابه عزّ وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله) ثم قال: (والحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذُكرمن النعوت الجليلة الموجبة للإِقبال الكلى عليه من غير أن يتوسط هنالك شيء آخر) وأرى أن أضيف إلى ما يقوله أبو السعود أن السورة الكريمة صُدِّرت بحصر الحمد في ذات الحق تعالى وهو مشعر كما سبق بصدور جميع الآلاء عنه ثم تُلِّي ذلك بوصفه تعالى أنه رب العالمين، وفي هذا تصريح بما يستلزمه حصر الحمد فيه من كونه مصدر جميع الآلاء، كما أن فيه إيقاظا للشعور بعظمته تعالى المستوجبة لملأ القلب بهيبته، ثم أُتبع ذلك وصفه بالرّحمة المستلزمة للإِحسان، واختتمت سلسلة هذه الصفات بكونه مالك يوم الدين وهو اليوم الذي ينقلب جيع الناس إليه ليلقوا جزاء ما قدموا، وإجراء هذه الصفات العظيمة على الله باللسان مع استشعار معانيها بالقلب يجعل النفس تنساق انسياقا تلقائيا إلى منتهى الخضوع لهذا الرب الجليل الموصوف بهذه الصفات، صفات العظمة التي لا تليق بغيره، وليس خضوع أبلغ من خضوع العابد فناسب المقام أن يُفرد الله تعالى هنا بالعبادة وبالإِستعانة بصيغة الخطاب المشعرة بالحضور، والخروج بالكلام من أسلوب الغَيبَة إلى أسلوب الخطاب هو المعروف عند علماء البلاغة بالالتفات ويكون أيضا بالخروج عن التكلم إلى الخطاب أو العكس وبالخروج عن الخطاب إلى الغيبة أو التكلم وهكذا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . ولا يعنينا هنا بحث مسائل الالتفات فإن ذلك من اختصاص علم البلاغة وانما يعنينا بحث النكتة التي يجاء به لأجلها، وقد ذكر علماء البلاغة نكتة عامة له وهي تطرية الكلام وتجديد نشاط السامع والمتكلم، وقد تنضم إليها نكت خاصة بحسب المقامات، وللمفسرين والبلاغيين سباق في إظهار النكت التي تناسب هذا المقام، منهم من قال: لما ذُكر الحقيق بالحمد ووُصف بصفات العظمة التي تميزه عن غيره تعلقت معرفة القلب بمعلوم متميز خوطب بذلك ليكون أدل على الإِختصاص والترقي من البرهان إلى العيان، والإِنتقال من الغيبة إلى الشهود فكأن المعلوم صار عيانا، والمعقول مشاهدا، والغيب حضورا، وقيل: لما شرح الله تعالى صدر عبده بالإِسلام وأفاض على قلبه نور الإِيمان ترقى بسلم الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى مقام الإِحسان وهو (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وأيضا حقيقة العباده هو الإِنقياد المطلق من النفس لأحكام المعبود، وصورة هذا الإِنقياد وقالبه الإِسلام، ومعناه وروحه الإِيمان، وسره وغايته الإِحسان، وبالإِلتفات في (نعبد) يصل العبد عبر المرحلتين السابقتين إلى المرحلة الثالثة، وذكر الألوسي " بأنه يحتمل أن يكون السر أنّ الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء، والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى " ، وقيل غير ذلك. والعبادة لغة بمعنى الذل، يقال: عبد إذا ذل، وعُبِّد إذا ذُلل، منه قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ }** [الشعراء: 22] ويُقال طريق معبد إذا وطئته الأقدام حتى ذللته، ومنه قول طرفة بن العبد: | **تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت** | | **وظيفا وظيفا فوق مور معبد** | | --- | --- | --- | أما إصطلاحا فللناس فيها مذاهب ترجع إلى المعنى اللغوي، فابن جرير الطبري يفسرها بالخضوع والإِستكانة والذل مع الإِقرار بالربوبية للرب المعبود وحده، وروي عن ترجمان القرآن رضي الله عنه " أن المراد بقوله سبحانه { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } إياك نوحد ونخاف ونرجو " ، ورواه عنه ايضا ابن ابي حاتم، وابن كثير يرى أن العبادة استكمال المحبة مع منتهى الخضوع والخوف، وابن تيميه يرى أن العباده الجمع بين المحبة والخضوع، ولجهابذة العلماء في العصر الحديث أنظار في مدلول لفظ العباده، فالإِمام أبو الأعلى المودودي يرى أن العبادة تتكون من عناصر، منها الإِذعان التام من العابد لعلو المعبود والنزول له عن حريته واستقلاله، وترك كل مقاومة وعصيان إزاءه والإِعتقاد بعلائه، والإِعتراف بعلو شأنه، وأن يكون قلبه مفعما بعواطف الشكر والإِمتنان على نعمه وأياديه بحيث يبالغ في تمجيده وتعظيمه، ويتفنن في إبداء الشكر على آلائه، وفي أداء شعائر العبدية له، ويرى العلامة المودودي أن هذا التصور لا ينضم إلى معاني العبدية إلا إذا كان العبد لا يخضع لسيده رأسه فحسب، بل يخضع معه قلبه أيضا، ويستمد السيد الموردودي نظرته هذه في تفسير العبادة من مدلول الكلمة اللغوي، فإن العربي بمجرد سماعه كلمة العبد والعبادة لا يتصور إلا العبديه والعُبودية، وبما أن وظيفة العبد الحقيقية هي طاعة سيده المطلقة فإن تصور الطاعة بمجرد ذكر العبد والعبادة أمر لا بد منه، وخلاصة رأيه في العبادة أنها خضوع الظاهر والباطن والانقياد المطلق من العابد للمعبود مع غمرة القلب بالشعور العبودي. أما الأستاذ الشيخ محمد عبده فيرى أن العبادة شعور خاص في القلب يستلزم الخضوع المطلق والإِنقياد التام من العابد للمعبود وفي ذلك يقول: ما هي العبادة؟ يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها، بل يكتفون احيانا بالتعريف اللفظي، ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها، ومن ذلك هذه العبارة التي شرحوا بها معنى العبادة، فإن فيها اجمالا وتساهلا واننا إذا تتبعنا آى القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لعبد وما يماثلها ويقاربها في المعنى - كخضع وخنع واطاع وذل - نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي عبد ويحل محلها ويقع موقعها. ولذلك قالوا: إن لفظ العباد مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى ولفظ العبيد تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى، ومن هنا قال بعض العلماء إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ولكن استعمال القرآن يخالفه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | يغلو العاشق في تعظيم معشسوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه وتذوب إرادته في ارادته ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء فترى من خضوعهم لهم وتحريمهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين دع سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة فما هي العبادة إذاً؟. تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشىء عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده وإن قبل موطىء أقدامه ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود أو الرجاء لكرمه المحدود اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن للملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا لأنهم أطيب الناس عنصرا وأكرمهم جوهرا، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإِلحاد فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية. ويضيف الأستاذ إلى ذلك فيقول: للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإِنسان بذلك الشعور بالسلطان الإِلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع فإذا كانت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة كما أن صورة الإِنسان وتمثاله ليس إنسانا خذ إليك عبادة الصلاة مثلا وانظر كيف أمر الله بإقامتها دون مجرد الإِتيان بها وإقامة الشيء هي الإِتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره، وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله:**{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ }** [العنكبوت: 45] وقوله عز وجل**{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ }** [المعارج: 19- 22] وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدى إلى غايتها بقوله:**{ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ }** [الماعون: 4- 7] فسماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته والمشعر للقلوب بعظم سلطانه ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون. هذا كلام الأستاذ في العبادة، وهو يفيد أن معنى العبادة لا يتم إلا مع استشعار عظمة المعبود التي لا تكتنه، وقدرته التي لا تُحد، وهو صحيح بالنظر إلى العبادة الصحيحية الواجبة لله تعالى، ولكن لا يمنع أن يطلق اسم العباده على تعظيم أحد لغيره تعظيما يخرج به عن حدود استحقاق البشر، ويدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله مع أنهم لم يكونوا يعتقدون لهؤلاء الأحبار والرهبان القدرة المطلقة التي لا تُحد، والعظمة الباهرة التي لا تكتنه، وروى الإِمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو قوله سبحانه: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ }** [التوبة: 31] - وكان امرأً قد تنصر - فقال له إنهم لم يعبدوهم، قال له: " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم " فإذا كان اتباع الإِنسان على تحليله الحرام وتحريمه الحلال عبادة فما بالك بما يكون من مخلوق لمخلوق مثله من تعظيم لا يليق إلا بمقام الألوهية. هذا والعبادة هي الغاية التي لأجلها خلق الإِنسان، قال تعالى:**{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }** [الذاريات: 56] ومن هنا كانت فطرة كل إنسان داعية إليها لما تستشعره من الفراغ الروحي والخواء النفسي بدونها، ومن ثم كانت العبادة تلبية لنداء الفطرة الذي يجلجل من أعماق النفس الإِنسانية، وإنما الفطرة وحدها لا تستطيع أن تهتدي إلى العبادة الصًّحيحة ولذا فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه لتوجيه هذه الفطرة إلى الصراط المستقيم، وما من رسول إلا وكانت دعوته الأولى في قومه إلى إفراد الله تعالى بالعبادة**{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ }** [الأنبياء: 25] والعبادة الخالصة لله تعالى توائم بين حركتي الإِنسان الاختيارية والاضطرارية، فجسم الإِنسان تُعَد خلاياه بملايين الملايين، وكل هذه الخلايا تتحرك بحسب سنة الله فيها، فإذا انقاد هذا الإِنسان وأذعن لربه العظيم وعبده حق عبادته حصل الانسجام التام ما بين هذه الحركات الطبيعية في جسمه وحركته الاختيارية التي ينساق إليها مختارا طاعة لمولاه، ومن هنا نجد الإِمام المحقق سعيد بن خلفان الخليلي رحمه الله يُعبر في إحدى قصائده النورانية عما يشعر به وهو يسبح لله سبحانه من تجاوب ألسنة لا تحصى فيه مع هذا التسبيح حيث يقول: - | **أعاين تسبيحي بنور جناني** | | **فأشهد منى ألف ألف لسان** | | --- | --- | --- | | **وكل لسان أجتلي من لغاته** | | **إذا ألف ألف من غريب أغان** | | **ويُهدى إلى سمعي بكل لُغية** | | **هدي ألف ألف من شتيت معان** | | **وفي كل معنى ألف ألف عجيبة** | | **يقصر عن إحصائها الثقلان** | ولا تقف عبادة الإِنسان عند هذا الحد بل توائم بين حركته وحركة كل شيء في هذا الكون الواسع الذي تسبح كل ذرة منه بحمد الله وتسجد خاضعة لجلاله، | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }** [الإسراء: 44]،**{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ }** [الحج: 18] ولذلك كانت عبادة الله الخالصة داعية للشعور بالانسجام مع الكون والألفة مع الوجود، فلا ينظر إليه العابد نظرة نفرة وعداء، وإنما ينظر إليه نظرة وئام ووداد. أما إذا تجلى الإِنسان عن عبادة ربه فإنه يشعر بعداوة الكون وخصومة الطبيعة له، ولذلك تجد الغربيين الذين رانت على قلوبهم الجاهلية الحديثة ينظرون إلى الكون نظرة الخصومة والعداء، ويتجلى ذلك في عباراتهم، فكثيرا ما يرد على ألسنتهم وأقلامهم قهر الطبيعة وقسوتها، فإذا حقق أحدهم شيئا قالوا قهر الطبيعة أو تغلب عليها، وإذا أصيب أحدهم بمكروه قالوا قست الطبيعة عليه، أما المؤمن الذي يسبح بحمد الله ويسجد لكبريائه فهو لا يشعر بأية عداوة بينه وبين الطبيعة، وإنما يشعر بالألفة والمودة بينه وبينها لما يربطهما من الخضوع لله والتسبيح بحمده، ولما يتلوه على صفحاتها من آيات بينات تزيد إيمانه رسوخا ويقينه ثباتا، ومما يؤسف له أن تردد ألسنة تلامذة الغرب المنتسبين إلى الإِسلام هذه العبارات الوقحة بدون شعور بهاجس نفسي يؤنبهم على استعمالها، وهذا إن دل على شيء فهو دليل على ما أصاب قلوبهم من المسخ وبصائرهم من الطمس، وإذا كانت العبادة منشأ الألفة والوئام بين العابد وجميع الكائنات فإن ذلك يقتضي أن تكون العبادة أوسع مدلولا مما يظنه كثير من الناس من أنها منحصرة في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهذا هو الذى تدل عليه الآيات والأحاديث. أما الآيات فأرى أن أؤخر الكلام عليها إلى أن أصل إليها إن شاء الله في مواضعها، وأما الأحاديث فبحسبي أن أذكر مثالين منها: 1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" في كل ذى كبد رطبة أجر "** وهو دليل على أن الإِنسان يتقرب إلى الله سبحانه بالإِحسان حتى إلى البهيمة العجماء. 2- يقول عليه أفضل الصلاة والسلام **" في بضع أحدكم صدقة " قيل له يا رسول الله أيصيب أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: " أرأيت إن وضعها في حرام ألم يكن يؤزر " قيل له بلى يا رسول الله قال: " كذلك يؤجر إن وضعها في حلال "** فانظر كيف يكون العَمل الفطرى الذي يبلى به الإِنسان داعي الغريزة عبادة يؤجر عليها إن أحسن توجيهه واستصحب معه حسن النية. وبهذا يتضح أن العبادة تقتضى الخضوع المطلق لمنهاج الله فلا يحكم العابد إلاّ به ولا يحتكم إلا إليه ولذلك حكم الله على من لم يكن يحكم بما أنزل بالكفر والظلم والفسق حيث قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }** [المائدة: 44] وقال:**{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }** [المائدة: 45] وقال:**{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }** [المائدة: 47] وانكر على الذين يدعون الإِيمان وهم يتحاكمون إلى غير شرعه في قوله:**{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ }** [النساء: 60] ونفى الايمان عن كل من لم يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم الناطق بوحيه المبلغ لأمره في قوله:**{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }** [النساء: 65]. والعبادة أسمى ما ينتسب إليه الانسان ولذلك وصف الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أعلى مقامات ذكره وهى صِنو العبادة فقد قال في معرض ذكر إنزال الكتاب عليه**{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ.. }** [آل عمران: 7] وقال**{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا }** [الكهف: 1] وقال:**{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }** [الفرقان: 1] وقال في معرض الحديث عن إبلاغه الرسالة ودعائه الله { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } وقال في الحديث عن الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ترتب عليه أن ينال من الإِكرام ما لم ينله أحد قبله:**{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }** [الإسراء: 1] وهذا لأن عبادة الإِنسان لربه وعبوديته له تعنيان تحرير رقبته من الذل لسواه وتخليص قلبه من الخضوع لغير عزته، وقد غلا بعضهم فادعى أن العبودية أشرف من الرسالة حكى ذلك الفخر الرازى في تفسيره ولم يتعرض له بشيء، وحاصل ما احتج به هذا القائل أن الرسالة انصراف عن الحق إلى الخلق، والعبودية انصراف عن الخلق إلى الحق، والعبودية أيضا تجرد عن التصرفات، والرسالة تلبس بها، وهذه فلسفة باطلة لا يجوز لمن يؤمن بالله ورسله أن يقرها فالرسالة هى أشرف المقامات وأعلى الدرجات التي يوصل إليها بمحض اصطفاء الله تعالى ولا تنافي العبودية ولذلك وصف الله بهما أحب الناس إليه وأرفعهم عنده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليست الرسالة - كما قال - انصرافاً من الحق إلى الخلق وإنما هى اضطلاع بواجب أمانة الحق لابلاغها إلى الخلق، وإذا كانت تقتضي اشتغالا بالتصرفات فإن تلك التصرفات هى من أقرب القربات إلى المرسِل سبحانه فهى داخلة في حدود عبادته، وأعظم الدلائل على إخلاص العبودية له. والفخر والألوسي قسما العبادة إلى ثلاث درجات تمشيا مع آراء كثير من العلماء: الدرجة الأولى: أن تكون العبادة ابتغاء ثواب الله وخشية عقابه، وهى أضعف الدرجات وسماها الألوسي في تفسيره عبادة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الدرجة الثانية: أن تكون لأجل نيل شرف بما فيها من التزلف إلى الله تعالى، وهى درجة متوسطة عندهم، وسماها الألوسي عبودية. الدرجة الثالثة: أن تكون لذات الله مع غض النظر عن كل ما سواه وسماها الألوسي عبودية. وفي هذا التصنيف نظر، إذ لا يستند إلى دليل من كتاب ولا سنة، وتعظيم الله سبحانه بالعبادة وإخلاصها لوجه لا ينافيان ابتغاء ثوابه والحذر من عقابه كما لا ينافيان الرغبة في نيل شرف عبادته عزَّ وجل، وللإِمام نور الدين السالمي رحمه الله في معارجه بحث نفيس في هذه المسأله، ناقش فيه كلام هؤلاء الذين يقسمون العبادة من تلقاء أنفسهم أقساما، واستدل لرده بما جاء من الآيات التي تصف الأنبياء أنهم كانوا يعبدون الله رغبا ورهبا، كقوله سبحانه:**{ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً }** [الأنبياء: 90] وهي في معرض مدحهم والإِبانة عن علو قدرهم، ولا ريب أن الأنبياء أرسخ في العبادة قدما، وأسرع إلى كل خير سبقا من غيرهم، فلو كانت العبادة التي تكون بباعث الخوف والرجاء أضعف من غيرها لكانت عبادات الأنبياء غير مقرونة بهما على أن الخوف والرجاء هما السور المتين الذي يحوط أعمال البر كلها. وكما تطالب الآية الكريمة الناس أن يفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة تطالبهم بأن يفردوه بالاستعانة لأن القوة المطلقة لله وكل ما يحدث في الكون فهو بأمر الله وكما أن الله تعالى قد تفرد بخلق الكون فهو متفرد بتدبيره فلا معنى للتعلق بغيره، والقرآن الكريم جاء ليقرر هذه الحقيقة بكثير من الآيات التي تخاطب الناس بالبرهان وتضرب لهم الأمثال، منها قول الله سبحانه**{ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ }** [الرعد: 16] وقوله:**{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ }** [الزمر: 38] ويبين لنا القرآن أن كل محاولة من المخلوقين لرد سراء أو ضراء كتبها الله لأحد أو عليه لا بد أن تبوء بالفشل الذريع**{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }** [فاطر: 2]**{ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [يونس: 107] والنبي صلى الله عليه وسلم كان يربي أمته على هذه العقيدة القرآنية لتتحول إلى واقع ملموس في أحوال المؤمنين ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الشيخين **" إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ".** وهنا سؤال يفرض نفسه وهو أن الإِنسان كائن اجتماعي يشترك مع غيره في المصالح والمنافع ولا يمكنه الاستقلال عن سائر بني جنسه فهو بحاجة دائما إلى من يعينه فإذا مرض احتاج إلى الطبيب، وإذا أفلس احتاج إلى من يقرضه أو يتصدق عليه، وإذا اضطر إلى حمل شيء لا يطيقه احتاج إلى من يعينه عليه، وهكذا فكيف يمنع من الاستعاة بالناس؟ على أن القرآن نفسه يرشدنا إلى التعاون في قوله:**{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ }** [المائدة: 2] وأترك الإِجابة عن هذا السئوال لفيلسوف الإِسلام الإِمام محمد عبده وتلميذه السيد محمد رشيد رضا. أما الإِمام محمد عبده فيجيب بما معناه: أن أعمال الناس تتوقف ثمراتها ونجاحها على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإِلهية أن تكون مؤدية اليها وانتفاء الموانع التي جعلها الله بمقتضى حكمته حائلة دونها، والإِنسان بما اوتي من علم وقوة مكن الله له من كسب بعض الأسباب ودفع بعض الموانع ولكن حجب عنه البعض الآخر فيجب على الناس أن يقوموا بما فيه استطاعتهم من ذلك ويتقنوا أعمالهم بما في وسعهم وأن يتعاونوا ويساعد بعضهم بعضا ويفوضوا الأمر فيما وراء الكسب إلى القادر على كل شيء ويلجأوا إليه وحده طالبين منه المعونة المتممة للعمل والمؤدية إلى جناء ثمرته وليس لهم أن يتعلقوا بما وراء الاسباب إلا بمسببها سبحانه، ويتضح بهذا أن قوله تعالى: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } متمم لمعنى قوله { إِيَّاكَ نَعْبُد } لأن هذه الاستعانة هي فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به وذلك من مخ العبادة، فإذا توجه بها العبد إلى غير الله كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي انتشرت في زمن التنزيل وقبله، وخصت بالذكر لئلا يتوهم الجاهلون أن الاستعانة بالذين اتخذوهم أولياء من دون الله واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة للناس هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة فأراد الله سبحانه أن يزيل هذا اللبس ببيان أن الاستعانة بالناس في حدود استطاعتهم ضرب من استعمال الأسباب المسنونة، وما مثلها إلا كمثل الآلات المستعملة فيما خصت به بخلاف الاستعانة بهم فيما وراء طاقاتهم البشرية كالاستعانة في شفاء المريض بما وراء الدواء، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدد فإن ذلك مما لا يجوز أن يكون إلا بالله تعالى الذي بيده الأسباب والمسببات وهو على كل شيء قدير، وضرب الإِمام محمد عبده مثلا لذلك: الزارع عندما يبذل جهده في الحرث والعذق وتسميد الأرض وريها فهو يمارس الوسائل المؤدية مع التوفيق إلى حصول المطلوب، ويستعين بالله تعالى على النجاح طالبا منه منع الآفات والجوائح السماوية والأرضية، ومثل بالتاجر الذي يحذق في اختيار الأصناف ويمهر في فن الترويج، ويتوكل على الله فيما وراء ذلك، وخلص الأستاذ الإِمام من هذا إلى تفنيد حالة الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم، وتيسير أمورهم وشفاء أمراضهم، ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من الأمور التي ليست في استطاعة الأحياء بله الأموات، وقال عنهم: إنهم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله معرضون، واستخرج الأستاذ الإِمام من قول الله سبحانه: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فائدتين جليلتين قال فيهما: (هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة): أولاهما: أن الإِنسان مطالب بالأعمال النافعة والاجتهاد في إتقانها ما استطاع، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه أو يخشى أن لا ينجح فيه فيطلب المعونة على إتمامه وكماله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه، أما من وقع تحت عبء ثقيل يعجز عن النهوض به وحده فهو جدير بطلب المعونة من غيره على رفعه ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به، ثم قال الأستاذ بعد هذا التحرير: وهذا الأمر هو مرقاه السعادة الدنيوية وركن من أركان السعادة الأخروية. ثانيتهما: ما يفيده الحصر المستفاد من تقديم المعمول على العامل من وجوب تخصيص الاستعانة بالله وحده فيما وراء ذلك، قال: وهو روح التوحيد وكمال الدين الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكذّابين من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما، ومع الله عبدا خاضعا**{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }** [الأحزاب: 71]. وأما السيد محمد رشيد رضا فيقول " إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، أما الأول فظاهر لأنه هو الإِله الحق فلا يعبد بحق سواه، وأما الثاني فلأنه هو المربي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية المعنوية، قال: ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم واسم الرب الأكرم إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف، والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى:**{ وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ }** [هود: 123] فهذه الاستعانة هى ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإن من معنى العبادة الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفاً على قرن العبادة بالتوكل فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى ولكنه يحتاج في تحقيق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبى وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال: وبهذا البيان تعلم أن لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى بل الكمال والأدب في الجمع بينهما، فالسيد المالك إذا نصب لعبيده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا وجعلهم خدما يقومون بأمرها لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة، وإنما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشاها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره، وهذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبباته فالعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت طلبه منه دون سواه، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه حيث جعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل، قال: هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد فكيف إذا كان العبد الذي يتوجه إلى غير مولاه لا يجد من يتوجه إليه سواه إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله لأنه هو السيد الصمد الذي ليس له كفوا أحد، وأتبع ذلك قوله أن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الرب تعالى الإِعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام، به وفي هذا تكريم للإِنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإِتمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب ليس من سنة الفطرة، ولا من هدي الشريعة فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا، وتذكير له من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر فيتوهم بأنه مستغن بكسبه عن عناية ربه فيكون من الهالكين في عاقبة أمره، هذا كلامه وهو ككلام أستاذه في إثبات كون الاستعانة بالله وعدم إشراك غيره فيها من لوازم الإِيمان ومقتضيات التوحيد، وإنما بين كلاميهما خلاف لفظي، فالأستاذ الإِمام يرى أن الاستعانة فيما كان داخلا في إطار الأسباب التي منحها الله عباده جائزة أن تكون بأولئك الذين أجرى الله الأسباب على أيديهم وعلى ذلك يحمل نحو قوله تعالى:**{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ }** [المائدة: 2] أما تلميذه السيد محمد رشيد رضا فهو ينظر إلى أن أولئك ليسوا مستقلين بالأسباب وإنما وهبهم الله تعالى من فضله التفوق فيها وسخرهم بحكمته لإِعانة المحتاجين إليها فالمستعين بهم إنما يستعين في الحقيقة بالله واهب الأسباب ومقدرها فيجب على المؤمن ألا يغفل عن هذه الحقيقة عندما يطلب من غيره قضاء حاجته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | هذا وقد يفهم من كلامه في الأسباب العَامة وقوله إنها موهوبة للناس كافة أنه يرى تكافؤ جميع الناس فيها، وهو أمر ترده المشاهدة فإن الناس متباينون في المواهب منهم من وهب حصافة الرأي، ومنهم من وهب قوة البدن ومنهم من وهب الحذق في أعمال خاصة وهذا لتكون حياة الناس قائمة على أسس الاجتماع ولو تساوى الناس في مواهبهم لاستغنى كل أحد بنفسه واستكفى بموهبته ولكن الله سبحانه يريد بذلك تذكير الناس بفقرهم واحتياجهم، لئلا يغتر إنسان بما أوتي فيدعي أنه أوتيه باستحقاق، فتجد الملك بحاجة إلى الحجام والقين والحداد والطباخ كحاجته إلى المستشارين والوزراء فسبحان الغني الذي تفرد بالعزة والكبرياء. وبهذا الذي حررناه تدرك خطورة ما يصنعه كثير من الناس من التعلق بغير الله سبحانه في طلب الحاجات التي لم يجعل الله قضاءها بيد الناس والأعجب من ذلك أن يأتي أحدهم إلى ضريح طالبا من صاحبه الميت البالي أن يعينه على ما لا يستعان عليه إلا بالله، أو يأتي إلى صخرة صماء أو شجرة أو نهر أو أي شيء من هذا القبيل طالبا منه ذلك مع أن هذه الأشياء لا تسمع ولا تبصر ولا تحس ولا تعقل وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق منزلة وأعظمهم شأنا يقول له سبحانه في حياته:**{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ }** [الأعراف: 188] فما بالك بغيره صلى الله عليه وسلم بل ما بالك بالأموات والجمادات والنباتات هل من المعقول أن تلبي هذه الأشياء لأحد طلبا أو تسمع له دعاء أو تستجيب له نداء؟ وإنما ذلك شأن العقول إذا ضلت والأفكار إذا زاغت. ولعمري ليس تفشي مثل هذه الضلالات في هذه الأمة إلا تصديقا لنبوة النبي الصادق صلى الله عليه وسلم حيث يقول كما ثبت في الصحيحين **" لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه "** وفي حديث أبي واقد الليثي عند الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها " ذات أنواط " يعلقون عليها أسلحتهم، فقيل له: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي: **" سبحان الله هذا كما قال قوم موسى { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ".** هذا وفي المقام مباحث: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الأول:- في تقديم العبادة على الاستعانة، ولأفكار العلماء تزاحم في استخراج حكمة ذلك وقد استظهروا وجوها: أولها: أن العبادة أمانة كما قال تعالى:**{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ }** [الأحزاب: 72] لذلك كانت أجدر بالعناية، فقدمت. ثانيها: أن إسناد المتكلم العبادة إلى نفسه يوهم التبجح والاعتداد بما صدرعنه، فكان جديرا بأن يُتْبع ما يدل على أن العبادة لا تتم إلا بمعونة وتوفيق من الله وهذا يستفاد من جملة { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. ثالثها: أن العبادة قربة محضة إلى الله تعالى، أما الاستعانة فقد تكون لمنفعة عاجلة. رابعها: أن العبادة مطلوبة لله تعالى من العباد، والاستعانة مطلوبة للعباد من الله، وتقديم ما كان لله أولى مما كان للعباد. خامسها: أن العبادة في جملتها واجبة لله تعالى على العبد، ولذلك كانت هي الغاية من خلق الإِنس والجن، قال تعالى:**{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }** [الذاريات: 56] أما الاستعانة فيختلف حكمها باختلاف حال المستعان عليه. سادسها: أن العبادة أظهر مناسبة بذكر الجزاء فجيء بها بعده، والاستعانة أكثر التئاما مع طلب الهداية فجيء بها قبله. سابعها: أن الاستعانة ثمرة للعبادة، فإن إخلاصَ العبادة لله يستلزم إفراده بالاستعانة، قال صاحب المنار: " ولا ينافي هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله تعالى ليوفق العابد للإِتيان بها على الوجه المرضي له عز وجل، لا منافاة بين الأمرين لأن الثمرة التي تخرج من الشجرة تكون حاوية للنواة التي تخرج منها شجرة أخرى، فالعبادة تكون سببا للمعونة من وجه، والمعونة تكون سببا للعبادة من وجه آخر، كذلك الأعمال تكون الأخلاق التي هي مناشيء الأعمال، فكل منها سبب ومسبّب، وعلة ومعلول، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة ". ويرى ابن جرير أن الترابط الذي بين العبادة والاستعانة يقتضي جواز تقديم أي منهما على الآخر كما يجوز أن يُقال: قضيت حقي فأحسنت إليّ، أو أحسنت إليّ فقضيت حقي، ويُستفاد مما قاله أنه لا يرى ما يسوغ البحث في تقديم العبادة على الاستعانة. الثاني:- في تقديم المعمول وهو { إياك } على العامل وهو { نعبد } و { نستعين } ، وذكروا له وجوها:- أولها: الدلالة على الحصر والاختصاص، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلا نعبدُ غيرك، ويراد به التبرؤ عن الشرك والتعريض بالمشركين. ثانيها: أن المتقدم في الوجود أحق بالتقدم في الذكر، فالله تعالى كان قبل كل موجود، ولذلك كان الأنسب تقديم ذكره عن ذكر عبادته. ثالثها: أن في تقديم ذكره تعالى تنبيها للعابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله، فيوقظ ذلك الهمة في نفسه ويقضي على الكسل والتواني. الثالث:- في المجيء بصيغة الجمع دون الإِفراد في قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وفيه أقوال: أولها: أن العبد يحتقر نفسه في مقام الخطاب لله عز وجل، ويستقل عبادته بجانب ما لله تعالى من منة أسبغها عليه وحق يجب له تعالى على العبد، فيجدر به أن يخاطبه مع غيره وأن يوجه عبادته إليه مختلطة بعبادة العابدين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثانيها: أن الإِنسان مع خضوعه لأهل الدنيا وطلبه منهم ما يجدر طلبه من الله إن قال بمفرده إياك أعبد وإياك أستعين كان كاذبا، أما إن وجه الخطاب بصيغة الجمع الدالة على اشتراكه مع العابدين والمستعينين كان أبعد عن الكذب، لوجود من أخلص له العبادة وقصر الاستعانة عليه من بينهم. ثالثها: أن صيغة الجمع أدعى إلى القبول والاستجابة من صيغة الإِفراد لأن المخاطب يحشر نفسه في زمرة المخاطبين، ولا يعتد بخطابه بنفسه، وذكروا أنّه مما يرشد إلى ذلك ما حكاه الله عن الذبيح إسماعيل عليه السلام من قوله:**{ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ }** [الصافات: 102] وما حكاه عن الكليم عليه السلام من قوله:**{ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً }** [الكهف: 69] وقد صبر الذبيح لتواضعه بعد نفسه واحداً من جمع، ولم يصبر الكليم لإِفراده نفسه مع أنهما قالا جميعا " إن شاء الله ". رابعها: أن الإِسلام دين وحدة واجتماع، وليس بدين تشتت وافتراق، ولأجل ذلك شرعت بعض العبادات تؤدي بطريقة جماعية لا على الانفراد، وفي المجيء بصيغة الجمع هنا في هذه السورة التي يجب على المسلم أن يكررها في كل ركعة من ركعات الصلاة التي هي أهم عبادة في الإِسلام تذكير بواجب الترابط بين المسلمين وإيقاظ لمشاعر الأخوة والمودة بينهم. الرابع:- في تكرار { إِيَّاكَ } وفيه آراء:- أولها: أنه للتنصيص على أن طلب العون منه تعالى فإنه لو قال: { إياك نعبد ونستعين } لاحتمل أن يكون إخبارا عن طلب العون من غير تعيين للجهة المطلوب منها. ثانيها: أن العبادة هي قربة إلى الله تعالى ولو لم تكن مقرونة بالاستعانة، والاستعانة كذلك ولو لم تكن في حال العبادة، ولو أفرد ذكر الضمير لأوهم أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بينهما. ثالثها: أن في التكرار تعليما للناس بأن يجددوا ذكر الله عند كل حاجة تعن. الخامس: في إطلاق الاستعانة وعدم تقييدها بمستعان فيه معين، وقد ذكروا لذلك نكته وهي قصد العموم لاحتمال دخول كل ما يستعان عليه، والفعل المثبت وإن كان له حكم الإِطلاق المخالف لحكم العموم في عدم احتوائه جميع أفراد مدلولات لفظه دفعة واحدة، فإنه بعدم تقييده يقضي باحتمال قصد أي فرد من أفراد تلك المدلولات، ومن جهابذة المفسرين من يرى أن الاستعانة هنا ليست على إطلاقها وإنما هي محصورة في العبادة، وممن جنح إلى هذه العلامة الزمخشري في كشافه حيث جعل الاستعانة مبهمة أوضحها قول الله تعالى فيما بعد: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فكأنما المستعينون سُئلوا من قبل العلي الأعلى: كيف أعينكم؟ فقالوا: إهدنا الصراط المستقيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واللائق بعقيدة التوحيد عموم الاستعانة في كل ما يطلب العون فيه وهذا لا يمنع أن تكون العبادات داخلة من باب الأولوية فيما يستعان فيه، وقد أسلفنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما الدال على الاستعانة بالله شاملة لكل ما يُطلب فيه العون، وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العون من الله في أداء العبادة، فقد أخذ يوما بيد معاذ رضى الله عنه وقال: **" والله إني لأحبك أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
إذا أتم الحامِدُ حَمْد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالاً من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعاة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة. فهذا الكلام استئناف ابتدائي. ومُفَاتَحَة العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قَبْلَ أن يخاطَبوا طريقة عربية. روى أبو الفرج الأصفهاني عن حسان بن ثابت قال كنتُ عند النعمان فَنادَمْتُه وأَكَلْتُ معه فبينَا أنا على ذلك معه في قُبَّة إذَا رجلٌ يَرْتجز حولَها | **أَصمَّ أمْ يَسمع ربُّ القبه يا أَوْهَبَ النَّاسِ لِعيسٍ صُلْبَه ضَرَّابَةٍ بالمِشْغَرِ الأَذِبَّهْ ذَاتِ هِبابٍ في يَدَيْها خُلْبَهْ في لاَحب كأنَّه الأَطِبَّهْ** | | | | --- | --- | --- | فقال النعمان أليس بأبي أُمَامَة؟ كنية النابغة قالوا بلى، قال فأْذَنوا له فدخل. والانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدإِ من قوله { الحمد لله } إلى قوله { ملك يوم الدين } ، إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداءً من قوله { إياك نعبد } إلى آخر السورة، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتاً. وفي ضابط أسلوب الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة أحدهما رأي مَن عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن يعبِّر عن ذات بأحد طرق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن يعبِّر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلاً عن أحدهما الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها. ويظهر أثر الخلاف بين الجمهور والسكاكي في المحسِّن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة بن عبده في طالع قصيدته | **طَحَا بكَ قلبٌ في الحسان طروب** | | | | --- | --- | --- | مخاطباً نفسه على طريقة التجريد، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي، فتسمية الالتفات التفاتاً على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه، وأما تسميته التفاتاً على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة التجريد، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور في هذا الاسم. ومما يجب التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا الرأيين، ولذلك كان قوله تعالى { إياك نعبد } التفاتاً على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى قوله { إياك نعبد } تعْبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته. ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديدَ أسلوب التعْبير عن المعنى بعينه تحاشياً من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال السكاكي في «المفتاح» بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات «أَفتراهم يحسنون قِرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطَعْم وطَعْم ولا يحسنون قِرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب». فهذه فائدة مطردة في الالتفات. ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالباً بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصه. وما هنا التفاتٌ بديع فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به الفكرة منتهاهَا فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال، كعكس هذا الالتفاتِ في قول محمد بن بشير الخارجي نسبَة إلى بني خارجة قبيلة | **ذُممتَ ولم تُحمد وأدركتُ حاجةً تولَّى سواكم أَجرَها واصطناعها أَبى لك كَسْبَ الحمدِ رأيٌ مقصِّرُ ونفسٌ أضاق اللَّهُ بالخير باعها إذا هي حثتْه على الخير مرة عصاها وإنْ هَمَّت بشرٍّ أطاعها** | | | | --- | --- | --- | فخاطبه ابتداء ثم ذكر قصور رأيه وعدم انطباع نفسه على الخير فالتفت من خطابه إلى التعبير عنه بضمير الغيبة فقال إذا هي حثته فكأنه تخيله قد تضاءل حتى غاب عنه، وبعكس ذلك قوله تعالى**{ والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي }** العنكبوت 23 لاعتبار تشنيع كفر المتحدَّث عنهم بأنهم كفروا بآيات صاحب ذلك الاسم الجليل، وبعد تقرر ذلك انتقل إلى أسلوب ضمير المتكلم إذ هو الأصل في التعبير عن الأشياء المضافة إلى ذات المتكلم. ومما يزيد الالتفات وقعاً في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله { إياك نعبد } تخلصاً يجىء بعده { اهدنا الصراط } ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني | **أبى غفلتي أَني إذا ما ذكرته تحرك داء في فُؤَادِيَ داخل وأن تِلاَدِي إنْ نظرتُ وشكَّتِي ومُهري وما ضَمَّت إليَّ الأنامل حِباؤُك والعيسُ العتاقُ كأنها هِجان المَهى تُزْجى عليها الرحائل** | | | | --- | --- | --- | وأبو الفتح ابن جني يسمى الالتفات «شَجاعة العربية» كأنه عنى أنه دليل على حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف أساليب كلامه كيف شاء كما يتصرف الشجاع في مجال الوغي بالكر والفر. وإياك ضمير خطاب في حالة النصب. والأظهر أن كلمة إيا جعلت ليَعْتَمِد عليها الضمير عند انفصاله ولذلك لزمتها الضمائر نحو إياي تعني، وإيَّاك أعني، وإيَّاهم أرجو. ومن هنالك التزم في التحذير لأن الضمير انفصل عند التزام حذف العامل. ومن النحاة من جعل إيَّا ضميراً منفصلاً ملازماً حالة واحدة وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد. ومنهم من جعل إيَّا هو الضمير وجعل ما بعده حروفاً لبيان الضمير. ومنهم من جعل إيَّا اعتماداً للضمير كما كانت أيٌّ اعتماداً للمنادى الذي فيه ال. ومنهم من جعل إيَّا اسماً ظاهراً مضافاً للمضمَرات. والعبادة فعل يدل على الخضوع أو التعظيم الزائدين على المتعارف بين الناس. وأما إطلاقها على الطاعة فهو مجاز. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والعبادة في الشرع أخص فتُعرَّف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه، وقال الرازي في تفسير قوله تعالى**{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }** الذاريات 56 العبادة تعظيم أمر الله والشفقة على الخلق، وهذا المعنى هو الذي اتفقت عليه الشرائع وإن اختلفوا في الوضع والهيئة والقلة والكثرة ا هـ فهي بهذا التفسير تشمل الامتثال لأحكام الشريعة كلها. وقد فسر الصوفية العبادة بأنها فعل ما يرضي الرب، والعبودية بالرضا بما يفعل الرب. فهي أقوى. وقال بعضهم العبودية الوفاء بالعهود، وحفظ الحدود، والرضا بالموجود. والصبر على المفقود. وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها. قال الفخر مراتب العبادة ثلاث الأولى أن يعبد الله طمعاً في الثواب وخوفاً من العقاب وهي العبادة، وهي درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب. الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول تكاليفه وهي أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله. الثالثة أن يعبد الله لكونه إلٰهاً خالقاً مستحقاً للعبادة وكونه هو عبداً له، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية ا هـ. قلت ولم يسم الإمام المرتبة الثانية باسم والظاهر أنها ملحقة في الاسم بالمرتبة الثالثة أعني العبودية لأن الشيخ ابن سينا قال في «الإشارات» العارف يريد الحق لا لشيء غيره ولا يُؤْثِر شيئاً على عرفانه وتعبُّدُه له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة ا هـ فجعلهما حالة واحدة. وما ادعاه الفخر في سقوط الدرجة الأولى ونزول مرتبتها قد غلب عليه فيه اصطلاح غلاة الصوفية وإلا فإن العبادة للطمع والخوف هي التي دعا إليها الإسلام في سائر إرشاده، وهي التي عليها جمهور المؤمنين وهي غاية التكليف، كيف وقد قال تعالى**{ إنما يخشى الله من عباده العلماء }** فاطر 28 فإن بلغ المكلف إلى المرتبتين الأخريين فذلك فضل عظيم وقليل ما هم، على أنه لا يخلو من ملاحظة الخوف والطمع في أحوال كثيرة، نعم إن أفاضل الأمة متفاوتون في الاحتياج إلى التخويف والإطماع بمقدار تفاوتهم في العلم بأسرار التكليف ومصالحه وتفاوتهم في التمكن من مغالبة نفوسهم، ومع ذلك لا محيص لهم عن الرجوع إلى الخوف في أحوال كثيرة والطمع في أحوال أكثر. وأعظم دليل على ما قلنا أن الله تعالى مدح في كتابه المتقين في مواضع جمة ودعا إلى التقوى، وهل التقوى إلا كاسمهما بمعنى الخوف والاتقاء من غضب الله قال تعالى**{ ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }** الإسراء 57. والمرتبة الثالثة هي التي أشار لها قوله صلى الله عليه وسلم ـــ لمن قال له كيف تُجهد نفسك في العبادة وقد غَفَر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال ـــ | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" أفلا أكون عبداً شكوراً "** لأن من الظاهر أن الشكر هنا على نعمة قد حصلت فليس فيه حظ للنفس بالطمع في المزيد لأن الغفران العام قد حصل له فصار الشكر لأجل المشكور لا غير وتمحض أنه لا لخوف ولا طمع. واعلم أن من أهم المباحث البحثَ عن سر العبادة وتأثيرها وسر مشروعيتها لنا وذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم ليكون مظهراً لكمال صفاته تعالى الوجود، والعلم، والقدرة. وجعل قبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يَعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى وقدرته، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رُقيّ آجل لا يضمحل، وجعل استعداده لقبول الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفاً على التلقين من السَّفَرَة الموحَى إليهم بأصول الفضائل. ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نَفَرَاتها وشَرَدَاتها وكانت تلك المراقبة تحتاج إلى تذكر المُجازي بالخير وضده، شُرعت العبادة لِتَذَكُّرِ ذلك المُجازي لأن عدم حضور ذاته واحتجابَه بسُبحات الجلال يُسَرِّب نسيانَه إلى النفوس، كما أنه جعل نظامه في هذا العالم متصلَ الارتباط بين أفراده فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا يفسُد النظام، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضاً شُرعت العبادة لتذكِّرَ به، على أن في ذلك التذكر دوامَ الفكر في الخالق وشؤونه وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجاً فظهر أن العبادة هي طريق الكمال الذاتي والاجتماعي مَبدأً ونهايةً، وبه يتضح معنى قوله تعالى**{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }** الذاريات 56 فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محقِّقة للمقصد من الخلق، ولما كان سرُّ الخلق والغايةُ منه خفيةَ الإدراكِ عَرَّفنا الله تعالى إياها بمظهرها وما يحققها جمعاً لعظيم المعاني في جملة واحدة وهي جملة { إلا ليعبدون } ، وقريب من هذا التقرير الذي نحوناه وأقل منه قول الشيخ ابن سينا في «الإشارات» لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يُفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير وكانَ مما يتعسر إنْ أمكن، وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفَظه شرعٌ يَفرِضه شارع متميزٌ باستحقاق الطاعة ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير، فوجب معرفة المُجازي والشارع وأن يكون مع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففُرِضت عليهم العبادة المذكِّرة للمعبود، وكررت عليهم ليُسْتَحْفَظ التذكيرُ بالتكرير ا هـ. لا شك أن داعي العبادة التعظيم والإجلال وهو إما عن محبة أو عن خوف مجرد، وأهمه ما كان عن محبة لأنه يرضي نفس فاعله قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **أهابكِ إجلالاً وما بكِ قدرةٌ عليّ ولكن ملء عين حبيبها** | | | | --- | --- | --- | وهي تستلزم الخوف من غضب المحبوب قال محمود الوراق أو منصور الفقيه | **تَعصي الإلٰهَ وأنتَ تُظهر حبَّه هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأَطَعْتَه إن المحبَّ لمن يُحِب مطيع** | | | | --- | --- | --- | ولذلك قال تعالى**{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }** آل عمران 31 فذلك يشعر بأن اتباع الشريعة يوجب محبة الله وأن المحب يود أن يحبه حبيبه كما قال المتنبي | **أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون مُحباً غير محبوب** | | | | --- | --- | --- | وإلى هذا النوع ترجع عبادة أكثر الأمم، ومنها العبادة المشروعة في جميع الشرائع لأنها مبنية على حب الله تعالى، وكذلك عبادة المشركين أصنامهم قال تعالى**{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله }** البقرة 165. ومن الأمم من عبدت عن خوف دون محبة وإنما هو لاتقاء شر كما عبدت بعض الأمم الشياطين وعبدت المانوية من المجوس المعبود أهْرُمُنْ وهو عندهم رب الشر والضر ويرمزون إليه بعنصر الظُلمة وأنه تولد من خاطر سوء خطر للرب يَزْدَان إلٰه الخير، قال المعري | **فَكَّرَ يَزْدَانُ على غِرة فَصِيغَ من تفكيره أَهْرُمُنْ** | | | | --- | --- | --- | والحصر المستفاد من تقديم المعمول في قوله تعالى { إياك نعبد } حصر حقيقي لأن المؤمنين الملقَّنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا الله. وزعم ابن الحاجب في «إيضاح المفصل» في شرح ديباجة «المفصل» عند قول الزمخشري «اللهَ أحمد» أن التقديم لا يفيد إلا الاهتمام دون حصر وأن قوله تعالى { إياك نعبد } تقديم المفعول للاهتمام دون قصر وأن تمسكهم بقوله**{ بل الله فاعْبُد }** الزمر 66 ضعيف لورود**{ فاعبد الله مخلصا له الدين }** الزمر 2 وإبطال رأيه مقرر في كتب علم المعاني. وأنا أرى استدلاله بورود قوله تعالى { فاعبد الله } لا يليق بمقامه العلمي إذ لا يظن أن محامل الكلام متماثلة في كل مقام، { وإياك نستعين } جملة معطوفة على جملة { إياك نعبد } وإنما لم تفصل عن جملة { إياك نعبد } بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلاً أو بعضاً للإشارة إلى خطور الفعلين جميعاً في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص، أي نخصك بالاستعانة أيضاً مع تخصيصك بالعبادة. والاستعانةُ طلب العون. والعون والإعانة تسهيل فعلِ شيء يشُق ويعسُر على المستعين وحدَه، فهي تحصل بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقَوْد، أو بقول كالإرشاد والتعليم، أو برأي كالنصيحة. قال الحريري في المقامة «وخُلُقي نعم العون»، أو بمال كدفع المغرم، بحيث يحصل الأمر بعسير من جهود المستعين والمعين. وأما الاستعانة بالله فهي طلب المعونة على ما لا قِبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قِبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده، فهذه هي المعونة شرعاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد فسرها العلماء بأنها هي خَلْق ما به تمامُ الفعل أو تيسيرُه، فتنقسم قسمين ضرورية أي ما يتوقف الفعل عليها فلا يحصل بدونها أي لا يحصل بدون توفر متعلقها وهي إعطاء الاقتدار للفاعل وتصوره للفعل وحصول المادة والآلة، ومجموع هاته الأربعة يعبر عنه بالاستطاعة، ويعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات وبها يصح تكليف المستطيع. القسم الثاني المعونة غير الضرورية وينبغي أن تخص باسم الإعانة وهي إيجاد المُعين ما يتيسر به الفعل للمُعان حتى يسهل عليه ويقرب منه كإعداد الراحلة في السفر للقادر على المشي. وبانضمام هذا المعنى للمعنى الأول تتم حقيقة التوفيق المعرف عندهم بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة، وسمى الراغب هذا القسم الثاني بالتوفيق ولا تعارض بين كلامه وبين تعريفهم إياه لما علمت من أنه لا يحصل إلا بعد حصول المعونة بالمعنى الأول فتم التوفيق والمقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي الدين وكلِّ ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك من تحصيل الفضائل. وقرينة هذا المقصود رسمه في فاتحة الكتاب ووقوعُ تخصيص الإعانة عقب التخصيص بالعبادة. ولذلك حذف متعلِّق { نستعين } الذي حقه أن يذكر مجروراً بعلى، وقد أفاد هذا الحذفُ الهامُّ عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدباً معه تعالى، ومن توابع ذلك وأسبابه وهي المعارف والإرشادات والشرائع وأصول العلوم فكلها من الإعانة المطلوبة وكلها من الله تعالى فهو الذي ألهمنا مبادىء العلوم وكلفنا الشرائع ولقننا النطق، قال**{ ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين }** البلد 8 ـــ 10 ــــ فالأول إيماء إلى طريق المعارف وأصلُها المحسوسات وأعلاها المبصرات، والثاني إيماء إلى النطق والبيان للتعليم، والثالث إلى الشرائع. والحصر المستفاد من التقديم في قوله { وإياك نستعين } حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شؤونهم، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى. ويفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أَن وَلَعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى كما عبدت سَبأ الشمسَ وعبد الفُرس النورَ والظلمة، وعبدَ القِبط العِجل وألَّهوا الفراعنة، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين. ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله عبادة غيره وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب، فقد عبدت ضبة وتَيْم وعُكْل الشمسَ، وعبدت كنانةُ القمَر، وعبدت لخم وخزاعةُ وبعض قريش الشِّعْرى، وعبدت تميم الدبَران، وعبدت طيىء الثُريا، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلٰهة بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأنَّ جَعْلَهم وسيلة إلى الله ضربٌ من الاستعانة، وإنما قلنا إن استفادة الرد على المشركين ونحوهم بطريق التعريض أي بطريق عُرض الكلام لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا تعريضاً لأن معناه حاصل على الحقيقة كما أشار إليه السلكوتي في «حاشية التفسير». | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قلت كيف أمرنا بأن لا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا به حسبما تشير إليه هذه الآية، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علَّم عبد الله بن عباس قال له **" إذا سَأَلْتَ فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله "** فلم يأت بصيغة قصر. قلت قد ذكر الشيخ الجد قدس الله روحه في تعليقه على هذا الحديث أن ترك طريقة القصر إيماء إلى أن المَقام لا يقبل الشركة وأن من حق السؤال أن لا يكون إلا لله القادر العليم، وقد قال علماء البلاغة إذا كان الفعل مقصوراً في نفسه فارتكاب طريق القصر لغو من الكلام ا هـ. وأقول تقفيةً على أثره إن مقام الحديث غير مقام الآية فمقام الحديث مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب وترجل في الإسلام فتقرُّرُ قصر الحكم لديه على طَرَف الثمام ولذلك استغنى عنه وأما مقام هذه الآية فمقام مفتَتح الوحي والتشريع واستهلال الوعظ والتقريع، فناسب تأكيد الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك الشنيع على أن تعليق الأمر بهما في جواب الشرط على حصول أيّ سؤال وأية استعانة يفيد مفاد القصر تعريضاً بالمشركين وبراءة من صنيعهم فقد كانوا يستعينون بآلهتهم. ومن ذلك الاستقسام بالأزلام الموضوعة عند الآلهة والأصنام. وضميرا { نعبد ونَستعين } يعودَان إلى تالي السورة ذاكراً معه جماعة المؤمنين. وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارَك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات، ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عِزة ومَنَعة، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضاً بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله، وقريب من هذا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني | **قعودا له غسان يرجون أوْبَة وتُركٌ ورهطُ الأعجمين وكابُل** | | | | --- | --- | --- | إذ قصد من تعداد أصناف من الأمم الكناية عن عظمة النعمان وكثرة رعيته. فكَأَنَّ الحامد لما انتقل من الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها. ووجه تقديم قوله { إياك نعبد } على قوله { وإياك نستعين } أن العبادة تقرُّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبوداً للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل. وقد حصل من ذلك التقديم أيضاً إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان. وأعيد لفظ { إياك } في الاستعانة دون أن يعطف فعل { نستعين } على { نعبد } مع أنهما مقصودان جميعاً كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقاً، فالحصر في { إياك نعبد } حقيقي والقصر في { إياك نستعين } ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال تعالى**{ وتعاونوا على البر والتقوى }** المائدة 2 ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ)
قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }. أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إله إلا الله لأن معناها مركب من أمرين نفي وإثبات. فالنفي خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات، والإثبات إفراد رب السموات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع. وقد أشار إلى النفي من لا إله إلا الله بتقديم المعمول الذي هو { إِيَّاكَ }. وقد تقرر في الأصول، في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة. وفي المعاني في مبحث القصر أن تقديم المعمول من صيغ الحصر. وأشار إلى الإثبات منها بقوله { نَعْبُدُ }. وقد بين معناها المشار إليه هنا مفصلاً في آيات أخر كقوله**{ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ }** البقرة 21 الآية - فصرح بالإثبات منها بقوله { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } وصرح بالنفي منها في آخر الآية الكريمة بقوله**{ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }** البقرة 22 وكقوله**{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ }** النحل 36 فصرح بالإثبات بقوله { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } وبالنفي بقوله { وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } وكقوله**{ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ }** البقرة 256 فصرح بالنفي منها بقوله**{ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ }** البقرة 256 وبالإثبات بقوله**{ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ }** البقرة 256 وكقوله**{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي }** الزخرف 26-27 الآية - وكقوله**{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ }** الأنبياء 25 وقوله**{ وَسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ }** الزخرف 45 إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. أي لا نطلب العون إلا منك وحدك. لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة. وإتيانه بقوله { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بعد قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة. لأن غيره ليس بيده الأمر. وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبيناً واضحاً في آيات أخر كقوله**{ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ }** هود 123 الآية - وقوله**{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ }** التوبة 129 الآية - وقوله**{ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً }** المزمل 9 وقوله**{ قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا }** الملك 29 إلى غير ذلك من الآيات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري (مـ 1921م)
شرح الكلمات: إياك: ضمير نصب يخاطب به الواحد. نعبـد: نطيع ما غاية الذل لك والتعظيم والحب. نستعين: نطلب عونك لنا على طاعتك. معنى الآية: علَّمنا الله تعالى كيف نتوسل إليه في قبول دعائنا فقال احمدوا الله واثنوا عليه ومجدوه، والتزموا له بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به وتستعينوه ولا تستعينوا بغيره. هداية الآية: من هداية هذه الآية ما يلي: 1- آداب الدعاء حيث يقدم السائل بين يدى دعائه حمد الله والثناء عليه وتمجيده. وزادت السنة الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل حاجته فإنه يستجاب له. 2- أن لا يعبد غير ربه. وأن لا يستعينه إلاّ هو سبحانه وتعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
(5) - وَلاَ نَعبُدُ إلاَّ إِيَّاكَ، يَا رَّبنا، وَلاَ نَطْلُبُ العَوْنَ والخَيْرَ إلاَّ مِنْكَ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ)
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } رجع من الخبر الى الخطاب على التلوين. وقيل فيه إضمار، أي قولوا: { إِيَّاكَ }. و { أَيَّا } كلمة ضمير، لكنه لا يكون إلاّ في موضع النصب، والكاف في محلّ الخفض بإضافة إيا إليها، وخصّ بالإضافة إلى الضمير؛ لأنه يضاف إلى الاسم المضمر ألا يقول الشاعر: | **فدعني وإيا خالد** | | **لأقطعن عُرْيَ نياطه** | | --- | --- | --- | وحكى الخليل عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإياكم. ويستعمل مقدّماً على الفعل مثل (إياك أعني) و (إياك أسأل)، ولا يستعمل مؤخّراً على الفعل إلاّ أنّ..... به حين الفعل، فيقال: ما عبدت إلاّ إياك ونحوها. وقال أبو ميثم سهل ابن محمد: إياك ضمير منفصل، والضمير ثلاثة أقسام: ضمير متّصل نحو الكاف والهاء والياء في قولك: أكرمك، وأكرمه، وأكرمني. سمي بذلك لاتصاله بالفعل. وضمير منفصل نحو إياك وإياه وإياي. سمي بذلك لانفصاله عن الفعل. وضمير مستكن، كالضمير في قولك: قعد وقام. سمي بذلك لأنه استكن في الفعل ولم يُستبقَ في اللفظ ويعمّ أن فيه ضمير الفاعل؛ لأن الفعل لا يقوم إلاّ بفاعل ظاهر أو مضمر. وقال أبو زيد: إنما هما ياءان: الأولى للنسبة والثانية للنداء، تقديرها: (أي يا)، فأُدغمت وكسرت الهمزة لسكون الياء. وقال أبو عبيد: أصله (أو ياك)، فقلبت الواو ياءً فأدغموه، وأصله من (آوى، يؤوي، إيواء) كأن فيه معنى الانقطاع والقصد. وقرأ الفضل الرقاشي (أياك) بفتح الألف وهي لغة. وإنما لم يقل: نعبدك (لأنه) يصحّ في العبارة، وأحسن الإشارة؛ لأنهم إذا قالوا: إياك نعبد، كان نظرهم منه إلى العبادة لا من العبادة إليه. وقوله: { نَعْبُدُ } أي نوحد ونخلص ونطيع ونخضع، والعبادة رياضة النفس على حمل المشاق في الطاعة. وأصلها الخضوع والانقياد والطاعة والذلة، يقال: طريق معبّد إذا كان مذللا موطوءاً بالأقدام. قال طرفة: | **تبارى عتاقاً ناجيات وأتبعت** | | **وظيفاً وظيفاً فوق مور معبّد** | | --- | --- | --- | وبعير معبد إذا كان مطلياً بالقطران، قال طرفة: | **إلى أن تحامتني العشيرة كلّها** | | **وأفردت إفراد البعير المعبّد** | | --- | --- | --- | وسمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده لمولاه. { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }: نستوفي ونطلب المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلّها، يقال: استعنته واستعنت به، وقرأ يحيى بن رئاب: (نَسْتَعِينُ) بكسر النون. قال الفرّاء: تميم وقيس وأسد وربيعة يكسرون علامات المستقبل إلاّ الياء، فيقولون إستعين ونِستعين ونحوها، ويفتحون الياء لأنها أخت الكسرة. وقريش وكنانة يفتحونها كلّها وهي الأفصح والأشهر. وإنّما كرّر { إِيَّاكَ }؛ ليكون أدلّ على الإخلاص والاختصاص والتأكيد لقول الله تعالى خبراً عن موسى:**{ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً \* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً }** [طه: 33-34]، ولم يقل: كي نسبحك ونذكرك كثيراً. وقال الشاعر: | **وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به** | | **بين النهار وبين الليل قد فصلا** | | --- | --- | --- | ولم يقل بين النهار والليل. وقال الآخر: | **بين الأشجّ وبين قيس باذخ** | | **بخ بخ لوالده وللمولود** | | --- | --- | --- | وقال أبو بكر الورّاق: إياك نعبد لأنك خلقتنا، وإياك نستعين لأنك هديتنا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الرَّحْمن الفرّان، وقد سئل عن الآية فقال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك الصانع،و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأن المصنوع لا غنى به عن الصانع، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لتدخلنا الجنان، و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لتنقذنا من النيران، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنّا عبيد و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأنك كريم مجيد، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك المعبود بالحقيقة و { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأننا العباد بالوثيقة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
" إياك " مفعولٌ مُقدَّمٌ على " نَعْبُدُ " ، قُدِّم للاختصاصِ، وهو واجبُ الانفصالِ. واختلفوا فيه: هل هو من قَبيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرةِ؟ فالجمهورُ على أنه مضمرٌ، وقال الزجاج: " هو اسم ظاهر " ، وترجيحُ القولين مذكورٌ في كتب النحو. والقائلونَ بأنه ضميرٌ اختلفوا فيه على أربعةِ أقوال، أحدُها: أنه كلَّه ضميرٌ. والثاني: أن: " إيَّا " وحدَه ضميرٌ وما بعده اسمٌ مضافٌ إليه يُبَيِّنُ ما يُراد به من تكلمٍ وغَيْبَةٍ وخطاب، وثالثُها: أن " إيَّا " وحدَه ضميرٌ وما بعدَه حروفُ تُبَيِّنُ ما يُراد به. ورابعها: أنَّ " إيَّا " عمادٌ وما بعده هو الضمير، وشَذَّت إضافتُه إلى الظاهرِ في قولهم: " إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيَّا الشَوابِّ " بإضافة " إيا " إلى الشَوابِّ، وهذا يؤيِّد قولَ مَنْ جَعَلَ الكافَ والهاءَ والياءَ في محل جرٍّ إذا قلت: إياك إياه إياي. وقد أَبْعَدَ بعضُ النحويين فَجَعَل له اشتقاقاً، ثم قال: هل هو مشتقٌ من " أَوّ " كقول الشاعر: | **59ـ فَأَوِّ لذِكْراها إذا ما ذَكَرْتُها** | | **................................** | | --- | --- | --- | أو من " آية " كقوله: | **60ـ لم يُبْقِ هذا الدهرُ من آيائِهِ** | | **......................................** | | --- | --- | --- | وهل وزنه إفْعَل أو فَعيل أو فَعُول ثم صَيَّره التصريف إلى صيغة إيَّا؟ وهذا الذي ذكره هذا القائل لا يُجْدِي فائدةً، مع أنَّ التصريف والاشتقاق لا يَدْخلان في المتوغِّل في البناء. وفيه لغاتٌ: أشهرُها كسرُ الهمزةِ وتشديدُ الياءِ، ومنها فتحُ الهمزةِ وإبدالُها هاءً مع تشديدِ الياء وتخفيفها. قال الشاعر: | **61ـ فَهِيَّاك والأمرَ الذي إنْ توسَّعَتْ** | | **مَواردُه ضاقَتْ عليك مصادِرُهْ** | | --- | --- | --- | [وقال بعضهم: إياك بالتخفيف مرغوبٌ عنه]، لأنه يصير " شمسَك نعبد، فإنَّ إياةَ الشمس ضَوْءُها بكسر الهمزة، وقد تُفتح، وقيل: هي لها بمنزلة الهالة للقمر، فإذا حَذَفْتَ التاءَ مَدَدْتَ، قال: | **62ـ سَقَتْه إياةُ الشمسِ إلاَّ لِثاتِه** | | **أُسِفَّ فلم تَكْدِمْ عليه بإثْمِدِ** | | --- | --- | --- | وقد قُرئ ببعضها شاذاً، وللضمائر بابٌ طويلٌ وتقسيمٌ متسع لا يحتمله هذا الكتابُ، وإنما يأتي في غضونِه ما يليقُ به. ونعبُدُ: فعلٌ مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم، وقيل: لوقوعِه موقعَ الاسم، وهذا رأيُ البصريين، ومعنى المضارعِ المشابِهُ، يعني أنه أشْبَه الاسمَ في حركاتِهِ وسَكَناتِهِ وعددِ حروفِهِ، ألا ترى أنَّ ضارباً بزنة يَضْرب فيما ذَكَرْتُ لك وأنه يَشِيع ويختصُّ في الأزمان، كما يشيعُ الاسمُ ويختصُّ في الأشخاصِ، وفاعلُه مستترٌ وجوباً لِما مرَّ في الاستعاذة. والعِبادة غاية التذلل، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفضالِ وهو الباري تعالى، فهي أبلغُ من العبودية، لأنَّ العبوديةَ إظهارُ التذلل، ويقال: طريق مُعَبَّد، أي مذلَّل بالوطء، قال طرفة: | **63ـ تباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتْبَعَتْ** | | **وَظِيفاً وظيفاً فوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ** | | --- | --- | --- | ومنه: العبدُ لذلَّته، وبعيرٌ مُعَبَّد: أي مُذَلَّل بالقَطِران. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: العبادةُ التجرُّدُ، ويُقال: عَبَدْت الله بالتخفيف فقط، وعَبَّدْتُ الرجلَ بالتشديد فقط: أي ذَلَّلته أو اتخذتُه عبداً. وفي قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب، إذ لو جَرَى الكلامُ على أصلِه لقيل: الحمد الله، ثم قيل: إياه نعبدُ، والالتفاتُ: نوع من البلاغة. ومن الالتفات - إلا أنه عَكْسُ هذا - قولُه تعالى:**{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }** [يونس: 22]، ولم يقل: بكم. وقد التفت امرؤ القيس ثلاثةَ التفاتات في قوله: | **64ـ تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثمِدِ** | | **وبات الخَليُّ ولم تَرْقُدِ** | | --- | --- | --- | | **وباتَ وباتَتْ له ليلَةٌ** | | **كليلة ذي العائِرِ الأرْمَدِ** | | --- | --- | --- | | **وذلك من نبأٍ جاءني** | | **وخُبِّرْتُه عن أَبِي الأسودِ** | | --- | --- | --- | وقد خَطَّأ بعضُهم الزمخشري في جَعْلِه هذا ثلاثة التفاتات، وقال: بل هما التفاتان، أحدهما خروجٌ من الخطابِ المفتتحِ به في قوله: " ليلُك " إلى الغيبة في قوله: " وباتَتْ له ليلةٌ " ، والثاني: الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلم في قوله: " من نبأٍ جاءني وخُبِّرْتُه ". والجواب أن قوله أولاً: " تطاول ليلُك " فيه التفاتٌ، لأنه كان أصلُ الكلامِ أن يقولَ: تطاول ليلي، لأنه هو المقصودُ، فالتفت من مَقام التكلمِ إلى مقامِ الخطابِ، ثم من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، ثم من الغَيْبة إلى التكلمِ الذي هُوَ الأصلُ. وقُرئ شاذاً: " إِيَّاكَ يُعْبَدُ " على بنائِه للمفعول الغائبِ، ووجهُها على إشكالها: أنَّ فيها استعارةً والتفاتاً، أمّا الاستعارةُ فإنه استُعير فيها ضميرُ النصب لضمير الرفع، والأصل: أنت تُعْبَدُ، وهو شائعٌ كقولهم: عساك وعساه وعساني في أحد الأقوال، وقول الآخر: | **65ـ يابنَ الزُّبير طالما عَصَيْكا** | | **وطالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيكا** | | --- | --- | --- | فالكاف في " عَصَيْكا " نائِبةٌ عن التاء، والأصل: عَصَيْتَ. وأمَّا الالتفاتُ فكان من حقِّ هذا القارئ أن يقرأ: إياك تُعْبَدُ بالخطابِ، ولكنه التفتَ من الخطاب في " إيَّاك " إلى الغيبة في " يُعْبَدُ " ، إلا أنَّ هذا التفاتٌ غريب، لكونه في جملة واحدةٍ/ بخلاف الالتفاتِ المتقدم. ونظيرُ هذا الالتفات قوله: | **66ـ أأنتَ الهلاليُّ الذي كنتَ مرةً** | | **سَمِعْنا به والأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ** | | --- | --- | --- | فقال: " به " بعد قوله: " أنت وكنت ". و " إيَّاك " واجبُ التقديمِ على عاملهِ، لأنَّ القاعدةَ أن المفعولَ به إذا كان ضميراً -لو تأخَّر عن عاملهِ وَجَبَ اتصالُه - وَجَب تقديمُه، وتحرَّزوا بقولهم: " لو تأخَّر عنه وَجَبَ اتصالَهُ " من نحو: " الدرهمَ إياه أعطيتُك " ـ لأنك لو أَخَّرْتَ الضميرَ هنا فقلت: " الدرهمَ أعطيتُك إياه " لم يلزمِ الاتصالُ لِما سيأتي، بل يجوز: أعطيتُكه. والكلام في " إياك نَسْتعين " كالكلام في " إياك نعبدُ " والواو عاطفة، وهي من المُشَرِّكة في الإِعراب والمعنى، ولا تقتضي ترتيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيين. ولها أحكامٌ تختصُّ بها تأتي إن شاء الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وأصل نَسْتعين: نَسْتَعْوِنُ مثل نَسْتَخْرِجُ في الصحيحِ، لأنه من العَوْنِ، فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو، فنُقِلَت إلى الساكن قبلها، فَسَكَنت الواوُ بعد النقلِ وانكسر ما قبلها فَقُلِبَتْ ياءً. وهذه قاعدةٌ مطردَة، نحو: ميزان ومِيقات وهما من الوَزْن والوَقْت. والسينُ فيه معناها الطلبُ، أي: نطلب منك العَوْنَ على العبادة، وهو أحدُ المعاني التي لـ استفعل، وله معانٍ أُخَرُ: الاتخاذُ نحو: استعْبَدَه أي: اتخذه عبداً، والتحول نحو: استحْجَرَ الطين أي: صار حَجَراً، ومنه قوله: " إن البُغاثَ بأرضِنا تَسْتَنْسِر " ، أي: تتحوَّل إلى صفة النسور، ووجودُ الشيء بمعنى ما صِيغ منه، نحو: استعظَمه أي وجدَه عظيماً، وعدُّ الشيء كذلك وإن لم يكنْ، نحو: استحسنه، ومطاوعةُ أَفْعَل نحو: أَشْلاه فاستشلى، وموافقتُه له أيضاً نحو: أَبَلَّ المريضُ واستبلَّ، وموافقةُ تفعَّل، نجو: استكبرَ بمعنى تكبَّر، وموافقةُ افتَعَلَ نحو: استعصمَ بمعنى اعتصم، والإِغناءُ عن المجردِ نحو: استكفَّ واستحيى، لم يُلْفَظْ لهما بمجردٍ استغناءً بهما عنه، وللإِغناءِ بِهِ عن فَعَل أي المجردِ الملفوظِ به نحو: استرجع واستعانَ، أي: رَجَع وحَلَق عانَتَه. وقرئ " نِسْتعين " بكسر حرفِ المضارعةِ، وهي لغةٌ مطردةٌ في حروف المضارعة، وذلك بشرطِ ألاَّ يكونَ حرفُ المضارعة ياء، لثقلِ ذلك. على أن بعضهم قال: يِيجَل مضارع وَجِلَ، وكأنه قصدَ إلى تخفيفِ الواو إلى الياء فَكَسر ما قبلها لتنقلبَ، وقد قرئ:**{ فإنهم يِيْلمونَ }** [النساء: 104]، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناء، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، وأن يكونَ المضارعُ من ماضٍ مكسورِ العينِ نحو: تِعْلم من عَلِمَ، أو في أوله همزة وصل نحو: نِسْتعين من استعان أو تاء مطاوعة نحو: نِتَعلَّم من تَعَلَّم، فلا يجوز في يَضْرِبُ ويَقْتُل كسرُ حرفِ المضارعة لعدمِ الشروط المذكورة. ومن طريف ما يُحْكى أن ليلى الأخيلية من أهل هذه اللغة فدخلت ذات يومٍ على الحجَّاج وعنده النابغة الجعدي فذكرتْ شِدَّة البرد في بلادِها، فقال لها النابغة الجعدي وَعَرَفَ أنها تقع فيما أراد: فكيف تصنعون؟ ألا تَكْتَنُون في شدة البرد، فقالت: بلى، نِكْتَني، وكَسَرتِ النونَ، فقال: لو فَعْلْتُ ذلك لاغتسلْتُ، فضحك الحجاج وَخَجِلت ليلى. والاستعانة: طلبُ العَوْن، وهو المظاهَرَةُ والنُّصْرَةُ، وقَدَّم العبادةَ على الاستعانة لأنها وَصْلَةٌ لطلب الحاجة، وأطلق كُلاًّ من فِعْلي العبادة والاستعانة فلم يَذْكر لهما مفعولاً ليتناولا كلَّ معبودٍ به وكلَّ مستعانٍ، عليه، أو يكونُ المراد وقوع الفعل من غير نظرٍ إلى مفعولٍ نحو:**{ كُلوا واشربوا }** [البقرة: 60]، أي أَوْقِعوا هذين الفعلينِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
العبادةُ في اللغة: مأخوذة من الذلة، يقال: طريقٌ معبّد، وبعيرٌ معبَّد أي مذلّل. وفي الشرع: هي ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وقدّم المفعول وكرّر للإهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين، فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرءٌ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عزّ وجلّ، وهذا المعنى في غير آيةٍ من القرآن:**{ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ }** [هود: 123]**{ قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا }** [الملك: 29]. وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى فلهذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بكاف الخطاب، وفي هذا دليلٌ على أن أول السورة خبرٌ من الله تعالى بالثناء على نفسه بجميل صفاته الحسنى، وإرشادٌ لعباده بأن يثنوا عليه بذلك. وإنما قدّم { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } على { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لإن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والأصل أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، فإن قيل: فما معنى النون في { نَعْبُدُ } و { نَسْتَعِينُ } فإن كانت للجمع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟ وقد أجيب: بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد، والمصلي فردٌ منهم ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خُلقوا لأجلها وتوسَّط لهم بخير، و { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ألطفُ في التواضع من (إيَّاك عبدنا)، لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعل نفسه وحده أهلاً لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقام عظيم يَشْرُف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى كما قال بعضهم: | **لا تدعني إلا بيا عبدها** | | **فإنه أشرف أسمائي** | | --- | --- | --- | وقد سمّى رسوله صلى الله عليه وسلم بعبده في أشرف مقاماته فقال:**{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ }** [الكهف: 1]، وقال:**{ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ }** [الجن: 19]، وقال:**{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً }** [الإسراء: 1] فسماه عبداً عند إنزاله عليه، وعند قيامه للدعوة، وإسرائه به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. لا يُحسن إدخال { إِيَّاكَ } في غيرِ الْمُضْمَرَاتِ. وحُكي عن الخليلِ: (إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّيْنَ فَإيَّاهُ؛ وَإيَّا الشَّوَاب). فأضافَهُ إلَى ظاهرٍ؛ وهو قبيحٌ مع جوازهِ ولا يكونُ إلاَّ إذا تقدَّم، فإنْ تأخَّرَ؛ قُلْتَ: نَعْبُدُ؛ ولا يجوز: نَعْبُدُ إياكَ. فإنْ قِيْلَ: لِمَ قدَّم { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وهلاَّ قالَ: نعبدُكَ؟ قيل: إنَّ العربَ إذا ذكرَتْ شَيئين قدَّمت الأهَمَّ فالأهَمَّ؛ ذِكْرُ المعبودِ في هذه الآية أهمُّ من ذكرِ العبادة فقدَّمَهُ عليها. والكافُ من { إِيَّاكَ } في موضعِ خفض بمنْزلة عَصَاكَ؛ وأجازَ الفرَّاء: أن تكون في موضعِ نصبٍ؛ فكأنه جعلَ { إِيَّاكَ } بكمالهِ ضميرَ المنصوب. فإن قيلَ: لِمَ عدلَ عن المغايبةِ إلى المخاطبة؟ قُلْنَا: مِثْلُهُ كثيرٌ في القُرْآنِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى:**{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ }** [يونس: 22]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
اختلف النحويون في " إياك وإياه وإياي "؛ فللبصريين فيها قولان: - أحدهما: أن " إيا " اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف. ولا يعرف في كلام العرب اسم مضمر مضاف إلى ما بعده غير هذا. وحكى الخليل عن العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ". فأضاف " إيا " إلى الشواب للبيان. - والقول الثاني: مروي عن المبرد قال: " إن " إيا " اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، ولا يعرف في كلام العرب اسم مبهم أضيف إلى ما بعده غير هذا ". وللكوفيين في هذا أيضاً ثلاثة أقوال. - حكى ابن كيسان وغيره. عنهم أن " إياك " بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، فتقول: " إياه وإياك وإياي ". - والقول الثاني: إن الكاف والهاء والياء، هن الاسم المضمر في " إياك وإياه وإياي " ، لكنه اسم لا يقوم بنفسه ولا ينفرد ولا يكون إلا متصلاً بما قبله من الأفعال، فلما تقدم على الفعل لم يقم بنفسه فجعل " إيا " عماداً له ليتصل به، ولو أخرت لا تصل المضمر بالفعل واستغنيت عن " إيا " فقلت: " نعبده " و " نعبدك ". وهو اختيار ابن كيسان. - والقول الثالث: حكاه أيضاً ابن كيسان؛ وهو أن " إيا " اسم مبهم يكنى به / عن المنصوب وزيدت إليه الكاف والهاء والياء في: إياك وإياه وإياي ". " ليعلم المخاطب / من الغائب من المُخْبِر عن نفسه ولا موضع للكاف والهاء والياء من الإعراب، فهي كالكاف في " ذلك " وأرأيتك زيداً ما صنع ". ذكر معنى جميع ذلك ابن كيسان في كتابه في تفسير القرآن وإعرابه ومعانيه. والعبادة في اللغة التذلل بالطاعة والخضوع. فمعنى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }: نذل لك ونخضع بالعبادة لك ونستعين بك على ذلك. وإنما قدم { نَعْبُدُ } على { نَسْتَعِينُ } وقد علم أن الاستعانة قبل العبادة، والعمل لا يقوم إلا بعون الله، لأن العبادة لا سبيل إليها إلا بالمعونة، والمعان على العبادة لا يكون إلا عابداً. فكل واحد مرتبط بالآخر: لا عمل إلا بمعونة ولا معونة إلا تتبعها عبادة، فلم يكن أحدهما أولى بالتقديم من الآخر، وأيضاً فإن الواو لا توجب ترتيباً عند أكثر النحويين. وأما علة تكرير { إِيَّاكَ } فمن أجل اختلاف الفعلين إذ أحدهما عبادة والآخر استعانة. / وقيل: كرر للتأكيد كما تقول: " المال بين زيد وعمرو، بين زيد وبين عمرو " ، فتعيد " بين " للتأكيد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قوله: { نَسْتَعِينُ }. أصله " نَسْتَعْوِنُ " على وزن " نَسْتَفْعِلُ " من العون. والمصدر منه استعانة، وأصله استعواناً، فقلبت حركة الواو على العين، فلما انفتح ما قبل الواو - وهي في نية حركة - انقلبت ألفاً، فالتقى ألفان، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. فقيل: المحذوفة الثانية لأنها زائدة، والأولى أصلية. وقيل: بل المحذوفة الأولى لأن الثانية تدل على معنى ولزمته الهاء عوضاً من الألف المحذوفة. والنون الأولى في { نَسْتَعِينُ } يجوز فيها الكسر لغة مشهورة وكذلك التاء والهمزة في قولك: " أنْتَ تَسْتَعِين وأنا أسْتَعينُ ". وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو مما يأتي من الثلاثي على " فَعِلَ، يَفْعَلُ " بفتح العين في المستقبل، وكسرها في الماضي نحو: " أنت تعلم وأنا أعلم ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ)
قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } { إِيَّاكَ } مفعول مقدم لـ { نَعْبُدُ } قدم لإفادة الحصر والاختصاص، و { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } معطوف علي { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أي لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، لأنك الحقيق بتلك الصفات العظام، والمعنى: يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة، فهذا ترقٍّ من البرهان إلى العيان، والغيبة إلى الحضور، فهو تعليم من الله تعالى لعباده كيفية الترقي، فإن العبد إذا ذكر الحقيق بالحمد، وهو رب الأرباب، عن قلب حاضر، يجد ذلك العبد من نفسه محركاً للإقبال عليه، وكلما أجرى على قلبه ولسانه صفة من تلك الصفات العظام، قوي ذلك المحرك، إلى أن يؤول ذلك الأمر لخاتمة تلك الصفات، فحينئذ يوجب ذلك المحرك لتناهيه في القوة، إقبال ذلك على العبد على ربه وخالقه المتصف بتلك الصفات، فانتقل من الغيبة لخطابه والتلذذ بمناجاته، فأول الكلام مبني على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه العظام، والنظر في آلائه والاستدلال يصنعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم بعد ذلك أتى بمنتهاه، وهو الخطاب والحضور المشعر بكونه في حضرة الشهود، وإلى هذا المعنى أشار بعض العارفين بقوله: | **تلك آثارنا تدل علينا** | | **فانظروا بعدنا إلى الآثار** | | --- | --- | --- | وهو مقام الإحسان المشار له بقوله صلى الله عليه وسلم: **" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه "** واعلم أن { إِيَّاكَ } واجب الانفصال، واختلف فيه هل من قبيل الأسم الظاهر؟ وبه قال الزجاج أو هو ضمير؟ وعليه الجمهور، واختلف القائلون بأنه ضمير على أربعة أقوال، أحدها: أنه كله ضمير. الثاني أن إياه وحده ضمير وما بعده اسم مضاف إليه يفسر ما يراد به من تكلم وغيبة وخطاب. الثالث: أن إيا وحده ضمير، وما بعده حروف تفسير ما يراد منه وهو المشهور. الرابع: إن إيا عماد، وما بعده ضمير، والضمير المستكن في { نَعْبُدُ } و { نَسْتَعِينُ } للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له والسائر الموحدين، أدرج عبادته في عباداتهم، وخلط حاجته بحاجاتهم، لعل عبادته تقبل ببركة عباداتهم، وحاجته يجاب إليها ببركة حاجاتهم، ومن هنا شرعت الجماعة في الصلوات، قال تعالى:**{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ }** [المائدة: 2] وقال صلى الله عليه وسلم: **" يد الله مع الجماعة ".** قوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } كرر الضمير للدلالة على تخصيصه تعالى بكل من العبادة والاستعانة والتلذذ بالمناجاة والخطاب، وقدم العبادة على الاستعانة لأنها وصلة لطلب الحاجة، فإذا أفرد العبد ربه بالعبادة أعانه، وحذف المعمول من كل ليؤذن بالعموم، فيتناول كل معبود به، وكل مستعان عليه، وأصل { نَسْتَعِينُ } نستعون، استثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى الساكن قبلها، فسكنت الواو بعد النقل، وانكسر ما قبلها فقبلت ياء، والقراء السبعية بفتح النون، وقرئ شذوذاً { نَسْتَعِينُ } بكسر حرف المضارعة، وهي لغة مطردة في حرف المضارعة، بشرط أن لا يكون ما بعد حرف المضارعة مضموماً، فإن ضم كتقوم امتنع كسر حرف المضارعة، لثقل الانتقال من الكسر إلى الضم، وبشرط أن يكون المضارع من ماض مكسور العين نحو علم، أو في أوله همزة وصل نحو استعان، أو تاء مطاوعة نحو تعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قوله: (من توحيد) الخ، بيان للعبادة، وهو إشارة إلى العبادات الأصلية الاعتقادية، وقوله: (وغيره) إشارة إلى العبادات العملية، من صلاة وصوم وزكاة ونحو ذلك. قوله: (وبطلب المعونة) بالياء عطف على (بالعبادة) ولا يجوز أن يكون بالنون عطفاً على (نخصك) لخروجه عن إفادة التخصيص. قوله: (وغيرها) أي من مهمات الدنيا والآخرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
قال الطبري: أي لك، اللهم نخشع ونذل ونستكين، إقراراً لك بالربوبية لا لغيرك - قال - والعبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، وأنها تسمِّى الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام، وذلّلته السابلة " معبداً " ومنه قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج " معبّد " ومنه سمي العبد " عبدا " لذلته لمولاه. انتهى. وفيه إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى وتخليصها لعبادته وحده. أعني: أن لا يشرك شيئاً ما معه، لا في محبته كمحبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب، فإن كل ذلك إنما يستحقه فاطر الارض والسماوات وحده. وذلك أن لفظ العبادة يتضمن كمال الذّل بكمال الحب، فلا بد أن يكون العابد محباً للإله المعبود كمال الحب؛ ولا بد أن يكون ذليلاً له كمالَ الذل، وهما لا يصلحان إلا لله وحده، فهو الإله المستحق للعبادة، الذي لا يستحقها إلا هو، وهي كمال الحب والذل والإجلال والتوكل والدعاء بما لا يقدر عليه إلا هو، تعالى. وقد أشار لذلك تقديم المفعول، فإن فيه تنبيهاً على ما يجب للعبد من تخصيصه ربه بالعبادة، وإسلامه وجهه لله وحده، لا كما كان عليه المشركون الذين ظهر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فقد كانوا متفرقين في عبادتهم، متشاكسين في وجهتهم: منهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الأحبار والرهبان، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار... إلى غير ذلك، كما بينه القرآن الكريم في قوله تعالى:**{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ }** [فصلت: 37] الآية. وفي قوله تعالى:**{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ \* قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ }** [سبأ: 40-41]. وفي قوله تعالى:**{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ }** [المائدة: 116] الآية. وقوله تعالى:**{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً }** [آل عمران: 80] الآية. وفي قوله تعالى:**{ أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ \* وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ }** [النجم: 19-20]. وحديث أبي واقد الليثي قال: **" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: " ذات أنواط " فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، إنها السنن، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } - إلى قوله - { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [الأعراف: 138-140] "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | رواه الترمذي وصححه. وأما عبادتهم الأحبار والرهبان ففي قوله تعالى:**{ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ }** [التوبة: 31] الآية. فروى الإمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم أنه **" سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة: 31]. فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: " أليس يُحرمون ما أحل الله فتحرمون، ويُحلون ما حرم الله فتحلونه؟ " فقلت: بلى قال: " فتلك عبادتهم " ".** فالعبادة أنواع وأصناف: ولا يتم الإيمان إلا بتوحيدها كلها لله سبحانه. وقد بينت السنة أن الدعاء هو العبادة. أي ركنها المهم الأعظم. وأصله من التنزيل الكريم قوله تعالى:**{ وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي }** [غافر: 60]. فسماه عبادة. وفي الخبر: **" الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ".** قال شمس الدين ابن القيم: ولهذا كان العبد مأموراً في كل صلاة أن يقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفا منه، أو رجاءً له، فلا يزال العبد مفتقراً إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك؛ ولذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه؛ وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلاً ونداً يحبه، ويخافه، ويرجوه، يذل ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، والمؤثَر لا يرضى بإيثاره. انتهى. فائدة قال بعض السلف: الفاتحة سرّ القرآن، وسرها هذه الكلمة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }: فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرّؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل. وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى:**{ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ }** [هود: 123]،**{ قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا }** [الملك: 29].**{ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً }** [المزمل: 9]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
قال أبو جعفر: معنى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ }: الشكر خالصاً لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعْبَد من دونه، ودون كل ما برأ من خـلقه، بـما أنعم علـى عبـاده من النعم التـي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد، فـي تصحيح الآلات لطاعته، وتـمكين جوارح أجسام الـمكلفـين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم فـي دنـياهم من الرزق وغذاهم به من نعيـم العيش من غير استـحقاق منهم لذلك علـيه، ومع ما نبههم علـيه ودعاهم إلـيه من الأسبـاب الـمؤدية إلـى دوام الـخـلود فـي دار الـمقام فـي النعيـم الـمقـيـم. فلربنا الـحمد علـى ذلك كله أولاً وآخراً. وبـما ذكرنا من تأويـل قول ربنا جل ذكره وتقدست أسماؤه: { الـحَمْدُ لِلَّهِ } جاء الـخبر عن ابن عبـاس وغيره: حدثنا مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عبـاس، قال: قال جبريـل لـمـحمد: «قل يا مـحمد: الـحمد لله». قال ابن عبـاس: الـحمد لله: هو الشكر، والاستـخذاء لله، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه، وغير ذلك. وحدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي، قال: حدثنا بقـية بن الولـيد، قال: حدثنـي عيسى بن إبراهيـم، عن موسى بن أبـي حبـيب، عن الـحكم بن عمير وكانت له صحبة قال: قال النبـي صلى الله عليه وسلم: **" إذَا قُلْتَ الـحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العَالـمِينَ، فَقَدْ شَكَرْتَ اللَّهَ فَزَادَكَ "** قال: وقد قـيـل إن قول القائل: الـحَمْدُ لِلَّهِ ثناء علـى الله بأسمائه وصفـاته الـحسنى، وقوله: «الشكر لله» ثناء علـيه بنعمه وأياديه. وقد رُوي عن كعب الأحبـار أنه قال: الـحمد لله ثناء علـى الله. ولـم يبـين فـي الرواية عنه من أيّ معنـى الثناء الذي ذكرنا ذلك. حدثنا يونس بن عبد الأعلـى الصدفـي، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنـي عمر بن مـحمد، عن سهيـل بن أبـي صالـح، عن أبـيه، قال: أخبرنـي السلولـي، عن كعب قال: من قال: «الـحمد لله» فذلك ثناء علـى الله. وحدثنـي علـيّ بن الـحسن الـخراز، قال: حدثنا مسلـم بن عبد الرحمن الـجرمي، قال: حدثنا مـحمد بن مصعب القرقسانـي، عن مبـارك بن فضالة، عن الـحسن، عن الأسود بن سريع، أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: **" لَـيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَـيْهِ الـحَمْدُ مِنَ اللَّهِ تَعالـى، ولِذَلِكَ أَثْنَى علـى نَفْسِهِ فَقالَ: الـحَمْدُ لِلَّهِ "** قال أبو جعفر: ولا تَـمَانُع بـين أهل الـمعرفة بلغات العرب من الـحكم لقول القائل: الـحَمْدُ لِلَّهِ شكراً بـالصحة. فقد تبـين إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحاً، أن الـحمد لله قد يُنْطَق به فـي موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضع الـحمد، لأن ذلك لو لـم يكن كذلك لـما جاز أن يقال الـحمد لله شكراً، فـيخرج من قول القائل «الـحمد لله» مُصدَّر «أشكُر»، لأن الشكر لو لـم يكن بـمعنى الـحمد، كان خطأ أن يصدر من الـحمد غير معناه وغير لفظه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قال لنا قائل: وما وجه إدخال الألف واللام فـي الـحمد؟ وهلاَّ قـيـل: حمداً لله ربّ العالـمين قـيـل: إن لدخول الألف واللام فـي الـحمد معنى لا يؤديه قول القائل «حمداً»، بإسقاط الألف واللام وذلك أن دخولهما فـي الـحمد منبىءٌ علـى أن معناه: جميع الـمـحامد والشكر الكامل لله. ولو أُسقطتا منه لـما دلّ إلا علـى أن حَمْدَ قائلِ ذلك لله، دون الـمـحامد كلها. إذْ كان معنى قول القائل: «حمداً لله» أو «حمدٌ الله»: أحمد الله حمداً، ولـيس التأويـل فـي قول القائل: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } تالـياً سورة أم القرآن أحمد الله، بل التأويـل فـي ذلك ما وصفنا قبل من أن جميع الـمـحامد لله بألوهيته وإنعامه علـى خـلقه، بـما أنعم به علـيهم من النعم التـي لا كفء لها فـي الدين والدنـيا والعاجل والآجل. ولذلك من الـمعنى، تتابعت قراءة القراء وعلـماء الأمة علـى رفع الـحمد من: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } دون نصبها، الذي يؤدي إلـى الدلالة علـى أن معنى تالـيه كذلك: أحمد الله حمداً. ولو قرأ قارىء ذلك بـالنصب، لكان عندي مـحيلاً معناه ومستـحقّاً العقوبة علـى قراءته إياه كذلك إذا تعمد قراءته كذلك وهو عالـم بخطئه وفساد تأويـله. فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: الـحمد لله؟ أَحَمَد اللَّهُ نفسَه جل ثناؤه فأثنى علـيها، ثم عَلَّـمناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالـى ذكره إذا:**{ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ }** [الفاتحه: 5] وهو عز ذكره معبود لا عابد؟ أم ذلك من قـيـل جبريـل أو مـحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقد بطل أن يكون ذلك لله كلاماً. قـيـل: بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه ولكنه جل ذكره حمد نفسه وأثنى علـيها بـما هو له أهل، ثم عَلَّـم ذلك عبـاده وفرض علـيهم تلاوته، اختبـاراً منه لهم وابتلاء، فقال لهم: قولوا «الـحمد لله ربّ العالـمين» وقولوا:**{ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ }** [الفاتحه: 5] فقوله: إياك نعبد، مـما عَلَّـمَهم جل ذكره أن يقولوه ويدينوا له بـمعناه. وذلك موصول بقوله الـحمد لله ربّ العالـمين، وكأنه قال: قولوا هذا وهذا. فإن قال: وأين قوله: «قولوا» فـيكون تأويـل ذلك ما ادّعيت؟ قـيـل: قد دللنا فـيـما مضى أن العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلـمة ولـم تشك أن سامعها يعرف بـما أظهرت من منطقها ما حذفت، حَذْفُ ما كفـى منه الظاهر من منطقها، ولا سيـما إن كانت تلك الكلـمة التـي حذفت قولاً أو تأويـل قول، كما قال الشاعر: | **واعْلَـمُ أنَّنـي سأكُونُ رَمْسا** | | **إذَا سارَ النَّوَاعجُ لا يَسيرُ** | | --- | --- | --- | | **فَقالَ السَّائلُونَ لِـمَنْ حَفَرْتُـمْ** | | **فَقالَ الـمُخْبرُونَ لَهُمْ وَزيرُ** | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال أبو جعفر: يريد بذلك: فقال الـمخبرون لهم: الـميت وزير، فأسقط «الـميت»، إذ كان قد أتـى من الكلام بـما يدل علـى ذلك. وكذلك قول الآخر: | **ورَأيْتِ زَوْجَكِ فـي الوَغَى** | | **مُتَقَلِّداً سَيْفـاً وَرُمْـحَا** | | --- | --- | --- | وقد علـم أن الرمـح لا يتقلد، وأنه إنـما أراد: وحاملاً رمـحاً. ولكن لـما كان معلوماً معناه اكتفـى بـما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للـمسافر إذا ودّعوه: مُصَاحَبـاً مُعافـى، يحذفون سِرْ واخْرُجْ إذْ كان معلوماً معناه وإن أسقط ذكره. فكذلك ما حُذِف من قول الله تعالـى ذكره: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } لـمَّا عُلِـم بقوله جل وعزّ:**{ إياك نَعْبُد }** [الفاتحه: 5] ما أراد بقوله: الـحمد لله ربّ العالـمين من معنى أمره عبـاده، أغنت دلالة ما ظهر علـيه من القول عن إبداء ما حُذف. وقد روينا الـخبر الذي قدمنا ذكره مبتدأ فـي تنزيل قول الله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } عن ابن عبـاس، وأنه كان يقول: إن جبريـل قال لـمـحمد: قل يا مـحمد: الـحمد لله ربّ العالـمين. وبَـيَّنا أن جبريـل إنـما عَلَّـمَ مـحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ما أُمِر بتعلـيـمه إياه. وهذا الـخبر ينبىء عن صحة ما قلنا فـي تأويـل ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { رَبِّ }. قال أبو جعفر: قد مضى البـيان عن تأويـل اسم الله الذي هو «الله» فـي «بسم الله»، فلا حاجة بنا إلـى تكراره فـي هذا الـموضع. وأما تأويـل قوله «رَبّ»، فإن الربَّ فـي كلام العرب متصرف علـى معان: فـالسيد الـمطاع فـيها يدعى ربًّـا، ومن ذلك قول لبـيد بن ربـيعة: | **وأهْلَكْنَ يَوْماً رَبَّ كِنْدَةَ وابنَه** | | **وَرَبَّ مَعَدّ بـينَ خَبْتٍ وعَرْعَرِ** | | --- | --- | --- | يعنـي ربّ كندة: سيدَ كندة. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان: | **تَـخُبُّ إلـى النُّعْمانِ حَتَّـى تَنالَهُ** | | **فِدًى لَكَ منْ رَبَ طَريفي وتالِدِي** | | --- | --- | --- | والرجل الـمصلـح للشيء يدعى رَبًّـا. ومنه قول الفرزدق بن غالب: | **كانُوا كسَالِئَةٍ حَمْقاءَ إذْ حَقَنَتْ** | | **سِلاءَها فـي أدِيـمٍ غَيْرِ مَرْبُوبِ** | | --- | --- | --- | يعنـي بذلك فـي أديـم غير مصلـح. ومن ذلك قـيـل: إن فلاناً يَرُبُّ صنـيعته عند فلان، إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها. ومن ذلك قول علقمة بن عبدة: | **فكنْتَ امْرَأً أفْضَتْ إلَـيْكَ رِبـابَتـي** | | **وقَبْلَكَ رَبَّتْنـي فَضِعْتُ رُبُوبُ** | | --- | --- | --- | يعنـي بقوله أفضت إلـيك: أي وصلت إلـيك ربـابتـي، فصرت أنت الذي ترب أمري فتصلـحه لـما خرجتُ من ربـابة غيرك من الـملوك الذين كانوا قبلك علـيّ، فضيعوا أمري وتركوا تفقده. وهم الرُّبوب واحدهم رَبٌّ والـمالك للشيء يدعى رَبّه. وقد يتصرّف أيضاً معنى الرب فـي وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلـى بعض هذه الوجوه الثلاثة. فربنا جل ثناؤه، السيد الذي لا شِبْه له، ولا مثل فـي سؤدده، والـمصلـح أمر خـلقه بـما أسبغ علـيهم من نعمه، والـمالك الذي له الـخـلق والأمر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله جل ثناؤه رَبّ العالَـمِينَ جاءت الرواية عن ابن عبـاس. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عبـاس، قال: قال جبريـل لـمـحمد: «يا مـحمد قل الـحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العالَـمِينَ». قال ابن عبـاس: يقول قل الـحمد لله الذي له الـخـلق كله، السموات كلهن ومن فـيهن، والأرَضون كلهن ومن فـيهن وما بـينهن، مـما يُعلـم ومـما لا يُعلـم. يقول: اعلـم يا مـحمد أن ربك هذا لا يشبهه شيء. القول فـي تأويـل قوله [تعالـى]: { ٱلْعَـٰلَمِينَ }. قاله أبو جعفر: والعالـمون جمع عالـم، والعالَـم جمع لا واحد له من لفظه، كالأنامِ والرهط والـجيش ونـحو ذلك من الأسماء التـي هي موضوعات علـى جماع لا واحد له من لفظه. والعالَـم اسم لأصناف الأمـم، وكل صنف منها عالَـم، وأهل كل قرن من كل صنف منها عالَـم ذلك القرن وذلك الزمان، فـالإنس عالـم وكل أهل زمان منهم عالَـم ذلك الزمان. والـجن عالَـم، وكذلك سائر أجناس الـخـلق، كل جنس منها عالـم زمانه. ولذلك جُمِع فقـيـل «عالَـمون»، وواحده جمع لكون عالَـم كل زمان من ذلك عالَـم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج: | **فَخِنْدِفُ هامَةُ هَذَا العالَـمِ** | | | | --- | --- | --- | فجعلهم عالـم زمانه. وهذا القول الذي قلناه قولُ ابن عبـاس وسعيد بن جبـير، وهو معنى قول عامة الـمفسرين. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عبـاس: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الـحمد لله الذي له الـخـلق كله، السموات والأرض ومن فـيهن وما بـينهن، مـما يُعلـم ولا يُعلـم. وحدثنـي مـحمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شبـيب، عن عكرمة، عن ابن عبـاس: ربّ العالـمين: الـجنّ والإنس. وحدثنـي علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا مصعب، عن قـيس بن الربـيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، فـي قول الله جل وعزّ: ربّ العالـمين: قال: ربّ الـجن والإنس. وحدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا قـيس، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، قوله: { رَبِّ #1649;لْعَـٰلَمِينَ } قال: الـجن والإنس. وحدثنـي أحمد بن عبد الرحيـم البرقـي، قال: حدثنـي ابن أبـي مريـم، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبـير، قوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قال: ابن آدم، والـجن والإنس كل أمة منهم عالَـم علـى حِدَته. وحدثنـي مـحمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفـيان، عن مـجاهد: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قال: الإنس والـجنّ. وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد: بـمثله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وحدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قال: كل صنف: عالَـم. وحدثنـي أحمد بن حازم الغفـاري، قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى، عن أبـي جعفر، عن ربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية، فـي قوله: { رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال: الإنس عالَـم، والـجن عالَـم، وما سوى ذلك ثمانـية عشر ألف عالـم، أو أربعة عشر ألف عالـم هو يشك من الـملائكة علـى الأرض، وللأرض أربع زوايا، فـي كل زاوية ثلاثة آلاف عالـم وخمسمائة عالـم، خـلقهم لعبـادته. وحدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنا حجاح، عن ابن جريج، فـي قوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قال: الـجن والإنس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
القراءة: أجمع القراء على ضمّ الدال من الحمد وكسر اللام من لله وروي قي الشواذ بكسر الدال واللام. وبفتح الدال وكسر اللام. وبضم الدال واللام. وأجمعوا على كسر الباء من رب. وروي عن زيد بن علي فتح الباء ويحمل على أنه بيَّن جوازه لا إنه قراءة. اللغة: الحمد والمدح والشكر متقاربة المعنى والفرق بين الحمد والشكر أنَّ الحمد نقيض الذم كما أنَّ المدح نقيض الهجاء. والشكر نقيض الكفران. والحمد قد يكون من غير نعمة والشكر يختص بالنعمة إِلا أن الحمد يوضع موضع الشكر ويقال: الحمد لله شكراً فينصب شكراً على المصدر ولو لم يكن الحمد في معنى الشكر لما نصبه فإِذا كان الحمد يقع موقع الشكر فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب التعظيم ويكون بالقلب وهو الأصل ويكون أيضا باللسان وإنما يجب باللسان لنفي تهمة الجحود والكفران وأما المدح فهو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد إِليه وأما الرب فله معان منها السيد المطاع كقول لبيد: | **وَأَهْلَكنَ قِدْماً ربَّ كِنْدَةَ وَابْنَه** | | **ورَبَّ مَعَدّ بَينَ خَبتِ وَعَرْعَرِ** | | --- | --- | --- | أي سيد كِندة ومنها المالك نحو قول النبي لرجل: **" أرَبّ غنم أم رَبّ أبل "** فقال من كلّ ما آتاني الله فأكثر وأطيب. ومنها الصاحب نحو قول أبي ذؤيب: | **قَدْ نَالهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ** | | **بِيْضٌ رِهابٌ رِيْشُهُنَّ مُقَزَّعُ** | | --- | --- | --- | أي صاحب الكِلاب ومنها المرِبّب ومنها المصلح واشتقاقه من التربية يقال ربيته وربيته بمعنى وفلان يرب صنيعته إذا كان ينمّمها ولا يطلق هذا الاسم إلا على الله ويقيد في غيره فيقال رب الدار ورب الضيعة والعالمون جمع عالم والعالم جمع لا واحد له من لفظه كالنفر والجيش وغيرهما واشتقاقه من العلامة لأنه يدل على صانعه وقيل: إنه من العلم لأنه اسم يقع على ما يعلم وهو في عرف اللغة عبارة عن جماعة من العقلاء لأنهم يقولون جاءني عالم من الناس ولا يقولون جاءني عالم من البقر وفي المتعارف بين الناس هو عبارة عن جميع المخلوقات وتدل عليه الآية**{ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ \* قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }** [الشعراء: 23-24] وقيل إنه اسم لكل صنف من الأصناف وأهل كل قرن من كل صنف يسمى عالماً ولذلك جمع فقيل عالمون لعالم كل زمان وهذا قول أكثر المفسرين كابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم وقيل العالم نوع ما يعقل وهم الملائكة والجن والإنس وقيل الجن والإنس لقولـه تعالى:**{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }** [الفرقان: 1] وقيل هم الإنس لقولـه تعالى:**{ أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ }** [الشعراء: 165]. الإعراب: الحمد رفع بالابتداء والابتداء عالم معنوي غير ملفوظ به وهو خلوُّ الاسم من العوامل اللفظية ليسند إليه خبر وخبره في الأصل جملة هي فعل مسند إلى ضمير المبتدأ وتقديره الحمد حقَّ أو استقر لله إِلا أنه قد استغنى عن ذكرها لدلالة قولـه لله عليها فانتقل الضمير منها إِليه حيث سدّ مسدّها وتسمى هذه جملة ظرفية هذا قول الأخفش وأبي علي الفارسي وأصل اللام للتحقيق والملك وأما فتح الدال فعلى المصدر تقديره أحمد الحمد لله أو أجعل الحمد لله إلا أن الرفع بالحمد أقوى وأمدح لأن معناه الحمد وجب لله أو استقرَّ لله وهذا يقتضي العموم لجميع الخلق وإذا نصب الحمد فكان تقديره أحمد الحمد كان مدحاً من المتكلم فقط فلذلك اختير الرفع ومن كسر الدال واللام أتْبَعَ حركة الدال حركة اللام ومن ضمهما أتْبَعَ حركة اللام حركة الدال وهذا أيسر من الأول لأنه اتبع حركة المبني حركة الإعراب والأول اتبع حركة المعرب حركة البناء واتبع الثاني الأول وهو الأصل في الإتباع والذي كسر أتبع الأول الثاني وهذا ليس بأصل وأكثر النحويين ينكرون ذلك لأن حركة الإعراب غير لازمة فلا يجوز لأجلها الاتباع ولأنّ الاتباع في الكلمة الواحدة ضعيف نحو الحُلم فكيف في الكلمتين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقال أبو الفتح بن جني: في كسر الدال وضم اللام هنا دلالة على شدة ارتباط المبتدأ بالخبر لأنه اتبع فيهما ما في أحد الجزءين ما في الجزء الآخر وجعل بمنزلة الكلمة الواحدة نحو قولك: أخوك وأبوك وأصل هذه اللام الفتح لأنّ الحرف الواحد لاحظّ له في الإعراب ولكنه يقع مبتدأ في الكلام ولا يبتدئ بساكن فاختير له الفتح لأنه أخفّ الحركات. تقول: رأيت زيداً وعمراً قالوا ومن عمراً - مفتوحة - وكذلك الفاء من فعمراً إِلا أنهم كسروها لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين لام الملك ولام التوكيد إذا قلت: إن المال لهذا أي في ملكه وأن المال لهذا أي هو هو. وإِذا أدخلوا هذه اللام على مضمر ردوها إلى أصلها وهو الفتح قالوا لك وله لأن اللبس قد ارتفع وذلك لأن ضمير الجر مخالف لضمير الرفع إِذا قلت إن هذا لك وأن هذا لأنت إِلا أنهم كسروا مع ضمير المتكلم نحو لي لأن هذه الياء لا يكون ما قبلها إِلا مكسوراً نحو غلامي وفرسي وهذا كله قول سيبويه وجميع النحويين المحققين وليس من الحروف المبتدأ بها مما هو على حرف واحد حرف مكسور إِلا الباء وحدها وقد مضى القول فيه وأما لام الجزم في ليفعل فإِنما كسرت ليفرق بينها وبين لام التوكيد نحو ليفعل فاعلم و { رب العالمين } مجرور على الصفة والعامل في الصفة عند أبي الحسن الأخفش كونه صفة فذلك الذي يرفعه وينصبه ويجرُّه وهو عامل معنوي كما أن المبتدأ إِنما رفعه الابتداء وهو معنى عمل فيه واستدلَّ على أن الصفة لا يعمل فيه ما يعمل في الموصوف بأنك تجد في الصفات ما يخالف الموصوف في إعرابه نحو أيا زيد العاقل لأن المنادى مبني والعاقل الذي هو صفته معرب ودليل ثان وهو أن في هذه التوابع ما يعرب بإعراب ما يتبعه ولا يصح أن يعمل فيه ما يعمل في موصوفه وذلك نحو أجمع وجمع وجمعاء ولما صحَّ وجوب هذا فيها دلَّ على أن الذي يعمل في الموصوف غير عامل في الصفة لاجتماعهما في أنهما تابعان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقال غيره من النحويين العامل في الموصوف هو العامل في الصفة ومن نصب رب العالمين فإِنما ينصبه على المدح والثناء كأنه لما قال الحمد لله استدل بهذا اللفظ على أنه ذاكر لله فكأنه قال اذكر رب العالمين فعلى هذا لو قرئ في غير القرآن رب العالمين مرفوعاً على المدح أيضاً لكان جائزاً على معنى هو رب العالمين قال الشاعر: | **لا يَبْعُدَنْ قَوْمِي الَّذيْنَ هُمُ** | | **سُمُّ العِداةِ وآفَةُ الجُزْرِ** | | --- | --- | --- | | **النَّازلينَ بِكلّ مُعْتَرَكٍ** | | **والطيِّبْون معاقِدُ الأُزْرِ** | وقد روي النازلون والنازلين والطيبون والطيبين والوجه في ذلك ما ذكرناه و { العالمين } مجرور بالإضافة والياء فيه علامة وحرف الإعراب وعلامة الجمع والنون هنا عوض عن الحركة في الواحد وإِنما فتحت فرقاً بينها وبين نون التثنية تقول هذان عالمان فتكسر نون الاثنين لالتقاء الساكنين وقيل إِنما فتحت نون الجمع وحقها الكسر لثقل الكسرة بعد الواو كما فتحت الفاء من سوف والنون من أين ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو والياء. المعنى: معنى الآية أن الأوصاف الجميلة والثناء الحسن كلها لله الذي تحق له العبادة لكونه قادراً على أصول النعم وفاعلاً لها ولكونه منشئاً للخلق ومربيّاً لهم ومصلحاً لشأنهم وفي الآية دلالة على وجوب الشكر لله على نعمه وفيها تعليم للعباد كيف يحمدونه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
أما قوله جل جلاله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فاعلم أن الحمد إنما يكون حمداً على النعمة، والحمد على النعمة لا يمكن إلا بعد معرفة تلك النعمة، لكن أقسام نعم الله خارجة عن التحديد والإحصاء، كما قال تعالى:**{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }** [إبراهيم: 34] ولنتكلم في مثال واحد، وهو أن العاقل يجب أن يعتبر ذاته، وذلك لأنه مؤلف من نفس وبدن ولا شك أن أدون الجزءين وأقلهما فضيلة ومنفعة هو البدن، ثم إن أصحاب التشريح وجدوا قريباً من خمسة آلاف نوع من المنافع والمصالح التي دبرها الله عزّ وجلّ بحكمته في تخليق بدن الإنسان، ثم إن من وقف على هذه الأصناف المذكورة في «كتب التشريح» عرف أن نسبة هذا القدر المعلوم المذكور إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط، وعند هذا يظهر أن معرفة أقسام حكمة الرحمن في خلق الإنسان تشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أكثر، ثم إذا ضمت إلى هذه الجملة آثار حكم الله تعالى في تخليق العرش والكرسي وأطباق السموات، وأجرام النيرات من الثوابت والسيارات، وتخصيص كل واحد منها بقدر مخصوص ولون مخصوص وغير مخصوص، ثم يضم إليها آثار حكم الله تعالى في تخليق الأمهات والمولدات من الجمادات والنباتات والحيوانات وأصناف أقسامها وأحوالها ـ علم أن هذا المجموع مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل، ثم إنه تعالى نبه على أن أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان، كما قال تعالى:**{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }** [الجاثية: 13] وحينئذٍ يظهر أن قوله جل جلاله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } مشتمل على ألف ألف مسألة، أو أكثر أو أقل.أنواع العالم وإمكان وجود عوالم أخرى: وأما قوله جل جلاله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فاعلم أن قوله: { رَبّ } مضاف وقوله: { ٱلْعَـٰلَمِينَ } مضاف إليه، وإضافة الشيء إلى الشيء تمتنع معرفتها إلا بعد حصول العلم بالمتضايفين، فمن المحال حصول العلم بكونه تعالى رباً للعالمين إلا بعد معرفة رب والعالمين، ثم إن العالمين عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، وهي على ثلاثة أقسام: المتحيزات، والمفارقات، والصفات. أما المتحيزات فهي إما بسائط أو مركبات، أو البسائط فهي الأفلاك والكواكب والأمهات، وأما المركبات فهي المواليد الثلاثة، واعلم أنه لم يقم دليل على أنه لا جسم إلا هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، وثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات، فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم، / بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم، ويحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش والكرسي والسموات والأرضين والشمس والقمر، ودلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية قال أبو العلاء المعري:ـ | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | **يا أيها الناس كم لله من فلك** | | **تجري النجوم به والشمس والقمر** | | --- | --- | --- | | **هين على الله ماضينا وغابرنا** | | **فما لنا في نواحي غيره خطر** | ومعلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل، بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح، وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار، وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات ـ لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب، ولا ينتهي إلى غورها كما قال تعالى:**{ وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِ }** [لقمان: 27] وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }.رحمة الله تعالى بعباده لا تنحصر أنواعها: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } الحمد: هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها، والمدح: هو الثناء على الجميل مطلقاً. تقول حمدت زيداً على علمه وكرمه، ولا تقول حمدته على حسنه، بل مدحته. وقيل هما أخوان. والشكر: مقابلة النعمة قولاً وعملاً واعتقاداً قال: | **أفادَتْكُمُ النُعْمَاءُ مني ثلاثَةً** | | **يَدي ولساني والضَّميرَ المُحجَّبا** | | --- | --- | --- | فهو أعم منهما من وجه، وأخص من آخر ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة، وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد، وما في آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر والعمدة فيه فقال عليه الصلاة والسلام: **" الحمد رأس الشكر، وما شكر الله من لم يحمده "** والذم نقيض الحمد والكفران نقيض الشكر. ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقد قرىء به، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه. وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها، والتعريف فيه للجنس ومعناه: الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو؟ أو للاستغراق، إذ الحمد في الحقيقة كله له، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى:**{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ }** [النحل: 53] وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم. إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه. وقرىء الحمد لله بإتباع الدال اللام وبالعكس تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة. { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية: وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل. وقيل: هو نعت من رَبِّه يربه فهو رب، كقولك نم ينم فهو نم، ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه. ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كقوله: { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبّكَ } والعالم اسم لما يعلم به، كالخاتم والقالب، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم. وقيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع. وقيل: عني به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يُعْلَمُ بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير، ولذلك سوى بين النظر فيهما، وقال تعالى:**{ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }** [الذاريات: 21] وقرىء { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } بالنصب على المدح. أو النداء. أو بالفعل الذي دل عليه الحمد، وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
القراء السبعة على ضم الدال في قوله الحمد لله، هو مبتدأ وخبر. وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة ابن العجاج أنهما قالا الحمد لله بالنصب، وهو على إضمار فعل. وقرأ ابن أبي عبلة الحمد لله بضم الدال واللام إتباعاً للثاني الأولَ، وله شواهد، لكنه شاذ، وعن الحسن وزيد بن علي { الحمد لله } بكسر الدال إتباعاً للأول الثاني. قال أبو جعفر بن جرير معنى { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } الشكر لله خالصاً، دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم من نعيم العيش من غير استحقاق منهم ذلك عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخراً. وقال ابن جرير رحمه الله الحمد لله ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال قولوا الحمد لله. قال وقد قيل إن قول القائل الحمد لله ثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وقوله الشكر لله، ثناء عليه بنعمه وأياديه، ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلاً من الحمد والشكر مكان الآخر، وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية، وقال ابن عباس الحمد لله كلمة كل شاكر، وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل الحمد لله شكراً، وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر، لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكر لا يكون إلا على المتعدية، ويكون بالجنان واللسان والأركان كما قال الشاعر | **أَفادَتْكُمُ النَّعْماءُ مِني ثَلاثَةً يَدِي وَلِسانِي والضَّمِيْرَ المُحَجبا** | | | | --- | --- | --- | ولكنهم اختلفوا أيهما أعم، الحمد أو الشكر؟ على قولين، والتحقيق أن بينهما عموماً وخصوصاً، فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية، تقول حمدته لفروسيته، وحمدته لكرمه، وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون بالقول والفعل والنية كما تقدم، وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية، لا يقال شكرته لفروسيته، وتقول شكرته على كرمه وإحسانه إليّ. هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين والله أعلم. وقال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الحمد نقيض الذم، تقول حمدت الرجل أحمده حمداً ومحمدة، فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعم من الشكر، وقال في الشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، يقال شكرته، وشكرت له، وباللام أفصح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون للحي وللميت، وللجماد أيضاً كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضاً، فهو أعم.ذكر أقوال السلف في الحمد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا حفص عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال عمر رضي الله عنه قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله، فما الحمد لله؟ فقال علي كلمة رضيها الله لنفسه. ورواه غير أبي معمر عن حفص فقال قال عمر لعلي - وأصحابه عنده - لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، قد عرفناها، فما الحمد لله؟ قال علي كلمة أحبها الله تعالى لنفسه، ورضيها لنفسه، وأحب أن تقال. وقال علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران قال ابن عباس الحمد لله كلمة الشكر، وإذا قال العبد الحمد لله، قال شكرني عبدي. رواه ابن أبي حاتم، وروى أيضاً هو وابن جرير من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال الحمد لله هو الشكر لله، والاستخذاء له، والإقرار له بنعمته وهدايته وابتدائه وغير ذلك. وقال كعب الأحبار الحمد لله ثناء الله. وقال الضحاك الحمد لله رداء الرحمن، وقد ورد الحديث بنحو ذلك. قال ابن جرير حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثني عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير، وكانت له صحبة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إذا قلت الحمد لله رب العالمين، فقد شكرت الله فزادك "** وقد روى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن الأسود بن سريع قال قلت **" يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال أما إن ربك يحب الحمد "** ورواه النسائي عن علي بن حجر عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن عن الأسود بن سريع به. وروى أبو عيسى الحافظ الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله "** وقال الترمذي حسن غريب، وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد الله، إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ "** وقال القرطبي في تفسيره وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال **" لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي، ثم قال الحمد لله، كان الحمد لله أفضل من ذلك "** قال القرطبي وغيره أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد لله لا يفنى، ونعيم الدنيا لا يبقى، قال الله تعالى**{ ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَـٰقِيَاتُ ٱلصَّـٰلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً }** الكهف 46 وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر **" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم أن عبداً من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فعضلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى الله، فقالا يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - ماذا قال عبدي؟ قالا يا رب إنه قال لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها "** وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا قول العبد الحمد لله رب العالمين أفضل من قوله لا إله إلا الله لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد، وقال آخرون لا إله إلا الله أفضل لأنها تفصل بين الإيمان والكفر، وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، كما ثبت في الحديث المتفق عليه، وفي الحديث الآخر **" أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له "** وقد تقدم عن جابر مرفوعاً **" أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله "** وحسنه الترمذي. والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث **" اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله "** .. الحديثَ. والرب هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح، وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى، ولا يستعمل الرب لغير الله، بل بالإضافة، تقول رب الدار، رب كذا، وأما الرب، فلا يقال إلا لله عز وجل، وقد قيل إنه الاسم الأعظم. والعالمين جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله عز وجل. والعالم جمع لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات في السموات، وفي البر والبحر، وكل قرن منها وجيل يسمى عالماً أيضاً. قال بشر بن عمار عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الحمد لله الذي له الخلق كله السموات والأرض، وما فيهنَّ وما بينهن، مما نعلم ومما لا نعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي رواية سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رب الجن والإنس. وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج. وروي عن علي نحوه، قال ابن أبي حاتم بإسناده لا يعتمد عليه، واستدل القرطبي لهذا القول بقوله تعالى**{ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً }** الفرقان 1 وهم الجن والإنس. قال الفراء وأبو عبيد العالم عبارة عما يعقل، وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين، ولا يقال للبهائم عالم. وعن زيد بن أسلم وأبي محيصن العالم كل ما له روح ترفرف. وقال قتادة رب العالمين كل صنف عالم، وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد، وهو أحد خلفاء بني أمية، وهو يعرف بالجعد، ويلقب بالحمار، أنه قال خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السموات وأهل الأرض عالم واحد، وسائرهم لا يعلمهم إلا الله عز وجل. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى { رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال الإنس عالم، والجن عالم وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف، أو أربعة عشر ألف عالم، هو يشك. الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة ألاف عالم، وخمسمائة عالم، خلقهم الله لعبادته. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الفرات، يعني ابن الوليد، عن معتب ابن سمي عن سبيع، يعني الحميري، في قوله تعالى { رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال العالمين ألف أمة، فستمائة في البحر، وأربعمائة في البر، وحكي مثله عن سعيد بن المسيب، وقد روي نحو هذا مرفوعاً كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال قلّ الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها، فسأل عنه، فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك، فأرسل راكباً يضرب إلى اليمن، وآخر إلى الشام، وآخر إلى العراق، يسأل هل رؤي من الجراد شيءٌ، أم لا؟ قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد، فألقاها بين يديه، فلما رآها كبر ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول **" خلق الله ألف أمة ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد، فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه "** محمد بن عيسى هذا، وهو الهلالي، ضعيف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال لله ألف عالم ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر. وقال وهب بن منبه لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها. وقال مقاتل العوالم ثمانون ألفاً. وقال كعب الأحبار لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز وجل نقله البغوي. وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال إن لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها، وقال الزجاج العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة. قال القرطبي وهذا هو الصحيح، إنه شامل لكل العالمين كقوله**{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ }** الشعراء 23 - 24. والعالم مشتق من العلامة، قلت لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز | **فَيا عَجَباً كَيْفَ يُعْصَى الإِلٰــــهُ أَمْ كَيْف يَجْحَدُهُ الجاحِدُ وفي كُل شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } جملة خبرية قصد بها الثناء على الله بمضمونها من أنه تعالى مالك: لجميع الحمد من الخلق أو مستحق لأن يحمدوه و(الله) علم على المعبود بحق { رَبّ ٱلْعَٰلَمِينَ } أي مالك جميع الخلق من الإنس والجنّ والملائكة والدواب وغيرهم وكل منها يطلق عليه عالم، يقال: عالم الإنس وعالم الجنّ إلى غير ذلك. وغلب في جمعه بالياء والنون أولو العلم على غيرهم وهو من العلامة لأنه علامة على موجده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ الْحَمْدُ } الثناء بجميل الصفات والأفعال والشكر والثناء بالإنعام، فالحمد أعم، الرب: المالك كرب الدار أو السيد، أو المدبر كربة البيت، الربانيون يدبرون الناس بعلمهم، أو المربى، ومنه الربيبة ابنة الزوجة، (العالمين) جمع عالم لا واحد له من لفظه، كرهط وقوم، أُخذ من العلم، فيعبر به عمن يعقل من الجن والإنس والملائكة، أو من العلامة، فيكون لكل مخلوق، أو هو الدنيا وما فيها، أو كل ذي روح من عاقل وبهيم، وأهل كل زمان عالم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ.. } قال الزمخشري: الحَمْدُ والمدح أخوان. فقيل: معناه أنهما مترادفان، وقيل: متقاربان، وقيل: متغايران، فالحمد يطلق على الله تعالى والمدح لا يطلق عليه. وأما الشكر/ فحكى أبو حيان فيه ثلاثة أقوال قال الطبري: هو الحمد، وقيل: غيره، وقيل: الحمد أعمّ منه، فالحمد يطلق على الصفات الجميلة والشكر على الأفعال الجزيلة. وظاهر كلام الزمخشري قول رابع أن بينهما عموم وخصوص وجه دون وجه فالحمد يكون باللّسان على الصفات الجميلة والأفعال الجزيلة والشكر يكون بالقول والفعل والقلب على الأفعال (خاصة)، واحتجوا له بقول الشاعر: | **أفادتكم النعماء مني ثلاثة** | | **يدي، ولساني، والضمير المحجبا** | | --- | --- | --- | قال ابن عرفة: وعادتهم يتعقبونه بانه لم يسمه شكرا وإنما سماه نعماء وعلى تقدير أن لو سمّاه (شكرا) فلا دليل فيه. لأن العربي إنّما يحتج بقوله فيما يرجع إلى نظم الكلام وأحكامه اللفظية الإعرابية. أما ما يحكم عليه بأنه كذا فلا يحتج به كما ذكر في الإرشاد الرد عليهم في استدلالهم على كلام النفس (بقول) الأخطل: | **إن الكلام لفي الفؤاد وإنما** | | **جُعل اللّسان على الفؤاد دليلا** | | --- | --- | --- | وذكر هذه الأقوال (الأربعة) ابن هارون في شرح ابن الحاجب الأصلي. والألف واللاّم في " الحمد " إما للجنس أو (للعهد) أو للماهية. وقرر القاضي العماد الجنس بأنّ الحمد يختلف فيه القديم (والحادث) لأنّ الله تعالى في الأزل حمد نفسه بنفسه، فيتناول حمدنا له وحمده هو لنفسه وقرر العهد بأنّ النعم لما كان (اللّسان) يستحضرها فكأنه يعهدها إلى الله تعالى. واختار القاضي العماد أنها للماهية وضعف كونه للجنس، وقرر بأن الله تعالى تعبدنا بحمده، أي نحمده بما حمد به نفسه فالحمد القديم (مماثل) (للحادث) بمعنى اللفظ المؤدي باللّسان هو المعنى القديم الذي وصف الله به نفسه، كما أن القرآن قديم أزلي، ونحن نعبر عنه (بألفاظنا الحادثة) فالحمد إذا حقيقة واحدة. قال: (وهذا البحث من نظري) فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. قال ابن عرفة: وحاصله هل المعتبرُ في الحمد صفة الفاعل أو صفة متعلق الحمد، فإن اعتبرته الحمد من حيث الفاعل فهو حادث وإن (اعتبرته) من حيث صفة المحمود جاء منها الذي قاله العماد. ولما ذكر (بعضهم) كونها للجنس قال: إنها دالة على أفرادها مطابقة. قال ابن عرفة: هذا جار (الخلاف) في دلالة (العام) على بعض أفراده هل (هو) مطابقة تضمن أو التزام؟ قال ابن عطية: وقرأ سفيان بن عينية (ورؤبة) بن العجاج: " الحمد " لله بفتح الدال علما على إضمار فعل. قال ابن عرفة: وقالوا وقراءة الضم أدل على الثبوت (كقولهم له) علم (علم الفقهاء) بالنصب والرفع. قال الزمخشري: ومنه قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ }** (بالرفع في) الثّاني ليدلّ على أنّ إبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن الرفع دال على الثبوت. وكذا قال السكاكي في علم البيان. قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون عليه تشكيكا من ناحية أن سلام الملائكة على إضمار (فعل) مؤكد بالمصدر، والدّال على إثبات الحقيقة وإزالة الشك عن الحديث الأعم من أن يكون وقوعه منهم ثابتا، أو لا؟ والاسم المرفوع دال على ثبوت وقوع السلام منهم أعم من أن يكون حقيقة أو مجازا، فتعادلا، فليس أحدهما بأبلغ من الآخر. قال: وكان يمشي لنا الجواب عنه بأن سلام إبراهيم إنما هو بعد سلام الملائكة ردا عليهم، والبعدية تقتضي الحدوث (والتجدّد)، فلو عبر فيه بالفعل لتوهّم (فيه) الحدوث، وأنه إنّما سلم ردا عليهم فعبّر بالاسم (تنبيها) على أن (سلامِيَ) عليكم كان ثابت ولو لم تبدؤوني بالسّلام. وسلام الملائكة لما كان ابتدائيا لا يتوهّم فيه البعدية ولا أنه جواب وَرَدّ عبّروا فيه بالفعل (إذْ) لا ضرورة تدعو إلى التعبير بالاسم. قلت: وأورد بعض نحاة الزمان على هذا إشكالين. -الأول: كيف يصح حذف الفعل مع أن المصدر مؤكد له والفعل المؤكد يحذف لأن مقام الاختصار مناف لمقام التأكيد (فيمنع) أن (يكون) المصدر هنا مؤكدا؟ -الثاني: (إنما يمنع) أن هذا أبلغ لأن هذا المصدر نائب مناب الفعل لا مؤكدا له وكأنه لم يحذف من الكلام شيء سلمنا أنه مؤكد لكن نقول: هو مؤكد لوجود الفعل وثبوته في نفس الأمر على سبيل الثبوت واللزوم، أو على سبيل التجدد والحدوث نظرٌ آخر، وانظر ما قيدته في سورة الذاريات. قوله تعالى: {.. رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قال الزمخشري: لفظ الرّب لا يطلق هكذا إلا على الله تعالى فهو في غيره مقيد بالإضافة تقول: ربّ الدّابة وربّ الدّار. قال ابن عرفة: فإن قلت: قد قال الأصوليون كل ما صدق مقيدا صدق مطلقا؟ فالجواب: أن ذلك باعتبار المفعولية وهذا باعتبار الإطلاق اللفظي. وفي حديث مسلم عن عبد الله بن عمر عن أبية في أشراط الساعة **" أن تلد الأمَة ربتها ".** قال ابن عطية: ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن. والعدل إما في المعاني باشتمالها على التوحيد وغيره، وَ**{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }** على التوحيد فقط، وإما أن يكون (فضلا) من الله لا يعلل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
قولُه تعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ }. الحمدُ: الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعْمةً مْبْتدأة إلَى أَحَدٍ أَمْ لاَ. يُقال: حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به، وحمدتُه على شَجَاعته، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ، دون عمل الجَوَارِح، إذْ لا يُقالُ: حمدت زيداً أيْ: عملت له بيدي عملاً حسناً، بخلاف الشكر؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير. يُقال: شَكَرْتُه على ما أعطاني، ولا يُقالُ: شكرتُه على شَجَاعَتِه، ويكون بالقلبِ، واللِّسَانِ، والجَوَارح؛ قال الله تعالى:**{ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً }** [سبأ: 13] وقال الشاعرُ: [الطويل]. | **37- أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً** | | **يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَبَّبَا** | | --- | --- | --- | فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه. وقيل: الحمدُ هو الشكر؛ بدليلِ قولِهم: " الحمدُ لِلَّهِ شُكْراً ". وقيل: بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق. والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ. وقيلَ: الحمدُ: الثناءُ عليه تعالى [بأوصافِه، والشكرُ: الثناءُ عليهِ بِأَفْعَاله] فالحامِدُ قِسْمَانِ: شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة. وقيل: الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ، وليس بِسَدِيدٍ - وإِنْ كان منقولاً عن ثَعْلَب؛ لأنَّ المقلوبَ أقلُّ اسْتِعْمالاً من المقلوب منه، وهذان مُسْتَوِيَان في الاستعمالِ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْس، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيْن. وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْد، فإنه يُقالُ: حمدتُ الله - تعالى - ولا يقال: مَدَحْتُه، ولو كان مَقْلُوباً لما امتنع ذلك. ولقائلٍ: أَنْ يَقُولَ: منع من ذلك مانِعٌ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك. وقال الرَّاغِبُ: " الحَمْدُ لله ": الثناءُ بالفَضِيلَةِ، وهو أخصُّ من المدحِ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار، فقد يُمْدَح الإنسان بطول قَامَتِهِ، وصَبَاحة وجهه، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ. قال ابنُ الخَطِيبِ - رحمه الله تعالى -: الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه: أحدها: أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلْحَيِّ، ولغيرِ الحَيِّ? أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ، فإنه يَمْدَحُها؟ فثبت أَنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ. الثَّاني: أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ، وقد يكونُ بعدَه، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان. الثالث: أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ: **" احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهِ المَدَّاحِينَ "** أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: **" مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ "** الرابعُ: أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل. وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدّالُّ على كونه مُخْتَصًّا بِفَضِيلة مُعَيَّنَةٍ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ. وأَمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكْرِ، فهو أَنَّ الحمدَ يَعُمُّ إذا وَصَلَ ذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك، وأما الشُّكْرُ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال الرَّاغِبُ - رحمه الله -: والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً، وكل حمد مَدْحٌ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً. ويقال: فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ. واحمدُ أَيْ: أَنَّه يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ. والألفُ: واللام في " الحَمْد " قِيل: للاستغراقِ. وقيل: لتعريفِ الجِنْس، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وقال الشاعر: [الطويل] | **38-..................** | | **إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ** | | --- | --- | --- | وقيل: للعَهْدِ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ، ولم يُبَيّنْ وجهةَ ذلك، ويشبه أن يُقالَ: إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ، لا الإخبار به، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه، بخلاف كونها للجِنْسِ. والأصلُ في " الحَمْدِ " المصدريةُّ؛ فلذلك لا يُثَنَّى، ولا يُجْمَعُ. وحكى ابنُ الأَعْرَابِيِّ جَمْعَهُ على " أَفْعُل "؛ وأنشد: [الطويل] | **39- وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنَاءِ خَصَصْتُهُ** | | **بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي** | | --- | --- | --- | وقرأ الجُمْهُورُ: " الحَمْدُ لِلَّه " برفْعِ الدّال وكسرِ لاَمِ الجَرِّ، ورفعُهُ على الابتداءِ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة. ثم ذلك المحذوفُ إنْ شئتَ قَدَّرْتَهُ [اسْماً، وهو المُخْتارُ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَهُ] فِعْلاً أَي: الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله، واسْتَقَرَّ لِلَّه. والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ: أَنَّ ذَلك يَتَعَيّنُ في بَعْضِ الصورِ، فلا أَقَلَّ مِنْ ترجيحِه في غَيْرِها، وذلك أنّك إذا قُلْتَ: " خرجتُ فإِذَا في الدَّار زَيْدٌ " و " أمَّا في الدارِ فَزَيْدٌ " يتعيّنُ في هاتَيْن الصُّورَتَيْنِ [أن يقدر بالاسم]؛ لأَنَّ " إذا " الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيلِيَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأُ. وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعض الصُّورِ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ، نحو: الَّذِي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره؟ والجوابُ: أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ، أَو الخبر، وليس أَجْنَبِيًّا، فكان اعتباره أَوْلَى، بخلاف وقوعه صِلةً، [والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ]. ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ -ها هنا- لعُمُومِ فائدتها، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً، أو حالاً، أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ، وذلك المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً: فأمّا قول الشاعر: [الطويل] | **40 - لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاَكَ عَزَّ، وَإِنْ يَهُنْ** | | **فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كَائِنُ** | | --- | --- | --- | وأما قولُه تبارك وتَعَالى:**{ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ }** [النمل: 40] فلم يقصدْ جعل الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلّقَ به، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرُه باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعْلاً. واختلفُوا: أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة؟ فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ، [وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ]، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقُرِىءَ شَاذًّا بنصب الدالِ من " الحَمْد " ، وفيه وجهان: أظهرُهُما: أنه منصوبٌ على المصدريَّةِ، ثم حُذِف العاملُ، ونابَ المصدرُ مَنَابه؛ كقولِهِم في الأخبار: " حمداً، وشكراً لا كُفْراً " والتقدير: " أَحمد الله حمداً " ، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ. وقال الطَّبَرِيُّ - رحمه الله تعالى -: " إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه، فكأَنَّه قال: " قولوا: الحَمْد للهِ " وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا: إِيَّاكَ ". فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيًّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً، ولا يجوزُ إظهار الناصب، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه. والثاني: أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ، أَي: اقْرَءُوا الحَمْدَ، أَو اتْلُوا الحَمْدَ؛ كقولهم: " اللَّهُمَّ ضَبُعاً وَذِئْباً " ، أَي: اجْمَعْ ضَبُعاً، والأوّلُ أَحْسَنُ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ. وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ، بخلافِ النَّصْبِ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ، ولذلك قال العلماء - رحمهم الله -: إن جوابَ إِبْرَاهِيمَ - عليه الصلاة والسّلام - في قوله تَعَالَى حكايةً عنه:**{ قَالَ سَلاَمٌ }** [هود: 69] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة:**{ قَالُواْ سَلاَماً }** [هود: 69] امتثالاً لقولِه تعالى:**{ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ }** [لنساء: 86]. و " لله " على قراءةِ النصبِ يتعلّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ، لأنَّها للبيانِ، تقديرهُ: أَعْنِي لله، كقولِهم: " سُقْياً له ورَعياً لك " تقديرُه: " أَعْنِي له ولك " ، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام، فينصبوه به فيقُولُوا: سُقْياً زيداً، ولا رَعْياً عمراً، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى:**{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ }** [محمد: 8]، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ؛ لأنَّ " لَهُمْ " لا يتعلّقُ بـ " تَعْساً " كما مَرَّ. ويحتملُ أَنْ يُقالُ: إن اللام في " سُقياً لك " ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده. وقُرِىءَ: - أَيْضاً - بِكَسْرِ الدَّال، ووجهُهُ: أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده، وهي لُغَةُ " تَمِيم " ، وبَعْضِ " غَطَفَان " ، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني؛ للتَّجَانُسِ. ومنه: [الطويل] | **41-...............** | | **اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ** | | --- | --- | --- | بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ، ومثلُه: [البسيط] | **42- وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً** | | **وَلاَ كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ** | | --- | --- | --- | الأصل: وَيْلٌ لأُمِّهَا، فحذفَ اللاَّمَ الأُولَى، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها، وحذَفَ الهَمْزَةَ، ثم أَتْبَعَ اللاَّمَ المِيمَ، فصار اللفظ: " وَيْلِمِّهَا ". ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ، فيقول: " وَيْلُمِّهَا " بِضَمِّ اللاَّمِ، قال: [البسيط] | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **43 - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا** | | **فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ** | | --- | --- | --- | ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ، لأنَّ الإعرابَ مُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ. وقرىء أيضاً: " لُلَّهِ " بضم لاَمِ الجَرِّ، قَالُو: وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ، وهي لغةُ بَعْضِ " قَيْس " ، يُتْبِعُون الثانِي نحو: " مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ " بضم الدَّال والقاف لأجل الميم، وعليه قرىء:**{ مُرُدفين }** [الأنفال: 9] بِضَمِّ الراءِ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ. فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في " الحَمْدُ لِلَّهِ ". ومعنى لام الجَرِّ - هنا - الاستحقاقُ أَيْ: الحمدُ مستحقٌّ لله - تعالى - ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي: المُلْكُ: المالُ لِزَيْدٍ. والاستحقاقُ: الجُل لِلْفَرَسِ. والتَّمْلِيكُ: نحو: وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو:**{ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً }** [الشورى: 11] لتسكنوا إليها. والنسب: نحو: لِزَيْدٍ عَمٌّ. والتعليلُ: نحو:**{ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ }** [النساء: 105]، والتبليغُ: نحو: قُلْتُ لَكَ. والتبليغُ: نحو قلتُ لك. وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً؛ كقوله: [البسيط] | **44- لِلَّهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ** | | **بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ** | | --- | --- | --- | والتَّبْيِينُ نحو قولِه تَعَالَى:**{ هَيْتَ لَكَ }** [يوسف: 23]. والصيرورةُ: نحو قولِهِ تَعَالَى:**{ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }** [القصص: 8]. والظرفية إِمَّا بِمَعْنَى " فِي ": كقوله تعالى:**{ وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ }** [الأنبياء: 47]، أَوْ بِمَعْنَى " عِنْدَ ": كقولِهم: " كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ " ، أيْ: عِنْدَ خَمْسٍ، أَوْ بِمَعْنَى " بَعْدَ ": كقوله تعالى:**{ أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ }** [الإسراء: 78] أيْ: بَعْدَ دُلُوكها. والانتهاءُ: كقوله تعالى:**{ كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُّسَمًّـى }** [الرعد: 2]. والاستعلاءُ: نحو قوله تعالى:**{ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ }** [الإسراء: 109]. وقد تُزَادُ باطّرادِ في معمول الفعلِ مُقدَّماً عليه؛ كقولِه تَعَالى:**{ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ }** [يوسف: 43]، [وإذا] كان العامِلُ فرعاً، نحو قوله تعالى:**{ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }** [هود: 107]. وَبِغَيْرِ اطرادٍ؛ نحو قوله في ذلك البيت: [الوافر] | **45- فَلَمَّا أَنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً** | | **أَنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَمَيْنَا** | | --- | --- | --- | وأما قولُه تَعَالَى:**{ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم }** [النمل: 72]، فقِيل: على التَّضْمِينِ، وقِيلَ: هي زَائِدَةٌ. ومن الناسِ مَنْ قال: تقديرُ الكَلام: قُولُوا: الحمد لله. قال ابنُ الخَطِيب: - رحمه الله تعالى -: وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأنْ الإضمارَ إنما يُصَار إليه ليصحّ الكلامُ، وهذا الإضمار يُوجِبُ فسادَ الكَلام، والدليل عليه: أن قوله - تعالى - " الحَمْدُ لِلَّهِ " إخبارٌ عن كونِ الحَمْدِ حقًّا [لله تعالى] وملَكاً له، وهذا كَلاَمٌ تام في نفسه، فلا حاجةَ إلى الإضمار. وأيضاً فإن قولَه: " الحمد لله " يدلُّ على كونِهِ مُسْتَحقاً للحمدِ بحسب ذاته، وبحسبِ أَفْعالِه، سواءٌ حَمَدُوه أَوْ لَمْ يَحْمِدُوه. قال ابنُ الخَطِيب: - رحمه الله تعالى -: " الحَمْدُ لِلَّه ثمانيةُ أَحْرُفٍ، وأبوابُ الجَنَّةِ ثمانية [أبواب]، فمن قال: " الحمد لله " بصفاءِ قَلْبِهِ استحقَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ الثمانية " والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فَصْلٌ تمسّكَ الجَبْرِيَّةُ والقدريَّةُ بقوله تعالى: " الحمدُ لِلَّهِ " أما الجبريةُ فقد تمسَّكوا به من وجوه: الأولُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَان فِعْلهُ أشْرَفَ وأَكْمَل، وكانت النعمةُ الصادِرَةُ عنه أَعْلَى وأفضل، كان استحقاقُه للحمدِ أكثرَ، ولا شك أنَّ أَشْرَفَ المخلُوقَاتِ هو الإيمانُ، فلو كان الإيمانُ فِعْلاً للعبد، لكان استحقاقُ العبدِ للحمدِ أَوْلَى وأجلَّ مِنِ اسْتِحْقاقِ الله له، ولما لم يكنْ كذلك، علمنا أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بخلقِ الله - تعالى - لا بِخَلْقِ العَبْدِ. الثاني: أجمعتِ الأمّةُ على قولِهم: " الحمدُ لِلَّهِ على نعمةِ الإيمانِ " ، فلو كان العَبْدُ فاعلاً للإيمانِ لَكَان قولُهم: " الحمد للَّه على نعمة الإيمان "؛ باطلاً، فإنَّ حمد الفاعِل على ما لا يَكُون فِعْلاً له باطلٌ قَبِيحٌ؛ لقوله تعالى:**{ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ }** [آل عمران: 188]. الثالثُ: أَن قوله تعالى: " الحمدُ للهِ " يدلُّ ظاهِرُهُ على أنَّ كُلَّ الحمدِ لله، وانه لَيْسَ لِغَيْر الله - تعالى - حَمْدٌ أَصْلاً، وإنما يكونُ كلُّ الحمدِ لله تعالى إذا كان كُلُّ النِّعمِ من اللهِ تعالى، والإيمانُ أَفْضَلُ النعم، فوجب أَنْ يكونَ الإيمانُ من الله تعالى. الرابعُ: أَن قولَهُ: " الحَمد لله " مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، ومدحُ النَّفْسِ قَبيحٌ فيما بين الخَلْقِ، فلما بدأ كتابَهُ بمدحِ النفْسِ، دَلَّ ذلك على أَنَّ حالَهُ بخلافِ حَالِ الخلقِ، وأَنَّه يَحْسُن منه ما يقبحُ من الخَلْقِ، وذلك يدلُّ على أنه - تبارك وتعالى - مقدَّسٌ عن أن تُقَاس أفعالُه على أَفعالِ العِبَادِ. الخامسُ: عند المعتزلةِ أفعالُه - تعالى - يجبُ أَنْ تكونَ حَسَنةً، ويجبُ أَنْ تكونَ لها صفةٌ زائِدَةٌ على الحُسْنِ، وإلا كان عبثاً، وذلك في حقه تعالى محالٌ، والزائدةُ على الحُسْنِ إمَّا [أن تَكُونَ] واجِبةً، وإما أن تكونَ من باب التَّفَضُّلِ. أما الواجبُ فهو مثلُ إِيصالِ الثواب، والعوض إلى المُكَلَّفِين. وأما الذي يكونُ من باب التفضل، فهو مثلُ أنَّه يزيد على قَدْرِ الواجِبِ على سبيلِ الإحْسَانِ. فنقولُ: هذا يَقْدّحُ في كونه - تعالى - مستحقاً للحمد، ويُبْطِلُ صحَّةَ قولنا: الحمدُ لله. وتقريرهُ أن نقولَ: أما أداء الواجِباتِ، فإنه لا يفيد استحقاقَ الحَمْدِ، ألا ترى أنَّ مَنْ كان له على غيره دَيْنُ دِينارٍ، فأدّاه، فإنه لا يَسْتَحِقُّ الحمدَ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلاً، لكان ذلك الفعلُ مخلصاً [له] عن الذَّمِّ، ولا يُوجِبُ استحقاقه للحمد. وأما فِعْلُ التفضُّلِ فعند الخصم أنه يستفيد بذلكَ مزِيدَ حَمْدٍ ولو لم يصدرْ عنه ذلك الفعلُ، لما حَصَل له الحمدُ، فإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك يمنع مِنْ كونه - تعالى - مُسْتحقاً للحمدِ والمدح. السَّادسُ: قولُه: الحمدُ لله يدلُّ على أنه - تعالى - محمودٌ، فنقولُ: استحقاقُه للحمد والمدحِ إما أن يكونَ أَمْراً ثابتاً لذاته، فإنْ كان الأوّل، امتنَع ثُبوتُه لغيره، فامتنع - أيضاً - أنْ يكون شَيْءٌ من الأفعالِ موجباً له استحقاق الذم؛ لأن ما ثبت لِذَاتِهِ امتنع ارتفاعه، فوجب أَلاَّ يجبَ للعباد عليه شيءٌ مِنَ الأعْواضِ والثَّوَابِ، وذلك يَهْدِمُ أصولَ المعتزلة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأمّا القسم الثَّاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً لذاتِهِ - فنقول: فيلزم منه أن يكونَ ناقِصاً لذاته مُسْتكملاً بغيره، وذلك على الله - تعالى - محالٌ. أما قول المعتزلة: إنَّ قَوْلَهُ: " الحَمْدُ لِلَّهِ " لا يتم إلاَّ على قولِنَا؛ لأن المستحقَّ للحمدِ على الإطْلاقِ هو الذي لا قَبِيحَ في فِعْلِهِ، ولا جَوْرَ في قَضِيَّتِهِ، ولا ظُلمَ في أحكامِهِ? وعندنا أنَّ الله - تعالى - كذلك؛ فكان مُسْتَحِقًّا لأعظمِ المَحَامِدِ والمدائح. أمّا على مذهب الجَبْرِ لا قَبِيحَ إلا وهو فِعْلُه، ولا جَوْرَ إلا وهو حُكْمُه، ولاَ عَبَثَ إلا وهو صُنْعُه؛ لأنه يخلقُ الكُفْرَ في الكافر، ثم يعذبُه عليه، ويؤلم الحيواناتِ مِنْ غَيْرِ أن يُعَوِّضَهَا، فكيف يُعْقلُ على هذا التقدِيرِ كونُه مُسْتحقاً للحمد؟ وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله - تعالى - بسبب الإلهيَّة؛ إِمَّا أن يستحِقَّهُ على العبدِ، أَوْ عَلَى نفسه، فإن كان الأول وجب كونُ العبدِ قادراً على الفِعْلِ؛ وذلك يُبْطِلُ القول بالجَبْرِ. وإنْ كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نَفْسَهُ؛ وذلكَ بَاطِلٌ، قالوا: فثبت أَنَّ القولَ بالحَمْدِ لا يصحُّ إلا على قولنا. فَصْل هل وجوب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع؟ اختلفوا في أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثابِتٌ بالعَقْلِ أَوْ بالسَّمْعِ. مِنَ الناس مَنْ قال: إنه ثابِتٌ بالسَّمْعِ، لقوله تبارك وتعالى:**{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }** [الإسراء: 15]، ولقوله تبارك وتعالى:**{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ }** [النساء: 165]. ومِنْهم مَنْ قال: إنه ثَابِتٌ قبلَ مَجيء الشرع، وبعد مجيئه على الإطلاقِ؛ والدليلُ عليه قولُه تبارك وتعالى: " الحَمدُ لِلَّهِ " وبيانه من وجوه: الأولُ: أَن قولَه تعالى: " الحمدُ لله " يدلُّ على أن هذا الحمدَ حَقُّهُ، وملكُه على الإطْلاَقِ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاقِ كان قبل مَجِيء الشرْع. الثاني: أنه تعالى قال: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ } [الفاتحة: 2]؛ وقد ثَبَتَ في [أصُول] الفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ على الوَصْفِ المناسِبِ، يَدُلُّ على كونِ الحُكْمِ مُعَلَّلاً بذلك الوصف، فها هنا أثبتَ الحَمْدَ لنفسه، ووصف نَفْسَهُ بكونِه رَبَّ العالَمِينَ رَحْماناً رَحِيماً بِهِم، مالكاً لعاقبةِ أمْرِهم في القيامَةِ، فهذا يدلُّ على أن استحقاقَ الحمدِ ثابتٌ - لله تعالى - في كل الأوقات، سواءٌ كان قَبْلَ مَجِيء النَّبي، أو بعده. فصل قال ابنُ الخَطيب - رحمه الله تعالى -: تَحميدُ اللهِ - تعالى - ليس عبارةً عن قَوْلِنا: الحمدُ لِلَّهِ؛ لأن قوْلنا: " الحمد للَّه " إخبارٌ عن حُصُولِ الحَمْد، والإخبارُ عَن الشيءِ مغايرٌ للخَبَرِ عنه، فنقولُ: حَمْدُ المنعم عبارةٌ عن كُلِّ فِعْلٍ يُشْعِرُ بتعظيم المنعم بسبب كَوْنِهِ مُنْعماً، وذلك الفعل: إما أن يكونَ فِعْلَ القلبِ، أو فعل اللّسَانِ، أوْ فِعل الجوارح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أمَّا فعلُ القلبِ: فهو أنْ يَعْتَقِدَ فيه كونَهُ مَوْصُوفاً بصفات الكمال والإجْلاَل. وأما فعل اللِّسان فهو أنْ يذكر ألفاظاً دالَّةً على كونه مَوْصُوفاً بصفات الكمال [والإجلال]. [وأما فعل الجوارح؛ فهو أنْ يأتي بأفعالٍ دالّةٍ على كَوْنِ المنعمِ مَوصُوفاً بصفات الكمال والإجلال]. واعلم أن أهل العلم - رحمهم الله - افترقوا في هذا المقام فِرقاً كثيرةً: فمنهم مَنْ قال: إنه لا يجوزُ عقلاً أنُ يأمرَ الله عَبِيدَه بأن يَحْمَدُوه، واحتجوا عليه بوجوه: الأولُ: أن ذلك التحميدَ، إما أن يكونَ بناءً على إنْعَام وَصَل إليهم، أَوْ لا بِنَاءَ عليه، فالأول باطِلٌ؛ لأن هذا يقتضي أنه - تعالى - طلبَ منهم على إنعامِهِ جَزَاء ومُكافَأةً، وذلك يقدحُ في كَمَال الكرم، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يُطالِبْ بالمُكَافأة. وأما الثاني: فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ. الثاني: قالُوا: إِنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ، والكامل [لذاته] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً. الثالثُ: أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ: أنه لَوْ لم يفعلْ لاسْتَحَقَّ العذابَ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه: أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ، لَعَاقَبْتُكَ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ، ولو تركته [لعاقبتك] أَبَدَ الآبادِ، وهذا لا يَلِيقُ بالحَلِيم الكريم. والفريقُ الثاني: قَالُوا: الاشتغالُ بِحَمْدِ الله - تعالى - سُوءُ أَدَبٍ من وجوه: الأولُ: أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ. والثاني: أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى إلاَّ مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ. والثالثُ: أنَّ الثناءَ على الله - تعالى - عند وُجْدَانِ النِّعمةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ، وحظُّ النَّفسِ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ. وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّم وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى:**{ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ }** [آل عمران: 54]، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى:**{ ٱللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِمْ }** [البقرة: 15] وغَيْرِه. فإن قِيل: إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة، قُلْنَا: نُسلِّمُ، ولكنه قد سمى نفسه به، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به. وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع، فقال اللهُ تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }** [البقرة: 152]. قولُه تَعَالَى: { رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ }. الرَّبُّ: لُغَةً: السيدُ، والمَالِكُ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ؛ ومنه قولُه: [الطويل] | **46- أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ** | | **لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ** | | --- | --- | --- | والمُصْلِحُ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى: الصّاحبِ؛ وأنشد القائل: [الكامل] | **47- قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ** | | **بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ** | | --- | --- | --- | والظاهِرُ أَنَّهُ - هنا - بمعنى المَالِك، فليس هو معنى زائداً. وقيل: يكون بمعنى الخَالِقِ. واختُلِفَ فيه: هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر؟ فمنهم من قال: [هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى " مُرَبٍّ " ]، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه. [فمنهم من قال]: هو على " فَعِل " كقولك: " نَمَّ - يَنُمَّ - فهو نَمٌّ " من النّمام، بمعنى غَمّاز. وقيل: وزنه " فَاعِل " ، وأصلُه: " رَابٌّ " ، ثم حُذِفت الألفُ؛ لكثرةِ الاستعمالِ؛ لقولِهم: رَجَلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ. ولقائلٍ أنْ يقولَ: لا نسلم أن " بَرّ " مأخوذ من " بَارّ " بل هما صِفتان مُسْتقلتَانِ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يُدّعَى أنّ " ربًّا " أصله " رابٌّ ". ومنهم مَنْ: قال إنه مَصْدرٌ " رَبَّهُ - يَرُبُّهُ - رَبًّا " أي: مَلَكَهُ. قال: " لأنْ يَرُبَّنِي رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رَجَلٌ من هَوَازِنَ ". فهو مصدر في معنى الفاعل نحو: " رجل عَدْل وصَوْم ". ولا يُطْلقُ على غَيْر الباري - تعالى - إلاّ بقيد إضافةٍ، نحو قوله تعالى:**{ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ }** [يوسف: 50]، ويقولون: " هو رَبُّ الدَّارِ، ورَبُّ البَعِير " ، وقد قالته الجاهليةُ لِلْمَلِكِ من الناس مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ؛ قال الحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: [الخفيف] | **48- وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ** | | **مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاءُ بَلاَءُ** | | --- | --- | --- | وهذا مِنْ كُفْرِهِمْ. وقرأ الجمهورُ: " رَبِّ " مجروراً على النعتِ " لله " ، أو البَدَلِ منه. وقرِىءَ مَنْصُوباً، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ: إِمَّا بِمَا دَلَّ عليه الحمدُ، تقدِيرُه: " أحمد ربَّ العالمين ". أو على القطع من التبعية، أو على النِّدَاءِ وهذا أضعفُهَا، لأنه يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بين الصفة والموصوف. وقُرِىءَ مَرْفُوعاً على القَطْعِ من التبعية، فيكونُ خبراً لمبتدإٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: " هُوَ رَبُّ " وإذْ قد عرض ذِكْرُ القَطْعِ في التَبعيَّةِ، فلنستطردْ ذِكْرَهُ، لِعُمومِ فَائِدَتِه فنقول: اعلمْ أنَّ الموصوفَ إذا كان معلوماً بدون صفته، وكان الوصفُ مَدْحاً، أو ذماً، أو ترحُّماً - جاز في الوَصْفِ الإتباعُ والقطعُ. والقطعُ: إما على النصْبِ بإضمار فعل لائقٍ، وإمَّا على الرّفعِ على خَبَرٍ لمبتدإٍ مَحْذُوفٍ، ولا يجوزُ إظهارُ هذا الناصِبِ، ولا هذا المبتدإِ، نحو قولِهم: " الحَمْدُ لله أَهْلَ الحَمْدِ " رُوِيَ بنصبِ " أَهْل " ورفعِه، أيْ: أعني أَهْلَ، أو هو أَهلُ الحمدِ. وإِذا تكررتِ النُّعُوتُ، والحالةُ هذه، كُنْتَ مُخَيَّراً بين ثلاثة أوجه: إما إتباعُ الجَميعِ، أو قَطْعُ الجَمِيع، أوْ قَطْعُ البَعْضِ، وإتباعُ البَعْضِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | إلاّ أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ، وقطعتَ البعضَ وجب أَنْ تَبْدَأ بالإتباعِ، ثُمَّ تأتي بالقَطْعِ من غير عَكْسٍ، نحو: " مررتُ بزيدٍ الفَاضِلِ الكَرِيمُ "؛ لِئَلاَّ يلزمَ الفصلُ بين الصفَةِ والموصُوفِ بالجملةِ المَقْطُوعَةِ. و " العَالَمِينَ " خَفْضٌ بالإضافَةِ، عَلاَمةُ خفضِه الياءُ؛ لجريانه مَجْرى جمع المذكرِ السَّالِمِ، وهم اسْمُ جَمْعٍ؛ لأنَّ واحِدَهُ مِنْ غَيْرِ لفظه، ولا يَجوزُ أن يكونَ جمعاً لـ " عَالَمٍ "؛ لأن الصحيح في " عَالَمِ " أن يُطْلَق على كل موجودٍ سوى الباري تَعَالى، لاشتقاقه من العَلاَمةِ، بمعنى أنه دالّ على صانِعهِ. و " عَالَمُون " بصيغة الجمع لا يُطْلق إلا على العُقلاءِ دون غيرهم، فاستحال أن يكون " عالمون " جمع " عَالَم "؛ لأنَّ الجمعَ لا يكونُ أخَصَّ مِنَ المُفْرَدِ. وهذا نظيرُ ما فعله سِيْبَويَه - رحمه الله تعالى - في أنَّ " أعراباً " لَيْسَ جَمْعاً لـ " عَرَب "؛ لأنَّ " عرباً " يُطْلَقُ على البَدَوِيِّ دُونَ القروِيّ. فإن قِيلَ: لِمَ لاَ يَجُوزُ أَنِ يكونَ " عَالَمُونَ " جَمْعاً لـ " عَالَم " مُرَاداً به العاقل دُونَ غَيْره، فيزولَ المحذُورُ المذكور؟ وأُجِيبَ عنه: بأنه لَوْ جاز ذلك، لَجَازَ أَنْ يُقالَ: " شَيْئُون " جَمْعُ " شَيْءٍ " مُرَاداً به العاقل دون غيره، فدل عَدَمُ جَوَازِه على عدم ادّعاءِ ذلك. وفي الجواب نَظَرٌ، إذْ لِقائل أنْ يقول: " شيئون " منع منه مانِعٌ آخرُ، وهو كونهُ لَيْسَ صِفَةً ولا علماً، فلا يلزَمُ مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ " عَالَمِين " مراداً به العاقل. ويُؤَيِّدُ هذا ما نَقَلَ الراغِبُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضى الله تعالى عنهما - أنَّ " عَالَمِين " إنما جمع هذا الجمع؛ لأن المراد به الملائكةُ والجنُّ والإنْسُ. وقال الراغِبُ أيضاً: " إنَّ العَالَم في الأصل اسم لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ " وجُعِلَ بناؤُه على هذه الصيغَةِ، لكونه كالآلةِ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانعه. وقال الرَّاغِبُ: " وأما جمعُه جَمْعَ السَّلامَةِ، فلكون الناس في جُمْلَتِهم، والإنسانُ إذا شَارَك غيرَهُ في اللّفظِ غَلَبَ حُكْمُه " ، فظاهر هذا أَنَّ " العَالَمِين " يطلق على العُقَلاء وغَيْرِهم، وهو مُخالِفٌ لما تقدّم من اختصاصِهِ بالعقلاء، كما زعم بعضُهم، وكلام الراغِبِ هو الأصَحُّ الظّاهرُ. فصل في وجوه تربية الله لعبده قال ابنُ الخَطِيبِ - رحمه الله تعالى -: " وجوه تَرْبِيَةِ الله لِلْعَبْدِ كثيرةٌ غيرُ مُتَنَاهِيَةٍ، ونحن نذكر منها أمثله: الأولُ: لما وَقَعَتِ النّطفةُ مِنْ صُلْبِ الأَبِ إلى رَحِمِ الأُمِّ، فَرَبَّاهَا حتى صارت عَلَقَةً أَولاً، ثم مُضْغَةً ثانيةً، ثم تولّدت منه أعضاء مُختلفةٌ، مثلُ العِظَامِ، والغَضَارِيفِ، والرّبَاطَاتِ، والأَوْتَارِ، والأوردَةِ، والشرايِين، ثم اتصل البعضُ بالبعضِ، ثُمَّ حَصَلَ في كُلِّ واحِدٍ منها نَوْعٌ خَاصٌّ من أنواع القُوَى، فحصلت القوّةُ الباصرة في العَيْنِ? والسَّامِعَةُ في الأُذُنِ، والنَّاطِقَةُ في اللِّسانِ، فسُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وأَسْمَعَ بِعَظْمٍ، وأَنْطَقَ بِلَحْمٍ "!. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والثَّاني: أن الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وقعت في الأرض، فإذا وصلت نَدَاوةُ الأرضِ إليها، انتفَخَتْ ولا تنشق من شيء من الجوانِبِ إلاّ مِنْ أَعْلاَها وأسفلها، مَعَ أنَّ الانتفاخَ حاصلٌ من جميع الجوانب. أما الشق الأعلى، فيخرجُ منه الجزءُ الصاعِدُ، فبعد صعودِهِ يحصُلُ له سَاقٌ، ثم ينفصِلُ من ذلك الساقِ أَغْصَانٌ كثيرةٌ، ثم يظهر على تلك الأغصانِ الأَنْوَارُ أوَّلاً، ثُمَّ الثِّمَار ثانياً، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكَثَافَةِ، واللطافة، وهي القُشُور، واللّبوبُ، ثم الأدهان. وأما الجُزْءُ الغائِصُ من الشجرة، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة، ومع غايةِ لُطْفِها، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة، وأودع فيها قُوًى جاذبةً تجذِبُ اللّطيفةَ من الطين إلى نفسها، والحكمةُ في كُلّ هذه التدبِيرَاتِ تحصيلُ ما يحتاج العبد إليه من الغِذَاءِ، والإدام، والفواكه، والأشربةِ، والأدْوِيَةِ؛ كما قال تعالى:**{ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً }** [عبس: 25 - 26]. فَصْلٌ اختلفوا في { ٱلْعَالَمِينَ }. قال ابن عباس رضي الله عنهما: " هُمُ الجنُّ والإِنْسُ؛ لأنهم المكلّفون بالخِطَابِ "؛ قال الله تعالى:**{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }** [الفرقان: 1]. وقال قتادةُ: والحَسَنُ، ومُجَاهِدٌ - رضي الله تعالى عنهم -: " جميعُ المخلوقِينَ "؛ قال تبارك وتعالى:**{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }** [الشعراء: 23 - 24]. واشْتِقَاقُه من العَلمِ والعَلاَمَةِ، سُمُّوا بذلك؛ لِظُهورِ أَثَرِ الصنعة فيهم. قال أَبُو عُبَيد - رحمه الله تعالى -: هم أرْبَعُ أُمَمٍ: الملائكةُ، والإنسُ، والجِنُّ، والشَّيَاطِينُ، مُشْتَقٌّ من العلم، ولا يُقَال للبهائِمِ؛ لأنها لا تَعْقِلُ. واخْتَلَفُوا في مبلغِهِم. قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب - رضي الله عنه -: " لِلَّه ألْفُ عَالَمٍ: سِتُّمائةٍ في البَحْرِ، وأربعمائة في البرِ ". وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان - رضي الله عنه -: " ثَمانُونَ أَلْفاً، أَرْبَعُون ألفا في البَحْرِ، وأربعونَ ألفاً في البَرِّ ". وقال وَهْبٌ - رضي الله عنه -: " لله ثَمَانِيَةَ عَشرَ ألفَ عَالَمٍ، الدّنيا عَالَمٌ منها، وما العمران في الخَرَابِ إلا كفُسْطاطٍ في صَحْرَاء ". وقال كَعْبُ الأحبارِ - رضي الله عنه -: " لا يُحْصي عَدَدَ العَالَمِين إلاّ اللهُ - عز وجل - "؛ قال تعالى:**{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }** [المدثر: 31]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج عبد بن حميد من طرق مطر الوراق عن قتادة في قول الله { الحمد لله رب العالمين } قال: ما وصف من خلقه. وفي قوله { الرحمن الرحيم } قال: مدح نفسه { مالك يوم الدين } قال: يوم يدان بين الخلائق. أي هكذا فقولوا { إياك نعبد وإياك نستعين } قال: دلّ على نفسه { اهدنا الصراط المستقيم } أي الصرط المستقيم { صراط الذين أنعمت عليهم } أي طريق الأنبياء { غير المغضوب عليهم } قال: اليهود { ولا الضالين } قال: النصارى. وأخرج الدارقطني والحاكم والبيهقي عن ام سلمة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة { بسم الله الرحمن الرحيم } فعدّها آية { الحمد لله رب العالمين } آيتين { الرحمن الرحيم } ثلاث آيات { مالك يوم الدين } أربع آيات وقال: هكذا { إياك نعبد وإياك نستعين } وجمع خمس أصابعه ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير تفسير القرآن/ التستري (ت 283 هـ)
قال سهل: معنى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } [2] الشكر لله، فالشكر لله هو الطاعة لله، والطاعة لله هي الولاية من الله تعالى كما قال الله تعالى:**{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ }** [المائدة:55] ولا تتم الولاية من الله تعالى إلا بالتبري ممن سواه. ومعنى: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [2] سيد الخلق المربّي لهم، والقائم بأمرهم، المصلح المدبر لهم قبل كونهم، وكون فعلهم المتصرف بهم السابق علمه فيهم، كيف شاء لما شاء، وأراد وحكم وقدر من أمر ونهي، لا رب لهم غيره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
قال ابن عطاء: معناه الشكر لله إذا كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه. وقيل معنى الحمد لله أى: لا حمدًا لله إلا الله. وقيل الحمد لله أى: أنت المحمود لجميع صفاتك وأحوالك. قال الواسطى: الناس في الحمد على ثلاث درجات، قالت العامة: الحمد لله على العادة، وقالت الخاصة الحمد لله شكرًا على اللذة وقالت الآية: الحمد لله الذى لم ينزلنا منزلة استقطعنا النعمة عن شواهد ما أشهدنا الحق من حقه. وذُكر عن جعفر الصادق فى قوله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فقال: مَن حمده بجميع صفاته كما وصف نفسه فقد حمده، لأن الحمد حاء وميم ودال فالحاء من الوحدانية والميم من الملك والدال من الديمومة فمن عرفه بالوحدانية والملك والديمومة فقد عرفه. وقال رجل بين يدى الجنيد رحمه الله: الحمد لله فقال لأتمها كما قال الله تعالى قل { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فقال الرجل ومن العالمين حتى يذكر مع الحق فقال قله يا أخى فإن المحدث إذا قرن بالقديم لا يبقى له أثر. وذكر عن عطاء أو غيره أنه قال: الحمد لله إقرار المؤمنين بوحدانيته وإقرار الموحدين بفردانيته وإقرار العارفين باستحقاق ربوبيته، فالأول إقرار بالإلهية والثانى إقرار بالربوبية والثالث إقرار بالتعظيم. وقيل الحمد: هو الثناء لله فثناء المؤمنين فى قراءة فاتحة الكتاب وثناء المريدين بالذكر في الخلوات وثناء العارفين في الشوق إليه والأنس به. وقال الحسين: ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها، والحمد النبى صلى الله عليه وسلم والمحمود الله والحامد العبد والحميد حاله التى توصل بالمريد. وقيل أيضًا: الحمد لله رب العالمين عن العالمين قبل العالمين لعلمه بعجز العالمين عن أداء حمد رب العالمين. وقيل هذا رحمة للعالمين بإضافته إياهم إليه أنه ربهم. وقيل في الحمد لله رب العالمين: إن الحمد يكون على السراء والضراء والشكر لا يكون إلا على النعماء. وقيل: الحمد لله يكون لاستغراق الحامد فى النعمة والشكر لاستزاده. وقيل فى قوله: الحمد لله رب العالمين أى منطق العالمين لحمده. وذكر عن ابن عطاء فى قوله الحمد لله رب العالمين أى: مربى أفضل العارفين بنور اليقين والتوفيق وقلوب المؤمنين بالصبر والإخلاص وقلوب المريدين بالصدق والوفاء وقلوب العارفين بالفكرة والعبرة. وقيل: رب العالمين أى هو الذى برأ العالمين بين رحمته الرحمن الرحيم حتى يؤهلهم لتمجيده بقولهم: الحمد لله رب العالمين، أى سبق الحمد منى لنفسى قبل أن يحمدنى أحد من العالمين، وحمدى نفسى لنفسى فى الأزل لم يكن لعلة، وحمد الخلق إياى مشوب بالعلل، وقيل رب العالمين أى: ملهم العالمين بحمده وحده. وقيل: لما علم عجز عباده عن حمده حمد نفسه بنفسه فى الأزل فاستراح طوق عباده هو محل العجز عن حمده وأنَّى ينازع الحدث القدم، ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **" لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".** وأنشد: | **إذا نحن أثنينا عليك بصالح** | | **فأنت كما نُثنى وفوق الذى نُثنى** | | --- | --- | --- | وحمد نفسه بالأزل لما علم من كثرة نعمه على عباده وعجزهم عن القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم؛ لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط عنهم به ثقل رؤية المنة. وسُئل جعفر بن محمد عن قوله: الحمد لله رب العالمين قال: معناه الشكر لله فهو المنعم بجميع نعمائه على خلقه وحسن صنيعته وجميل بلائه، فالألف الحمد من الآية وهو الواحد فبالآية أهل معرفته من سخطه وسوء قضائه، واللام من لطفه وهو الواحد فبلطفه إذا فهم حلاوة عطفه وسقاهم كأس سره والحاء فمن حمده وهو السابق يحمد نفسه قبل خلقه، فبسابق حمده استقرت النعم على خلقه وقدروا على حمده، والميم فمن مجده فبجلال مجده زينهم بنور قدسه، والدال فمن دينه الإسلام فهو السلام ودينه الإسلام وداره السلام وتحيتهم فيها سلام لأهل السلام فى دار السلام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
قوله جل ذكره: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ }. حقيقة الحمد الثناء على المحمود، بذكر نعوته الجليلة وأفعاله الجميلة، واللام ها هنا للجنس، ومقتضاها الاستغراق؛ فجميع المحامد لله سبحانه إمَّا وصفاً وإمَّا خلقاً، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه. والحمد لله لاستحقاقه لجلاله وجماله، والشكر لله لجزيل نواله وعزيز أفضاله، فحمده سبحانه له هو من صفات كماله وحَوْله، وحمد الخَلْق له على إنعامه وطوْلِه، وجلاله وجماله استحقاقه لصفات العلو، واستيجابه لنعوت العز والسمو، فله الوجود (قدرة) القديم، وله الجود الكريم، وله الثبوت الأحدي، والكون الصمدي، والبقاء الأزلي، والبهاء الأبدي، والثناء الديمومي، وله السمع والبصر، والقضاء والقدر، والكلام والقول، والعزة والطوْل، والرحمة والجود، والعين والوجه والجمال، والقدرة والجلال، وهو الواحد المتعال، كبرياؤه رداؤه، وعلاؤه سناؤه، ومجده عزه، وكونه ذاته، وأزله أبده، وقدمه سرمده، وحقه يقينه، وثبوته عينه، ودوامه بقاؤه، وقدره قضاؤه، وجلاله جماله، ونهيه أمره، وغضبه رحمته، وإرادته مشيئته، وهو الملك بجبروته، والأحد في ملكوته. تبارك الله سبحانه!! فسبحانه ما أعظم شأنه! فصل: عَلمَ الحق سبحانه وتعالى شدة إرادة أوليائه بحمده وثنائه، وعجزَهم عن القيام بحق مدحه على مقتضى عزه وسنائه فأخبرهم أنه حَمِد نفسه بما افتتح به خطابه بقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فانتعشوا بعد الذِّلة، وعاشوا بعد الخمود، واستقلت أسرارهم لكمال التعزز حيث سمعوا ثناء الحق عن الحق بخطاب الحق، فنطقوا ببيان الرمز على قضية الأشكال. وقالوا: | **ولوجهها من وجهها قمر** | | **ولعينها من عينها كحل** | | --- | --- | --- | هذا خطيب الأولين والآخرين، سيد الفصحاء، وإمام البلغاء، لمَّا سمع حمده لنفسه، ومدحه سبحانه لحقِّه، علم النبي أن تقاصر اللسان أليق به في هذه الحالة فقال: **" لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ".** | **داود لو سمعت أذناه قالتَها** | | **لما ترنّم بالألحان داود** | | --- | --- | --- | | **غنت سعاد بصوتها فتخاذلت** | | **ألحان داود من الخجل** | فصل: وتتفاوت طبقات الحامدين لتباينهم في أحوالهم؛ فطائفة حمدوه على ما نالوا من إنعامه وإكرامه من نوعي صفة نفعِه ودفعِه، وإزاحته وإتاحته، وما عقلوا عنه من إحسانه بهم أكثره ما عرفوا من أفضاله معهم قال جل ذكره:**{ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا }** [النحل: 18]، وطائفة حمدوه على ما لاح لقلوبهم من عجائب لطائفه، وأودع سرائرهم من مكنونات بره، وكاشف أسرارهم به من خفي غيبه، وأفرد أرواحهم به من بواده مواجده. وقوم حمدوه عند شهود ما كاشفهم به من صفات القدم، ولم يردوا من ملاحظة العز والكرم إلى تصفح أقسام النعم، وتأمل خصائص القِسَم، و(فرق بين) من يمدحه بعز جلاله وبين من يشكره على وجود أفضاله، كما قال قائلهم: | **وما الفقر عن أرض العشيرة ساقنا** | | **ولكننا جئنا بلقياك نسعد** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وقوم حمدوه مُسْتَهْلَكِين عنهم فيما استنطقوا من عبارات تحميده، بما اصطلم أسرارهم من حقائق توحيده، فهم به منه يعبِّرون، ومنه إليه يشيرون، يُجري عليهم أحكام التصريف، وظواهرهم بنعت التفرقة مرعية، وأسرارهم مأخوذه بحكم جمع الجمع، كما قالوا: | **بيان بيان الحق أنت بيانه** | | **وكل معاني الغيب أنت لسانه** | | --- | --- | --- | قوله جل ذكره: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. الرب هو السيد، والعالمون جميع المخلوقات، واختصاص هذا الجمع بلفظ العالمين لاشتماله على العقلاء والجمادات فهو مالك الأعيان ومُنشيها، ومُوجِد الرسوم والديار بما فيها. ويدل اسم الرب أيضاً على تربية الخلق، فهو مُربٍ نفوس العابدين بالتأييد ومربٍ قلوب الطالبين بالتسديد، ومربٍ أرواح العارفين بالتوحيد، وهو مربٍ الأشباح بوجود النِّعم، ومربٍ الأرواح بشهود الكرم. ويدل اسم الرب أيضاً على إصلاحه لأمور عباده من ربيت العديم أربه؛ فهو مصلح أمور الزاهدين بجميل رعايته، ومصلح أمور العابدين بحسن كفايته، ومصلح أمور الواجدين بقديم عنايته، أصلح أمور قوم فاستغنوا بعطائه، وأصلح أمور آخرين فاشتاقوا للقائه، وثالث أصلح أمورهم فاستقاموا للقائه، قال قائلهم: | **ما دام عزُّك مسعوداً طوالعه** | | **فلا أبالي أعاش الناس أم فقدوا** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } شكر نفسه للعباد لأنه علم عجزهم عن شكره وايضاً ادَّب الخلق بتقدّم حمده امتنانه عليهم على حمدهم نفسه ولسان الحمد ثلاث لسان الانسانىّ ولسَانُ الرّوحانىّ ولسان الرَّباني اما اللسان الانسانى فهو للعوام وشكره بالتحدث بانعام الله واكرامه مع تصديق القلب باداء الشكر واما اللسان الرَّوحاني فهو للخواص وهو ذكر القلب لطائف اصطناع الحق في تربية الاحوال وتزكية الافعال واما اللسان الربَّاني فهو للعارفين وهو حركة السرّ يصدق شكر الحق جل جلاله بعد ادراك لطائف المعارف وغرائب الكواشف بنعت المشاهدة والغيبة فى قربة واجتناء ثمرة الانس وخوض الرّوح فى بحر القدس وذوق الاسرار مع مباينة الانوار والحامدون في حمدهم لله بالتفاوت لسانهم فى مقاماتهم ومقاصدهم واهل الارادة حَمِدوه بما نالوا من صفاء المعاملاتِ مقروناً بنور القرب واهل المحبّة حمدوه بما نالوا من انوار المكاشفات مقرونةً بنور صرف الصفات واهل المعرفة حمدوه بما نالوا من جمال المشاهدات ممزوجا بعلم الربوبيّة واهل التوحيد حمدوه بما نالوا من سناء خصائص الصفات وجلال فهم الذات مشوباً بنعت البقاء واهل شهود الازل بنعت الانس حَمدُوه بما لاح فى قلوبهم من نور القدس وقدس القدس وبما اَودَع اللهُ ارواحَهم من اسرار علوم القدم وما افرد مواطن اسرارهم من غصن الابصار فى تعرض الحدثان عند حقائقها وما خصّها بكشف الكشاف فحمدهم بالبسط والرجاء والانبساط شطح وَحمُده فى الاصطلام والمحوخرس كما قال عليه السلام **" لا احصى ثناءً عليك "** فى قبضه عن تحصيل شكر رؤية القدم فلسان التحميد لأهل التفرقة ولسانُ الحمد في رؤية المحمود صفات اهل الجمع وقيل الحمد لله ما قضى وقدر بإدراكٍ على ما هدى وحفظ وعلى ما ارشدوا وعلى ما اختاروا وقال ابو الوزير الركبى في قوله الحمد لله عن الله قال لو عرّفت ذلك عبدى لما شكرت غيرى وقال ابو بكر بن ابى طاهر ما خلق الله شيئاً من خلقه الا وألهمَهُ الحمد ثم جعل فاتحة كتابه وفرض عليهم في صلاته وقال ابن عطاء الحمد لله معناه الشكر لله اذا كان منه الامتنان على تعليمنا ايّاه حتى حمدنا وقيل معنى الحمد لله أي بمعنى انت المحمود جميع صفاتك وافعالك وقيل الحمد لله أي لا حامداً لله الا الله وذكر عن جعفر الصادق في قوله الحمد لله قال من حمده فقال من حمد بصفاته كما وصف نفسه فقد حمده لان الحمد حاء وميم وقال فالحاء من الوحدانية والميم من الملك والدال من الديموميّة فمن عرفه بالوحدانية والديموميّة والملك فقد عرفه وقال رجل بين يدي الجنيد الحمد لله فقال له اتممها كما قال الله قل رب العالمين فقال له الرجل ومَن العالمُوْنَ حتى يذكر مع الحق فقال قله يا اخى فان الحادث اذا قارن بالقديم لا يبقى له اثر قوله تعالى { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } لانه اظهر نفسه عليهم حتى نالوا من بركاتهم ما هداهم الى معرفته فرباهم بها على قدر مذاقهم فربّى المريدين بشعشعة انوارهم ولوائح اسراره وربّى المحبّين بحلاوة مناجاته ولذّةِ خطابه وربّى المشتاقين بحسن وصاله وربّى العاشقين بكشف جماله وربّى العارفين بمشاهدة بقائة ودوام انسه وحقائق انبساطه وربّى الموحّدين برؤية الوحدانيّة والانانيّة في عين الجمع وجمع الجمع وقيل { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي منطقهم بحمده وذُكِر عن ابن عطاءٍ { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي مربي انفس العارفين بنور التوفيق وقولب المؤمنين بالصبر والاخلاص وقلوب المريدين بالصدق والوفاء وقلوب العارفين بالفكرة والعبرة وقال محمد بن على الترمذي عَلِمَ الله تواتر نعمه على عباده غفلتهم عن القيام بشكره فَاَوْجَبَ عليهم في العبادة التي تكرّر عليهم في اليوم والليلة قَراءة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فيكون ذلك قياماً بشكره وان يغفلوا عنه فَابوا ذلك وقال بعضهم ذكَرَ بسم الله ثم قال الحمد لله اعلم اَنَّ منه المبتدأ واليه المنتهى وقال الحارث المحاسِبىّ انّ الله بدأ بحمد نفسه فأوجب للمؤمنين تقديم الحمد له في اول كل كتاب وكل خطبة وكل قولٍ حسن وهو احسنُ ما ابتدأ به المبتدئ وافتتح مقالته وقال بعضهم من قال الحمد لله رب العالمين فقد قام بحق العبودية وشكر النعمة وقال بعضهم ظهر فضل آدم على الكل بقوله حين عطس الحمد لله وقال الاستاذ مربّى الاشباح بوجود النّعمِ ومربى الارواح بشهود الكرم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ الحمد لله } لامه للعهد اى الحمد الكامل وهو حمد الله لله أو حمد الرسل او كمل اهل الولاء او للعموم والاستغراق اى جميع المحامد والاثنية للمحمود اصلا والممدوح عدلا والمعبود حقا عينية كانت تلك المحامد او عرضية من الملك او من البشر او من غيرهما كما قال تعالى**{ وإن من شئ إلا يسبح بحمده }** الإسراء 44. والحمد عنه الصوفية اظهار كمال المحمود وكماله تعالى صفاته وافعاله وآثاره. قال الشيخ داود القيصرى الحمد قولى وفعلى وحالى اما القولى فحمد اللسان وثناؤه عليه بما اثنى به الحق على نفسه على لسان انبيائه عليهم السلام واما الفعلى فهو الاتيان بالاعمال البدنية من العبادات والخيرات ابتغاء لوجه الله تعالى وتوجها الى جنابه الكريم لان الحمد كما يجب على الانسان باللسان كذلك يجب عليه بحسب كل عضو بل على كل عضو كالشكر وعند كل حال من الاحوال كما قال النبى عليه السلام **" الحمد لله على كل حال "** وذلك لا يمكن الا باستعمال كل عضو فيما خلق لاجله على الوجه المشروع عبادة للحق تعالى وانقيادا لامره لا طلبا لحظوظ النفس ومرضاتها واما الحالى فهو الذي يكون بحسب الروح والقلب كالاتصاف بالكمالات العلمية والعملية والتخلق بالاخلاق الآلهية لان الناس مأمورون بالتخلق باخلاق الله تعالى بلسان الانبياء عليهم السلام لتصير الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم وفى الحقيقة هذا حمد الحق ايضا نفسه فى مقامه التفصيلي المسمى بالمظاهر من حيث عدم مغايرتها له واما حمده ذاته فى مقامه الجمعى الالهى قولا فهو ما نطق به فى كتبه وصحفه من تعريفاته نفسه بالصفات الكمالية وفعلا فهو اظهار كمالاته الجمالية والجلالية من غيبه الى شهادته ومن باطنه الى ظاهره ومن علمه الى عينه فى مجالى صفاته ومحال ولاية اسمائه وحال فهو تجلياته فى ذاته بالفيض القدس الاولى وظهور النور الازلى فهو الحامد والمحمود جمعا وتفصيلا كما قيل | **لقد كنت دهرا قبل ان يكشف الغطا اخالك انى ذاكر لك شاكر فلما اضاء الليل اصبحت شاهدا بانك مذكور وذكر وذاكر** | | | | --- | --- | --- | وكل حامد بالحمد القولى يعرف محموده باسناد صفات الكمال اليه فهو يستلزم التعريف انتهى كلامه والحمد شامل للثناء والشكر والمدح ولذلك صدر كتابه بان حمد نفسه بالثناء فى لله والشكر فى رب العالمين والمدح فى الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ثم ليس للعبد ان يحمده بهذه الوجوه الثلاثة حقيقة بل تقليدا ومجازا اما الاول فلان الثناء والمدح بوجه يليق بذاته او بصفاته فرع معرفة كنههما وقد قال الله تعالى**{ ولا يحيطون به علما }** طه 110.**{ وما قدروا الله حق قدره }** الأنعام 91. واما الثانى فكما ان النبي عليه السلام لما خوطب ليلة المعراج بان أثن على قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" لا احصى ثناء عليك "** وعلم ان لا بد من امتثال الامر واظهار العبودية فقال **" انت كما اثنيت على نفسك. "** فهو ثناء بالتقليد وقد امرنا ايضا ان نحمد بالتقليد بقوله**{ قل الحمد لله }** النمل 59. كما قال**{ فاتقوا الله ما استطعتم }** التغابن 16. كذا فى التأويلات النجمية قال السعدى قدس سره | **عطا ييست هر موى ازو برتنم جه كونه بهر موى شكرى كنم** | | | | --- | --- | --- | وذكر الشيخ الامام حجة الاسلام الغزالى رحمه الله فى منهاج العابدين ان الحمد والشكر آخر العقبات السبع التى لا بد للسالك من عبورها ليظفر بمبتغاه فاول ما يتحرك العبد لسلوك طريق العبادة يكون بخطرة سماوية وتوفيق خاص الهى وهو الذى اشار اليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم بقوله **" ان النور اذا دخل قلب العبد انفتح وانشرح فقيل يا رسول الله هل لذلك من علامة يعرف بها فقال التجافى عن دار الغرور والانابة الى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله ".** فاذا خطر بقلب العبد اول كل شئ ان له منعما بضروب من النعم وقال انه يطالبنى بشكره وخدمته فلعله ان غفلت يزيل نعمته ويذيقنى نقمته وقد بعث الى رسولا بالمعجزات واخبرنى بان لى ربا عالما قادرا على ان يثيب بطاعته ويعاقب بمعصيته وقد امر ونهى فيخاف على نفسه عنده فلم يجد فى طريق الخلاص من هذا النزاع سبيلا سوى الاستدلال بالصنعة على الصانع فيحصل له اليقين بوجود ربه الموصوف بما ذكر فهذه عقبة العلم والمعرفة استقبله فى اول الطريق ليكون فى قطعها على بصيرة بالتعلم والسؤال من علماء الآخرة فاذا حصل له اليقين بوجود ربه بعثته المعرفة على التشمر للخدمة ولكنه لا يدرى كيف يعبده فيتعلم ما يلزمه من الفرائض الشرعية ظاهرا وباطنا فلما استكمل العلم والمعرفة بالفرائض انبعث للعبادة فنظر فاذا هو صاحب ذنوب كما هو حال اكثر الناس فيقول كيف اقبل على الطاعة وانا مصر متلطخ بالمعاصى فيجب ان اتوب اليه ليخلصنى من اسرها واتطهر من اقذارها فاصلح للخدمة فيستقبله ههنا عقبة التوبة فلما حصلت له اقامة التوبة الصادقة بحقوقها وشرائطها نظر للسلوك فاذا حوله عوائق من العبادة محدقة به فتأمل فاذا هى اربع الدنيا والخلق والشيطان والنفس فاستقبلته عقبة العوائق فيحتاج الى قطعها باربعة امور التجرد عن الدنيا والتفرد عن الخلق والمحاربة مع الشيطان والنفس وهى اشدها اذ لا يمكنه التجرد عنها ولا ان يقهرها بمرة كالشيطان اذهى المطية والآلة ولا مطمع ايضا فى موافقتها على الاقبال على العبادة اذهى مجبولة على ضد الخير كالهوى واتباعها له | **نمى تازد اين نفس سركش جنان كه عقلش تواندكرفتن عنان كه بانفس وشيطان برآيد بزور مصاف بلنكان نيايد زمور** | | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فاحتاج الى ان يلجمها بلجام التقوى لتنقاد فيستعملها فى المراشد ويمنعها عن المفاسد فلما فرع من قطعها وجد عوارض تعترضه وتشغله عن الاقبال على العبادة فنظر فاذا هى اربعة رزق تطلبه النفس ولا بد واخطار من كل شئ يخافه او يرجوه او يريده او يكرهه ولا يدرى اصلاحه فى ذلك ام فساده والثالث الشدائد والمصائب تنصب عليه من كل جانب لا سيما وقد انتصب لمخالفة الخلق ومحاربة الشيطان ومضارة النفس والرابع انواع القضاء فاستقبله ههنا عقبة العوارض الأربعة فاحتاج الى قطعها باربعة بالتوكل على الله فى الرزق والتفويض اليه فى موضع الخطر والصبر عند الشدائد والرضى بالقضاء فاذا قطعها نظر فاذا النفس فاترة كسلى لا تنشط ولا تنبعث لخير كما يحق وينبغى وانما ميلها الى غفلة ودعة وبطالة بل الى سرف وفضول فاحتاج الى سائق يسوقها الى الطاعة وزاجراً بزجرها عند المعصية وهما الرجاء والخوف فالرجاء في حسن ما وعد من الكرامات والخوف من صعوبة ما وعد من العقوبات والاهانات فهذه عقبة البواعث استقبلته فاحتاج الى قطعها بهذين المذكورين فلما فرغ منها لم ير عائقا ولا شاغلا ووجد باعثا وداعيا معانق العبادة بلزام الشوق فنظر فاذا تبدو بعد كل ذلك آفتان عظيمتان هما الرياء والعجب فتارة يرائى بطاعته الناس وتارة يستعظم ذلك ويكرم نفسه فاستقبلته ههنا عقبة القوادح فاحتاج الى قطعها بالاخلاص وذكر المنة فاذا قطعها بحسن عصمة الجبار وتأييده حصلت العبادة له كما يحق وينبغى ولكنه نظر فاذا هو غريق فى بحور نعم الله من امداد التوفيق والعصمة فخاف ان يكون منه إغفال للشكر فيقع فى الكفران وينحط عن تلك المرتبة الرفيعة التى هى مرتبة اغذية الخالصين فاستقبلته ههنا عقبة الحمد والشكر فقطعها بتكثيرهما فلما فرغ منها فاذا هو بمقصوده ومبتغاه فيتنعم فى طيب هذه الحالة بقية عمره بشخص فى الدنيا وقلب فى العقبى ينتظر البريد يوما ويستقذر الدنيا فاستكمل الشوق الى الملأ الاعلى فاذا هو برسول رب العالمين يبشره بالرضوان من عند رب غير غضبان فينقلونه فى طيبة النفس وتمام البشر والانس من هذه الدنيا الفانية الى الحضرة الالهية ومستقر رياض الجنة فيرى لنفسه الفقيرة نعيماً وملكا عظيما قال الشيخ سعدى قدس سره | **عروسى يود نوبت ما تمت كرت نيك روزى بودخاتمت** | | | | --- | --- | --- | قال خسرو عند وفاته | **زدنيا ميرود خسر وبزيرلب همى كويد دلم بكرفت ازغربت تمناى وطن دارم** | | | | --- | --- | --- | { رب العالمين } لما نبه على استحقاقه الذاتى بجميع المحامد بمقابلة الحمد باسم الذات اردفه باسماء الصفات جمعا بين الاستحاققين وهو أى رب العالمين كالبرهان على استحقاقه جميع المحامد الذاتى والصفاتي والدنيوى والأخروي. والرب بمعنى التربية والاصلاح اما في حق العالمين فيربيهم باغذيتهم وسائر اسباب بقاء وجودهم وفى حق الانسان فيربى الظواهر بالنعمة وهى النفس ويربى البواطن بالرحمة وهى القلوب ويربى نفوس العابدين باحكام الشريعة ويربى قلوب المشتاقين بآداب الطريقة ويربى اسرار المحبين بانوار الحقيقة ويربى الانسان تارة باطواره وفيض قوى انواره فى اعضائه فسبحان من اسمع بعظم وبصر بشحم وانطق بلحم واخرى بترتيب غذائه فى النبات بحبوبه وثماره وفى الحيوان بلحومه وشحومه وفى الاراضى باشجاره وانهاره وفى الافلاك بكواكبه وانواره وفى الزمان بسكونك وتسكين الحشرات والحركات المؤذية فى الليالى وحفظك وتمكينك من ابتغاء فضله بالنهار فيا هذا يربيك كانه ليس له عبد سواك وانت لا تخدمه او تخدمه كأن لك ربا غيره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والعالمين جمع عالم والالم جمع لا واحد له من لفظه. قال وهب لله ثمانية عشر الف عالم الدنيا عالم منها وما العمران في الخراب الا كفسطاط فى صحراء. وقال الضحاك ثلاثمائة وستون ثلاثمائة منهم حفاة عراه لا يعرفون خالقهم وهم حشو جهنم وستون عالما يلبسون الثياب مر بهم ذو القرنين وكلمهم وقال كعب الاحبار لا يحصى لقوله تعالى**{ وما يعلم جنود ربك إلا هو }** المدثر 31. وعن ابى هريرة رضى الله عنه ان الله تعالى خلق الخلق اربعة اصناف الملائكة والشياطين والجن والانس ثم جعل هؤلاء عشرة اجزاء تسعة منهم الملائكة وواحد الثلاثة الباقي ثم جعل هذه الثلاثة عشرة اجزاء تسعة منهم الشياطين وجزء واحد الجن والانس ثم جعلهما عشرة اجزاء فتسعة منهم الجن وواحد الانس ثم جعل الانس مائة وخمسة وعشرين جزأ فجعل مائة جزء فى بلاد الهند منهم ساطوح وهم اناس رؤسهم مثل رؤس الكلاب ومالوخ وهم اناس اعينهم على صدورهم وماسوخ وهم اناس آذانهم كآذان الفيلة ومالوف وهم اناس لا يطاوعهم ارجلهم يسمون دوال ياى ومصير كلهم الى النار وجعل اثنى عشر جزأ منهم فى بلاد الروم النسطورية والملكانية والاسرائيلية كل من الثلاث اربع طوائف ومصيرهم الى النار جميعا وجعل ستة اجزاء منهم فى المشرق يأجوج ومأجوج وترك وخاقان وترك حد خلخ وترك خزر وترك جرجير وجعل ستة اجزاء فى المغرب الزنج والزط والحبشة والنوبة وبربر وسائر كفار العرب ومصيرهم الى النار وبقى من الانس من اهل التوحيد جزء واحد فجز أهم ثلاثا وسبعين فرقة اثنتان وسبعون على خطر وهم أهل البدع والضِلالات وفرقة ناجية وهم اهل اسنة والجماعة وحسابهم على الله تعالى يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفى الحديث **" ان بنى اسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين فرقة وتفرق امتى على ثلاث وسبعين فرقة كلهم فى النار الا فرقة واحدة "** قالوا من هى يا رسول الله قال **" من هم على ما انا عليه واصحابى "** يعنى ما انا عليه واصحابى من الاعتقاد والفعل والقول فهو حق وطريق موصل الى الجنة والفوز والفلاح وما عداه باطل وطريق الى النار ان كانوا اباحيين فهم خلود والا فلا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
آية. مخفوضان لانهما نعت لله وقد مضى معناهما. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
قوله جل اسمه: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } قيل: الحمْد والمدح والشكر ألفاظ متقاربة المعنى. كما انّ مقابلاتها وهي الذمّ والهجاء والكُفران كذلك. وقيل: الأولان مترادفان. وقيل: بل الحمدُ أخصّ منه لأنّه مختصٌّ بالإختياري. وقيل: الأخيران مترادفان. فيقال: الحمد لله شكراً. فنصبه على المصدريّة يقتضي وضع أحدهما موضع الثاني، فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر، فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم. والحقّ انّ بين الحمْد والشكْر تعاكساً في العموم والخصوص بحسب المورد والمتعلّق، فانّ مورد الحمد هو اللسان، سواء كان بازاء النعمة الواصلة أم لا. وأما الشكر فهو على النعمة خاصّة، ومورده يعمّ الجنان واللسان والأركان كما قال: | **أفادتكم النعماء منّي ثلاثة** | | **يدي ولساني والضمير المحجّبا** | | --- | --- | --- | فالحمْد إحدى شعَب الشكْر بوجه، وانّما جعل رأس الشكر والعمدة فيه، كما في قوله (صلى الله عليه وآله): الحمْدُ رأسُ الشكرِ. وقوله (عليه السلام): مَا شكَر الله منْ لم يحمده، لكونه أشيع للنعمة، وأدلّ على مكانها، وأنطق للإفصاح عن بعض خفيّاتها في عالَم الحسّ، لخفاء عمل القلب وعقائده، ولما في آداب الجوارح من الإحتمال. ولما كان الحمد من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا يكاد يستعمل معها، فأصله النصْب، والجملة فعليّة، وإنّما عدل به إلى الرفع بالابتدائية، والظرف خبره، والجملة إسميّة للدلالة على ثبات الحمد ودوامه دون تجدّده وحدوثه، ومنه قوله تعالى:**{ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ }** [هود:69] للدلالة على أن إبراهيم (عليه السلام) حيّاهم تحيّة أحسن من تحيّتهم، لكون الإسمية دالّة على معنى الثبات دون الفعلية. وقرأ الحسَن: الحمدِ لله باتباع الدال اللام، وابن عيلة بالعكس، والباعث لهما تنزيل الكلمتين المستعملتين معاً منزلة كلمة واحدة. فصل [حقيقة العمد] ما مرّ من تخصيص الحمد باللسان، وكون الثناء باللسان عمدة أفراد الشكر، إنّما هو في نظر الحسّ - كما أومأنا إليه - وبحسب ما هو المتعارف عند المحجوبين، وأما في عرْف المكاشفين، فالحمد نوع من الكلام، وقد مرّ انّ الكلام غير مختصّ الوقوع باللسان، ولهذا حمد الله واثنى على ذاته بما هو أهله ومستحقّه، كما قال النبي (عليه وآله السلام): لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسك. وكذا يحمده ويسبحه كل شيء، كما في قوله تعالى:**{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }** [الإسراء:44]. فحقيقة الحمد عند العارفين المحقّقين، اظهار الصفات الكماليّة، وذلك قد يكون بالقول كما هو المشهو رعند الجمهور، وقد يكون بالفعل، وهو كحمد الله ذاته، وحمد جميع الأشياء له، وهذا القسم أقوى، لأنّ دلالة اللفظ من حيث هو لفظ دلالة وضعية قد يتخلّف عنها مدلولها، ودلالة الفعل - كدلالة آثار الشجاعة على الشجاعة، وآثار السخاوة على السخاوة - عقليّة قطعيّة لا يتصوّر فيها تخلّف، فحمد الله ذاته، وهو أجلّ مراتب الحمد، هو ايجاده كلّ موجود من الموجودات، فالله جل ثناؤه حيث بسط بساط الوجود على ممكنات لا تعدّ ولا تحصى، ووضع عليه موائدَ كرمه التي لا تتناهى، فقد كشفَ عن صفات كماله ونعوت جلاله، وأظهرَها بدلالات عقليّة تفصيليّة غير متناهية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإنّ كلّ ذرّة من ذرّات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في العبارة مثل هذه الدلالات، كما وقع التنبيه عليه في الحديث المنقول سابقاً. فايجاده تعالى كلَ موجود، هو الحمْد بالمعنى المصدري، بمنزلة التكلّم بالكلام الدالّ على الجميل، ونفس ذلك الموجود هو الحمْد بالمعنى الحاصل بالمصدر؛ فإطلاق الحمْدِ على كلّ موجود، صحيح بهذا المعنى، وكما ان كل موجود حمد، فهو حامد أيضاً لاشتماله على مقوّم عقليّ وجوهر نطقيّ، كأرباب الأنواع وملائكة الطباع وغيرهم، كما تقرّر في موضعه، ولذلك عبّر في القرآن عن تلك الدلالة العقليّة منه بالنطق في قوله تعالى:**{ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ }** [فصلت:21]. وكذلك جميع الموجودات من حيث نظامه الجملي حمد واحد وحامد واحد، لما قد ثبت انّ الجميع بمنزلة إنسان واحد كبير له حقيقة واحدة وصورة واحدة وعقل واحد، وهو العقل الأول الذي هو صورة العالَم وحقيقته، وهو الحقيقة التمامية المحمديّة، فأجلّ مراتب الحمْد وأعظمها هي المرتبة الختميّة المحمديّة القائمة بوجود الخاتم (ص) من حيث وصوله إلى المقام المحمود الموعود في قوله:**{ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً }** [الإسراء:79]. فذاته المقدّسة أقصى مراتب الحمد التي حمد الله بها ذاته، ولذلك خُصّ بلواءِ الحمْد، وسمّي بالحمّاد والأحمد والمحمود من مشتقّات الحمد كما قيل. ولا يخفى عليك، أنّ القول بأنّ حقيقته (صلّى الله عليه وآله) أقصى مراتب الحمد، لا ينافي كونه بحسب وجوده العنصري أحد أجزاء العالَم الكبير، من حيث انّ دلالة جميع الموجودات على جميل صفات الله تعالى أقوى من دلالة موجود واحد هو جزء العالَم عليه، وذلك لأنّ الإنسان الكامل له أطوار متفاوتة ونشآت متنوّعة، فله (صلّى الله عليه وآله) جميع المقامات والنشآت، ففي وقت ومقام له أن يقول:**{ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }** [الكهف:110]. وفي وقت ومقام له أن يقول: لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملَكٌ مقرّب ولا نبي مرسَل. وقوله: من أطاعني فقد أطاع الله ومَن أبغضني فقد أبغض الله. وكونه أقصى مراتب الحمد إنّما يتحقّق في مقامه الجمعي الأخروي الذي هو المقام المحمود، ولهذا قال - كما روي عنه (صلّى الله عليه وآله) - فيلهمني الله محامَد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد. مكاشفة لمّا تقرّر انّ جميع مراتب الموجودات روحاً وجسماً عقلاً وحسّاً بجميع الألسنةِ قولاً وفِعلاً وحالاً، يحمدونه تعالى، ويسبّحونه ويمجّدونه في الدنيا والآخرة بحسب الفطرة الأصليّة، ومقتضى الداعية الذاتيّة، ولا شكّ انّ لكلّ فعلٍ غريزيّ غايةً ذاتيةً وباعثاً أصليّاً، وقد تقرّر انّ ذاته تعالى غاية الغايات ونهاية الرغبات، فعلى هذا قوله: الحَمْدُ لله، يمكن أن يكون إشارة إلى مبدأ الوجود وغايته، سواء كانت اللام في " الله " للغاية أو للاختصاص، فمعناه على الأول: أنّ حقيقة الوجود وجنسه، إذا كان التعريف في الحمد للجنس، أو الوجود كلّه، إذا كان للاستغراق - كما قيل - لأجل استكمالها بمعرفته تعالى ووصولها إليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومعناه على الثاني: ان حقيقة الوجود، أو جميع أفراده لله تعالى، وإذا كانت هي له تعالى كان هو تعالى لها أيضاً، لقوله (صلّى الله عليه وآله): من كان لله كان الله له، فذاته تعالى علّة تماميّة كلّ شيءٍ، وغايةُ كمال كلّ موجود، إمّا بلا واسطة، كما للحقيقة المحمديّة التي هي صورة نظام العالَم وأصله ومنشأه، وإمّا بواسطة فيضه الأقدس، ووجوده المقدّس، كما لسائر الموجودات. وفيه سرّ الشفاعة ولواء الحمد. قوله جل اسمه: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } الربّ: إمّا صفة، وإمّا مصدر وُصف به مبالغةً كالعدْل. سمّي به السيّد المطاع كقول لَبيد: وأهلكنَ يوما رَبَّ كِندَة وابنَه. أي سيّد كِندة. والمالك كقوله (صلّى الله عليه وآله) لرجل: أربَّ غَنَمٍ أنتَ أم ربّ إبل؟ فقال: من كل ما آتاني الله فأكثر وأطيب، والصاحب كقول أبي ذؤيب: | **قَد نَالَه ربُّ الكلاب بِكفّه** | | **بِيضُ رِهاب ريشهن مُقَرَّعُ** | | --- | --- | --- | أي صاحب الكلاب. وغير ذلك. واشتقاقُه من " التربية " وهي: تبليغ الشيء إلى كمالِه تدريجاً ولا يطلق على غيره تعالى إلاّ مقيداً، كقولهم: ربّ الدار، وربّ الناقة. وقول الإشراقيين للصورة المفارقة للطبائع الجسمانيّة ربُّ النوع. وقوله تعالى:**{ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ }** [يوسف:50].**{ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ }** [يوسف:23]. وقرأ زيد بن علي (عليه السلام) بالنصب، على المدح، أو النداء، أو بفعل مضمر دلّ عليه الحمْْد. والعالمون: جمع عالَم وهو جمع لا واحد له من جنسه كالنفر والرَّهْط. واشتقاقه: إمّا من العلامة، فهو اسم لما يُعلَم به كالخاتَم لما يختَم به، والقالِب لما يُقلب به، غلب فيما يُعلم به صانعُه، وإمّا من العلَم لأنّه يقع على ما يعلم وهو في عرف اللغة عبارة عن جماعة من العلماء من الملائكة والثقلين، وإنّما جُمع ليشمل كلّ جنس من مسمّاه. وغلب العقلاء فيهم، فجمع لمعنى وصفهم فيه بالواو والنون، وقيل: العالَم، لنوع ما يعقل، وهم الملائكة والجنّ والإنس. وقيل هم العقلاء خاصّة لقوله تعالى:**{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }** [الفرقان:1]. وقيل: هم الإنس لقوله:**{ أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ }** [الشعراء:165]. وفي المتعارف بين الناس، هو عبارة عن جميع المخلوقات من الجواهر والأعراض وقد دلّت عليه الآية**{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }** [الشعراء: 23 - 24]. وفي تفسير البيضاوي: وقيل عنَى به الناس ها هنا، فإنّ كل واحد منهم عالَم من حيث إنّه يشتمل على نظائر ما في العالَم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع، كما يعلم بما أبدعه في العالَم الكبير، ولذلك سوّى بين النظر فيهما، وقال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }** [الذاريات:21] انتهى. أقول: كون كلّ واحدٍ من أفراد الناس أو أكثرهم مشتملاً على نظائر ما في العالَم الكبير كلاً أو جلاً، محل نظر، فربّ إنسان لم يتجاوز عن حدود البهيمية إلى درجة العقل، واشتماله على بعض نظائره غير مختصّ بالإنسان. ويمكن أن يراد بالعالمين ههنا العلماءِ من الإنسان، أما على عرف أصل اللغة فظاهر، وأمّا على المعارف بين الناس، فلأنّ كلُّ عالِم - بالكسر - عالَم - بالفتح - امّا باعتبار انّ فيه من كلّ ما في العالَم الكبير شيء، لأنّ نشاته الكاملة مظهر جميع الأسماء والصفات الإلهيّة ومجمع كلّ الحقائق الكونيّة، كما يعرفه متتبّعوا آيات الآفاق والأنفس، فيكون أنموذجاً لجميع ما في العالَم، فهو بهذا الاعتبار عالَم صغير، ولذلك سمّي بالعالَم الصغير، فكأنّه كتاب مختصر منتخَب من جميع العالَم، لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، كما انّ القرآن مع وجازته مشتمل على جميع ما في الكتب السماويّة، وإما باعتبار انّه إذا برز باطنُه إلى عالَم الآخرة وحشر إلى ربّه، يصير علمه عيناً، وغيبه شهادةً، فكلّ ما يخطر بباله من الأفلاك والعناصر والجنّات والأنهار والحور والقصور وغير ذلك، يكون موجوداً في الخارج من غير مضايقة ومزاحمة فله من كلّ ما يريده ويشتهيه، ولو كان أعظم من هذا العالَم بكثير، فهو بهذا الاعتبار عالَم كبير برأسه، ليس جزءاً من أجزاء هذا العالَم، ولهذا سمّي بالعالم الكبير، بل بالعالَم الأكبر أيضاً نظراً إلى هذا. وتسميته بالعالَم الصغير، إنّما وقع نظراً الى الاعتبار الأوّل، فعلى ما بيّنا زال الإشكال الذي ورد ها هنا من أن الإنسان من العالَم، فكيف يزيد على الكلّ. وقد تكلّف بعض أهل النظر، ممّن يريد أن يطير مع الطيور السماويّة بأجنحة عمليّة صنعَها بيديه وألصقها بجنبيْه في دفع هذا الإشكال بهذا المقال وهو: أنّ أهل الذوق يجعلونَه من حيث الوجود الخارجي وما يشتمل عليه من الأجزاء والأحوال، جزءاً من العالَم حتّى يكونَ العالَم الصغير الذي يكون الإنسان كبيراً بالنسبة إليه هو الموجودات الخارجيّة، والعالَم الكبير هو الإنسان بجميع ما يشتمل عليه من الموجودات الخارجيّة والذهنيّة، فيزيد على العالَم بالموجودات الذهنية، ثم اعترض على نفسه اعتراضاً وارداً لا مدفع له بقوله: فإن قلت: العالَم الكبير أيضاً يشتمل على الموجودات الذهنيّة، إذ العقولُ والنفوس الفلكيةُ ناطقة مدرِكة للأشياء كما هو المشهور بين الفلاسفة. فأجابَ عنه بقوله: قلتُ: أما العقولُ فلا احساس لها مطلقاً. وأما النفوس الفلكيةُ فلا احساس لها بالحواسُ الظاهرة. انتهى. أقول: ولا يخفى ما فيه من الركاكة، فإنّه على تقدير صحّته، لا يثبت إلاّ كونه كبيراً بالنسبة إلى العقول والنفوس، لا بالنسبة إلى مجموع العالَم المشتمل على العقول والنفوس الكلية المدركة للكليّات، وعلى النفوس الجزئية الحيوانيّة المدركة للجزئيات، فالحقّ ما ذكرنا، من أنّ الإنسان الكامل عند خروج روحه عن مشيمة هذه العالَم، ونشر صحيفة ذاته، يكون كما أشار إليه أبو يزيد البسطامي بقوله: لو أنّ العرشَ وما حواه ألف مرّة وقع في زاوية قلب العارف لما ملأه، وقد أشار بعض أكابر العارفين في نظمه إلى هذا المعنى حيث قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **يا خالقَ الأشياءِ في نفسِه** | | **انتَ لِما تخلقُه جامعُ** | | --- | --- | --- | | **تخلقُ ما لا ينتهي كونُه** | | **فيكَ فأنتَ الضيّقُ الواسعُ** | | **من وسعَ الحقَّ فما ضاقَ عن** | | **خلْق فكيفَ الأمرُ يا سامعُ** | فقوله: من وسع الحقّ، إشارة الى الحديث القدسيّ المشهور، أعني **" قوله سبحانه: ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ".** تنبيه [في ان العالم دائم الحدوث] ذكر البيضاوي أنّ فيه دليلاً على أنّ الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدِث حالَ حدوثها، فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقاءِها، بناءً على ما ذكر سابقاً من انّ معنى التربية تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً. وأقول: ليس فيه دليل على ذلك، إذ الشيء التدريجي لمّا كان حصوله على هذا الوجه، فجميع زمان وجوده هو بعينه زمان حدوثه، فالنامي مثلاً، زمان نموّه من أول نشوّه إلى منتهى كماله المقداري هو زمان حدوث مقداره الحاصل له شيئاً فشيئاً، وكفعل الصلاة فإن زمانه من لدن أول تكبيرة الافتتاح، إلى آخر تسليمة الاختتام، كلّه وقت الحدوث لا وقت البقاء. نعمْ، فيه دليل على أن العالَم تدريجيّ الحصول، متدرج في التكوّن. ونحن قد أثبتنا في العلوم البرهانيّة حدوثَ العالَم، بإقامة البراهين القطعيّة على أنّ جواهر هذا العالَم، والصور الطبيعية للأجرام السماويّة والاسطقسيّة، كلها تدريجيّة الكون، سيّالة الحصول، غير قارّة الوجود، كالحركة المتّصلة ومقدارها من الزمان، وهذا التحقيق من المطالب الشريفة، اختصّ بدركها القلوبُ المنوّرة بنور الايمان والتابعيّة، دون النفوس المقتصرة على الأنظار الكلاميّة والآراء الفلسفيّة، وبه يظهر السرّ وينكشف الأمر، في أن خلق السموات والأرض وما بينهما، لماذا كان في ستّة أيام، كما سيجيء بيانه في موضعه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } قرأ القرّاء بضمّ الدّال وكسر الّلام وقرء فى الشواذّ بفتح الدّال وكسر الّلام وقرء ايضاً بكسر الدّال والّلام لاتباع الدّال لّلام ولام الحمد لتعريف الجنس او الاستغراق وعلى اىّ تقدير فالكلام للحصر وهو على تقدير الاستغراق واضح وعلى تقدير الجنسيّة فالحصر يستفاد من لام لله لانّه للاختصاص والحمد امّا بمعنى ما يحمد عليه وصحّ الحصر حينئذٍ مع ما يترائى من صفات الكمال لغيره تعالى لانّ ما للغير من صفات الكمال انّما هى له تعالى حقيقة واتّصاف الغير بها باعتبار مظهريّته لها لا باعتبار انّها من نفسه او بمعناه المصدرىّ وفاعله الله واصله حمدا لله حمداً ثمّ حذف الفعل ونقل المصدر الى الرّفع وادخل عليه لامّ التعريف وجعل الله خبره بتوسط الّلام للدلالة على الثّبات والاستغراق والحصر وحصر الحمد بهذا المعنى فى الله مع تعدّد الحامدين وكثرتهم لما سيأتى فى سورة البقرة عند قوله**{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }** [البقرة: 253] من انّه تعالى فاعل كلّ فعل ظاهر من كلّ فاعل وانّه لا فاعل فى الوجود الاّ الله ولا حول ولا قوّة الاّ بالله ولانّ كلّ مادح اذا كان مدحه حمداً يعنى ثناء على جميل واقعىّ اختيارىّ لا يكون مادحاً الاّ اذا صار عقلانيّاً ناظراً بنظر العقل ومتكلّماً بلسان العقل لا بنظر الجهل ونظر نفسه ولا بلسان الجهل ولسانه، ونظر العقل ولسانه نظر الله ولسانه فحمده يكون حينئذٍ حمدا لله لا حمد غير الله، او بمعناه المصدرىّ والله مفعوله والاصل حمدت الله حمداً فحذف الفعل واقيم المصدر مقامه وادخل عليه الّلام وعدل به الى الرّفع وجعل مفعوله بتوسط الّلام خبراً له هذا باعتبار الحدوث والصدور للمعنى المصدرىّ ويجوز ان يعتبر المصدر مبنيّاً للفاعل او المفعول بمعنى اعتبار ثبوت الحدث للفاعل او المفعول واتّصافه به من غير اعتبار الحدوث والصدور فيه، ويكون المعنى الحامديّة لله او المحموديّة لله. اعلم انّ ما يحمد عليه من صفاته الجماليّة عين ما يسبّح تعالى به من صفاته الجلاليّة لانّ اصل جميع صفاته الثّبوتيّة الجماليّة الّتى يحمد تعالى عليها هو سعة وجوده واحاطته لكلّ وجود وعدم وكلّ موجود ومعدوم لانّ العدم ثابت له نفسه الّتى هى عدم النفسيّة بالوجود والمعدوم محكوم عليه بالعدم بسبب الوجود وسعة وجوده ليست الاّ سعة جملة صفاته واصل جميع صفاته السلبيّة الجلاليّة الّتى يسبّح تعالى بها هو سلب الحدود عنه تعالى وسلب الحدود راجع الى سلب السّلوب ومصداق سلب السّلوب ليس الاّ الوجود وهذا بخلاف الممكنات المحدودات فانّ السّلوب الرّاجعة اليها هى سلوب الوجودات الّتى هى منتزعة من حدود وجوداتها لا من نفس وجوداتها فسبحان من لا يحمد الاّ على ما يسبّح به ولا يسبّح الاّ بما يحمد عليه ولذلك كان قلمّا ينفكّ ذكر التّسبيح عن صريح الحمد او معناه فى الكتاب والسنّة والمراد انشاء الحمد بهذه الكلمة او الاخبار بمحموديّته تعالى ولمّا كان الله اسماً للذّات باعتبار ظهوره والذّات متّحدة مع جميع الصّفات الحقيقيّة وظهور الذّات ظهور لتلك الصّفات كان الكلام فى قوّة ان يقال: الحمد للذّات الجامعة لجميع صفات الكمال لجمعها جميع صفات الكمال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قرء بكسر الباء وفتحها من ربّه بمعنى ملكه او جمعه او ربّاه او اصلحه او صاحبه او لزمه والكلّ مناسب، والربّ صفة مشبّهة او اسم فاعل مخفّف رابّ او مصدر اقيم مقام اسم الفاعل، والعالم من العلم او من العلامة مثل الخاتم بمعنى ما يعلم به ويطلق على ما سوى الله جملة وعلى كلّ مرتبة من مراتب ما سوى الله، وعلى كلّ نوع من انواع الموجودات، وعلى كلّ فرد من افراد الانسان كأنّه اعتبر فى اطلاقه اجتماع امور مع نحو اتّحاد بينها وجمعه بالواو والنّون على خلاف القياس وربوبيّته تعالى ليست كربوبيّة المّلاك للاملاك ولا كربوبيّة الاباء للاولاد، ولا كربوبيّة النّفس للاعضاء، بل كربوبيّة النّفس للقوى من حيث انّها تكون محصّلة للقوى ومقوّمة لها وحافظة ومبلّغة لها الى كمالاتها الاوّليّة والثّانويّة فانّ الله تعالى مفيض الوجود على العالمين وحافظ ومقوّم لها ومبلّغ لها الى كمالاتها الاوّليّة والثّانويّة ولذلك عقّبها بقوله { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير تفسير الأعقم/ الأعقم (ت القرن 9 هـ)
الكلام: في التفسير للحمد: { الحمد } والمدح اخوان وهو الثناء الحسن على الجميل من نعمه وغيرها، تقول: حمدت الرجل على انعامه، وحمدته على حسبَه وشجاعَته، وأما الشكر فهو على النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح، قال: | **افادتكم النعماء مني ثلاثة** | | **يدي ولساني والضمير المحجبا** | | --- | --- | --- | { رب } الرب السيد المَالك، وقيل: سيّد الخلق ومالكهم، وقيل: منشئهم ومربيهم. { العالمين } هم الجن والانس والملائكة. وروي عن زَيد بن علي (عليه السلام) أنه قال: " لله تعالى أربعة عشر ألف عالم: الجن والإنس منها عالم واحد " وعن وهب: " لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم: الدنيا منها عالم واحد " وقيل: كل ذي روح لأن لفظ الرب يدل عليه، وقيل: الخلق جميعهم، وقيل: أهل كل زمان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ الحَمْدُ لِلَّهِ } إخبار بأن الله مالك لجميع الحمد من الخلق، أو مستحق لأن يحمدوه، ومن ذكر الجملة وأراد بها الثناء على الفعل الجميل الاختيار تعظيماً كان محصلا للحمد، ولو لم يقصد الإِنشاء، ولا يجوز قصد الإِنشاء على أن الآية نزلت إخبارا إلا لمن أراد غير الآية، وإلا أن يقال، المعنى قولوا هذه السورة، فحينئذ يجوز لقارئها التصرف في الحمد بالإخبار والإنشاء، لكن الإنشاء بالجملة الاسمية قليل. ومختلف فيه، ولا يحمد الله على صفاته، بل على أفعاله، وقيل بالجواز على إسقاط لفظ الاختيارى من الحد، أو على أن المراد به نفى الضرورة، وصفاته ليست ضرورية، كما أنها ليست اختيارية، لا إله إلا الله، سبحان الله، ولفظ الجلالة لا يدل على فعل ولا صفة، بل على الذات، فهو جامد، وقيل: أصله الاشتقاق من لفظ يدل على معنى العبادة، أو العلو، أو الطرب. أو التحيّر، أو الاحتجاب، أو نحو ذلك، بمعنى خلقه احتجبوا عن رؤيته، بأن حجبهم عنها ومنعهم، وليس هو بمحتجب، وفزعوا إليه واضطربوا وتحيروا، { رَبِّ } سيد { الْعَٰلَمِينَ } أو مالكهم، الناس عاَلم، والملائكة عالم، والجن عالم، والفرس عالم، والجبال عالم، والنبات عالم، والفعل عالم، والاعتقاد عالم، وهكذا كل صنف عالم، الجميع عالمون، جمع تغليبا للعاقل جع قلة. إيذانا بقلتهم بالنسبة إلى قدرته تعالى على خلقه، أصنافا غير الموجودة، وسميت لأن فيها علامة الحدوث. كالتركيب والحلول، وعلامة وجود الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
الحمد والمدح ينتظمهما الاشتقاق الكبير، وهو اتحاد الحروف مع اختلاف ترتيبها ، فالحاء والميم والدّال الموجودة في الحمد هى نفسها حروف " المدح " ولكن بترتيب آخر، والزمخشري يقول بتآخيهما، واختلف الذين عُنوا بشرح كلامه، هل قصده بالتآخي: اتحاد معناهما أو اتحاد حروفهما مع ما ينتظم الكلمات المتنوعة التي تلتقي بالاشتقاق من معنى لطيف قد يظهر مع التأمل الخاطف، وقد يخفي إلا مع التأمل الطويل؟ فالحمد والمدح كالجذب والجبذ في اتحاد الحروف، ووجود معنى يجمع بينهما، والذين فرقوا بين الحمد والمدح راعوا أن الحمد يكون على الأمور التي للمحمود اختيار فيها، بخلاف المدح، فقد يكون في الأمور الطبيعية كمدح الوجه بالحسن، والقامة بالاعتدال، والدرة بالصفاء، ولا يسمى شيء من ذلك حمدا، وعرّفوا الحمد أنه الثناء باللسان على الجميل وقيده بعضهم بكونه اختياريا، ومنهم من زاد على ذلك سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل على أن بعض العلماء يرى أن المدح أيضا لا يكون إلا في الأمور الاختيارية، وإن ورد على غيرها عُدّ من باب المجاز، وتقييد الثناء بكونه على الجميل يخرج الذم فإن الثناء قد يصدق عليه في نحو قولهم (أثنى عليه شرّا) وتقييد الجميل بكونه اختياريا يخرج المحاسن الاضطرارية كالتي أشرنا إليها وهي التي تُمدح - على رأي بعض - ولا تُحمد، وقول بعضهم سواء تعلق بالفضائل أو بالفواضل يقتضي دخول الصفات التي تكون ذات أثر في الغير فيما يُحمد عليه فإن الفضائل جمع فضيلة وهي صفة تقوم بنفس الموصوف لا تتعداه إلى غيره، والفواضل جمع فاضلة وهي ما ينتقل أثره إلى الغير، فسجية الكرم فضيلة، والكرم طبيعة قائمة بنفس الكريم لا تنتقل عنه وإنما ينتقل عنه أثرها وهو الإِحسان إلى الغير ويُعَبر عنه بالفاضلة، والشجاعة طبيعة في نفس الشجاع لا تتعداه إلى غيره وإنما يتعدى أثرها عندما تبعث صاحبها على نصرة المظلومين وإغاثة الملهوفين، ويُعبر عن هذا الأثر بالفاضلة كذلك، واستشكل هذا التعريف بأنه يمنع دخول صفات الله فيما يحمد عليه وهي من أجل المحامد، وسبب المنع هو قيد الاختياري، وأجاب القطب رحمه الله في (التيسير) بأن هذا القيد يراد به إخراج المحاسن الاضطرارية، فلا يمنع من دخول صفات الله تعالى لأنها وإن لم يجز لنا أن نصفها بأنها اختيارية لما يُفهمه هذا الوصف من إمكان تخلي الله تعالى عنها فإنه لا يجوز لنا أيضا أن نقول عنها إنها اضطرارية لما يقتضي ذلك من كون الله سبحانه مضطرا إليها - تعالى الله عن ذلك - ورأي القطب في (الهيميان) أن يستبدل قيد الاختياري بغير الاضطراري لئلا يكون مانعا من دخول صفات الله، ويرى السيد الجرجاني في حاشيته على الكشاف أن كون الصفات مبدأ للاختيارات يزيح المانع من دخولها وتابعه المفسر الشهير أبو السعود حيث قال عن الجميل اختياريا كان أو مبدأ له، وحاصل ذلك أنه لما كانت صفات الله تعالى الذاتية كالحياة والعلم والقدرة والمشيئة سببا لحصول أفعاله الاختيارية كالخلق والإِنعام جاز حمده عليها بل وجب ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واختلف في الحمد والشكر هل هما متحدان؟ أم مختلفان؟ فذهب ابن جرير الطبري وأبو العباس المبرد إلى أنهما بمعنى واحد ونسبه ابن جرير إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب " الحقائق " عن جعفر الصادق وابن عطاء قال القرطبي: وليس بمرضي، واستدل له ابن جرير بصحة قولك: الحمد لله شكرا، وتعقبه ابن عطيه بأنه دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكراً إنما خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم، وأنكر ابن كثير على سلفه ابن جرير جعل الحمد والشكر بمعنى مستندا في هذا الإِنكار على التفرقة التي أوردها المتأخرون بينهما، وتعقبه الشوكاني في (فتح القدير) بأن كلام المتأخرين ليس بحجة على استعمال الكلمات العربية ولا سيما أن ابن جرير قد عضد رأيه بما رواه عن بعض السلف كما عضده بجواز مجيء الشكر مصدرًا للحمد، وفي السنه ما يدل على أن الحمد قد يسد مسد الشكر، فقد أخرج ابن جرير عن الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: **" إذا قلت الحمد لله رب العالمين، فقد شكرت الله فزادك "** وأخرج عبد الرزاق في " المصنف " والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " والخطابي في " الغريب " والبيهقي في " الأدب " والديلمي في " مسند الفردوس " عن عبد الله بن عمرو ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده "** وفيه انقطاع إلى أن الألوسي ذكر أنّ له شاهدا يتقوى به، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحلبى قال: الصلاة شكر والصيام وكل خير تفعله شكر وأفضل الشكر الحمد، وأخرج الطبراني في " الأوسط " بسند ضعيف عن النواس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لئن ردها الله عليَّ لأشكرن ربي " فرجعت فلما رآها قال: " الحمد لله " فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوما أو صلاة فظنوا أنه نسى، فقالوا يا رسول الله قد كنت قلت: " لئن ردها الله عليّ لأشكرن ربي " قال: " ألم أقل الحمد لله " وإنما كان الحمد رأس الشكر وأفضله لأنه إعلان باللسان عن إنعام المنعم، واللسان أقوى دلالة من غيره، وفيما أوردناه ما يؤكد ما قاله ابن عطية من أن الشكر أعم من الحمد فهو يشمل القول والعمل ويدل لذلك قول الله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً }** [سبأ: 13] وقوله سبحانه:**{ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ }** [لقمان: 14] إذ ليس المطلوب من شكر الله، وشكر الوالدين مجرد الاعتراف بالإِحسان وإنما المطلوب القيام بحقوق عبادة الله كما أمر، ومعاملة الوالدين بالإِحسان وهو واضح في قوله سبحانه:**{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً.. الخ }** [الإسراء: 23] وعرف بعض العلماء الشكر لغة بأنه فعل ينبيء عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر سواء كان قولا باللسان أم اعتقادا ومحبة بالجنان، أم عملا وخدمة بالأركان، واستُدُل بذلك بقول الشاعر: | **أفادتكم النعماء مني ثلاثة** | | **يدي ولساني والضمير المحجبا** | | --- | --- | --- | فإن مراده من هذا أن النعماء سخرت لهم يده يخدمهم بها، ولسانه يثني عليهم به، والضمير المحجب يواليهم به، وإذا القينا نظرة على هذا التعريف وجدنا بين الحمد والشكر عموما وجيها، فكل واحد منهما أخص من وجه وأعم من آخر، أما الحمد فهو أخص موردا وأعم متعلقا لأن مورده اللسان وحده ومتعلقه النعمة وغيرها، وأما الشكر فهو بعكس ذلك لأن مورده اللسان والقلب والجوارح ومتعلقه النعمة وحدها، وهذا كما ذكرنا أن الحمد يكون على الفضائل كالشجاعة والكرم وغيرهما، وبعض العلماء جعل تعريف الشكر المذكور نفسه تعريفا للحمد العرفي فيكون بين الحمدين اللغوي والعرفي كالذي بين الحمد والشكر اللغويين من العموم الوجهي، ولست أدري ما هي حجة هؤلاء في جعل الحمد العرفي أعم موردا من الحمد اللغوي بحيث يكون باللسان وغيره، وهؤلاء يرون أن الشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خُلق لأجله، وهو سائغ نظرا إلى أن جميع آلاء الله تعالى تستدعي طاعته والقيام بحسن عبادته، ويؤكد ذلك قوله تعالى:**{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }** [الإنسان: 3] وقوله على لسان سليمان عليه السلام:**{ لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ }** [النمل: 40] على أن بعض العلماء يرى أن الحمد لا يتصور أن يكون عملا لسانيا لا يشامله عمل القلب والجوارح لأن حمد المحمود باللسان وحده من غير استشعار معناه بالقلب ولا تصديق له بالجوارح يعد سخرية واستخفافا، وأُجيب بأن استشعار معني الحمد بالقلب وتصديقه بعمل الجوارح شرطان له وليسا من جوهره ومما يستغرب منه دعوى القرطبي: إن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان، وهو مردود بالأحاديث الصحيحة التي أوردها القرطبي نفسه في تفسيره منها ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن الله ليرضي عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وروى ابن ماجه عن أنس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال **" ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ "** ، وفي الكتاب العزيز ما يدل على أن الحمد يكون في مقابل الإِحسان فالله تعالى يقول تعليما لعباده كيف يحمدونه:**{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا.. }** [الكهف: 1] ويقول**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }** [فاطر: 1] وحكى عن أهل الجنة قولهم وَقَالُواْ**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }** [فاطر: 34- 35] ويستغرب من القرطبي قوله عقب هذا. وعلى هذا الحد قال علماؤنا الحمد أعم من الشكر لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر، فإن هذا الذي ذكره أخيرا يهدم ما بناه أولا حيث اشترط في الحمد أن يكون من غير سبق إحسان، اللهم إلا أن يكون مراده أن الحمد يأتي تارة في مقابل نعمة وتارة بدونها كما صرح به ابن عطية وكما يفيده تعريف الحمد الذي ذكرناه، وإذا كان هذا هو مراد القرطبي فهو معنى صحيح ولكن عبارته لم تف بمطلوبه. و " ال " في الحمد قيل هي للاستغراق وعليه أبو حيان في (البحر) والقرطبي في تفسيره والألوسي " مع بعض تردد " والفخر الرازي في (مفاتيح الغيب) والشوكاني في (فتح القدير) وقطب الأئمة في (الهيميان) ونور الدين السالمي في (طلعة الشمس). وقيل هي للجنس وعليه الزمخشري وكثير من الذين تأثروا برأيه، ووهّم الزمخشري أصحاب الرأي الأول، وحمل خصوم الزمخشري هذا التوهيم على أنه أراد به الانتصار لمذهبه الفاسد في خلق الأفعال فإنه إذا جعلت جميع صنوف المحامد محصورة في الله عز وجل كما يستلزمه القول بالاستغراق فات الزمخشري مطلوبه من جعل العباد الصالحين مستحقين لشيء من الحمد على خلقهم الأفعال الحسنة كما هي عقيدة المعتزلة في أن الإِنسان يستقل بخلق أفعاله استقلالا تاما، وللإِمام نور الدين السالمي رحمه الله في أول " طلعة الشمس " بحث نفيس في هذه المسألة أطال فيه مناقشة الزمخشري في رأيه، غير أن السيد الجرجاني انتصر للزمخشري في حاشيته على " الكشاف " بإيضاح لا يدع مجالاً للشك في أن الزمخشري لم يرد برأيه هذا نصرة مذهبه في خلق الأفعال، فإن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضا، إذ لو وُجِدَ فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وإنما اختار الزمخشري الجنس على الاستغراق لأنه يُسْتَفَاد من جوهر الكلام، ويستلزم اختصاص جميع الأفراد، فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى وانتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية، بل يكون على ما اختاره اختصاص الأفراد بطريق برهاني فيكون أقوى من إثباته ابتداء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذا كان إفراد الحمد على كلا القولين مختصة بالله سبحانه فإن في ذلك ما يفيد أن جميع النعم لا تصدر إلا عنه**{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ }** [النمل: 53] وفي تذكير الإِنسان بذلك تحرير لرقبته من الذل لغير الله تعالى، ورفع للرؤوس حتى لا تتطأطأ لغير عزته وكبريائه، ورفع من معنوية الإِنسان فلا يتعلق قلبه بغير الله سبحانه. وجملة " الحمد لله " قيل إنها خبرية يراد بها الإِخبار عن كون جميع المحامد لله سبحانه وقيل هي خبرية لفظا، إنشائية معنى، والظاهر أن معناها يحتمل الخبر والإِنشاء بحسب قصد المتكلم بها، وأما لفظها فخبري قطعا. " الرب " مأخوذ من ربه يربه بمعنى نماه أو أصلحه أو مَلَكه، ويقال أيضا ربّبَه وربّته ورباه، ويُطلق الرب على الملك كقول النابغة: - | **تخب إلى النعمان حتى تناله** | | **فذلك من ربٍّ تليدي وطارفي** | | --- | --- | --- | ومنه قول الآخر: - | **وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي** | | **وقبلك ربتني فضعت ربوب** | | --- | --- | --- | ويطلق على المالك، واستشهد له بقصة صفوان بن أمية مع أبي سفيان صخر بن حرب عندما نمى إلى أهل مكة بعد فتحها أن المسلمين هُزموا في حربهم مع هوازن وكان أبو سفيان لا تزال الجاهلية مترسبة في نفسه، وكان صفوان لا يزال على شركه فسُرّ أبو سفيان بما سمع، وأخذت الحمية القرشية صفوان فغضب عليه وقال له " في فيك الكثكث لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن " يعني لأن يملكني رجل من قريش - يقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم - أحب إلى من أن يملكني رجل من هوازن، ويُطلق الرب على السيد والمصلح والمدبِّر، وهذه المعاني قريب بعضها من بعض، والله تعالى يربي عباده بالآلاء الظاهرة والباطنة التي يسبغها عليهم وهو مالك أمرهم ومدبره، وجابر كسرهم، ومصلح شأنهم. " العالمين " جمع عالم وفي العالم خلاف! هل هو مأخوذ من العلم أو العلامة؟ فعلى الأول يطلق على ما من شأنه العلم، فيقال عالم البشر وعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الشياطين، وعلى الثاني يطلق على كل ما كان علامة على وجود الله سبحانه فيشمل الكائنات كلها، فإن كل ذرة في الوجود هي حجة قاطعة على وجوده سبحانه، ودليل ساطع على صفاته اللائقة بجلاله، ومن ثمَّ يقول الإِمام ابن أبي نبهان رحمهما الله: " إن كل ذرة في الوجود هي كلمة من كلمات الله سبحانه، دالة على معرفته، ناطقة بتوحيده، وما عداها فهو كالشرح لتلك الكلمة " ونظرا إلى الاختلاف في اشتقاقه كلمة " العالم " وما توحيه القرائن اختلف المفسرون في المراد بالعالمين هنا، فقيل يراد به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما رواه ابن جرير عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وروى عنه أن المراد بالعالمين الإِنس والجن وهو محكي عن سعيد بن جبير ومجاهد واستدل له بقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }** [الفرقان: 1] وقال الفراء وأبو عبيدة: يراد به العقلاء وهم أربعة أمم الإِنس والجن والملائكة والشياطين، ونسبه صاحب المنار إلى الإِمام جعفر الصادق، وأصح هذه الأقوال القول الأول لأن أحسن ما فسر به القرآن القرآن نفسه، والله تعالى يقول:**{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ.. }** [الشعراء: 23- 24] وكل ذرة في الكون هي بحاجة إلى الرعاية والإِصلاح والتنمية من قبل الله تعالى إذ لو تخلى الله سبحانه عن أي كائن في هذا الوجود في أقل من لحظة لما قر له قرار، وتربية الله سبحانه تغمر كل كائن دقيقا كان أو جليلا وما من شيء إلا وهو ناطق بلسان حاله معلنا افتقاره إلى الله ذي الجلال، ومن هنا ساغ أن يجمع العالم - مع صدقه على ما يعقل وما لا يعقل - فيقال العالمون إذ لا فرق بين العاقل وغيره في دلالة حاله على احتياجه إلى واجب الوجود لذاته، ويرى الإمام محمد عبده تغليب العاقل على غيره لنكتة لاحظتها العرب وهي أن لفظ العالم لا يطلق على كل كائن وموجود فيقال عالم الحجر وعالم التراب وإنما يطلق على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه وإن لم تكن منه فيقال عالَم الإِنسان وعالَم الحيوان وعالَم النبات ثم قال ونحن نرى أن هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذى يعطيه لفظ رب لأن فيها مبدأها وهو الحياة والتغذي والتولد، وهذا ظاهر في الحيوان ثم حكى عن أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني أن الحيوان شجرة قطعت رجلها من الأرض فهي تمشي والشجرة حيوان ساخت رجلاه في الأرض فهو قائم في مكانه يأكل ويشرب وإن كان لا ينام ولا يغفل. ويتضح لك مما ذكرناه سابقا أن التربية تظهر في كل شيء وليس ظهورها محصورا في الأصناف التي ذكرها الأستاذ الإِمام، وللعلماء أقوال في جمع العالَم مع أن العالَم اسم جنس يستغرق جميع أفراده من غير أن يجمع وأحسن ما يقال أنه أريد بالجمع إدخال جميع أجناس العالَم المختلفة في مدلول هذه الكلمة بينما يحصل استغراق أفراد هذه الأجناس بالتعريف إذ لو قيل رب العالَم لربما توهم أن المراد به جنس من أجناس العالَم كالبشر أو الملائكة أو الجن، أما بهذه الصيغة فلا يبقى مجال لتوهم ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وتربية الله للعالمين تنقسم إلى قسمين: تكوينية وتشريعية. فالتكوينية ظاهرة على كل شيء ولنأخذ الإِنسان مثلاً لذلك فإن الله أوجده من خلية مهينة حقيرة إذا نظرت بالمجهر لم تكد تبصر لدقتها المتناهية ولكن لم تلبث أن تطورت بأطوار تربية الله المختلفة حتى خرج منها بشر سوي سميع بصير يفكر ويقدر ويدبر ويعلم ويريد، يتميز بقدرات معنوية مع ما أوتيه من قوة حسية، أهلُّه كل ذلك للخلافة في الأرض والاضطلاع بأمانة ثقلت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها، وكل ما يسره الله سبحانه للإِنسان من قوام جسده داخل في حدود تربيته التكوينية. وأما التربية التشريعية فالإِنسان هو المستهدف بها وإن عم أثرها غيره وهى تتمثل في رسالات الله التي بعث بها رسله المصطفين لإِخراج الناس من الظلمات إلى النور وجمع شتاتهم وتوجيه عقولهم وأفكارهم وتصفية فطرهم وطبائعهم وكما أن الخلق لا يكون إلا من الله والبشر مهما أوتوا من قوة لن يخلقوا ذبابا، فإن التشريع الصالح للإِنسانية لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى أما التشريعات البشرية فما هي إلا مصدر شقاء الإِنسانية وبلائها إذ لا يمكن أن تؤلف بين الأجناس المختلفة في العادات والظروف ولا أن تجمع بين الرغبات المتباينة، ولا يصح أن تعتبر من التربية في شيء، وكل من تسول له نفسه فيشرع من الأحكام ما لم يأذن به الله كمن تسول له نفسه بأن يستطيع أن يشارك الله تعالى في خلقه تعالى الله عن ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
{ الْحَمْدُ للَّهِ }. الشأن في الخطاب بأمر مهم لم يسِبق للمخاطب به خطابٌ من نوعه أنْ يُسْتأنَس له قبل إلقاء المقصود وأن يهيَّأَ لتلقيه، وأن يشوق إلى سماع ذلك وتُراضَ نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنُه أن يكون عائقاً عن الانتفاع بالهدى من عناد ومكابرة أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة، فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعِظات والنذُر، ولا تُشرق فيها الحكمة وصحة النظر ما بقي يخالجها العناد والبهتان، وتخامر رشدها نزغات الشيطان، فلما أراد الله أن تكون هذه السورة أُولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفاً نبه الله تعالى قُراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدئوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة الفاتحة من قوله { إياك نعبد } إلى آخر السورة، فإنها تضمنت أصولاً عظيمة أولها التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه { إياك نعبد }. الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبرىء من الحول والقوة تجاه عظمته بما تضمنه { وإياك نستعين }. الثالث الرغبة في التحَلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه { اهدنا الصراط المستقيم }. الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه { صراط الذين أنعمت عليهم }. الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه { غير المغضوب عليهم }. السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموَّه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه { ولا الضالين }. وأنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشِد في إرشاده والمسترشد في تلقيه على كثرتها وتفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيباً. وعسى أن أزيدك من تفصيلها قريباً. وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل وهي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يُتَوِّجُون مناجاتَهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق، ولذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد. فسورة الفاتحة بما تقرر مُنَزَّلَةٌ من القرآن مَنْزلَة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي. وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسَبوا إلى العِي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيىء السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد الله. إن القرآن هدى للناس وتبياناً للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم وآجلهم ومعاشهم ومعادهم ولما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يُهَيَّأَ المخاطبون بها إلى تلقيها ويعرف تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع بهاته التعاليم النافعة وذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد والمكابرة وعن خلط معارفهم بالأغلاط الفاقرة، فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة والنظر من الاتسام بميسم الفضيلة والتخلية عن السفاسف الرذيلة. فالفاتحة تضمنت مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل والإلحاد والدهرية بما تضمنه قوله { مالك يوم الدين } ، وعن الإشراك بما تضمنه { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وعن المكابرة والعناد بما تضمنه { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم، ووصف الصراط بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق ومنه ما هو مشوب بشُبه وغلط، ومَن اعترف بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما، وعن الضلالات التي تعتري العلوم الصحيحة والشرائع الحقة فتذهب بفائدتها وتنزل صاحبها إلى دَركةٍ أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط، وذلك بما تضمنه قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } كما أجملناه قريباً، ولأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم. ولما لُقِّن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جرياً على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر الجميل. قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جُدْعان | **أَأَذْكُرُ حاجتي أَم قَدْ كفاني حَيَاؤُكَ إِنَّ شيمتَك الحَياء إذا أَثنى عليك المرءُ يوماً كفاه عن تَعَرُّضِه الثَّناءُ** | | | | --- | --- | --- | فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مُجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذٍ يُلقِّبُون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذاً من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم **" كلُّ أَمْرٍ ذِي بال لا يُبْدَأ فيه بالحمدُ لله أو بالحمد فهو أقطع "** وقد لُقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد، وكانت سورة الفاتحة لذلك منزَّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعون للأَفهام وأدعى لوعيها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والحمد هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فِعْلاً كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. وقد جعلوا الثناء جنساً للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده. فالثناء الذكر بخير مطلقاً وشذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقاً ولو بَشرَ، ونسبا إلى ابن القطاع وغرَّه في ذلك ما ورد في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم **" من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار "** وإنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية والتعريض بأن من كان متكلماً في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدَعْ، فسمَّى ذكرهم بالشر ثناء تنبيهاً على ذلك. وأما الذي يستعمل في الخير والشر فهو النثاء بتقديم النون وهو في الشر أكثر كما قيل. وأما المدح فقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري وغيره. وقال صاحب «الكشاف» الحمد والمدح أخوان فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير نحوجَبذ وجَذب، وإن ذلك اصطلاح له في «الكشاف» في معنى أُخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح يطلق على الثناء على الجميل الاختياري، لكن هذا فهم غير مستقيم والذي عليه المحققون من شراح «الكشاف» أنه أراد من الأخوة هنا الترادف لأنه ظاهر كلامه ولأنه صريح قوله في «الفائق» «الحمد هو المدح والوصف بالجميل» ولأنه ذكر الذم نقيضاً للحمد إذ قال في «الكشاف» «والحمد نقيضه الذم» مع شيوع كون الذم نقيضاً للمدح، وعُرفُ علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى والذم لا يجامع الحمد وإن لم يكن معناه رفع معنى الحمد بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم وهو المدح يستلزم نفي الأخص وهو الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة، يعني وإن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول زهير | **ومن يجعل المَعْروف في غير أهله يَكُنْ حمده ذمّاً عليه ويندم** | | | | --- | --- | --- | لأن كلام العلماء مبني على الضبط والتدقيق. ثم اختلف في مراد صاحب «الكشاف» من ترادفهما هل هما مترادفان في تقييدهما بالثناء على الجميل الاختياري؟ أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري، وعلى الأول حمله السيد الشريف وهو ظاهر كلام سعد الدين. واستدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى**{ ولكن الله حبب إليكم الإيمان }** الحجرات 7 إذ قال «فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه وهو مدح مقبول عند الناس، قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرضٍ وأخلاق محمودة على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به وقصر المدح على النعت بأمهات الخير وهي كالفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما يتشعب عنها» ا هـ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعلى المحمل الثاني وهو أن يكون قُصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في «حواشي التفسير» فرضاً أو نقلاً لا ترجيحاً بناء على أنه ظاهر كلامه في «الكشاف» و«الفائق» إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل وجعلهما مع ذلك مترادفين. وبهذا يندفع الإشكال عن حمدنا الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة دون صفات الأفعال وإن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضاً ظاهراً فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم يستلزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف، وقد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها، وإما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها يجعلها كالاختيارية، وإما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلاً بالاختيار وإن لم يكن المحمود عليه اختيارياً. وعندي أن الجواب أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلٰهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته ولكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات الله تعالى زيادةٌ في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم الاختيار في صفات الله تعالى دليلاً على زيادة الكمال وفينا دليلاً على النقص، وما كان نقصاً فينا باعتبار مّا قد يكون كمالاً لله تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد، فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف، على أن توجيه الثناء إلى الله تعالى بمادة حمد هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم. الحمد مرفوع بالابتداء في جميع القراءات المروية وقوله لله خبره فلام لله متعلق بالكون والاستقرار العام كسائر المجرورات المخبر بها وهو هنا من المصادر التي أتت بدلاً عن أفعالها في معنى الإخبار، فأصله النصب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله وتقدير الكلام نحمد حمداً لله، فلذلك التزموا حذف أفعالها معها. قال سيبويه هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره وذلك قولك سقياً ورعياً وخيبةً وبؤساً، والحذرَ بدلاً عن احذر فلا يحتاج إلى متعلق وأما قولهم سقياً لك نحو | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **سقْياً وَرعْياً لذاك العاتبِ الزَّارِي** | | | | --- | --- | --- | فإنما هو ليبينوا المعنيَّ بالدعاء. ثم قال بعد أبواب هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء، من ذلك قولك حمداً وشُكراً لا كفراً وعَجباً، فإنما ينتصب هذا على إضمار الفعل كأنك قلت أحمد الله حمداً وإنما اختُزِل الفعل هٰهنا لأنهم جعلوا هذا بدلاً من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدعاء وقد جاء بعض هذا رفعاً يُبتدأ به ثم يبنى عليه أي يخبر عنه ثم قال بعد باب آخر هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدأة مبنياً عليها ما بعدَها، وذلك قولك { الحمد لله } ، والعجبُ لك، والويل له، وإنما استحبوا الرفع فيه لأنه صار معرفة وهو خبر أي غير إنشاء فقوي في الابتداء أي إنه لما كان خبراً لا دعاء وكان معرفة بأَلْ تهيأت فيه أسباب الابتداء لأن كونه في معنى الإخبار يهّيىء جانب المعنى للخبرية وكونه معرفة يصحح أن يكون مبتدأ بمنزلة عبد الله، والرجل، والذي تَعْلم من المعارف لأن الابتداء إنما هو خبر وأحسنه إذا اجتمع معرفة ونكرة أن تبدأ بالأعرف وهو أصل الكلام. وليس كل حرف أي تركيب يصنع به ذاك، كما أنه ليس كل حرف أي كلمة من هذه المصادر يدخل فيه الألف واللام، فلو قلت السقي لك والرعي لك لم يجز يعني يقتصر فيه على السماع. واعلم أن { الحمدُ لله } وإن ابتدأْتَه ففيه معنى المنصوب وهو بدل من اللفظ بقولك أحمد الله. وسمعنا ناساً من العرب كثيراً يقولون الترابَ لك والعجبَ لك، فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة، كأنك قلت حمداً وعجباً، ثم جئت بِلَك لتبين من تعني ولم تجعله مبنياً عليه فتبتدئه». انتهى كلام سيبويه باختصار. وإنما جلبناه هنا لأنه أفصح كلام عن أطوار هذا المصدر في كلام العرب واستعمالهم، وهو الذي أشار له صاحب «الكشاف» بقوله «وأصله النصب بإضمار فعله على أنه من المصادر التي ينصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكراً، وكفراً، وعجباً، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدون بها مسدها، ولذلك لا يستعملونها معها والعدول بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى» الخ. ومن شأن بلغاء العرب أنهم لا يعدلون عن الأصل إلا وهم يرمون إلى غرض عدلوا لأجله، والعدول عن النصب هنا إلى الرفع ليتأتى لهم الدلالةُ على الدوام والثبات بمصير الجملة اسمية والدلالةُ على العموم المستفاد في المقام من أل الجنسية، والدلالةُ على الاهتمام المستفاد من التقديم. وليس واحد من هذه الثلاثة بممكن الاستفادة لو بقي المصدر منصوباً إذ النصب يدل على الفعل المقدر والمقدر كالملفوظ فلا تكون الجملة اسمية إذ الاسم فيها نائب عن الفعل فهو ينادي على تقدير الفعل فلا يحصل الدوام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولأنه لا يصح معه اعتبار التقديم فلا يحصل الاهتمام. ولأنه وإن صح اجتماع الألف واللام مع النصب كما قرىء بذلك وهي لغة تميم كما قال سيبويه فالتعريف حينئذٍ لا يكون دالاً على عموم المحامد لأنه إن قدر الفعل أَحمدُ بهمزة المتكلم فلا يعم إلا تحميدات المتكلم دون تحميدات جميع الناس، وإن قدر الفعل نحمد وأريد بالنون جميع المؤمنين بقرينة { اهدنا الصراط المستقيم } وبقرينة { إياك نعبد } فإنما يعم محامد المؤمنين أو محامد الموحدين كلهم، كيف وقد حمد أهل الكتاب الله تعالى وحمده العرب في الجاهلية. قال أمية بن أبي الصلت | **الحمد لله حمداً لا انقطاعَ له فليس إحسانُه عنا بمقطوع** | | | | --- | --- | --- | أما إذا صار الحمد غير جار على فعل فإنه يصير الإخبار عن جنس الحمد بأنه ثابت لله فيعم كل حمد كما سيأتي. فهذا معنى ما نُقل عن سيبويه أنه قال إن الذي يَرْفع الحمدَ يُخبرُ أنَّ الحمدَ منه ومن جميع الخلق والذي ينصب يُخبرُ أن الحمد منه وحدَه لله تعالى. واعلم أن قراءة النصب وإن كانت شاذة إلا أنها مجدية هنا لأنها دلت على اعتبار عربي في تطور هذا التركيب المشهور، وأَن بعض العرب نطقوا به في حال التعريف ولم ينسوا أصل المفعولية المطلقة. فقد بان أن قوله { الحمد لله } أبلغ من { الحمدَ لله } بالنصب، وأنَّ { الحمدَ لله } بالنصب والتعريف أبلغ من حمداً لله بالتنكير. وإنما كان { الحمد لله } بالرفع أبلغ لأنه دال على الدوام والثبات. قال في «الكشاف» «إن العدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ومنه قوله تعالى**{ قالوا سلاماً قال سلام }** الذاريات 25 رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم عليه السلام حيّاهم بتحيّة أحسنَ من تحيّتهم» ا هـ. فإن قلت وقع الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم الله تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم الله تعالى وإبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا الاهتمام، قلت قدم الحمد لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هو ابتداء أَوْلى النعم بالحمد وهي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين، فتلك المنة من أكبر ما يحمد الله عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما وقد اشتمل القرآن على كمال المعنى واللفظ والغاية فكان خطوره عند ابتداء سماع إنزاله وابتداء تلاوته مذكراً بما لمنزِّله تعالى من الصفات الجميلة، وذلك يذكِّر بوجوب حمده وأن لا يُغفل عنه فكان المقام مقام الحمد لا محالة، فلذلك قدم وأزيل عنه ما يؤذن بتأخره لمنافاته الاهتمام، ثم إن ذلك الاهتمام تأتَّى به اعتبار الاهتمام بتقديمه أيضاً على ذكر الله تعالى اعتداداً بأهمية الحمد العارضةِ في المقام وإن كان ذكر الله أهمَّ في نفسه لأن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لأنها أمر يقتضيه المقام والحال والآخر يقتضيه الواقع، والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال والمقامِ، ولأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه إذ قد يخفى، بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا فائدة في التنبيه عليه بل ولا يفيته التنبيه على غيره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قلت كيف يصح كون تقديم الحمد وهو مبتدأ مؤذناً بالاهتمام مع أنه الأصل، وشأن التقديم المفيد للاهتمام هو تقديم ما حقه التأخير؟ قلت لو سلم ذلك فإن معنى تقديمه هو قصد المتكلم للإتيان به مقدماً مع إمكان الإتيان به مؤخراً لأن للبلغاء صيغتين متعارفتين في حمد الله تعالى إحداهما { الحمدُ الله } كما في الفاتحة والأخرى**{ لله الحمد }** كما في سورة الجاثية 36. وأما قصد العموم فسيتضح عند بيان معنى التعريف فيه. والتعريف فيه بالألف واللام تعريف الجنس لأن المصدر هنا في الأصل عوض عن الفعل فلا جرم أن يكون الدال على الفعل والساد مسده دالاً على الجنس فإذا دخل عليه اللام فهو لتعريف مدلوله لأن اللام تدل على التعريف للمسمى فإذا كان المسمى جنساً فاللام تدل على تعريفه. ومعنى تعريف الجنس أن هذا الجنس هو معروف عند السامع فإذا قلت الحمد لله أو العجب لك فكأنك تريد أن هذا الجنس معروف لديك ولدى مخاطبك لا يلتبس بغيره كما أنك إذا قلت الرجل وأردت معيناً في تعريف العهد النحوي فإنك تريد أن هذا الواحد من الناس معروف بينك وبين مخاطبك فهو في المعنى كالنكرة من حيث إن تعريف الجنس ليس معه كبير معنى إذ تعين الجنس من بين بقية الأجناس حاصل بذكر لفظه الدال عليه لغة وهو كاف في عدم الدلالة على غيره، إذ ليس غيره من الأجناس بمشارك له في اللفظ ولا متوهم دخوله معه في ذهن المخاطب بخلاف تعريف العهد الخارجي فإنه يدل على واحد معين بينك وبين مخاطبك من بين بقية أفراد الجنس التي يشملها اللفظ، فلا يفيد هذا التعريف أعني تعريف الجنس إلا توكيد اللفظ وتقريره وإيضاحه للسامع لأنك لما جعلته معهوداً فقد دللت على أنه واضح ظاهر، وهذا يقتضي الاعتناء بالجنس وتقريبه من المعروف المشهور، وهذا معنى قول صاحب «الكشاف» «وهو نحو التعريف في أُرسلَها العِراكَ ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال» وهو مأخوذ من كلام سيبويه. وليست لام التعريف هنا للاستغراق لما علمت أنها لام الجنس ولذلك قال صاحب «الكشاف» «والاستغراق الذي توهمه كثير من الناس وهم منهم» غير أن معنى الاستغراق حاصل هنا بالمثال لأن الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام تعريف الجنس في قوله { الحمد } ولام الاختصاص في قوله { لله } يستلزم انحصار أفراد الحمد في التعلق باسم الله تعالى لأنه إذا اختص الجنسُ اختصت الأفراد إذ لو تحقق فرد من أفراد الحمد لغير الله تعالى لتحقق الجنس في ضمنه فلا يتم معنى اختصاص الجنس المستفاد من لام الاختصاص الداخلة على اسم الجلالة، ثم هذا الاختصاص اختصاص ادعائي فهو بمنزلة القصر الادعائي للمبالغة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واللام في قوله تعالى { للَّه } يجوز أن يكون للاختصاص على أنه اختصاص ادعائي كما مر، ويجوز أن يكون لام التقوية قوت تعلق العامل بالمفعول لضعف العامل بالفرعية وزاده التعريف باللام ضعفاً لأنه أبعدَ شبهه بالأفعال، ولا يفوت معنى الاختصاص لأنه قد استفيد من تعريف الجزأين. هذا وقد اختلف في أن جملة الحمد هل هي خبر أو إنشاء؟ فإن لذلك مزيد تعلق بالتفسير لرجوعه إلى المعنى بقول القائل الحمد لله. وجماع القول في ذلك أن الإنشاء قد يحصل بنقل المركب من الخبرية إلى الإنشاء وذلك كصيغ العقود مثل بعت واشتريت، وكذلك أفعال المدح والذم والرجاء كعسى ونعم وبئس وهذا الأخير قسمان منه ما استعمل في الإنشاء مع بقاء استعماله في الخبر ومنه ما خص بالإنشاء فالأول كصيغ العقود فإنها تستعمل أخباراً تقول بعت الدار لزيد التي أخبرتك بأنه ساومني إياها فهذا خبر، وتقول بعت الدار لزيد أو بعتك الدار بكذا فهذا إنشاء بقرينة أنه جاء للإشهاد أو بقرينة إسناد الخبر للمخاطب مع أن المخبر عنه حال من أحواله، والثاني كنعم وعسى. فإذا تقرر هذا فقد اختلف العلماء في أن جملة { الحمد لله } هل هي إخبار عن ثبوت { الحمد لله } أو هي إنشاء ثناء عليه إلى مذهبين، فذهب فريق إلى أنها خبر، وهؤلاء فريقان منهم من زعم أنها خبر باق على الخبرية ولا إشعار فيه بالإنشائية، وأورد عليه أن المتكلم بها لا يكون حامداً لله تعالى مع أن القصد أنه يثني ويحْمد الله تعالى، وأجيب بأن الخبر بثبوت الحمد له تعالى اعتراف بأنه موصوف بالجميل إذ الحمد هو عين الوصف بالجميل، ويكفي أن يحصل هذا الوصف من الناس وينقله المتكلم. ويمكن أن يجاب أيضاً بأن المخبر داخل في عموم خبره عند الجمهور من أهل أصول الفقه. وأجيب أيضاً بأن كون المتكلم حامداً قد يحصل بالالتزام من الخبر يريدون أنه لازم عرفي لأن شأن الأمر الذي تضافر عليه الناس قديماً أن يقتدي بهم فيه غيرهم من كل من علمه، فإخبار المتكلم بأنه علم ذلك يدل عرفاً على أنه مقتد بهم في ذلك هذا وجه اللزوم، وقد خفي على كثير أي فيكون مثل حصول لازم الفائدة من الخبر المقررة في علم المعاني، مثل قولك سهرتَ الليلة وأنت تريد أنك علمتَ بسهره، فلا يلزم أن يكون ذلك إنشاء لأن التقدير على هذا القول أن المتكلم يخبر عن كونه حامداً كما يخبر عن كون جميع الناس حامدين فهي خبر لا إنشاء والمستفاد منها بطريق اللزوم معنى إخباري أيضاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويرد على هذا التقدير أيضاً أن حمد المتكلم يصير غير مقصود لذاته بل حاصلاً بالتبع مع أن المقام مقام حمد المتكلم لا حمد غيره من الناس، وأجيب بأن المعنى المطابقي قد يؤتى به لأجل المعنى الالتزامي لأنه وسيلة له، ونظيره قولهم طويل النجاد والمرادُ طول القامة فإن طول النجاد أتى به ليدل على معنى طول القامة. وذهب فريق ثان إلى أن جملة { الحمد لله } هي خبر لا محالة إلا أنه أريد منه الإنشاء مع اعتبار الخبرية كما يراد من الخبر إنشاء التحسر والتحزن في نحو**{ إني وضعتُها أنثى }** آل عمران 36 وقول جعفر بن عُلْبة الحارثي | **هوايَ مع الركْبِ اليمانين مُصِعدُ** | | | | --- | --- | --- | فيكون المقصد الأصلي هو الإنشاء ولكن العدولَ إلى الإخبار لما يتأتى بواسطة الإخبار من الدلالة على الاستغراق والاختصاص والدوام والثبات ووجه التلازم بين الإخبار عن حمد الناس وبين إنشاء الحمد واضح مما علمته في وجه التلازم على التقرير الأول، بل هو هنا أظهر لأن المخبر عن حمد الناس لله تعالى لا جَرَم أنه منشىء ثناء عليه بذلك، وكونُ المعنى الالتزامي في الكناية هو المقصود دون المعنى المطابقي أظهر منه في اعتبار الخبرية المحضة لما عهد في الكناية من أنها لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة الأصل معه، فدل على أن المعنى الأصلي إما غير مراد أو مراد تبعاً لأن مع تدخل على المتبوع. المذهب الثاني أن جملة { الحمد لله } إنشاء محض لا إشعار له بالخبرية، على أنها من الصيغ التي نقلتْها العرب من الإخبار إلى إنشاء الثناء كما نقلتْ صيغَ العقود وأفعالَ المدح والذم أي نقلاً مع عدم إماتة المعنى الخبري في الاستعمال، فإنك قد تقول الحمد لله جواباً لمن قال لمن الحمدُ؟ أو من أَحمد؟ ولكنَّ تعهد المعنى الأصلي ضعيف فيحتاج إلى القرينة. والحق الذي لا محيد عنه أن الحمد لله خبر مستعمل في الإنشاء فالقصد هو الإنشائية لا محالة، وعدل إلى الخبرية لتحمل جملة الحمد من الخصوصيات ما يناسب جلالة المحمود بها من الدلالة على الدوام والثبات والاستغراق والاختصاص والاهتمام، وشيءٌ من ذلك لا يمكن حصوله بصيغةِ إنشاءٍ نحو حمداً لله أو أحمد الله حمداً ومما يدل على اعتبار العرب إياها إنشاء لا خبراً قول ذي الرمة | **ولما جَرَتْ في الجزل جرياً كأنَّه سنا الفجر أَحْدَثْنا لخالقها شكرا** | | | | --- | --- | --- | فعبر عن ذكر لفظ الحمد أو الشكر بالإحداث، والإحداث يرادف الإنشاء لغة فقوله أحدثنا خبر حكى به ما عبر عنه بالإحداث وهو حَمْده الواقع حين التهابها في الحطب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والله هو اسم الذاتِ الواجبِ الوجود المستحق لجميع المحامد. وأصل هذا الاسم الإلٰه بالتعريف وهو تعريف إلاه الذي هو اسم جنس للمعبود مشتق من أَلَهَ بفتح اللام بمعنى عبد، أو من ألِه بكسر اللام بمعنى تحير أو سكن أو فزع أو ولع مما يرجع إلى معنى هو ملزوم للخضوع والتعظيم فهو فِعال بكسر الفاء بمعنى مفعول مثل كتاب، أطلقه العرب على كل معبود من أصنامهم لأنهم يرونها حقيقةً بالعبادة ولذلك جمعوه على آلهة بوزن أَفعلة مع تخفيف الهمزة الثانية مَدَّةً، وأحسب أن اسمه تعالى تقرر في لغة العرب قبل دخول الإشراك فيهم فكان أصل وضعه دالاً على انفراده بالألوهية إذ لا إلٰه غيره فلذلك صار علماً عليه، وليس ذلك من قبيل العلمَ بالغلبة بل من قبيل العلم بالانحصار مثل الشمس والقمر فلا بدع في اجتماع كونه اسمَ جنس وكونه علماً، ولذلك أرادوا به المعبود بحق رداً على أهل الشرك قبل دخول الشرك في العرب وإننا لم نقف على أن العرب أطلقوا الإلٰه معرَّفاً باللام مفرداً على أحد أصنامهم وإنما يضيفون فيقولون إلاه بني فلان والأكثر أن يقولوا رَب بني فلان أو يجمعون كما قالوا لعبد المطلب أَرْضِ الآلهةَ، وفي حديث فتح مكة «وجد رسول الله البيتَ فيه الآلهة». فلما اختص الإلٰه بالإلٰه الواحد واجبِ الوجود اشتقوا له من اسم الجنس علماً زيادة في الدلالة على أنه الحقيق بهذا الاسم ليصير الاسم خاصاً به غير جائز الإطلاق على غيره سَنن الأعلام الشخصية، وأَراهم أبدعوا وأَعجبوا إذ جعلوا علم ذاته تعالى مشتقاً من اسم الجنس المؤذن بمفهوم الألوهية تنبيهاً على أن ذاته تعالى لا تستحضر عند واضع العَلَم وهو الناطق الأول بهذا الاسم من أهل اللسان إلا بوصف الألوهية وتنبيهاً على أنه تعالى أَوْلى من يُؤَلَّه ويُعبد لأنه خالق الجميع فحذفوا الهمزة من الإلٰه لكثرة استعمال هذا اللفظ عند الدلالة عليه تعالى كما حذفوا همزة الأناس فقالوا النَّاس ولذلك أظهروها في بعض الكلام. قال البَعِيث بن حُرَيث. | **معَاذَ الإلٰهِ أَنْ تكون كظبيةٍ ولا دُميةٍ ولا عقيلةِ رَبْرَب** | | | | --- | --- | --- | كما أظهروا همزة الأناس في قول عَبيد بن الأبرص الأسدي | **إن المنَايَا ليطَّلِعْـ ـنَ على الأناس الآمِنِينَ** | | | | --- | --- | --- | ونُزِّل هذا اللفظ في طوره الثالث منزلة الأعلام الشخصية فتصرفوا فيه هذا التصرف لينتقلوا به إلى طَور جديد فيجعلُوه مثل علم جديد، وهذه الطريقة مسلوكة في بعض الأعلام. قال أبو الفتح بن جني في شرح قول تأبط شرا في النشيد الثالث عشر من «الحماسة» | **إِني لمُهْدٍ من ثَنائي فقَاصِدٌ به لابن عم الصدق شُمْسِ بن مَالك** | | | | --- | --- | --- | شُمس بضم الشين وأصله شَمس بفتحها كما قالوا حُجْر وسُلْمَى فيكون مما غُير عن نظائره لأجْل العلمية ا هـ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي «الكشاف» في تفسير سورة أبي لهب بعد أن ذكر أن من القراء من قرأ أبي لهْبٍ بسكون الهاء ما نصه وهي من تغيير الأعلام كقولهم شُمْس بن مالك بالضم ا هـ. وقال قبله «ولفُلَيْتَه بن قاسم أمير مكة ابنان أحدهما عبدِ الله بالجر، والآخر عبدَ الله بالنصب، وكان بمكة رجل يقال له عبدِ الله لا يعرف إلا هكذا» ا هـ. يعني بكسر دال عبد في جميع أحوال إعرابه، فهو بهذا الإيماء نوع مخصوص من العَلَم، وهو أنه أقوى من العلم بالغلَبة لأن له لفظاً جديداً بعد اللفظ المغلَّب. وهذه الطريقة في العلمية التي عرضت لاسم الجلالة لا نظير لها في الأعلام فكان اسمه تعالى غيرَ مشابه لأسماء الحوادث كما أن مسمى ذلك الاسمِ غير مماثل لمسميات أسماء الحوادث. وقد دلوا على تناسيهم ما في الألف واللام من التعريف وأنهم جعلوهما جزءاً من الكلمة بتجويزهم ندَاء اسم الجلالة مع إبقاء الألف واللام إذ يقولون يا الله مع أنهم يمنعون نداء مدخول الألف واللام. وقد احتج صاحب «الكشاف» على كون أصله الإلٰه ببيت البعيث المقدم، ولم يقررْ ناظروه وجه احتجاجه به، وهو احتجاج وجيه لأن مَعَاذ من المصادر التي لم ترد في استعمالهم مضافة لغير اسم الجلالة، مثل سبحان فأجريت مُجرى الأمثال في لزومها لهاته الإضافة، إذ تقول معاذالله فلما قال الشاعر معاذ الإلٰه وهو من فصحاء أهل اللسان علمنا أنهم يعتبرون الإلٰه أصلاً للفظ الله، ولذلك لم يكن هذا التصرف تغييراً إلا أنه تصرف في حروف اللفظ الواحد كاختلافِ وجوه الأداء مع كون اللفظ واحداً، ألا ترى أنهم احتجوا على أن لاَه مخفف الله بقول ذي الأَصبع العَدْواني | **لاَه ابنُ عمِّكَ لا أُفْضِلْتَ في حَسَبٍ عنّى ولا أنتَ ديَّانِي فتَخْزُوني** | | | | --- | --- | --- | وبقولهم لاَه أبوكَ لأن هذا مما لزم حالة واحدة، إذ يقولون لله أبوك ولله ابن عمك ولله أنتَ. وقد ذُكِرتْ وجوه أخر في أصل اسم الجلالة منها أن أصله لاَهٌ مصدر لاه يليه ليهاً إذا احتجب سمي به الله تعالى، ثم أدخلت عليه الألف واللام للمح الأصل كالفضل والمَجد اسمين، وهذا الوجه ذكر الجوهري عن سيبويه أنه جوزه. ومنها أن أصله وِلاَهٌ بالواو فِعال بمعنى مفعول من وله إذا تحيَّر، ثم قلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها، كما قلبت في إعاء وإشاح، أي وِعاء ووشاح، ثم عرف بالألف واللام وحذفت الهمزة. ومنها أن أصله لاَها بالسريانية علم له تعالى فعرب بحذف الألف وإدخال اللام عليه. ومنها أنه علم وضع لاسم الجلالة بالقصد الأوَّلِي من غير أخذ من أَلِهَ وتصييرِه الإلٰه فتكون مقاربته في الصورة لقولنا الإلٰه مقاربةً اتفاقيةً غير مقصودة، وقد قال بهذا جمع منهم الزجاج ونسب إلى الخليل وسيبويه، ووجَّهه بعض العلماء بأن العرب لم تهمل شيئاً حتى وضعت له لفظاً فكيف يتأتى منهم إهمال اسم له تعالى لتجري عليه صفاته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد التُزم في لفظ الجلالة تفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبل لفظه وحاول بعض الكاتبين توجيه ذلك بما لا يسلَم من المنع، ولذلك أبَى صاحب «الكشاف» التعريج عليه فقال «وعلى ذلك أي التفخيم العرب كلهم، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابراً عن كابر». وإنما لم يقدم المسند المجرور وهو متضمن لاسم الجلالة على المسند إليه فيقال لله الحمد، لأن المسند إليه حَمْد على تنزيل القرآن والتشرف بالإسلام وهما منة من الله تعالى فحمده عليهما عند ابتداء تلاوة الكتاب الذي به صلاح الناس في الدارين فكان المقام للاهتمام به اعتباراً لأهمية الحمد العارضة، وإن كان ذكر الله أهم أصالة فإن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لاقتضاء المقام والحالِ، والبلاغة هي المطالبة لمقتضى الحال، على أن الحمد لما تعلق باسم الله تعالى كان في الاهتمام به اهتمام بشؤون الله تعالى. ومن أعجب الآراء ما ذكره صاحب «المنهل الأصفى في شرح الشفاء» التلمساني عن جمع من العلماء القول بأن اسم الجلالة يمسك عن الكلام في معناه تعظيماً وإجلالاً ولتوقف الكلام فيه على إذن الشارع. { رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }. وصف لاسم الجلالة فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيهاً على الاستحقاق الذاتي، عقبَ بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقاً به أيضاً لأن وصف المتعلَّق متعلَّق أيضاً، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال**{ يوم يقوم الناس لرب العالمين }** المطففين 6 ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضاً للحمد كما استحقه بذاته. وقد أجرى عليه أربعة أوصاف هي رب العالمين، الرحمٰن، الرحيم، مالك يوم الدين، للإيذان بالاستحقاق الوصفي فإن ذكر هذه الأسماء المشعرة بالصفات يؤذن بقصد ملاحظة معانيها الأصلية، وهذا من المستفادات من الكلام بطريق الاستتباع لأنه لما كان في ذكر الوصف غنية عن ذكر الموصوف لا سيما إذا كان الوصف منزلاً منزلة الاسم كأوصافه تعالى وكان في ذكر لفظ الموصوف أيضاً غُنية في التنبيه على استحقاق الحمد المقصود من الجملة عَلمنا أن المتكلم ما جمع بينهما إلا وهو يشير إلى أن كِلاَ مَدلُولَيْ الموصوف والصفة جدير بتعلق الحمد له مع ما في ذكر أوصافه المختصة به من التذكير بما يُميزه عن الآلٰهة المزعومة عند الأمم من الأصنام والأوثان والعناصر كما سيأتي عند قوله تعالى { مالك يوم الدين }. والرب إما مصدر وإما صفة مشبهة على وزن فَعْل مِنْ رَبَّه يَرُبُّه بمعنى رباه وهو رَب بمعنى مُرَبَ وسائس. والتربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجاً، ويجوز أن يكون من ربه بمعنى ملَكَه، فإن كان مصدراً على الوجهين فالوصف به للمبالغة، وهو ظاهر، وإن كان صفة مشبهة على الوجهين فهي واردة على القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون على فَعْل من فعَل يفعُل إلا قليلاً، من ذلك قولهم نمّ الحديث ينُمُّه فهو نَمٌّ للحديث. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والأظهر أنه مشتق من ربَّه بمعنى رباه وساسه، لا من ربه بمعنى ملكه لأن الأول الأنسب بالمقام هنا إذ المراد أنه مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها، ولأنه لو حمل على معنى المالك لكان قوله تعالى بعد ذلك { مالك يوم الدين } كالتأكيد والتأكيد خلاف الأصل ولا داعي إِليه هنا، إلا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلا عوالم الدنيا، فيحتاج إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا، وإن كان الأكثر في كلام العرب ورود الرب بمعنى الملك والسيد وذلك الذي دعا صاحب «الكشاف» إلى الاقتصار على معنى السيد والملك وجوز فيه وجهي المصدرية والصفة، إلا أن قرينة المقام قد تصرف عن حمل اللفظ على أكثر موارده إلى حمله على ما دونه فإن كلا الاستعمالين شهير حقيقي أو مجازي والتبادر العارض من المقام المخصوص لا يقضي بتبادر استعماله في ذلك المعنى في جميع المواقع كما لا يخفي. والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقاً ولا مقيداً لما علمت من وزنه واشتقاقه. قال الحرث بن حلزة | **وهُوَ الرب والشهيدُ على يو م الحِيارَيْن والبلاء بلاء** | | | | --- | --- | --- | يعني عَمْرو بن هند. وقال النابغة في النعمان بن الحارث | **تخُبُّ إلى النعمان حتى تناله فِدًى لك من ربٍّ طرِيفي وتالدي** | | | | --- | --- | --- | وقال في النعمان بن المنذر حين مرض | **ورَبٌّ عليه الله أحسن صنعه وكان له على البرية ناصرا** | | | | --- | --- | --- | وقال صاحب «الكشاف» ومن تابعه إنه لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً أو لم يأتوا على ذلك بسند وقد رأيتَ أن الاستعمال بخلافه، أما إطلاقه على كل من آلهتهم فلا مرية فيه كما قال غاوي بن ظالم أو عباس بن مرداس | **أَرَبٌّ يبولُ الثُّعْلُبَانُ برأْسِه لقد هان من بالت عليه الثعالبُ** | | | | --- | --- | --- | وسموا العزى الرَّبة. وجمْعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى؟ وأما إطلاقه مضافاً أو متعلقاً بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان. وقد ورد الإطلاق في الإسلام أيضاً حين حكى عن يوسف عليه السلام قوله**{ إنه ربي أحسن مثواي }** يوسف 23 إذا كان الضمير راجعاً إلى العزيز وكذا قوله**{ أأرباب متفرقون خير }** يوسف 39 فهذا إطلاق للرب مضافاً وغير مضاف على غير الله تعالى في الإسلام لأن اللفظ عربي أطلق في الإسلام، وليس يوسفُ أطلَقَ هذا اللفظ بل أطلق مرادفه فلو لم يصح التعبير بهذا اللفظ عن المعنى الذي عبر به يوسف لكان في غيره من ألفاظ العربية مَعْدَل، إنما ورد في الحديث النهي عن أن يقول أحد لسيده ربي وليقل سيدي، وهو نهي كراهة للتأديب ولذلك خص النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفاً كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع دابره وجوزوا أن يقول رب الدابة ورب الدار، وأما بالإطلاق فالكراهة أشد فلا يقل أحد للملك ونحوه هذا رب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والعالمين جمع عالم قالوا ولم يجمع فاعَلٌ هذا الجمع إلا في لفظين عالَم وياسم، اسم للزهر المعروف بالياسمين، قيل جمعوه على يَاسَمُون وياسَمِين قال الأعشى | **وقابَلَنَا الجُلُّ والياسمـ ـونَ والمُسْمِعات وقَصَّابها** | | | | --- | --- | --- | والعالم الجنس من أجناس الموجودات، وقد بنته العرب على وزن فاعل بفتح العين مشتقاً من العِلْم أو من العلامة لأن كل جنس له تميز عن غيره فهو له علامة، أو هو سببُ العلم به فلا يختلط بغيره. وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالباً كخاتم وقالب وطابع فجعلوا العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع، أو العلم بالحقائق. ولقد أبدع العرب في هذه اللطيفة إذ بنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعل لهذه النكتة، ولقد أبدعوا إذ جمعوه جمع العقلاء مع أن منه ما ليس بعاقل تغليباً للعاقل. وقد قال التفتزاني في «شرح الكشاف» «العالم اسم لذوي العلم ولكل جنس يعلم به الخالق، يقال عالم الملك، عالم الإنسان، عالم النبات يريد أنه لا يطلق بالإفراد إلا مضافاً لنوع يخصصه يقال عالم الإنس عالم الحيوان، عالم النبات وليس اسماً لمجموع ما سواه تعالى بحيث لا يكون له إجراء فيمتنع جمعه» وهذا هو تحقيق اللغة فإنه لا يوجد في كلام العرب إطلاق عالم على مجموع ما سوى الله تعالى، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام في قولهم العالم حادث فهو من المصطلحات. والتعريف فيه للاستغراق بقرينة المقام الخطابي فإنه إذا لم يكن عهد خارجي ولم يكن معنى للحمل على الحقيقة ولا على المعهود الذهني تمحض التعريف للاستغراق لجميع الأفراد دفعاً للتحكم فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة وهو معنى قول صاحب «الكشاف» «ليشمل كل جنس مما سُمِّي به» إلا أن استغراق الأجناس يستلزم استغراق أفرادها استلزاماً واضحاً إذ الأجناس لا تقصد لذاتها لا سيما في مقام الحكم بالمربوبية عليها فإنه لا معنى لمربوبية الحقائق. وإنما جمع العالم ولم يُؤت به مفرداً لأن الجمع قرينة على الاستغراق، لأنه لو أُفرد لتوهم أن المراد من التعريف العهد أو الجنس فكان الجمع تنصيصاً على الاستغراق، وهذه سنة الجموع مع ال الاستغراقية على التحقيق، ولما صارت الجمعية قرينة على الاستغراق بطل منها معنى الجماعات فكان استغراق الجموع مساوياً لاستغراق المفردات أو أشمل منه. وبطل ما شاع عند متابعي السكاكي من قولهم استغراق المفرد أشْمَل كما سنبينه عند قوله تعالى**{ وعلم آدم الاسماء كلها }** البقرة 31. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ)
قوله تعالى { الْحَمْدُ للهِ }. لم يذكر لحمده هنا ظرفاً مكانياً ولا زمانياً. وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية السماوات والأرض في قوله**{ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }** الروم 18 الآية - وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية الدنيا والآخرة في قوله**{ وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ }** القصص 70 الآية - وقال في أول سورة سبأ**{ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ }** سبأ 1 والألف واللام في { الْحَمْدُ } لاستغراق جميع المحامد. وهو ثناء أثنى به تعالى على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه به. وقوله تعالى { رَبِّ الْعَالَمِينَ }. لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله**{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }** الشعراء 23-24 الآية. قال بعض العلماء اشتقاق العالم من العلامة، لأن وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه متصفاً بصفات الكمال والجلال. قال تعالى**{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }** آل عمران 190 والآية في اللغة العلامة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري (مـ 1921م)
شرح الكلمات: الحمـد: الوصف بالجميل، والثناء به على المحمود ذي الفضائل والفواضل، كالمدح والشكر. للـه: اللام حرف جر ومعناها الاستحقاق أي أن الله مستحق لجميع المحامد والله علم على ذات الرب تبارك وتعالى. الـرب: السيد المالك المصلح المعبود بحق جل جلاله. العالميـن: جمع عالم وهو كل ما سوى الله تعالى، كعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الانس وعالم الحيوان، وعالم النبات. معنى الآية: يخبر تعالى أن جميع أنواع المحامد من صفات الجلال والكمال هي له وحده دون من سواه؛ إذ هو رب كل شيء وخالقه ومالكه. وأن علينا أن نحمده ونثني عليه بذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ ٱلْعَالَمِينَ } (2) - الثَّنَاءُ الجَمِيلُ بِكُلِّ أَنْوَاعِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ للهِ وَحْدَهُ، وَنُثْنِي عَلَيْهِ الثَّنَاءَ لأَِنَّهُ مُنْشِيءُ المَخْلُوقَاتِ، والقَائمُ عَلَيْهَا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
الحمدُ: الثناءُ على الجميل سواءً كان نعمةً مُسْداةً إلى أحدٍ أم لا، يقال: حَمِدْتُ الرجل على ما أنعم به عليَّ وحَمِدْته على شجاعته، ويكون باللسان وحدَه دونَ عملِ الجَواح، إذ لا يقال: حَمِدْت زيداً أي عَمِلْتُ له بيديَّ عملاً حسناً، بخلافِ الشكر فإنه لا يكونُ إلاَّ نعمةً مُسْدَاةً إلى الغيرِ، يقال: شكرتُه على ما أعطاني، ولا يقال: شكرتُه على شجاعته، ويكون بالقلب واللسان والجوارح، قال تعالى:**{ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً }** [سبأ: 13], وقال الشاعر: | **34ـ أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ مني ثلاثةً** | | **يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبا** | | --- | --- | --- | فيكونُ بين الحمد والشكر عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ. وقيل: الحمدُ هو الشكرُ بدليل قولهم: " الحمدُ لله شكراً ". وقيل: بينهما عمومٌ/ وخصوصٌ مطلقٌ والحمدُ أعمُّ من الشكرِ، وقيل: الحمدُ الثناءُ عليه تعالى بأوصافه، والشكرُ الثناءُ عليه بأفعالِه، فالحامدُ قسمان: شاكرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجميلة. وقيل: الحمدُ مقلوبٌ من المدحِ، وليس بسديدٍ وإن كان منقولاً عن ثعلب، لأن المقلوبَ أقلُّ استعمالاً من المقلوب منه، وهذان مستويان في الاستعمال، فليس ادِّعاءُ قلبِ أحدِهما من الآخر أَوْلَى من العكس، فكانا مادتين مستقلتين، وأيضاً فإنه يَمْتنع إطلاقُ المدحِ حيث يجوزُ إطلاقُ الحمدِ، فإنه يقال: " حَمِدْتُ الله " ولا يقال مَدَحْته، ولو كان مقلوباً لَما امتنع ذلك. ولقائلٍ أن يقول: مَنَعَ من ذلك مانعٌ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك. وقال الراغب: " الحمدُ لله الثناء [عليه] بالفضيلة، وهو أخصُّ من المدحِ وأعمُّ من الشكر، يقال فيما يكونُ من الإِنسان باختياره وبما يكونُ منه وفيه بالتسخير، فقد يُمْدَحُ الإِنسان بطولِ قامتهِ وصَباحةِ وجههِ كما يُمْدَحُ ببذلِ مالِه وشجاعتهِ وعلمهِ، والحمدُ يكون في الثاني دونَ الأول، والشكرُ لا يُقال إلا في مقابلةِ نعمة، فكلُّ شكرٍ حَمْدٌ وليس كل حمدٍ شكراً، وكلُّ حَمْدٍ مَدْحٌ وليس كلُّ مَدْحٍ حمداً، ويقال: فلان محمود إذا حُمِد، ومُحْمَدٌ [وُجد محموداً] ومُحَمَّد كَثُرت خصالُه المحمودة، وأحْمَدُ أي: إنه يفوق غيرَه في الحمد ". والألفَ واللامُ في " الحَمْد " قيل: للاستغراقِ وقيل: لتعريفِ الجنسِ، واختاره الزمخشري، قال الشاعر: | **35ـ..........................** | | **إلى الماجِدِ القَرْمِ الجَوادِ المُحَمَّدِ** | | --- | --- | --- | وقيل: للعَهْدِ. وَمَنع الزمخشري كونَها للاستغراق، ولم يبيِّنْ وجهَ ذلك، ويُشْبِه أن يقال: إنَّ المطلوبَ من العبد إنشاء الحمد لا الإِخبارُ به وحينئذ يستحيلُ كونُها للاستغراقِ، إذ لا يُمْكنُ العبدَ أن يُنْشِئَ جميعَ المحامدِ منه ومن غيرِه بخلافِ كونِها للجنسِ. والأصلُ فيه المصدريةُ فلذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمع، وحكى ابنُ الأعرابي جمعَه على أَفْعُل وأنشد: | **36ـ وأَبْلَجَ محمودِ الثناء خَصَصْتُه** | | **بأفضلِ أقوالي وأفضلِ أَحْمُدي** | | --- | --- | --- | وقرأ الجمهور: " الحمدُ لِلَّه " برفع الدال وكسر لام الجر، ورفعُه على الابتداء، والخبرُ الجار والمجرور بعده فيتعلَّقُ بمحذوف هو الخبرُ في الحقيقة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَه اسماً وهو المختار، وإنْ شئتَ قدَّرْتَه فِعْلاً، أي: الحمدُ مستقرٌّ لله أو استقرَّ لله. والدليلُ على اختيار القول الأولِ أنَّ ذلك يتعيَّن في بعض الصور فلا أدلُّ من ترجيحه في غيرها، وذلك أنك إذا قلت: " خرجت فإذا في الدار زيدٌ " ، و " أمَّا في الدار فزيدٌ " ، يتعيَّن في هاتين الصورتين تقديرُ الاسم، لأن إذا الفجائية وأمَّا التفصيلية لا يليهما إلا المبتدأ. وقد عورض هذا اللفظُ بأنه يتعيَّن تقديرُ الفعلِ في بعضِ الصور، وهو ما إذا ما وقع الجارُّ والمجرورُ صلةً لموصولٍ، نحو: " الذي في الدار " فليكنْ راجحاً في غيره. والجوابُ أن ما رَجَّحْنا به هو من باب المبتدأ والخبر وليس أجنبياً فكان اعتباره أولى، بخلاف وقوعه صلةً، والأولُ غيرُ أجنبي. ولا بُد من ذِكْر قاعدةٍ ههنا لعموم فائدتها، وهي أنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ إذا وَقَعا صلة أو صفة أو حالاً أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ، وذلك المحذوفُ لا يجوز ظهورهُ إذا كان كوناً مطلقاً، فأمَّا قول الشاعر: | **37ـ لكَ العِزُّ إنْ مَوْلاكَ عَزَّ وإنْ يَهُنْ** | | **فأنت لدى بُحْبوحَةِ الهُونِ كائِنُ** | | --- | --- | --- | فشاذٌّ لا يُلتفَتُ إليه. وأمَّا قوله تعالى:**{ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ }** [النمل: 40] فلم يَقْصِدْ جَعْلَ الظرفِ ثابتاً فلذلك ذكرَ المتعلِّقَ به. ثم ذلك المحذوفُ يجوز تقديرُه باسم أو فعل إلا في الصلة فإنه يتعيَّن أن يكون فعلاً، وإلاَّ في الصورتين المذكورتين فإنه يتعيَّنُ أَنْ يكونَ اسماً. واختلفوا: أيُّ التقديرين أولى فيما عدا الصورَ المستثناةَ؟ فقوم رجَّحوا تقديرَ الاسمِ، وقومٌ رجَّحوا تقديرَ الفعلِ، وقد تقدَّم دليلُ الفريقين. وقرئ شاذاً بنصب الدال من " الحمد " ، وفيه وجهان: أظهرهُما أنه منصوبٌ على المصدرية، ثم حُذِف العاملُ، وناب المصدرُ مَنَابَه، كقولهم في الإِخبار: " حمداً وشكراً لا كُفْراً " ، والتقدير: أَحْمَدُ الله حَمْداً فهو مصدرٌ نابَ عن جملة خبرية. وقال الطبري: إن في ضمنه أمرَ عبادِه أن يُثْنوا به عليه، فكأنه قال: قولوا الحمدَ لله، وعلى هذا يجييء " قولوا إياك " فعلى هذه العبارة يكون من المصادر النائبة عن الطلب لا الخبر، وهو محتملٌ للوجهين، ولكنَّ كونَه خبرياً أَوْلَى من كونه طلبياً؛ ولا يجوز إظهارُ هذا الناصبِ لِئلاّ يُجْمَع بين البدلِ والمُبْدلِ منه. والثاني: أَنه منصوبٌ على المفعول به أي اقرؤوا الحمدَ، أو اتلوا الحمدَ، كقولهم: " اللهم ضَبُعاً وذئْباً " ، أي اجمَعْ ضبُعاً، والأولُ أحسن للدلالةِ اللفظيةِ. وقراءةُ الرفع أَمْكَنُ وأَبْلَغُ من قراءة النصب، لأنَّ الرفعَ في بابِ المصادر التي أصلُها النيابةُ عن أفعالها يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، ولذلك قال العلماء: إن جوابَ خليل الرحمن عليه السلام في قوله تعالى حكايةً عنه: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قَالَ سَلاَمٌ }** [هود: 69] أحسنُ مِنْ قول الملائكة " قالوا سلاماً " ، امتثالاً لقوله تعالى:**{ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ }** [النساء: 86]. و " لله " على قراءة النصب يتعلَّق بمحذوفٍ لا بالمصدرِ لأنها للبيان تقديره: أَعْنِي لله، كقولهم: سُقْياً له وَرَعْياً لك، تقديرهُ: أعني له ولك، ويدلُّ على أن اللام تتعلق في هذا النوع بمحذوفٍ لا بنفسِ المصدرِ أنهم لم يُعْمِلوا المصدرِ المتعدي في المجرورِ باللام فينصبوه فيقولوا: / سُقياً زيداً ولا رَعْياً عمراً، فدلَّ على أنه ليس معمولاً للمصدرِ، ولذلكَ غَلِظَ مَنْ جعلَ قولَه تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ }** [محمد: 8] من باب الاشتغالِ لأنَّ " لهم " لم يتعلَّق بِتَعْساً كما مَرَّ. ويحتمل أن يقال: إنَّ اللام في " سُقياً لك " ونحوِه مقويةٌ لتعدية العاملِ لكونِه فَرْعاً فيكونُ عاملاً فيما بعدَه. وقُرئ أيضاً بكسرِ الدال، ووجهُه أنها حركةُ إتباعٍ لكسرةِ لامِ الجر بعدها، وهي لغة تميم وبعض غطفان، يُتْبِعُون الأول للثاني للتجانس، ومنه: " اضربِ الساقَيْنُ أُمُّك هابِلُ " ، بضم نون التثنية لأجل ضمِّ الهمزة. ومثله: | **38ـ وَيْلِمِّها في هواءِ الجَوِّ طالبةً** | | **ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبٌ** | | --- | --- | --- | الأصل: ويلٌ لأُِمها، فَحَذَفَ اللامَ الأولى، واستثقل ضمَّ الهمزةِ بعد الكسرة، فَنَقَلها إلى اللام بعد سَلْب حركتها، وحَذَفَ الهمزةَ، ثم أَتْبع اللامَ الميمَ، فصار اللفظ: وَيْلِمِّها، ومنهم مَنْ لا يُتبع، فيقول: وَيْلُمِّها بضم اللام، قال: | **39ـ وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها** | | **فَجْعٌ وَوَلْعٌ [وإخلافٌ وتَبِدِيلُ]** | | --- | --- | --- | ويُحتمل أن تكونَ هذه القراءة من رفعٍ وأن تكونَ مِنْ نصبٍ، لأنَّ الإِعرابَ مقدرٌ مَنَعَ من ظهورِه حركةُ الإِتباعِ. وقُرئ أيضاً: " لُلَّهِ " بضمِّ لامِ الجرِّ، قالوا: وهي إتباعٌ لحركة الدالِ، وفضَّلها الزمخشري على قراءة كسر الدال معتلاً لذلك بأنَّ إتباع حركة البناء لحركة الإِعراب أحسنُ من العكس وهي لغةُ بعضِ قيس، يُتْبعون الثاني للأول نحو: مُنْحَدُرٌ ومُقُبلِين، بضمِّ الدالِ والقافِ لأجلِ الميم، وعليه قُرئ:**{ مُرْدِفين }** [الأنفال: 9] بضمِّ الراءِ إتباعاً للميمِ، فهذه أربعُ قراءاتٍ في " الحمدُ لله " وقد تقدَّم توجيهُ كلٍّ منها. ومعنى لام الجر هنا الاستحقاقُ، أي الحمدُ مستحقٌ لله، ولها معانٍ أُخَرُ، نذكرها الآن، وهي الملك والاستحقاق [نحو:] المالُ لزيد، الجُلُّ للفرس، والتمليك نحو: وَهَبْتُ لك وشبهِه، نحو:**{ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً }** [النحل: 72]، والنسب نحو: لزيد عَمُّ " والتعليلُ نحو:**{ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ }** [النساء: 105] والتبليغ نحو: قلتُ لك، والتعجبُ في القسم خاصة، كقوله: | **40ـ للهِ يَبْقى على الأيام ذو حِيَدٍ** | | **بمُشْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والآسُ** | | --- | --- | --- | والتبيين نحو: قوله تعالى:**{ هَيْتَ لَكَ }** [يوسف: 23]، والصيرورةُ نحو قوله تعالى:**{ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }** [القصص: 8]، والظرفية: إمَّا بمعنى في، كقوله تعالى:**{ وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ }** [الأنبياء: 47]، أو بمعنى عِنْد، كقولهم: " كتبتُه لخمسٍ " أي عند خمس، أو بمعنى بَعْدَ، كقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ }** [الإسراء: 78] أي: بعد دلوكها، والانتهاء، كقوله تعالى:**{ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ }** [فاطر: 13]، والاستعلاء نحو قوله تعالى:**{ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ }** [الإسراء: 109] أي على الأذقان، وقد تُزاد باطِّراد في معمول الفعل مقدَّماً عليه كقوله تعالى:**{ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }** [يوسف: 43] أو كان العاملُ فَرْعاً، نحوُ قولِه تعالى:**{ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }** [هود: 107] وبغيرِ اطًِّراد نحو قوله: | **41ـ ولمَّا أَنْ توافَقْنا قليلاً** | | **أنَخْنا للكلاكِل فارتَمَيْنا** | | --- | --- | --- | وأمَّا قوله تعالى:**{ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم }** [النمل: 72] فقيلَ: على التضمين. وقيل هي زائدة. قوله { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }: الربُّ لغةً: السيِّدُ والمالك والثابِت والمعبود، ومنه: | **42ـ أَرَبٌّ يبول الثُّعْلُبان برأسه** | | **لقد هانَ مَنْ بالَتْ عليه الثعالبُ** | | --- | --- | --- | والمُصْلِح. وزاد بعضُهم أنه بمعنى الصاحب وأنشد: | **43ـ قَدْ ناله ربُّ الكلاب بكفِّه** | | **بيضٌ رِهافٌ ريشُهُنَّ مُقَزَّعُ** | | --- | --- | --- | والظاهرُ أنه هنا بمعنى المالك، فليس هو معنى زائداً، وقيل: يكون بمعنى الخالق. واختلف فيه: هل هو في الأصل وصفٌ أو مصدرٌ؟ فمنهم مَنْ قال: هو وصفٌ ثم اختلف هؤلاء في وزنه، فقيل: هو على وزن فَعَل كقولك: نَمَّ يَنُمُّ فهو نَمٌّ، وقيل: وزنه فاعِل، وأصله رابٌّ، ثم حُذفت الألف لكثرةِ الاستعمال، كقولهم: رجل بارٌّ وبَرٌّ. ولِقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّم أنَّ بَرَّاً مأخوذٌ من بارّ بل هما صيغتان مستقلتان فلا ينبغي أن يُدَّعى أن ربَّاً أصله رابٌّ. ومنهم من قال: هو مصدَر ربَّهُ يَرُبُّه رَبَّاً أي مَلَكَه، قال: " لأَنْ يَرُبَّني رجلٌ من قريش أحبُّ إليَّ أن يَرُبِّني رجلٌ من هوازن " ، فهو مصدَرٌ في معنى الفاعل، نحو: رجل عَدْلٌ وصَوم، ولا يُطلق على غير الباري تعالى إلا بقيدِ إضافة، نحو قوله تعالى:**{ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ }** [يوسف: 50]، ويقولون: " هو ربُّ الدار وربُّ البعير " وقد قالَتْه الجاهلية للمَلِك من الناس من غير قَيْدٍ، قال الحارث بن حلزة: | **44ـ وهو الربُّ والشهيدُ على يَوْ** | | **مِ الحِيَارَيْنِ والبلاءُ بلاءُ** | | --- | --- | --- | وهذا من كفرهم. وقراءةُ الجمهور مجروراً على النعت لله أو البدل منه، وقُرئ منصوباً، وفيه ثلاثةُ أوجه: إمَّا [منصوبٌ] بما دَلَّ عليه الحمدُ، تقديره: أَحْمَدُ ربِّ العالمين، أو على القطعِ من التبعِيَّة أو على النداء وهذا أضعفُها؛ لأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف. وقُرئ مرفوعاً على القَطْعِ من التبعيَّة فيكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي هو ربُّ. وإذا قصد عُرِض ذِكْرُ القَطْعِ في التبعية فلنستطرِدْ ذكرَه لعمومِ الفائدةِ في ذلك: اعلم أن الموصوف إذا كان معلوماً بدون صفتهِ وكانَ الوصفُ مدحاً، أو ذَمَّاً أو ترحُّماً جاز في الوصفِ [التابع] الإِتباعُ والقطعُ، والقطعُّ إمَّا على النصب بإضمار فعل لائقٍ، وإمَّا على الرفع على خبر مبتدأ محذوف، ولا يَجُوز إظهارُ هذا الناصبِ ولا هذا المبتدأ، نحو قَولِهم: " الحمدُ لله أهلَ الحمدِ " رُوِي بنصب " أهل " ورفعِه، أي: أعني أهلَ أو هو أهلُ الحمد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذا تكَرَّرت النعوتُ والحالةُ هذه كنتَ مخيَّراً بين ثلاثةِ أوجهٍ: إمّا إتْباعِ الجميع أو قطعِ الجميعِ أو قطعِ البعض وإتباعِ البعضِ، إلا أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ وقَطَعْتَ البعضَ وجب أن تبدأَ بالإِتباع، ثم تأتي بالقَطْعِ من غير عكسٍ، نحو: مَرَرْتُ بزيد الفاضلِ الكريمُ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوف بالجملة المقطوعة. والعالمين: خفضٌ بالإِضافةِ، علامةُ خفضِه الياءُ لجريانه مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، وهو اسمُ جمع لأن واحدَه من غير لفظِه، ولا يجوز أن يكونَ جمعاً لعالَم، لأنَّ الصحيحَ في " عالَم " أنه يُطلَقُ على كلِّ موجودٍ سوى الباري تعالى، لاشتقاقِه من العَلامة بمعنى أنه دالٌّ على صانعه، وعالَمون بصيغة الجمع لا يُطلق إلا على العقلاء دونَ غيرهم، فاستحالَ أن يكونَ عالَمون جمع عالَم؛ لأن الجمع لا يكون أخصَّ من المفرد، وهذا نظيرُ ما فعله سيبويه في أنَّ " أعراباً " ليس جمعاً لـِ " عَرَب " لأن عَرَباً يُطلق على البَدَويّ والقَرويّ، وأعراباً لا يُطلق إلاَّ على البدوي دون القروي. فإنْ قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون " عالَمون " جمعاً لـ " عالَم " مُراداً به العاقلُ دونَ غيره فيزولَ المحذورُ المذكورُ؟ أُجيبَ عن هذا بأنه لو جاز ذلك لجاز أن يقال: شَيْئون جمع شَيء مراداً به العاقلُ دونَ غيره، فدلَّ عدمُ جوازِه على عَدم ادِّعاء ذلك. وفي الجواب نظرٌ، إذ لقائلٍ أن يقول: شَيْئون مَنَعَ مِنه مانعٌ آخرٌ وهو كونُه ليس صفةً ولا علماً، فلا يلزم مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ " عالَمين " مراداً به العاقلُ، ويؤيِّد هذا ما نقل الراغب عن ابن عباس أن " عالَمين " إنما جُمع هذا الجمعَ لأنَّ المرادَ به الملائِكةُ والجنُّ والإِنسُ، وقال الراغبُ أيضاً: " إن العالَم في الأصل اسمٌ لما يُعْلَم به كالطَابَع اسمٌ لما يُطْبَعُ به، وجُعِل بناؤه على الصيغةِ لكونِه كالآلة، فالعالَمُ آلةٌ في الدلالة على صانعهِ " ، وقال الراغب أيضاً: " وأمَّا جَمْعُه جَمْعَ السلامةِ فلكونِ الناسِ في جملتِهم، والإِنسانُ إذا شارك غيره في اللفظِ غَلَب حكمُه " ، وظَاهرُ هذا أن " عالَمين " يُطلَق على العُقلاءِ وغيرهم، وهو مخالفٌ لِما تقدَّم من اختصاصِه بالعُقلاءِ، كما زَعَم بعضُهم، وكلامُ الراغبِ هو الأصحُّ الظاهرُ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
قال ابن جرير: معنى { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } الشكر لله خالصاً دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخراً، و { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ثناءٌ أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد لله، ثم قال: وأهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلاً من الحمد والشكر مكان الآخر. قال ابن كثير: وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر، لأنه اشتهر عند كثير من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكرّ لا يكون إلا على المتعدية، ويكون بالجَنَان، واللسان، والأركان كما قال الشاعر: | **أفادتكم النعماء مني ثلاثة** | | **يدي ولساني والضمير المحجّبا** | | --- | --- | --- | وقال الجوهري: الحمد نقيض الذم تقول: حمدت الرجل أحمده حمداً فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعمّ من الشكر، والشكرُ هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، يقال: شكرته وشكرتُ له وباللام أفصح، وأما المدح فهو أعمّ من الحمد لأنه يكون للحي، وللميت، وللجماد، كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده على الصفات المتعدية واللازمة أيضا فهو أعم. وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" أفضلُ الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمدُ لله "** ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" ما أنعم الله على عبدٍ نعمة فقال: الحمد لله، إلاّ كان الذي أعطَى أفضل مما أخذ "** وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثهم **" أن عبداً من عباد الله قال: يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما: أكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ".** والألف واللام في { ٱلْحَمْدُ } لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث: **" اللهم لك الحمد كلُّه، ولك الملك كلُّه، وبيدك الخير كلُّه، وإليك يرجع الأمر كلُّه "** الحديث. { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } الربُّ هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح، وكلُّ ذلك صحيح في حق الله تعالى، ولا يستعمل الرب لغير الله إلا بالإضافة، تقول: ربُّ الدار، وأما الرب فلا يقال إلا لله عزّ وجلّ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | و { ٱلْعَالَمِينَ } جمع عالم وهو كل موجود سوى الله عزّ وجلّ، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات في السماوات، وفي البر، والبحر. وقال الفراء وأبو عبيد: العالم عبارة عمّا يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين، ولا يقال للبهائم عالم. وقال الزجاج: العالم كلُّ ما خلق الله في الدنيا والآخرة. قال القرطبي: وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين قال تعالى:**{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ \* قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ }** [الشعراء: 23-24]. والعالم مشتقٌ من العلامة، لأنه دال على وجود خالقه وصانعه وعلى وجدانيته جلَّ وعلا كما قال ابن المعتز: | **فيا عجباً كيف يعصي الإلـٰه** | | **أم كيـف يجحـده الجاحـد** | | --- | --- | --- | | **وفـي كـل شيء لـه آية** | | **تـدل عـلى أنـه واحـد** | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ، الحمدُ والشكر نظيران؛ إلا أن الحمدَ أعمُّ من حيث إن فيه معنى المدح من المنعَم عليه؛ وغيرِ المنعَم عليه؛ ولا يكون الشُّكْرُ إلا من الْمُنْعَمِ عليه. والشكر أعمُّ من الحمدِ من حيثُ إنهُ يكون من اللسان والقلب والجوارحِ؛ والحمدُ لا يكون إلا باللسان؛ ويتبيَّن الفرقُ بينهما بنقيضهما. فنقيضُ الحمد الذمُّ؛ ونقيضُ الشكر الكفرانُ. وقولهُ: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. الربُّ في اللغة: اسمٌ لِمن يربي الشيءَ ويصلحهُ؛ يقال لسيد العبد: ربٌّ؛ ولزوج المرأة: ربٌّ؛ وللمالك: ربٌّ. ولا يقال: الربُّ معرفاً بالألف واللام إلا لله عَزَّ وَجَلَّ. والله تعالى هو المربي والْمُحَوِّلُ من حال إلى حالٍ؛ من نُطْفَةٍ إلى عَلَقَةٍ إلى مُضْغَةٍ إلى غيرِ ذلك إلى أجل مسمَّى. وقوله { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } العالَمُ: جمعٌ لا واحدَ له من لفظهِ؛ كالنَّفَرِ والرَّهْطِ؛ وهو اسمٌ لِمن يعقلُ مثل الإنسِ والجنِّ والملائكة؛ لأنكَ لا تقولُ: رأيتُ عالَماً من الإبلِ والبقرِ والغنم؛ إلا أنهُ حُمِلَ اسمُ العالَم في هذه السُّورة على كلِّ ذي رُوحٍ دَبَّ ودَرَجَ لتغليب العُقلاءِ على غيرِهم عند الاجتماعِ. وربَّما قِيْلَ للسَّماوات وما دونِها مما أحاطَتْ به: عالَمٌ؛ كما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" إنَّ للهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ألْفَ عَالَمٍ؛ وَإنَّ دُنْيَاكُمْ مِنْهَا عَالَمٌ ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
في وصل { الرَّحِيـمِ } بـ { ٱلْحَمْدُ } ، عند النحويين ثلاثة أوجه: - أحدها: أن تقول " الرَّحِيْمِ. الحَمْدُ لله " فتكسر الميم وتقف عليها وتقطع ألف الحمد. وهذا مستعمل عند القراء حسن، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم روته أم سلمة. - والثاني: أن تقول: " الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لله " ، فَتَصِل الألف وتعرب الرحيم بحقه من الإعراب فتكون الكسرة خفضاً، وإن شئت / قدرت أنك وقفت على الرحيم بالإسكان، ثم وصلت فكسرت الميم لسكونها وسكون لام الحمد بعدها، ولا يعتد بألف الوصل لسقوطها في درج الكلام. وهذان الوجهان حسنان مستعملان في القراءة. - والوجه الثالث: حكاه الكسائي سماعاً من العرب، أن تقول: " الرَّحِيمَِ الحَمْدُ " فتح الميم ووصل الألف وذلك أنك تقدر أنك أسكنت الميم للوقف عليها وقطعت ألف الحمد للابتداء / بها، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفتها فانفتحت الميم. ولا يقرأ بهذا. وقد ذكر الفراء هذا التقدير في قوله تعالى:**{ الۤمۤ \* ٱللَّهُ }** [آ ل عمران: 1-2] وذكره غيره. وستراه إن شاء الله ومثله قياس وصل " نَسْتَعِينُ " بِـ " اهْدِنَا ". والألف الأول من اسم " الله " تحذف من الخط مع اللام، تقول: " لله الحجة، ولله الأمر " ، فإن قلت: " بالله أتق " ، و " ليس كالله أحد "؛ لم يجز حذف الألف من الخط، وعلة حذفها من الخط مع اللام، دون سائر حروف الجر، أنَّ اللام مع الألف يصيران حرفاً واحداً في رأي العين. والألف مع اللام الثانية بمنزلة " قَدْ " لأنهما زيدا معاً للتعريف لا يفترقان. فلو أثبتت الألف مع اللام الأولى، كنت قد فصلتها مع اللام الأولى من اللام الثانية. / وقيل: إنما حذفت الألف من الخط مع اللام، لئلا تصير " لا " فتشبه النفي. فإن كانت الألف مقطوعة لم تحذف الألف مع اللام، ولا مع غيرها من حروف الجر في الخط نحو قولك: " لألواحك حُسْنٌ، ولألواحِك بياض " ، وإنما ذلك، لأن الألف في هذا ليست مع اللام للتعريف إذ اللام أصلية فجاز انفصالها من اللام الثانية مع اللام الأولى. قوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. الرب المالك. فمعناه: مالك العالمين. وقيل: الرب السيد. وقيل: المصلح، يقال: " رَبَّه يَرُبُّه رَبّاً " إذا أصلحه. ويقال على التكثير: رَبَّتَهُ وِرَِبَّاهُ ورَبَّبَهُ. / فالذين يقولون: " رَبَّتَه " بالتاء، أصله عندهم رَبَّبَهُ ثم أبدلوا من الباء الثالثة " ياء " ، كما يقال، تقَضَّيْتُ " في " تَقَضَّضْتُ " ثم أبدلوا من الياء تاء. كما أبدلوا من الواو تاء في " تُراتٍ " ، و " تُجاهٍ " و " تولج " وأصله " وولج " على " فوعل، من " ولجت ". وبدل التاء من الياء قليل شاذ، وهو في الواو كثير. و { ٱلْعَالَمِينَ } جمع عالم. والعالم هو جميع الخلق الموجود في كل زمان. وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه في قول الله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. قال: " العالمون ثمانية عشر ألف ملك في نواحي الأرض الأربع، في كل ناحية أربعة آلاف ملك وخمسمائة ملك مع كل ملك منهم عدد الجن والإنس، فبهم يدفع الله العذاب عن أهل الأرض ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير تفسير عبد الرزاق الصنعاني مصور /همام الصنعاني (ت 211 هـ)
10- عبد الرزّاق، عن مَعْمَر، عن قتادة، قال: " نزلت فاتحة الكتاب بمكة ". 11- وقال في قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }: [الآية: 2]، " الحمد: رأس الشكر، فما شكر الله عبد لا يحمده ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } أي الثناء بالجميل، والمدح بالكمال ثابت لله دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه. واللام في { ٱلْحَمْدُ } للاستغراق أي استغراق جميع أجناس الحمد وثبوتُها لله تعالى تعظيماً وتمجيداً - كما في الحديث: **" اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله ".** قال الإمام ابن القيم في (طريق الهجرتين): الملك والحمد في حقه تعالى متلازمان. فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده. فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدراته، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته، ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره لينبّه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده، فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر وعبودية وحمد ثناء ومدح، ويجمعهما التبارك، " فتبارك الله " يشمل ذلك كله. ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله:**{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الأعراف: 54]. فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح. والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته، وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جداً، لأن جميع أسمائه، تبارك وتعالى، حمدٌ، وصفاته حمدٌ، وأفعاله حمدٌ، وأحكامه حمدٌ، وعدله حمدٌ، وانتقامه من أعدائه حمدٌ، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمدٌ، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان الغاية هي حمده، فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله. فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات، وظهور آثاره فيه أمرٌ مشهود بالأبصار والبصائر. - ثم قال -: وبالجملة فكل صفة علياء، واسم حسن، وثناء جميل، وكل حمدٍ ومدحٍ وتسبيحٍ وتنزيهٍ وتقديسٍ وجلالٍ وإكرامٍ فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها؛ وجميع ما يوصف به، ويذكر به، ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه.ا.هـ { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } الرب يطلق على السيد المطاع وعلى المصلح وعلى المالك. - تقول: رَبَّه يَرُبُّه فهو ربّ كما تقول: نمّ عليه ينم فهو نمّ - فهو صفة مشبهة، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى التربية وهي: تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً. وصف به الفاعل مبالغة كما وصف بالعدل. والرب - باللام - لا يقال إلا لله عز وجل. وهو في غيره على التقييد بالإضافة - كربّ الدار - ومنه قوله تعالى:**{ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ }** [يوسف: 50]**{ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ }** [يوسف: 23]. و { ٱلْعَالَمِينَ } جمع عالم وهو: الخلق كله وكل صنف منه. وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس، والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
* تفسير كتاب نزهة القلوب/ أبى بكر السجستاني (ت 330هـ)
{ ٱلْعَالَمِينَ }: أصناف الخلق، كل صنف منهم عالم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
القول فـي تأويـل { بِسْمِ }. قال أبو جعفر: إن الله تعالـى ذكره وتقدست أسماؤه، أدّب نبـيه مـحمداً صلى الله عليه وسلم بتعلـيـمه تقديـم ذكر أسمائه الـحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إلـيه فـي وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلـمه إياه منه لـجميع خـلقه سنةً يستنون بها، وسبـيلاً يتبعونه علـيها، فـي افتتاح أوائل منطقهم وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم حتـى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل «بسم الله»، علـى ما بطن من مراده الذي هو مـحذوف. وذلك أن البـاء من «بسم الله» مقتضيةٌ فعلاً يكون لها جالبـاً، ولا فعل معها ظاهر، فأغنت سامع القائل «بسم الله» معرفته بـمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولاً، إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمراً قد أحضر منطقه به، إما معه وإما قبله بلا فصل، ما قد أغنى سامعه من دلالة شاهدة علـى الذي من أجله افتتـح قـيـله به. فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظير استغنائه إذا سمع قائلاً قـيـل له: ما أكلت الـيوم؟ فقال: طعاماً، عن أن يكرّر الـمسؤول مع قوله «طعاماً» أكلت لـما قد ظهر لديه من الدلالة علـى أن ذلك معناه بتقدم مسألة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذا أن قول القائل إذا قال: «بِسم الله الرحمن الرحيـم» ثم افتتـح تالـياً سورة، أن إتبـاعه «بسم الله الرحمن الرحيـم» تلاوةَ السورة، ينبىء عن معنى قوله: «بسم الله الرحمن الرحيـم» ومفهوم به أنه مريد بذلك أقرأُ بسم الله الرحمن الرحيـم. وكذلك قوله: «بسم الله» عند نهوضه للقـيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبىء عن معنى مراده بقوله «بسم الله»، وأنه أراد بقـيـله «بسم الله»: أقوم بسم الله، وأقعد بسم الله وكذلك سائر الأفعال. وهذا الذي قلنا فـي تأويـل ذلك، هو معنى قول ابن عبـاس، الذي: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عبـاس، قال: إن أول ما نزل به جبريـل علـى مـحمد، قال: يا مـحمد، قل أستعيذ بـالسميع العلـيـم من الشيطان الرجيـم ثم قال: قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيـمِ قال: قال له جبريـل: قل بسم الله يا مـحمد. يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويـل قوله «بسم الله» ما وصفت، والـجالب «البـاء» فـي «بسم الله» ما ذكرت، فكيف قـيـل «بسم الله»، بـمعنى «اقرأ بسم الله»، أو «أقوم أو أقعد بسم الله»؟ وقد علـمت أن كل قارىء كتاب الله، فبعون الله وتوفـيقه قراءتُه، وأن كل قائم أو قاعد أو فـاعل فعلاً، فبـالله قـيامُه وقعوده وفعله؟ وهلاّ إذا كان ذلك كذلك، قـيـل: «بالله الرحمن الرحيـم»، ولـم يقل «بسم الله» فإن قول القائل: أقوم وأقعد بـالله الرحمن الرحيـم، أو أقرأ بـالله، أوضح معنى لسامعه من قوله «بسم الله»، إذ كان قوله أقوم وأقعد بسم الله، يوهم سامعه أن قـيامه وقعوده بـمعنى غير الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قـيـل له: إن الـمقصود إلـيه من معنى ذلك، غير ما توهمته فـي نفسك. وإنـما معنى قوله «بسم الله»: أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، أو أقرأ بتسمية الله، أو أقوم وأقعد بتسمية الله وذكره لا أنه يعنـي بقـيـله «بسم الله»: أقوم بـالله، أو أقرأ بـالله فـيكون قول القائل: «أقرأ بـالله»، أو«أقوم وأقعد بـالله»، أولـى بوجه الصواب فـي ذلك من قوله «بسم الله». فإن قال: فإن كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفتَ، فكيف قـيـل «بسم الله» وقد علـمت أن الاسم اسم، وأن التسمية مصدر من قولك سَمَّيت؟. قـيـل: إن العرب قد تـخرج الـمصادر مبهمةً علـى أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمت فلاناً كرامةً، وإنـما بناء مصدر «أفعلتُ» إذا أُخرج علـى فعله: «الإفعالُ»، وكقولهم: أهنت فلاناً هواناً، وكلـمته كلاماً. وبناء مصدر «فعَّلت» التفعيـل، ومن ذلك قول الشاعر: | **أكُفْراً بَعْدَ رَدّ الـمَوْتِ عَنِّـي** | | **وبَعْدَ عَطائِكَ الـمِائَةَ الرِّتاعا** | | --- | --- | --- | يريد: إعطائك. ومنه قول الآخر: | **وَإنْ كانَ هَذا البُخْـلُ مِنْكَ سَجِيَّةً** | | **لَقَدْ كُنْتُ فـي طَوْلـي رَجاءَكَ أشْعَبـا** | | --- | --- | --- | يريد: فـي إطالتـي رجاءك. ومنه قول الآخر: | **أظَلُومُ إنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلا** | | **أهْدَى السَّلامَ تَـحِيَّةً ظُلْـمُ** | | --- | --- | --- | يريد إصابتكم. والشواهد فـي هذا الـمعنى تكثر، وفـيـما ذكرنا كفـاية، لـمن وفق لفهمه. فإذا كان الأمر علـى ما وصفنا من إخراج العرب مصادر الأفعال علـى غير بناء أفعالها كثـيراً، وكان تصديرها إياها علـى مخارج الأسماء موجوداً فـاشياً، تبـين بذلك صواب ما قلنا من التأويـل فـي قول القائل: «بسم الله»، أن معناه فـي ذلك عند ابتدائه فـي فعل أو قول: أبدأ بتسمية الله، قبل فعلـي، أو قبل قولـي. وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيـمِ» إنـما معناه: أقرأ مبتدئاً بتسمية الله، أو أبتدىء قراءتـي بتسمية الله فجعل الاسم مكان التسمية، كما جعل الكلام مكان التكلـيـم، والعطاء مكان الإعطاء. وبـمثل الذي قلنا من التأويـل فـي ذلك، رُوي الـخبر عن عبد الله بن عبـاس. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن عبد الله بن عبـاس، قال: أول ما نزل جبريـل علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم، قال: يا مـحمد، قل أستعيذ بـالسميع العلـيـم من الشيطان الرجيـم ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيـم. قال ابن عبـاس: «بسم الله»، يقول له جبريـل: يا مـحمد اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا التأويـل من ابن عبـاس ينبىء عن صحة ما قلنا من أنه يراد بقول القائل مفتتـحا قراءته: «بسم الله الرحمن الرحيـم»: أقرأ بتسمية الله وذكره، وافتتـح القراءة بتسمية الله، بأسمائه الـحسنى، وصفـاته العلـى وفسادِ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بـالله الرحمن الرحيـم فـي كل شيء، مع أن العبـاد إنـما أمروا أن يبتدئوا عند فواتـح أمورهم بتسمية الله لا بـالـخبر عن عظمته وصفـاته، كالذي أمروا به من التسمية علـى الذبـائح والصيد، وعند الـمطعم والـمشرب، وسائر أفعالهم، وكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيـل الله وصدور رسائلهم وكتبهم. ولا خلاف بـين الـجميع من علـماء الأمة، أن قائلاً لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام: «بـالله»، ولـم يقل «بسم الله»، أنه مخالف بتركه قـيـل «بسم الله» ما سُنّ له عند التذكية من القول. وقد علـم بذلك أنه لـم يرد بقوله «بسم الله»، «بـالله» كما قال الزاعم أن اسم الله فـي قول الله: «بسم الله الرحمن الرحيـم»، هو الله لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبـيحته «بـالله» قائلاً ما سُنّ له منّ القول علـى الذبـيحة. وفـي إجماع الـجميع علـى أن قائل ذلك تارك ما سُنّ له من القول علـى ذبـيحته، إذْا لـم يقل «بسم الله»، دلـيـل واضح علـى فساد ما ادعى من التأويـل فـي قول القائل «بسم الله» أنه مراد به بـالله، وأن اسم الله هو الله. ولـيس هذا الـموضع من مواضع الإكثار فـي الإبـانة عن الاسم، أهو الـمسمى أم غيره أم هو صفة له؟ فنطيـل الكتاب به، وإنـما هذا موضع من مواضع الإبـانة عن الاسم الـمضاف إلـى الله، أهو اسم أم مصدر بـمعنى التسمية؟ فإن قال قائل: فما أنت قائل فـي بـيت لبـيد بن ربـيعة: | **إلـى الـحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَـيْكُمَا** | | **وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فقَدِ اعْتَذَرْ** | | --- | --- | --- | فقد تأوّله مقدم فـي العلـم بلغة العرب، أنه معنـيّ به: ثم السلام علـيكما، وأن اسم السلام هو السلام. قـيـل له: لو جاز ذلك وصحّ تأويـله فـيه علـى ما تأوّل، لـجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم الطعام، وشربت اسم الشراب. وفـي إجماع جميع العرب علـى إحالة ذلك ما ينبىء عن فساد تأويـل من تأوّل قول لبـيد: «ثم اسم السلام علـيكما»، أنه أراد: ثم السلام علـيكما، وادعائه أن ادخال الاسم فـي ذلك وإضافته إلـى السلام إنـما جاز، إذْ كان اسم الـمسمى هو الـمسمى بعينه. ويُسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا، فـيقال لهم: أتستـجيزون فـي العربـية أن يقال أكلت اسم العسل، يعنـي بذلك أكلت العسل، كما جاز عندكم اسم السلام علـيك، وأنتـم تريدون السلام علـيك؟ فإن قالوا: نعم خرجوا من لسان العرب، وأجازوا فـي لغتها ما تـخطئه جميع العرب فـي لغتها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن قالوا لا سئلوا الفرق بـينهما، فلن يقولوا فـي أحدهما قولاً إلاّ ألزموا فـي الآخر مثله. فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبـيد هذا عندك؟ قـيـل له: يحتـمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله. أحدهما: أن «السلام» اسم من أسماء الله فجائز أن يكون لبـيد عنى بقوله: «ثم اسم السلام علـيكما»: ثم الْزَمَا اسم الله وذكره بعد ذلك، ودعا ذكري والبكاء علـيّ علـى وجه الإغراء. فرفع الاسم، إذْاً وأخّر الـحرف الذي يأتـي بـمعنى الإغراء. وقد تفعل العرب ذلك إذا أخرت الإغراء وقدمت الـمُغْرَى به، وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر. ومن ذلك قول الشاعر: | **يا أيُّها الـمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا** | | **إنـي رأيْتُ النَّاس يَحْمَدُونَكا** | | --- | --- | --- | فأغرى ب«دونك»، وهي مؤخرة وإنـما معناه: دونك دلوي. فكذلك قول لبـيد: | **إلـى الـحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَـيْكُمَا** | | | | --- | --- | --- | يعنـي: علـيكما اسم السلام، أي: الزما ذكر الله، ودعا ذكري والوجد بـي لأن من بكى حولاً علـى امرىء ميت فقد اعتذر. فهذا أحد وجهيه. والوجه الآخر منهما: ثم تسميتـي الله علـيكما، كما يقول القائل للشيء يراه فـيعجبه: «اسم الله علـيك» يعوّذه بذلك من السوء، فكأنه قال: ثم اسم الله علـيكما من السوء. وكأن الوجه الأول أشبه الـمعنـيـين بقول لبـيد. ويقال لـمن وجّه بـيت لبـيد هذا إلـى أن معناه: «ثم السلام علـيكما»: أترى ما قلنا من هذين الوجهين جائزاً، أو أحدهما، أو غير ما قلت فـيه؟ فإن قال: لا أبـان مقداره من العلـم بتصاريف وجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته. وإن قال: بلـى قـيـل له: فما برهانك علـى صحة ما ادّعيت من التأويـل أنه الصواب دون الذي ذكرت أنه مـحتـمله من الوجه الذي يـلزمنا تسلـيـمه لك؟ ولا سبـيـل إلـى ذلك. وأما الـخبر الذي: حدثنا به إسماعيـل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيـم بن العلاء بن الضحاك، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، عن إسماعيـل بن يحيى عن ابن أبـي ملـيكة، عمن حدثه عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية، عن أبـي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إن عِيسى ابْنَ مَرْيَـمَ أسْلَـمَتْهُ أُمُّهُ إلـى الكُتَّابِ لِـيُعَلِّـمَهُ، فَقالَ لَهُ الـمُعَلِّـمُ: اكْتُبْ بِسْمِ فَقَالَ له عِيسَى: وَما بِسْمِ؟ فَقالَ لَهُ الـمُعَلِّـمُ: ما أدْرِي فَقالَ عِيسىَ: البـاءُ: بَهاءُ اللَّهِ، وَالسِّينُ: سَناؤُهُ، وَالـمِيـمُ: مَـمْلَكَتُهُ "** فأخشى أن يكون غلطاً من الـمـحدث، وأن يكون أراد: «ب س م»، علـى سبـيـل ما يعلـم الـمبتدى من الصبـيان فـي الكتاب حروفَ أبـي جاد. فغلط بذلك، فوصله فقال: «بسم» لأنه لا معنى لهذا التأويـل إذا تُلـي «بسم الله الرحمن الرحيـم» علـى ما يتلوه القارىء فـي كتاب الله، لاستـحالة معناه عن الـمفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حمل تأويـله علـى ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ٱللَّهِ }. قال أبو جعفر: وأما تأويـل قول الله: «الله»، فإنه علـى معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عبـاس: هو الذي يَأْلَهه كل شيء، ويعبده كل خـلق. وذلك أن أبـا كريب: حدثنا قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عبـاس، قال: الله ذو الألوهية والـمعبودية علـى خـلقه أجمعين. فإن قال لنا قائل: فهل لذلك فـي «فَعَلَ ويَفْعَل» أصل كان منه بناء هذا الاسم؟ قـيـل: أما سماعاً من العرب فلا، ولكن استدلالاً. فإن قال: وما دلّ علـى أن الألوهية هي العبـادة، وأن الإله هو الـمعبود، وأن له أصلاً فـي فعل ويفعل؟ قـيـل: لا تـمانُعَ بـين العرب فـي الـحكم لقول القائل يصف رجلاً بعبـادة ويطلب مـما عند الله جل ذكره: تألّه فلان بـالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج: | **لِلَّهِ دَرُّ الغانِـياتِ الـمُدَّةِ** | | **سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهِي** | | --- | --- | --- | يعنـي من تعبدي وطلبـي الله بعمل. ولا شك أن التأله «التفعُّل» من: أَلَهَ يَأْلَهُ، وأن معنى «أَلَه» إذا نُطق به: عَبَد الله. وقد جاء منه مصدر يدل علـى أن العرب قد نطقت منه ب«فَعَل يفعل» بغير زيادة. وذلك ما: حدثنا به سفـيان بن وكيع، قال حدثنا أبـي، عن نافع بن عمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس، أنه قرأ: «وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ» قال: عبـادتك، ويُقال: إنه كان يُعْبَد ولا يَعْبَد. وحدثنا سفـيان، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن مـحمد بن عمرو بن الـحسن، عن ابن عبـاس: «وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ» قال: إنـما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبد. وكذلك كان عبد الله يقرؤها ومـجاهد. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: أخبرنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قوله: [«وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ»] قال: وعبـادتك. ولا شك أن الإلاهة علـى ما فسره ابن عبـاس ومـجاهد، مصدرٌ من قول القائل أَلَهَ اللَّهَ فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عبد الله فلانٌ عبـادة، وعَبَر الرؤيا عبـارةً. فقد بـيّن قول ابن عبـاس ومـجاهد هذا أن أله: عبد، وأن الإلاهة مصدره. فإن قال: فإن كان جائزاً أن يقال لـمن عبد الله: ألهه، علـى تأويـل قول ابن عبـاس ومـجاهد، فكيف الواجب فـي ذلك أن يقال، إذا أراد الـمخبر الـخبر عن استـحباب الله ذلك علـى عبده؟ قـيـل: أما الرواية فلا رواية عندنا، ولكن الواجب علـى قـياس ما جاء به الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي: حدثنا به إسماعيـل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيـم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، عن إسماعيـل بن يحيى، عن ابن أبـي ملـيكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية العوفـي، عن أبـي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" إنَّ عِيسَى أسْلَـمَتْهُ أُمُّهُ إلـى الكُتَّابِ لِـيُعَلِّـمَهُ، فَقالَ لَهُ الـمُعَلِّـمُ: اكْتُبْ اللَّهُ، فَقالَ لَهُ عِيسَى: أَتَدْرِي ما اللَّهُ؟ اللَّهُ إلَهُ الآلِهَةِ "** أن يقال: الله جل جلاله أَلَهَ العَبْدَ، والعبدُ ألهه. وأن يكون قول القائل «الله» من كلام العرب أصله «الإله». فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك مع اختلاف لفظيهما؟ قيل: كما جاز أن يكون قوله: لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّـي أصله: «لكن أنا هو الله ربـي» كما قال الشاعر: | **وَتَرْمِيننِـي بـالطَّرْفِ أيْ أنْتَ مُذْنِبٌ** | | **وتَقْلِـينَنِـي لَكِنَّ إيَّاكِ لا أَقْلِـي** | | --- | --- | --- | يريد: «لكنْ أنا إياك لا أقلـي» فحذف الهمزة من «أنا»، فـالتقت نون «أنا» ونون «لكن» وهي ساكنة، فأدغمت فـي نون أنا، فصارتا نوناً مشددة، فكذلك الله، أصله الإله، أسقطت الهمزة، التـي هي فـاء الاسم، فـالتقت اللام التـي هي عين الاسم، واللام الزائدة التـي دخـلت مع الألف الزائدة، وهي ساكنة، فأدغمت فـي الأخرى التـي هي عين الاسم، فصارتا فـي اللفظ لاماً واحدة مشددة، كما وصفنا من قول الله: لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّـي. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { الرَّحْمنِ الرَّحِيـمِ }. قال أبو جعفر: أما الرحمن، فهو «فعلان»، من رحم، والرحيـم فعيـل منه. والعرب كثـيراً ما تبنى الأسماء من فعل يفعل علـى فعلان، كقولهم من غضب غضبـان، ومن سكر سكران، ومن عطش عطشان، فكذلك قولهم رحمٰن من رحم، لأن «فَعِلَ» منه: رَحِمَ يَرْحم. وقـيـل «رحيـم» وإن كانت عين فعل منها مكسورة، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنـية الأسماء إذا كان فـيها مدح أو ذمّ علـى فعيـل، وإن كانت عين فَعِلَ منها مكسورة أو مفتوحة، كما قالوا من عَلِـمَ: عالـم وعلـيـم، ومن قدَر: قادر وقدير. ولـيس ذلك منها بناءً علـى أفعالها لأن البناء من «فَعِلَ يَفْعَل» «وَفَعَلَ يَفْعَلُ» فـاعل. فلو كان الرحمن والرحيـم خارجين على بناء أفعالهما لكانت صورتهما الراحم. فإن قال قائل: فإذا كان الرحمٰن والرحيـم اسمين مشتقـين من الرحمة، فما وجه تكرير ذلك وأحدهما مؤّد عن معنى الآخر؟ قـيـل له: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما ظننت، بل لكل كلـمة منهما معنى لا تؤَدي الأخرى منهما عنها. فإن قال: وما الـمعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية الـمعنى عن الأخرى؟ قـيـل: أما من جهة العربـية، فلا تـمانع بـين أهل الـمعرفة بلغات العرب أن قول القائل «الرحمن» عن أبنـية الأسماء من «فَعِلَ يَفْعَل» أشد عدولاً من قوله «الرحيـم». ولا خلاف مع ذلك بـينهم أن كل اسم كان له أصل فـي «فَعِلَ ويَفْعَل»، ثم كان عن أصله من فعل ويفعل أشدّ عدولاً، أن الـموصوف به مفضل علـى الـموصوف بـالاسم الـمبنـي علـى أصله من «فَعِلَ ويَفْعل» إذا كانت التسمية به مدحاً أو ذماً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فهذا ما فـي قول القائل «الرحمٰن» من زيادة الـمعنى علـى قوله: «الرحيـم» فـي اللغة. وأما من جهة الأثر والـخبر، ففـيه بـين أهل التأويـل اختلاف. فحدثنـي السريّ بن يحيى التـميـمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العرزمي يقول: «الرحمن الرحيـم» قال: الرحمن بجميع الـخـلق. «الرحيـم» قال: بـالـمؤمنـين. وحدثنا إسماعيـل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيـم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، عن إسماعيـل بن يحيى، عن ابن أبـي ملـيكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية العوفـي، عن أبـي سعيد يعنـي الـخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ قالَ: الرَّحْمَنُ: رَحْمَنُ الآخِرَةِ والدُّنْـيَا، والرَّحِيـمُ: رَحِيـمُ الآخِرَةِ "** فهذان الـخبران قد أنبآ عن فرق ما بـين تسمية الله جل ثناؤه بـاسمه الذي هو «رحمن»، وتسميته بـاسمه الذي هو «رحيـم». واختلاف معنى الكلـمتـين، وإن اختلفـا فـي معنى ذلك الفرق، فدل أحدهما علـى أن ذلك فـي الدنـيا، ودل الآخر علـى أنه فـي الآخرة. فإن قال: فأيّ هذين التأويـلـين أولـى عندك بـالصحة؟ قـيـل: لـجميعهما عندنا فـي الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيهما أولـى بـالصحة. وذلك أن الـمعنى الذي فـي تسمية الله بـالرحمن، دون الذي فـي تسميته بـالرحيـم هو أنه بـالتسمية بـالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خـلقه، وأنه بـالتسمية بـالرحيـم موصوف بخصوص الرحمة بعض خـلقه، إما فـي كل الأحوال، وإما فـي بعض الأحوال. فلا شكّ إذا كان ذلك كذلك، أن ذلك الـخصوص الذي فـي وصفه بـالرحيـم لا يستـحيـل عن معناه، فـي الدنـيا كان ذلك أو فـي الآخرة، أو فـيهما جميعاً. فإذا كان صحيحاً ما قلنا من ذلك وكان الله جل ثناؤه قد خص عبـاده الـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا بـما لطف بهم فـي توفـيقه إياهم لطاعته، والإيـمان به وبرسله، واتبـاع أمره واجتناب معاصيه مـما خذل عنه من أشرك به فكفر، وخالف ما أمره به وركب معاصيه، وكان مع ذلك قد جعل جل ثناؤه ما أعد فـي آجل الآخرة فـي جناته من النعيـم الـمقـيـم والفوز الـمبـين لـمن آمن به وصدق رسله وعمل بطاعته خالصاً دون من أشرك وكفر به كان بـيِّناً أن الله قد خص الـمؤمنـين من رحمته فـي الدنـيا والآخرة، مع ما قد عمهم به والكفـار فـي الدنـيا، من الإفضال والإحسان إلـى جميعهم، فـي البسط فـي الرزق، وتسخير السحاب بـالغيث، وإخراج النبـات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التـي لا تـحصى، التـي يشترك فـيها الـمؤمنون والكافرون. فربنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خـلقه فـي الدنـيا والآخرة، ورحيـم الـمؤمنـين خاصة فـي الدنـيا والآخرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فأما الذي عمّ جميعهم به فـي الدنـيا من رحمته، فكان رحمانا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التـي لا سبـيـل إلـى إحصائها لأحد من خـلقه، كما قال جل ثناؤه:**{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }** [إبراهيم: 34] وأما فـي الآخرة، فـالذي عم جميعهم به فـيها من رحمته. فكان لهم رحماناً. تسويته بـين جميعهم جل ذكره فـي عدله وقضائه، فلا يظلـم أحداً منهم مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيـماً، وتُوفَّـى كل نفس ما كسبت. فذلك معنى عمومه فـي الآخرة جميعهم برحمته الذي كان به رحماناً فـي الآخرة. وأما ما خص به الـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا من رحمته الذي كان به رحيـما لهم فـيها، كما قال جل ذكره: وكانَ بـالـمُؤْمِنِـينَ رَحِيـماً فما وصفنا من اللطف لهم فـي دينهم، فخصهم به دون من خذله من أهل الكفر به. وأما ما خصهم به فـي الآخرة، فكان به رحيـماً لهم دون الكافرين. فما وصفنا آنفـاً مـما أعدّ لهم دون غيرهم من النعيـم والكرامة التـي تقصر عنها الأمانـي. وأما القول الآخر فـي تأويـله، فهو ما: حدثنا به أبو كريب. قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عبـاس، قال: الرحمن الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب. قال: الرحمن الرحيـم: الرقـيق الرفـيق بـمن أحبّ أن يرحمه، والبعيد الشديد علـى من أحبّ أن يعنف علـيه. وكذلك أسماؤه كلها. وهذا التأويـل من ابن عبـاس، يدل علـى أن الذي به ربنا رحمن هو الذي به رحيـم، وإن كان لقوله «الرحمن» من الـمعنى ما لـيس لقوله «الرحيـم» لأنه جعل معنى الرحمن بـمعنى الرقـيق علـى من رقّ علـيه، ومعنى الرحيـم بـمعنى الرفـيق بـمن رفق به. والقول الذي رويناه فـي تأويـل ذلك عن النبـي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرزمي، أشبه بتأويـله من هذا القول الذي روينا عن ابن عبـاس وإن كان هذا القول موافقاً معناه معنى ذلك، فـي أن للرحمن من الـمعنى ما لـيس للرحيـم، وأن للرحيـم تأويلاً غير تأويـل الرحمن. والقول الثالث فـي تأويـل ذلك، ما: حدثنـي به عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالـح، قال: حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللـخمي من أهل فلسطين، قال: سمعت عطاء الـخراسانـي، يقول: كان الرحمن، فلـما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيـم. والذي أراد إن شاء الله عطاء بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التـي لا يتسمى بها أحد من خـلقه، فلـما تسمى به الكذّاب مسيـلـمة وهو اختزاله إياه، يعنـي اقتطاعه من أسمائه لنفسه أخبر الله جلّ ثناؤه أن اسمه الرحمن الرحيـم، لـيفصل بذلك لعبـاده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه، إذ كان لا يُسمَّى أحد الرحمن الرحيـم فـيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره وإنـما تسمى بعض خـلقه إما رحيـماً، أو يتسمى رحمن، فأما «رحمٰن رحيـم»، فلـم يجتـمعا قط لأحد سواه، ولا يجمعان لأحد غيره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فكأن معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنـما فصل بتكرير الرحيـم علـى الرحمن بـين اسمه واسم غيره من خـلقه، اختلف معناهما أو اتفقا. والذي قال عطاء من ذلك غير فـاسد الـمعنى، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بـالتسمية بهما معاً مـجتـمعين إبـانة لها من خـلقه، لـيعرف عبـاده بذكرهما مـجموعين أنه الـمقصود بذكرهما دون من سواه من خـلقه، مع ما فـي تأويـل كل واحد منهما من الـمعنى الذي لـيس فـي الآخر منهما. وقد زعم بعض أهل الغبـاء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن ولـم يكن ذلك فـي لغتها ولذلك قال الـمشركون للنبـي صلى الله عليه وسلم: وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لـما تَأْمُرُنَا إنكاراً منهم لهذا الاسم. كأنه كان مـحالاً عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالـمين بصحته، أو كأنه لـم يتل من كتاب الله قولَ الله:**{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ }** [البقرة: 146] يعنـي مـحمداً**{ كَمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ }** [البقرة: 146] وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبّوته جاحدون. فـيعلـم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقـيقة ما قد ثبت عندهم صحته واستـحكمت لديهم معرفته. وقد أنشد لبعض الـجاهلـية الـجهلاء: | **ألاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الفَتاةُ هَجِينَها** | | **ألاَ قَضَبَ الرَّحْمَنُ رَبّـي يَـمِينَها** | | --- | --- | --- | وقال سلامة بن جندل الطهوي: | **عَجِلْتُـمْ عَلَـيْنَا عَجْلَتَـيْنا عَلَـيْكُمُ** | | **وَما يَشاء الرَّحْمَنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ** | | --- | --- | --- | وقد زعم أيضاً بعض من ضعفت معرفته بتأويـل أهل التأويـل، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أن «الرحمن» مـجازه «ذو الرحمة»، و«الرحيـم» مـجازه «الراحم». ثم قال: قد يقدرون اللفظين من لفظ والـمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال: وقد فعلوا مثل ذلك، فقالوا: ندمان ونديـم. ثم استشهد بقول بُرْج بن مسهر الطائي: | **ونَدْمانٍ يَزِيدُ الكأسَ طِيبَـا** | | **سَقَـيْتُ وقَدْ تَغَوَّرَتِ النُّـجُومُ** | | --- | --- | --- | واستشهد بأبـيات نظائر له فـي النديـم والندمان. ففرق بـين معنى الرحمن والرحيـم فـي التأويـل، لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيـم: الراحم. وإن كان قد ترك بـيان تأويـل معنـيهما علـى صحته. ثم مثل ذلك بـاللفظين يأتـيان بـمعنى واحد، فعاد إلـى ما قد جعله بـمعنـيـين، فجعله مثال ما هو بـمعنى واحد مع اختلاف الألفـاظ. ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة وصح أنها له صفة، وأن الراحم هو الـموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فـانقضى ذلك منه، أو هو فـيه. ولا دلالة له فـيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة علـى أنها له صفة إذا وصفه بأنه ذو الرحمة. فأين معنى الرحمن الرحيـم علـى تأويـله من معنى الكلـمتـين يأتـيان مقدرتـين من لفظ واحد بـاختلاف الألفـاظ واتفـاق الـمعانـي؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتـمد علـيه كان واضح عُوَارُه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن قال لنا قائل: ولـم قدم اسم الله الذي هو الله علـى اسمه الذي هو الرحمن، واسمه الذي هو الرحمن علـى اسمه الذي هو الرحيـم؟ قـيـل: لأن من شأن العرب إذا أرادوا الـخبر عن مخبر عنه أن يقدموا اسمه، ثم يُتبعوه صفـاته ونعوته. وهذا هو الواجب فـي الـحكم: أن يكون الاسم مقدماً قبل نعته وصفته، لـيعلـم السامع الـخبر عمن الـخبر فإذا كان ذلك كذلك، وكان لله جل ذكره أسماء قد حرم علـى خـلقه أن يتسموا بها خص بها نفسه دونهم، ذلك مثل «الله»، و«الرحمن» و«الـخالق» وأسماء أبـاح لهم أن يسمي بعضهم بعضاً بها، وذلك كالرحيـم، والسميع، والبصير، والكريـم، وما أشبه ذلك من الأسماء كان الواجب أن يقدم أسماءه التـي هي له خاصة دون جميع خـلقه، لـيعرف السامع ذلك من توجه إلـيه الـحمد والتـمـجيد ثم يتبع ذلك بأسمائه التـي قد تسمى بها غيره، بعد علـم الـمخاطب أو السامع من توجه إلـيه ما يتلو ذلك من الـمعانـي. فبدأ الله جل ذكره بـاسمه الذي هو الله لأن الألوهية لـيست لغيره جل ثناؤه بوجه من الوجوه، لا من جهة التسمي به، ولا من جهة الـمعنى. وذلك أنا قد بـينا أن معنى الله هو الـمعبود، ولا معبود غيره جل جلاله، وأن التسمي به قد حرمه الله جل ثناؤه، وإن قصد الـمتسمي به ما يقصد الـمتسمي بسعيد وهو شقـيّ، وبحَسَن وهو قبـيح. أَوَ لا ترى أن الله جل جلاله قال فـي غير آية من كتابه:**{ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ }** [النمل: 60] فـاستكبر ذلك من الـمقرّ به، وقال تعالـى فـي خصوصية نفسه بـالله وبـالرحمن:**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ }** [الإسراء: 110] ثم ثنَّى بـاسمه، الذي هو الرحمن، إذْ كان قد منع أيضاً خـلقه التسمي به، وإن كان من خـلقه من قد يستـحق تسميته ببعض معانـيه وذلك أنه قد يجوز وصف كثـير مـمن هو دون الله من خـلقه ببعض صفـات الرحمة، وغير جائز أن يستـحق بعض الألوهية أحد دونه فلذلك جاء الرحمٰن ثانـياً لاسمه الذي هو الله». وأما اسمه الذي هو «الرحيـم» فقد ذكرنا أنه مـما هو جائز وصف غيره به. والرحمة من صفـاته جل ذكره، فكان إذ كان الأمر علـى ما وصفنا، واقعاً مواقع نعوت الأسماء اللواتـي هن توابعها بعد تقدم الأسماء علـيها. فهذا وجه تقديـم اسم الله الذي هو «الله» علـى اسمه الذي هو «الرحمن»، واسمه الذي هو «الرحمن» علـى اسمه الذي هو «الرحيـم». وقد كان الـحسن البصري يقول فـي الرحمن مثل ما قلنا، أنه من أسماء الله التـي منع التسمي بها لعبـاده. حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الـحسن، قال: الرحمن اسم مـمنوع. مع أن فـي إجماع الأمة مِن منع التسمي به جميع الناس ما يغنـي عن الاستشهاد علـى صحة ما قلنا فـي ذلك بقول الـحسن وغيره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
قرّاء المدينة والبصرة والشأم وفقهاؤها على أنّ التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما كتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، كما بدىء بذكرها في كل أمر ذي بال، وهو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - ومن تابعه، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة. وقرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة، وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم الله، ولذلك يجهرون بها. وقالوا قد أثبتها السلف في المصحف مع توصيتهم بتجريد القرآن، ولذلك لم يثبتوا { آَمِينٌ } فلولا أنها من القرآن لما أثبتوها. وعن ابن عباس «من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى». فإن قلت بم تعلقت الباء؟ قلت بمحذوف تقديره بسم الله اقرأ أو أتلو لأنّ الذي يتلو التسمية مقروء، كما أنّ المسافر إذا حلّ أو ارتحل فقال بسم الله والبركات، كان المعنى بسم الله أحل وبسم الله أرتحل وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله بـــ «بسم الله» كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له. ونظيره في حذف متعلق الجارّ قوله عزّ وجلّ**{ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ }** النمل 12، أي اذهب في تسع آيات. وكذلك قول العرب في الدعاء للمعرس بالرفاء والبنين، وقول الأعرابي باليمن والبركة، بمعنى أعرست، أو نكحت. ومنه قوله | **فقُلْتُ إلى الطَّعام فقَالَ مِنْهُم فَرِيقٌ نحْسُدُ الإِنْسَ الطَّعَامَا** | | | | --- | --- | --- | فإن قلت لم قدّرت المحذوف متأخراً؟ قلت لأنّ الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات، باسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما فعل في قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص. والدليل عليه قوله**{ بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا }** هود 41. فإن قلت فقد قال**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ }** العلق 1، فقدّم الفعل. قلت هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم. فإن قلت ما معنى تعلق اسم الله بالقراءة؟ قلت فيه وجهان أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتبة في قولك كتبت بالقلم، على معنى أنّ المؤمن لما اعتقد أنّ فعله لا يجيء معتداً به في الشرع، واقعاً على السنة حتى يصدر بذكر اسم الله لقوله عليه الصلاة والسلام 1 **" كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر "** إلا كان فعلا كلا فعل، جعل فعله مفعولاً باسم الله كما يفعل الكتب بالقلم. والثاني أن يتعلق بها تعلق الدهن بالإنبات في قوله**{ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ }** المؤمنون 20 على معنى متبرّكاً بسم الله أقرأ، وكذلك قول الداعي للمعرس بالرفاء والبنين، معناه أعرست ملتبساً بالرفاء والبنين، وهذا الوجه أعرب وأحسن فإن قلت فكيف قال الله تبارك وتعالى متبركاً باسم الله أقرأ؟ قلت هذا مقول على ألسنة العباد، كما يقولُ الرجل الشعر على لسان غيره، وكذلك { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } إلى آخره، وكثير من القرآن على هذا المنهاج، ومعناه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه، وكيف يحمدونه ويمجدونه ويعظمونه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قلت من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو كاف التشبيه ولام الابتداء وواو العطف وفائه وغير ذلك، فما بال لام الإضافة وبائها بنيتا على الكسر؟ قلت أما اللام فللفصل بينها وبين لام الابتداء، وأما الباء فلكونها لازمة للحرفية والجر، والاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة، لئلا يقع ابتداؤهم بالساكن إذا كان دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن، لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة، ولوضعها على غاية من الإحكام والرصانة، وإذا وقعت في الدرج لم تفتقر إلى زيادة شيء. ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن، فقال سم وسم. قال | **بِاسْمِ الذِي في كلِّ سُورةٍ سِمُهْ** | | | | --- | --- | --- | وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز كيد ودم، وأصله سمو، بدليل تصريفه كأسماء، وسمي، وسميت، واشتقاقه من السمو، لأنّ التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره، ومنه قيل للقب النبز من النبز بمعنى النبر، وهو رفع الصوت. والنبز قشر النخلة الأعلى. فإن قلت فلم حذفت الألف في الخط وأثبتت في قوله باسم ربك؟ قلت قد اتبعوا في حذفها حكم الدرج دون الابتداء الذي عليه وضع الخط لكثرة الاستعمال، وقالوا طُوِّلَتِ الباء تعويضاً من طرح الألف. وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال لكاتبه طوّل الباء وأظهر السنات ودوّر الميم. والله أصله الإله. قال | **مَعَاذَ الإِلهِ أَنْ تَكُونَ كظَبْيَةٍ** | | | | --- | --- | --- | ونظيره الناس، أصله الأناس. قال | **إنَّ المَنايَا يَطَّلِعْـ ـنَ عَلَى الأنَاسِ الآمِنِينَا** | | | | --- | --- | --- | فحذفت الهمزة وعوّض منها حرف التعريف، ولذلك قيل في النداء يا ألله بالقطع، كما يقال يا إله، والإله ـــ من أسماء الأجناس كالرجل والفرس ـــ اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، وكذلك السنة على عام القحط، والبيت على الكعبة، والكتاب على كتاب سيبويه. وأما الله بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق، لم يطلق على غيره. ومن هذا الاسم اشتق تأله، وأله، واستأله. كما قيل استنوق، واستحجر، في الاشتقاق من الناقة والحجر. فإن قلت أاسم هو أم صفة؟ قلت بل اسم غير صفة، ألا تراك تصفه ولا تصف به، لا تقول شيء إله، كما لا تقول شيء رجل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وتقول إلٰه واحد صمد، كما تقول رجل كريم خير. وأيضاً فإنّ صفاته تعالى لا بدّ لها من موصوف تجرى عليه، فلو جعلتها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها وهذا محال. فإن قلت هل لهذا الاسم اشتقاق؟ قلت معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعداً معنى واحد، وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم أله، إذا تحير، ومن أخواته دله، وعله، ينتظمهما معنى التحير والدهشة، وذلك أنّ الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن، ولذلك كثر الضلال، وفشا الباطل، وقل النظر الصحيح. فإن قلت هل تفخم لأمه؟ قلت نعم قد ذكر الزجاج أنّ تفخيمها سنة، وعلى ذلك العرب كلهم، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابراً عن كابر. والرحمٰن فعلان من رحم، كغضبان وسكران، من غضب وسكر، وكذلك الرحيم فعيل منه، كمريض وسقيم، من مرض وسقم، وفي الرحمٰن من المبالغة ما ليس في الرحيم، ولذلك قالوا رحمٰن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، ويقولون إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى. وقال الزّجّاج في الغضبان هو الممتلىء غضباً. ومما طنّ على أذني من ملح العرب أنهم يسمون مركباً من مراكبهم بالشقدف؟ وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في طريق الطائف منهم لرجل ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقي فقال أليس ذاك اسمه الشقدف؟ قلت بلى، فقال هذا اسمه الشقنداف، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى، وهو من الصفات الغالبة ـــ كالدبران، والعيوق، والصعق ـــ لم يستعمل في غير الله عزّ وجلّ، كما أنّ الله من الأسماء الغالبة. وأما قول بني حنيفة في مسيلمة رحمان اليمامة، وقول شاعرهم فيه | **وأَنْتَ غَيْثُ الوَرَى لا زِلْتَ رَحْمَانَا** | | | | --- | --- | --- | فباب من تعنتهم في كفرهم. فإن قلت كيف تقول الله رحمٰن، أتصرفه أم لا؟ قلت أقيسه على أخواته من بابه، أعني نحو عطشان، وغرثان، وسكران، فلا أصرفه. فإن قلت قد شرط في امتناع صرف فعلان أن يكون فعلان فعلى واختصاصه بالله يحظر أن يكون فعلان فعلى، فلم تمنعه الصرف؟ قلت كما حظر ذلك أن يكون له مؤنث على فعلى كعطشى فقد حظر أن يكون له مؤنث على فعلانة كندمانة، فإذاً لا عبرة بامتناع التأنيث للاختصاص العارض فوجب الرجوع إلى الأصل قبل الاختصاص وهو القياس على نظائره. فإن قلت ما معنى وصف الله تعالى بالرحمة ومعناها العطف والحنوّ ومنها الرحم لانعطافها على ما فيها؟ قلت هو مجاز عن إنعامه على عباده لأنّ الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه وإنعامه، كما أنه إذا أدركته الفظاظة والقسوة عنف بهم ومنعهم خيره ومعروفه. فإن قلت فلم قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه، والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم فلان عالم نحرير، وشجاع باسل، وجواد فياض؟ قلت لما قال الرَّحْمَنِ فتناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها، أردفه الرحيم كالتتمة والرديف ليتناول ما دقّ منها ولطف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
اتفق أصحابنا أنها آية من سورة الحمد ومن كل سورة وأنَّ من تركها في الصلاة بطلت صلاته سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً وأنه يحب الجهر بها فيما فيه بالقراءة ويستحب الجهر بها فيما يخافت فيه بالقراءة وفي جميع ما ذكرناه خلاف بين فقهاء الأمة ولا خلاف في أنها بعض آية من سورة النمل وكل من عدَّها آية جعل من قولـه: { صراط الذين } إلى آخره السورة آية ومن لم يعدها آية جعل { صراط الذين أنعمت عليهم } آية وقال: إنها افتتاح للتيمّن والتبرك وأما القراء: فإِن حمزة وخلفاً ويعقوب واليزيدي تركوا الفصل بين السور بالتسمية والباقون يفصلون بينها بالتسمية إلا بين الأنفال والتوبة. فضلها: روي عن علي بن موسى الرضا ع أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" إذا قال المعلم للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبي وبراءة لأبويه وبراءة للمعلم "** وعن ابن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فإنها تسعة عشر حرفاً ليجعل الله كل حرف منها جنة من واحد منهم وروي عن الصادق ع أنه قال: ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها وهي بسم الله الرحمن الرحيم. اللغة: الاسم مشتق من السمو وهو الرفعة أصله سِمو بالواو لأنّ جمعه أسماء مثل قنو وأقناء وحنو وأحناء وتصغيره سُمَي قال الراجز: | **باسم الذي في كل سورة سِمُهْ** | | | | --- | --- | --- | وسُمه أيضاً ذكره أبو زيد وغيره وقيل إنه مشتق من الوسم والسمة والأول أصحّ لأنّ المحذوف والفاء نحو صلة ووصل وعدة ووعد لا تدخله همزة الوصل ولأنه كان يجب أن يقال في تصغيره وسيم كما يقال وعيدة ووصيلة في تصغير عدة وصلة والأمر بخلافه { الله } اسم لا يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى وذكر سيبويه في أصله قولين أحدهما: إنه إلآه على وزن فعال فحذفت الفاء التي هي الهمزة وجعلت الألف واللام عوضاً لازماً عنها بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم والنداء في نحو قولـه: أفَألله لتفعلنَّ ويا ألله اغفر لي ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا الاسم والقول الآخر أنّ أصله لاه ووزنه فعل فألحق به الألف واللام. يدل عليه قول الأعشى: | **كَحلْفَةٍ مِن أَبيْ رِباحٍ** | | **يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ** | | --- | --- | --- | وإنما أدخلت عليه الألف واللام للتفخيم والتعظيم فقط ومن زعم أنها للتعريف فقد أخطأ لأنّ أسماء الله تعالى معارف والألف من لاه منقلبة عن ياء فأصله إليه كقولـهم في معناه لهي أبوك قال سيبويه نقلت العين إلى موضع اللام وجعلت اللام ساكنة إذ صارت في مكان العين كما كانت العين ساكنة وتركوا آخر الاسم الذي هو لهي مفتوحاً كما تركوا آخر أنّ مفتوحاً وإنما فعلوا ذلك حيث غيروه لكثرته في كلامهم فغيروا إعرابه كما غيروا بناءه وهذه دلالة قاطعة لظهور الياء في لهي والألف على هذا القول منقلبة كما ترى وفي القول الأول زائدة لأنها ألف فعال وتقول العرب أيضاً لاه أبوك تريد لله أبوك قال ذو الإصبع العدواني: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **لاهِ ابنْ عَمِّكَ لا أفْضَلْتَ في حَسَبٍ** | | **عَنِّيْ وَلاَ أنْتَ دَيَّاني فَتُخْزُوْني** | | --- | --- | --- | أي: تسوسني. قال سيبويه: حذفوا لام الإضافة واللام الأخرى ولم ينكر بقاء عمل اللام بعد حذفها فقد حكى سيبويه من قولـهم: الله لأخرجنَّ يريدون والله ومثل ذلك كثير يطول الكلام بذكره فأما الكلام في اشتقاقه فمنهم من قال إنه اسم موضع غير مشتق إذ ليس يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً لأنه لو وجب ذلك لتسلسل هذا قول الخليل ومنهم من قال إنه مشتق ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه: فمنها أنه مشتق من الألوهية التي هي العبادة والتأله التعبد قال رؤبة: | **للِه دَرُّ الغَانِيَاتِ المُدَّهِ** | | **سَبَّحْنَ وَاسْترْجعْنَ مِنْ تْألُّهي** | | --- | --- | --- | أي تعبدي وقرأ ابن عباس ويذرك والإِهتك أي: عبادتك ويقال آله الله فلان الإِهة كما يقال عبده عبادة فعلى هذا يكون معناه الذي يحق له العبادة ولذلك لا يسمى به غيره ويوصف فيما لم يزل بأنه آله ومنها أنه مشتق من الوله وهو التحير يقال آله يأله إذا تحير - عن أبي عمرو - فمعناه أنه الذي تتحير العقول في كنه عظمته ومنها أنه مشتق من قولـهم ألهت إلى فلان أي فزعت إليه لأن الخلق يألهون إليه أي يفزعون إليه في حوائجهم فقيل للمألوه آله كما يقال للمؤتم به إمام ومنها أنه مشتق من ألهت إليه أي سكنت إليه عن المبرَّد ومعناه أن الخلق يسكنون إلى ذكره ومنها أنه من لاه أي احتجب فمعناه أنه المحتجب بالكيفية عن الأوهام الظاهر بالدلائل والأعلام { الرحمن الرحيم } اسمان وضعا للمبالغة واشتقا من الرحمة وهي النعمة إلا أن فعلان أشدُّ مبالغة من فعيل وحكي عن أبي عبيدة أنه قال: الرحمن ذو الرحمة والرحيم هو الراحم وكرّر لضرب من التأكيد وأما ما روي عن ابن عباس أنهما اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر فالرحمن الرقيق والرحيم العطاف على عباده بالرزق والنعم فمحمول على أنه يعود عليهم بالفضل بعد الفضل والنعمة بعد النعمة فعبَّر عن ذلك بالرقة لأنه لا يوصف بالرقة وما حكي عن تغلب أن لفظة الرحمن ليست بعربية وإنما هي ببعض اللغات مستدلاً بقولـه تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ }** [الفرقان: 60] إنكاراً منهم لهذا الاسم فليس بصحيح لأن هذه اللفظة مشهورة عند العرب موجودة في أشعارها قال الشنفرى: | **أَلا ضَرَبَتْ تِلْكَ الفَتَاةُ هَجيْنَهَا** | | **ألا قَضَبَ الرَّحْمنُ رَبِّي يَميْنَها** | | --- | --- | --- | وقال سلامة بن جندل: | **وما يشأ الرحمن يعقدْ ويطلقِ** | | | | --- | --- | --- | الإعراب: { بسم الله } الباء حرف جر أصله الإلصاق والحروف الجارة موضوعة لمعنى المفعولية ألا ترى أنها توصل الأفعال إلى الأسماء وتوقعها عليها فإذا مررت بزيد أوقعت الباء المرور على زيد فالجالب للباء فعل محذوف نحو ابدأوا بسم الله أو قولوا بسم الله فمحله نصب لأنه مفعول به وإنما حذف الفعل الناصب لأن دلالة الحال أغنت عن ذكره وقيل إن محل الباء رفع على تقدير مبتدأ محذوف وتقديره ابتدائي بسم الله فالباء على هذا متعلقة بالخبر المحذوف الذي قامت مقامه أي ابتدائي ثابت بسم الله أو ثبت ثم حذف هذا الخبر فأفضى الضمير إلى موضع الباء وهذا بمنزلة قولك زيد في الدار ولا يجوز أن يتعلق الباء بابتدائي المضمر لأنه مصدر وإذا تعلقت به صارت من صلته وبقي المبتدأ بلا خبر وإذا سأل عن تحريك الباء مع أن أصل الحروف البناء وأصل البناء السكون فجوابه أنه حُرّك للزوم الإبتداء به ولا يمكن الإبتداء بالساكن وإنما حُرّك بالكسر ليكون حركته من جنس ما يحدثه وإذا لزم كاف التشبيه في كزيد فجوابه أن الكاف لا يلزم الحرفية وقد تكون اسماً في نحو قولـه: | **يضحكن عن كالبَردِ المنهمِّ** | | | | --- | --- | --- | فخولف بينه وبين الحروف التي لا تفارق الحرفية وهذا قول أبي عمرو الجرمي وأصحابه فأما أبو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي فقال: إنهم لو فتحوا أو ضمُّوا لجاز لأن الغرض التوصل إلى الإبتداء فبأي حركة توصل إليه جاز وبعض العرب يفتح هذه الباء وهي لغة ضعيفة وإنما حذفت الهمزة من بسم الله في اللفظ لأنها همزة الوصل تسقط في الدرج وحذفت هاهنا في الخط أيضاً لكثرة الاستعمال ولوقوعها في موضع معلوم لا يخاف فيه اللبس ولا تحذف في نحو قولـه:**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ }** [العلق: 1] لقلة الاستعمال وإنما تغلظ لام الله إذا تقدمته الضمة أو الفتحة تفخيما لذكره وإجلالا لقدره وليكون فرقاً بينه وبين ذكر اللات. { الله } مجرور بالإضافة و { الرحمن الرحيم } مجروران لأنهما صفتان لله. المعنى: { بسم الله } قيل المراد به تضمين الاستعانة فتقديره استعينوا بأن تسمُّوا الله بأسمائه الحسنى وتصفوه بصفاته العلى وقيل: المراد استعينوا بالله ويلتفت إليه قول أبي عبيدة إن الاسم صلة والمراد هو الله كقول لبيد: | **إِلَى الحوْلِ ثمَّ اسمُ السَّلاَمُ عليْكُما** | | **ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فقدِ اعتَذَرْ** | | --- | --- | --- | أي ثمَّ السلام عليكما والاسم قد يوضع المسمى لما كان المعلَّق على الاسم ذكراً أو خطاباً معلَّقاً على المسمى تقول رأيت زيداً فتعلق الرؤية على الاسم وفي الحقيقة تعلقها بالمسمى فإن الاسم لا يرى فحسن إقامة الاسم مقام المسمى وقيل المراد به ابتدئ بتسمية الله فوضع الاسم موضع المصدر كما يقال أكرمته أي إكراماً وأهنته هواناً أي إهانة ومنه قول الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **أكفراً بَعْدَ رَدِّ الموْتِ عَنِّي** | | **وبَعْدَ عَطَائِكَ المائة الرّتاعا** | | --- | --- | --- | أي: بعد اعطائك وقال الآخر: | **فإِنْ كَانَ هذا الْبُخْلُ مِنْكَ سَجِيَّةً** | | **لَقَدْ كُنْتُ فِي طُوْلى رَجائِكَ أَشْعبَا** | | --- | --- | --- | أراد في إِطالتي رجاءك فعلى هذا يكون تقدير الكلام ابتداء قراءتي بتسمية الله أو أقرأ مبتدئاً بتسمية الله وهذا القول أولى بالصواب لأنا إِنما أُمرنا بأن نفتتح أُمورنا بتسمية الله لا بالخبر عن كبريائه وعظمته كما أُمرنا بالتسمية على الأكل والشرب والذبائح ألا ترى أن الذابح لو قال بالله ولم يقل باسم الله لكان مخالفاً لما أُمر به ومعنى الله والإِله أنه الذي تحق له العبادة وإِنما تحق له العبادة لأنه قادر على خلق الأجسام وإحيائها والإنعام عليها بما يستحق به العبادة وهو تعالى إِله للحيوان والجماد لأنه قادر على أن ينعم على كل منهما بما معه يستحق العبادة فأما من قال معنى الإِله المستحق للعبادة يلزمه أن لا يكون إلهاً في الأزل لم يفعل الإنعام الذي يستحق به العبادة وهذا خطأ وإنما قدم الرحمن على الرحيم لأن الرحمن بمنزلة اسم العلم من حيث لا يوصف به إِلا الله فوجب لذلك تقديمه بخلاف الرحيم لأنه يطلق عليه وعلى غيره. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: **" إن عيسى ابن مريم قال الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة "** وعن بعض التابعين قال: " الرحمن بجميع الخلق والرحيم بالمؤمنين خاصة " ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وبَرُّهم وفاجرهم هو إنشاؤُه إِياهم وخلقهم أحياءً قادرين ورزقه إِياهم ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق وفي الآخرة من الجنة والإكرام وغفران الذنوب والآثام وإِلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق ع أنه قال: الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة وعن عكرمة قال: الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة وهذا المعنى قد اقبسه من قول الرسول: **" إن لله عز وجل مائة رحمة وإنه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه بها يتعاطفون ويتراحمون وأخَّر تسعاً وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة "** وروي أن الله قابض هذه إِلى تلك فيكملها مائة يرحم بها عباده يوم القيامة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } من الفاتحة، ومن كل سورة، وعليه قرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه الله تعالى والشافعي. وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي، ولم ينص أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده. وسئل محمد بن الحسن عنها فقال: ما بين الدفتين كلام الله تعالى. ولنا أحاديث كثيرة: منها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه عليه الصلاة والسلام قال: **" فاتحة الكتاب سبع آيات، أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم "** وقول أم سلمة رضي الله عنها «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعد «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين» آية ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها، والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله سبحانه وتعالى، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم تكتب آمين. والباء متعلقة بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء. وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له، وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه. أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه، وتقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله:**{ بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا }** [هود: 41] وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنه أهم وأدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة، كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعاً ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام **" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر "** وقيل الباء للمصاحبة، والمعنى متبركاً باسم الله تعالى اقرأ، وهذه وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه، ويحمد على نعمه، ويُسأل من فضله، وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح، لاختصاصها باللزوم الحرفية والجر، كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء، والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال، وبنيت أوائلها على السكون، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل، لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن. ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمي كهدى لغة فيه قال: | **والله أسماك سمىً مُباركاً** | | **آثرك الله بهِ إيَثَاركا** | | --- | --- | --- | والقلب بعيد غير مطرد، واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له. ومن السمة عند الكوفيين، وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله. ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم، ومن لغاته سم وسم قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **بِسْمِ الذي في كُلِّ سُورةٍ سِمُهْ** | | | | --- | --- | --- | والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى، لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعدد تارة ويتحد أخرى. والمسمى لا يكون كذلك، وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى:**{ تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ }** [الرحمن: 78] و**{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ }** [الأعلى: 1] المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب. أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر: | **إلى الحولِ ثُم اسمُ السلامِ عليكُما** | | | | --- | --- | --- | وإن أريد به الصفة، كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري، انقسم انقسام الصفة عنده: إلى ما هو نفس المسمى، وإلى ما هو غيره، وإلى ما ليس هو ولا غيره. وإنما قال بسم الله ولم يقل بالله، لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه. أو للفرق بين اليمين والتيمن. ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضاً عنها. والله أصله إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل: يا الله، بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق. والإله في الأصل لكل معبود، ثم غلب على المعبود بالحق. واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد، ومنه تأله واستأله، وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته. أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته. أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه، وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه. أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد. أو من وله إذا تحير وتخبط عقله، وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه، فقيل إله كإعاء وإشاح، ويرده الجمع على آلهة دون أولهة. وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها، إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار، ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر: | **كحِلفةٍ من أبي رباحٍ** | | **يُشهِدْهَا لاهَهْ الكِبَارُ** | | --- | --- | --- | وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به، ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه، ولأنه لو كان وصفاً لم يكن قول: لا إله إلا الله، توحيداً مثل: لا إله إلا الرحمن، فإنه لا يمنع الشركة، والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل: الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الأوصاف عليه، وامتناع الوصف به، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه وتعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ }** [الأنعام: 3] معنى صحيحاً، ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركاً للآخر في المعنى والتركيب، وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة، وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة، وإدخال اللام عليه، وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة، وقيل مطلقاً، وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة، ولا ينعقد به صريح اليمين، وقد جاء لضرورة الشعر: | **ألاَ لا باركَ الله في سُهيلٍ** | | **إذا ما الله باركَ في الرِّجالِ** | | --- | --- | --- | و { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } اسمان بنيا للمبالغة من رحم، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة: رقة القلب، وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرَّحِم لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات. و { ٱلرَّحْمَـٰنُ } أبلغ من { ٱلرَّحِيمِ } ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قَطَّعَ وقَطَعَ وكَبَّار وكِبَار، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن، وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، لأن النعم الأخروية كلها جسام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة، وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لتقدم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب، ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها، والقدرة على إيصالها، والداعية الباعثة عليه، والتمكن من الانتفاع بها، والقوى التي بها يحصل الانتفاع، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره. أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأوصلها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة والرديف له. أو للمحافظة على رؤوس الآي. والأظهر أنه غير مصروف وإن حظر اختصاصه بالله تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقاً له بما هو الغالب في بابه. وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، فيتوجه بشَرَاشِرِِهِ إلى جناب القدس، ويتمسك بحبل التوفيق، ويشغل سره بذكره والاستعداد به عن غيره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع بسم الله الرحمن الرحيم يقال لها الفاتحة، أي فاتحة الكتاب خطاً، وبها تفتتح القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضاً أم الكتاب، عند الجمهور، ذكره أنس، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك، قال الحسن وابن سيرين إنما ذلك اللوح المحفوظ، وقال الحسن الآيات المحكمات هن أم الكتاب، ولذا كرها أيضاً أن يقال لها أم القرآن. وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" الحمد لله رب العالمين أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والقرآن العظيم "** ويقال لها الحمد ويقال لها الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه **" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله حمدني عبدي "** .. الحديثَ. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها. ويقال لها الشفاء لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعاً **" فاتحة الكتاب شفاء من كل سم "** ويقال لها الرقية لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم **" وما يدريك أنها رقية "** ؟ وروى الشعبي عن ابن عباس أنه سماها أساس القرآن قال وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم. وسماها سفيان بن عيينة بالواقية وسماها يحيى بن أبي كثير الكافية لأنها تكفي عما عداها، ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة **" أم القرآن عوض من غيرها، وليس من غيرها عوض منها "** ويقال لها سورة الصلاة، والكنز، ذكرهما الزمخشري في كشافه. وهي مكية، قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية، وقيل مدنية، قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري. ويقال نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة، والأول أشبه لقوله تعالى**{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مِّنَ ٱلْمَثَانِي }** الحجر 87 والله تعالى أعلم. وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة، ونصفها الآخر نزل بالمدينة، وهو غريب جداً، نقله القرطبي عنه. وهي سبع آيات بلا خلاف، وقال عمرو بن عبيد ثمان، وقال حسين الجعفي ست، وهذان القولان شاذان، وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف، أو بعض آية، أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء، على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة. قالوا وكلماتها خمس وعشرون كلمة، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً. قال البخاري في أول كتاب التفسير وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وقيل إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال ابن جرير والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع أمّاً، فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أمّاً، واستشهد بقول ذي الرمة | **على رأسِهِ أُمٌّ لنا نَقْتَدي بها جماعُ أُمورٍ ليسَ نَعْصي لها أَمْراً** | | | | --- | --- | --- | - يعني الرمح - قال وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها، وجمعها ما سواها. وقيل لأن الأرض دحيت منها. ويقال لها أيضاً الفاتحة لأنها تفتتح بها القراءة، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام. وصح تسميتها بالسبع المثاني، قالوا لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة وإن كان للمثاني معنى آخر غير هذا كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن **" هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم "** ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به. وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني "** وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث، حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي، حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" الحمد لله رب العالمين سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب، وفاتحة الكتاب "** وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه، أو مثله، وقال كلهم ثقات، وروى البيهقي عن علي وابن عباس أنهم فسروا قوله تعالى**{ سَبْعًا مِّنَ ٱلْمَثَانِي }** الحجر 87 بالفاتحة، وأن البسملة هي الآية السابعة منها، وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال قيل لابن مسعود لمَ لم تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة، قال أبو بكر بن أبي داود يعني حيث يقرأ في الصلاة، قال واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد قيل إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة، ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة، وقيل**{ يَٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ }** المدثر 1 كما في حديث جابر في الصحيح وقيل**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ }** العلق 1 وهذا هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان.ذكر ما ورد في فضل الفاتحة قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال **" كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت، قال فأتيته فقال مامنعك أن تأتيني؟ قال قلت يا رسول الله إني كنت أصلي قال ألم يقل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } الأنفال 24 ثم قال لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد قال فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، قال نعم { الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته "** وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به، ورواه في موضع آخر من التفسير، وأبو داوود والنسائي وابن ماجه من طرق عن شعبة به، ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب، فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه، فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم **" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد، فلما فرغ من صلاته لحقه، قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد، ثم قال صلى الله عليه وسلم إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها قال أُبي رضي الله عنه فجعلت أبطىء في المشي رجاء ذلك، ثم قلت يا رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال فقرأت عليه { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } حتى أتيت على آخرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي هذه السورة، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيت "** فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه، فإن ابن المعلى صحابي أنصاري، وهذا تابعي من موالي خزاعة، وذاك الحديث متصل صحيح، وهذا ظاهره أنه منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أُبي بن كعب، فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | على أنه قد روي عن أُبي بن كعب من غير وجه كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال **" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ بن كعب، وهو يصلي، فقال يا أبيّ فالتفت، ثم لم يجبه، ثم قال أبيّ فخفف أبي، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك أي رسول الله قال وعليك السلام، ما منعك أي أبي إذ دعوتك أن تجيبني؟ فقال أي رسول الله إني كنت في الصلاة، قال أولست تجد فيما أوحى الله تعالى إلي { ;سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } الأنفال 24؟ قال بلى يا رسول الله لا أعود، قال أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها؟ قلت نعم أي رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأرجو أن لا أخرج من هذا الباب حتى تعلمها، قال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني، وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث، فلما دنونا من الباب قلت أي رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال ما تقرأ في الصلاة؟ قال فقرأت عليه أم القرآن، قال والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني "** ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، فذكره، وعنده **" أنها من السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته "** ثم قال هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن أنس بن مالك، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد عن إسماعيل بن إبراهيم بن معمر عن أبى أسامة عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب، فذكره مطولاً بنحوه أو قريباً منه. وقد رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن أبي عمار حسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل، مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي نصفين "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | هذا لفظ النسائي. وقال الترمذي حديث حسن غريب. وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا هاشم، يعني ابن البريد، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء، فقلت السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي، قال فقلت السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي، قال فقلت السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي، قال فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وأنا خلفه، حتى دخل رحله، ودخلت أنا المسجد، فجلست كئيباً حزيناً، فخرج عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر، فقال **" عليك السلام ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام ورحمة الله ثم قال ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخْيَر سورة في القرآن؟ قلت بلى يا رسول الله قال اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها "** هذا إسناد جيد، وابن عقيل هذا يحتج به الأئمة الكبار، وعبد الله بن جابر هذا هو الصحابي، ذكر ابن الجوزي أنه هو العبدي والله أعلم، ويقال إنه عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي فيما ذكره الحافظ ابن عساكر. واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء، منهم إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن العربي وابن الحفار من المالكية، وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك لأن الجميع كلام الله، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه، وإن كان الجميع فاضلاً، نقله القرطبي عن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وأبي حاتم بن حبان البستي، وأبي حيان، ويحيى بن يحيى ورواية عن الإمام مالك أيضاً. حديث آخر، قال البخاري في فضائل القرآن حدثنا محمد بن المثنى، **" حدثنا وهب حدثنا هشام عن محمد عن معبد عن أبي سعيد الخدري، قال كنا في مسير لنا، فنزلنا فجاءت جارية فقالت إن سيد الحي سليم، وإن نفرنا غُيَّبٌ، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً. فلما رجع قلنا له أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ فقال لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم "** وقال أبو معمر حدثنا عبد الوارث، حدثنا هشام، حدثنا محمد بن سيرين حدثني معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري بهذا، وهكذا رواه مسلم وأبو داود من رواية هشام وهو ابن حسان عن ابن سيرين به، وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم، يعني اللديغ، ويسمونه بذلك تفاؤلاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | حديث آخر روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم عن عمار بن زريق عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال **" بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبرائيل، إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته "** ، وهذا لفظ النسائي. ولمسلم نحوه حديث آخر، قال مسلم حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي هو ابن راهويه حدثنا سفيان ابن عيينة عن العلاء، يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال **" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج - ثلاثاً - غير تمام فقيل لأبي هريرة إنا نكون خلف الإمام، فقال اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال الله حمدني عبدي، وإذا قال { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قال الله أثنىٰ عليّ عبدي، فإذا قال { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قال الله مجدني عبدي، وقال مرة فوض إلي عبدي، فإذا قال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال الله هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل "** وهكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وقد روياه أيضاً عن قتيبة عن مالك عن العلاء، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة، وفي هذا السياق **" فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل "** وهكذا رواه ابن إسحاق عن العلاء. وقد رواه مسلم من حديث ابن جريج عن العلاء عن أبي السائب هكذا. ورواه أيضاً من حديث ابن أبي أويس عن العلاء عن أبيه وأبي السائب، كلاهما عن أبي هريرة. وقال الترمذي هذا حديث حسن. وسألت أبا زرعة عنه، فقال كلا الحديثين صحيح، من قال عن العلاء عن أبيه، وعن العلاء عن أبي السائب. وقد روى هذا الحديث عبد الله بن الإمام أحمد من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب مطولاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال ابن جرير حدثنا صالح ابن مسمار المروزي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عنبسة بن سعيد عن مطرف بن طريف عن سعد بن إسحاق عن كعب بن عجرة عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، وله ما سأل، فإذا قال العبد { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال حمدني عبدي، وإذا قال { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قال أثنى عليّ عبدي، ثم قال هذا لي وله ما بقي "** ، وهذا غريب من هذا الوجه. الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة من وجوه أحدها أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة، والمراد القراءة كقوله تعالى**{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلاً }** الإسراء 110 أي بقراءتك كما جاء مصرحاً به في الصحيح عن ابن عباس، وهكذا قال في هذا الحديث **" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل "** ثم بين تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة، فدل على عظمة القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها إذ أطلقت العبادة وأريد بها جزء واحد منها وهو القراءة، كما أطلق لفظ القراءة، والمراد به الصلاة في قوله**{ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا }** الإسراء 78 والمراد صلاة الفجر كما جاء مصرحاً به في الصحيحين «أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار» فدل هذا كله على أنه لا بد من القراءة في الصلاة، وهو اتفاق من العلماء، ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني، وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب، أم تجزىء هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين، فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم، أنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة، واحتجوا بعموم قوله تعالى**{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }** المزمل 20 وبما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له **" إذا قمت إلى الصلاة، فكبر ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن "** قالوا فأمره بقراءة ما تيسر، ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها، فدل على ما قلنا. والقول الثاني أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، ولا تجزىء الصلاة بدونها، وهو قول بقية الأئمة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء، واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور حيث قال صلوات الله وسلامه عليه **" من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والخداج هو الناقص كما فسر به في الحديث **" غير تمام "** ، واحتجوا أيضاً بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "** وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول لله صلى الله عليه وسلم **" لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن "** والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ووجه المناظرة ههنا يطول ذكره، وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك رحمهم الله. ثم إن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أنه تجب قراءتها في كل ركعة. وقال آخرون إنما تجب قراءتها في معظم الركعات. وقال الحسن وأكثر البصريين إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات أخذاً بمطلق الحديث **" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "** وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي لا تتعين قراءتها، بل لو قرأ بغيرها أجزأه لقوله تعالى**{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ }** المزمل 20 والله أعلم. وقد روى ابن ماجه من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً **" لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة، في فريضة أو غيرها "** وفي صحة هذا نظر، وموضع تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير والله أعلم. والوجه الثالث هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء أحدها أنه تجب عليه قراءتها، كما تجب على إمامه لعموم الأحاديث المتقدمة والثاني لا تجب على المأموم قراءة بالكلية، لا الفاتحة ولا غيرها، ولا في صلاة الجهرية ولا في صلاة السرية لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال **" من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة "** ولكن في إسناده ضعف. ورواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر من كلامه، وقد روي هذا الحديث من طرق، ولا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. والقول الثالث أنه تجب القراءة على المأموم في السرية لما تقدم، ولا يجب ذلك في الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا "** وذكر بقية الحديث، وهكذا رواه أهل السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال **" وإذا قرأ فأنصتوا "** وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضاً، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول، وهو قول قديم للشافعي رحمه الله والله أعلم، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والغرض من ذكر هذه المسائل ههنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا غسان بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، فقد أمنت من كل شيء إلا الموت "** تفسير الاستعاذة وأحكامها قال الله تعالى**{ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }** الأعراف 199 - 200 وقال تعالى**{ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ }** المؤمنون 96 ـ 98 وقال تعالى**{ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ }** فصلت 34 - 36 فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها، وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى**{ يَـٰبَنِىۤ آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ }** الأعراف 27 وقال تعالى**{ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ }** فاطر 6 وقال**{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلاً }** الكهف 50 وقد أقسم للوالد آدم عليه السلام أنه له لمن الناصحين، وكذب، فكيف معاملته لنا وقد قال**{ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ }** ص 83 وقال تعالى**{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ }** النحل 98 ـ 100. قالت طائفة من القراء وغيرهم يتعوذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية، ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة، وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيما نقله عنه ابن قلوقا وأبو حاتم السجستاني، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة الهذلي المغربي في كتاب العبادة الكامل، وروي عن أبي هريرة أيضاً، وهو غريب، ونقله محمد بن عمر الرازي في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وحكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي عن المجموعة عن مالك رحمه الله أن القارىء يتعوذ بعد الفاتحة، واستغربه ابن العربي. وحكى قولاً ثالثاً، وهو الاستعاذة أولاً وآخراً جمعاً بين الدليلين، نقله الرازي. والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها، ومعنى الآية عندهم**{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }** النحل 98 أي إذا أردت القراءة كقوله تعالى**{ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلوٰةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ }** المائدة 6 الآية أي إذا أردتم القيام، والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا جعفر بن سليمان عن علي بن علي الرفاعي اليشكري عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال **" سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه "** وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية جعفر بن سليمان عن علي بن علي، وهو الرفاعي، وقال الترمذي هو أشهر شيء في هذا الباب، وقد فسر الهمز بالموتة، وهي الخنق، والنفخ بالكبر، والنفث بالشعر، كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي عن نافع ابن جبير بن مطعم عن أبيه قال **" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة قال الله أكبر كبيراً، ثلاثاً، الحمد لله كثيراً، ثلاثاً، سبحان الله بكرة وأصيلاً، ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه "** قال عمرو وهمزه الموتة، ونفخه الكبر، ونفثه الشعر، وقال ابن ماجه حدثنا علي بن المنذر حدثنا ابن فضيل حدثنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال **" اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه "** قال همزه الموتة، ونفخه الكبر، ونفثه الشعر، وقال الإمام أحمد حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا شريك عن يعلى بن عطاء عن رجل حدثه أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثلاثاً، ثم قال **" لا إله إلا الله، ثلاث مرات، وسبحان الله وبحمده، ثلاث مرات "** ثم قال **" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه "** وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان الكوفي، حدثنا علي بن هاشم بن البريد عن يزيد بن زياد عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فتمزع أنف أحدهما غضباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم شيئاً لو قاله لذهب عنه ما يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "** وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن يوسف بن عيسى المروزي عن الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، به، وقد روى هذا الحديث أحمد بن حنبل عن أبي سعيد عن زائدة، وأبو داود عن يوسف بن موسى عن جرير بن عبد الحميد، والترمذي والنسائي في اليوم والليلة عن بندار عن ابن مهدي عن الثوري والنسائي أيضاً من حديث زائدة بن قدامة، ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال **" استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضباً شديداً حتى يخيل إليّ أن أحدهما يتمزع أنفه من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب فقال ما هي يا رسول الله؟ قال يقول اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم قال فجعل معاذ يأمره فأبى، وجعل يزداد غضباً "** وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي مرسل، يعني أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل فإنه مات قبل سنة عشرين قلت وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبي بن كعب كما تقدم، وبلغه عن معاذ بن جبل فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم. قال البخاري حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن الأعمش عن عدي بن ثابت قال قال سليمان بن صرد رضي الله عنه **" استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضباً، قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقالوا للرجل ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني لست بمجنون "** وقد رواه أيضاً مع مسلم وأبي داود والنسائي من طرق متعددة عن الأعمش به. وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها ههنا، وموطنها كتاب الأذكار وفضائل الأعمال والله أعلم. وقد روي أن جبريل عليه السلام أول ما نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال «يا محمد استعذ» قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم "** ثم قال «قل بسم الله الرحمن الرحيم» ثم قال**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ }** العلق 1 قال عبد الله وهي أول سورة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان جبريل. وهذا الأثر غريب وإنما ذكرناه ليعرف فإن في إسناده ضعفاً وانقطاعاً والله أعلم. مسألة وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها وحكى الرازي عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة، قال وقال ابن سيرين إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب. واحتج الرازي لعطاء بظاهر الآية { فَٱسْتَعِذْ } وهو أمر ظاهره الوجوب، وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ولأنها تدرأ شر الشيطان وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولأن الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب. وقال بعضهم كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة، ويتعوذ لقيام رمضان في أول ليلة منه. مسألة وقال الشافعي في الإملاء يجهر بالتعوذ وإن أسر فلا يضر وقال في الأم بالتخيير لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها على قولين ورجح عدم الاستحباب، والله أعلم فإذا قال المستعيذ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة، وزاد بعضهم أعوذ بالله السميع العليم، وقال آخرون بل يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم، قاله الثوري والأوزاعي وحكي عن بعضهم أنه يقول أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لمطابقة أمر الآية ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور، والأحاديث الصحيحة كما تقدم أولى بالاتباع من هذا والله أعلم. مسألة ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف بل للصلاة، فعلى هذا يتعوذ المأموم، وإن كان لا يقرأ، ويتعوذ في العيد بعد الإحرام وقبل تكبيرات العيد، والجمهور بعدها قبل القراءة، ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث، وتطييب له، وهو لتلاوة كلام الله، وهي استعانة بالله، واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال تعالى**{ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً }** الإسراء 65 وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري، فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً، ومن قهره العدو الباطني كان مفتوناً أو موزوراً، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان. فصل والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى، والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي | **يا مَنْ ألوذُ به فيما أؤملُهُ ومَنْ أعوذُ به مِمَّنْ أحاذرُهُ لا يَجْبُرُ الناسُ عَظْماً أنتَ كاسِرُهُ ولا يَهيضُونَ عَظْماً أنتَ جابِرُهُ** | | | | --- | --- | --- | ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله، ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة، ولا يؤثر فيه جميل لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه. وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة قوله في الأعراف**{ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ }** الأعراف 199 فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال**{ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }** الأعراف 200 وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون**{ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ }** المؤمنون 96 ـ 98 وقال تعالى في سورة حم السجدة**{ وَلاَ تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }** فصلت 34 ـ 36. الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير. وقيل مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار. ومنهم من يقول كلاهما صحيح في المعنى، ولكن الأول أصح، وعليه يدل كلام العرب قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان عليه السلام | **أيُّما شاطِنٍ عَصاهُ عَكاهُ ثُمَّ يُلْقى في السجْنِ والأَغْلالِ** | | | | --- | --- | --- | فقال أيما شاطن، ولم يقل أيما شائط. وقال النابغة الذبياني، وهو زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر ابن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **نَأَتْ بسعاد عنك نَوًى شَطونُ فبانَتْ والفؤادُ بِها رهينُ** | | | | --- | --- | --- | يقول بعدت بها طريق بعيد. وقال سيبويه العرب تقول تشيطن فلان إذا فعل فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح، ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطاناً، قال الله تعالى**{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِىٍّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً }** الأنعام 112 وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن فقلت أوَ للإنس شياطين؟ قال نعم "** وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود فقلت يا رسول الله ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ فقال الكلب الأسود شيطان "** وقال ابن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركب برذوناً، فجعل يتبختر به، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي، إسناده صحيح. والرجيم فعيل بمعنى مفعول، أي إنه مرجوم مطرود عن الخير كله كما قال تعالى**{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَـٰبِيحَ وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَـٰطِينِ }** الملك 5 وقال تعالى**{ إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَٰكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَـٰنٍ مَّارِدٍ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ }** الصافات 6 ـ 10 وقال تعالى**{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى ٱلسَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّـٰهَا لِلنَّـٰظِرِينَ وَحَفِظْنَـٰهَا مِن كُلِّ شَيْطَـٰنٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ }** الحجر 16 ـ 18 إلى غير ذلك من الآيات. وقيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس، والربائث، والأول أشهر وأصح. { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } افتتح بها الصحابة كتاب الله، واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة، أو من أول كل سورة كتبت في أولها، أو أنها بعض آية من كل سورة، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها، أو أنها إنما كتبت للفصل، لا أنها آية؟ على أقوال للعلماء سلفاً وخلفاً، وذلك مبسوط في غير هذا الموضع، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في مستدركه أيضاً، وروي مرسلاً عن سعيد بن جبير. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة، وعدها آية، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي ـ وفيه ضعف ـ عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عنها، وروى له الدارقطني متابعاً عن أبي هريرة مرفوعاً، وروي مثله عن علي وابن عباس وغيرهما، وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو هريرة وعلي، ومن التابعين عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومكحول والزهري، وبه يقول عبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل في رواية عنه وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام رحمهم الله. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ليست هي آية من الفاتحة، ولا من غيرها من السور. وقال الشافعي في قول في بعض طرق مذهبه هي آية من الفاتحة، وليست من غيرها. وعنه أنها بعض آية من أول كل سورة، وهما غريبان. وقال داود هي آية مستقلة في أول كل سورة، لا منها، وهذا رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، وحكاه أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي، وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله. هذا ما يتعلق بكونها آية من الفاتحة أم لا. فأما الجهر بها، فمفرع على هذا، فمن رأى أنها ليست من الفاتحة، فلا يجهر بها. وكذا من قال إنها آية من أولها، وأما من قال بأنها من أوائل السور، فاختلفوا، فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة، وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفاً وخلفاً، فجهر بها من الصحابة أبو هريرة وابن عمر وابن عباس ومعاوية، وحكاه ابن عبد البر والبيهقي عن عمر وعلي، ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهو غريب، ومن التابعين عن سعيد بن جبير وعكرمة وأبي قلابة والزهري وعلي بن الحُسين وابنه محمد وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وسالم ومحمد بن كعب القرظي وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي وائل وابن سيرين ومحمد بن المنكدر وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد ونافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم وعمر بن عبد العزيز والأزرق بن قيس وحبيب بن أبي ثابت وأبي الشعثاء ومكحول وعبد الله بن معقل بن مقرن، زاد البيهقي وعبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية، زاد ابن عبد البر، وعمرو بن دينار، والحجة في ذلك أنها بعض الفاتحة، فيجهر بها كسائر أبعاضها. وأيضاً فقد روى النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة وقال بعد أن فرغ إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال الترمذي وليس إسناده بذاك. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال صحيح. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كانت قراءته مدّاً، ثم قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم. وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } وقال الدارقطني إسناده صحيح. وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي والحاكم في مستدركه عن أنس أن معاوية صلى بالمدينة، فترك البسملة، فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك، فلما صلى المرة الثانية بسمل. وفي هذه الأحاديث والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها. فأما المعارضات والروايات الغريبة وتطريقها وتعليلها وتضعيفها وتقريرها فله موضع آخر. وذهب آخرون أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مغفل، وطوائف من سلف التابعين والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل. وعند الإمام مالك أنه لا يقرأ البسملة بالكلية، لا جهراً ولا سراً، واحتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين. وبما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، ولمسلم ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها، ونحوه في السنن عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. فهذه مآخذ الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة، وهي قريبة لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر، ولله الحمد والمنة.فصل في فضلها قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله في تفسيره حدثنا أبي حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني حدثنا سلام بن وهب الجندي حدثنا أبي عن طاوس عن ابن عباس **" أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }؟ فقال هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن سليمان بن أحمد عن علي بن المبارك عن زيد بن المبارك به، وقد روى الحافظ بن مردويه من طريقين عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إن عيسى بن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتّاب ليعلمه، فقال له المعلم اكتب، فقال ما أكتب؟ قال بسم الله، قال له عيسى وما بسم الله؟ قال المعلم، ما أدري، قال له عيسى الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة "** وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب زبرِيق عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل ابن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعر عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وهذا غريب جداً، وقد يكون صحيحاً إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات والله أعلم. وقد روى جويبر عن الضحاك نحوه من قبله، وقد روى ابن مردويه من حديث يزيد بن خالد عن سليمان بن بريدة، وفي رواية عن عبد الكريم أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" أنزلت علي آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن دواد وغيري، وهي { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } "** وروي بإسناده عن عبد الكريم بن المعافى بن عمران عن أبيه عن عمر بن ذر عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال لما نزل { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله أن لا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه. وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فيجعل الله له من كل حرف منها جنة من كل واحد. ذكره ابن عطية والقرطبي، ووجهه ابن عطية، ونصره بحديث **" لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها "** لقول الرجل ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفاً، وغير ذلك. وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم قال سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقلت تعس الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان، تعاظم، وقال بقوتي صرعته، وإذا قلت باسم الله، تصاغر حتى يصير مثل الذباب "** هكذا وقع في رواية الإمام أحمد، وقد روى النسائي في اليوم والليلة وابن مردويه في تفيسره من حديث خالد الحذاء عن أبي تميمة، وهو الهجيمي، عن أبي المليح بن أسامة بن عمير عن أبيه قال **" كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وقال لا تقل هكذا فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت، ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة "** فهذا من تأثير بركة بسم الله، ولهذا تستحب في أول كل عمل وقول، فتستحب في أول الخطبة لما جاء **" كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم "** وتستحب البسملة عند دخول الخلاء لما ورد من الحديث في ذلك، وتستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن من رواية أبي هريرة وسعيد بن زيد وأبي سعيد مرفوعاً **" لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "** وهو حديث حسن. ومن العلماء من أوجبها عند الذكر ههنا، ومنهم من قال بوجوبها مطلقاً. وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة، وأوجبها آخرون عند الذكر، ومطلقاً في قول بعضهم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، وقد ذكر الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" إذا أتيت أهلك فسم الله فإنه إن وجد لك ولد، كتب بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات "** وهذا لا أصل له، ولا رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها، ولا غيرها، وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة **" قل بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك "** ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه. وكذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد، لم يضره الشيطان أبداً ".** ومن ههنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قوله بسم الله، هل هو اسم أو فعل متقاربان، وكل قد ورد به القرآن، أما من قدره باسم تقديره بسم الله ابتدائي فلقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }** هود 41 ومن قدره بالفعل أمراً أو خبراً نحو أبدأ بسم الله، أو ابتدأت باسم الله، فلقوله تعالى { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ } العلق 1 وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بد له من مصدر، فلك أن تقدر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله، إن كان قياماً أو قعوداً أو أكلاً أو شراباً أو قراءة أو وضوءاً أو صلاة، فالمشروع ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله تبركاً وتيمناً، واستعانة على الإتمام والتقبل والله أعلم. ولهذا روى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال إن أول ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال «يا محمد قل أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» ثم قال «قل { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قال قال له جبريل بسم الله، يا محمد يقول اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله تعالى» لفظ ابن جرير. وأما مسألة الاسم، هل هو المسمى، أو غيره؟ ففيها للناس ثلاثة أقوال أحدها أن الاسم هو المسمى، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلاني وابن فورك، وقال الرازي، وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري في مقدمات تفسيره قالت الحشوية والكرامية والأشعرية الاسم نفس المسمى وغير نفس التسمية، وقالت المعتزلة الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية، ثم نقول إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات متقطعة وحروف مؤلفة، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات، وهوعبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث، ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى، بأنه قد يكون الاسم موجوداً، والمسمى مفقوداً كلفظة المعدوم، وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة، وقد يكون الاسم واحداً، والمسميات متعددة كالمشترك، وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى، وأيضاً فالاسم لفظ، وهو عرض، والمسمى قد يكون ذاتاً ممكنة، أو واجبة بذاتها. وأيضاً فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى، لوجد اللافظ بذلك حر النار، أو برد الثلج، ونحو ذلك، ولا يقوله عاقل. وأيضاً فقد قال الله تعالى**{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا }** الأعراف 180 وقال النبي صلى الله عليه وسلم **" إن لله تسعة وتسعين اسماً "** فهذه أسماء كثيرة، والمسمى واحد، وهو الله تعالى. وأيضاً فقوله**{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ }** الأعراف 180 أضافها إليه كما قال**{ فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ }** الواقعة 74 ونحو ذلك، فالإضافة تقتضي المغايرة. وقوله تعالى**{ فَٱدْعُوهُ بِهَا }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الأعراف 180 أي فادعوا الله بأسمائه، وذلك دليل على أنها غيره. واحتج من قال الاسم هو المسمى، بقوله تعالى**{ تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ }** الرحمن 78 والمتبارك هو الله تعالى. والجواب أن الاسم معظم لتعظيم الذات المقدسة. وأيضاً فإذا قال الرجل زينب طالق، يعني امرأته، طلقت، ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق. والجواب أن المراد أن الذات المسماة بهذا الاسم طالق. قال الرازي وأما التسمية فإنه جعل الاسم معيناً لهذه الذات، فهي غير الاسم أيضاً والله أعلم. الله علم على الرب تبارك وتعالى، يقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى**{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلَـٰمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَـٰلِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ لَهُ ٱلأَسمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }** الحشر 22 ـ 24 فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له، كما قال تعالى**{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا }** الأعراف 180 وقال تعالى**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ }** الإسراء 110 وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة "** وجاء تعدادها في رواية الترمذي وابن ماجه، وبين الروايتين اختلاف زيادة ونقصان، وقد ذكر الرازي في تفسيره عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم ألف في الكتاب والسنة الصحيحة، وألف في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور، وألف في اللوح المحفوظ. وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى، ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من فعل يفعل، فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له، وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيره، وروي عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة، قال الخطابي ألا ترى أنك تقول ياألله، ولا تقول يا الرحمن، فلولا أنه من أصل الكلمة، لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام. وقيل إنه مشتق، واستدلوا عليه بقول رؤبة بن العجاج | **لِلّهِ دَرُّ الغانِياتِ المدَّهِ سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهي** | | | | --- | --- | --- | فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر، وهو التأله، من أله يأله إلاهة وتألهاً كما روي عن ابن عباس أنه قرأ ويذرك وإلاهتك قال عبادتك، أي أنه كان يُعبد ولا يَعبد. وكذا قال مجاهد وغيره. وقد استدل بعضهم على كونه مشتقاً بقوله تعالى**{ وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَفِى ٱلأَرْضِ }** الأنعام 3 كما قال تعالى**{ وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِى ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ }** الزخرف 84 ونقل سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال سيبويه مثل الناس، أصله أناس. وقيل أصل الكلمة لاه، فدخلت الألف واللام للتعظيم وهذا اختيار سيبويه. قال الشاعر | **لاهِ ابنُ عَمكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ عَني ولا أنتَ دَيَّانِي فَتَخُزُونِي** | | | | --- | --- | --- | قال القرطبي بالخاء المعجمة أي فتسوسني، وقال الكسائي والفراء أصله الإله، حذفوا الهمزة، وأدغموا اللام الأولى في الثانية كما قال تعالى**{ لَّكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّى }** الكهف 38 أي لكن أنا، وقد قرأها كذلك الحسن، قال القرطبي ثم قيل هو مشتق من وله إذا تحير، والوله ذهاب العقل. يقال رجل واله، وامرأة ولهى ومولوهة، إذا أرسل في الصحراء، فالله تعالى يحير أولئك، في الفكر في حقائق صفاته، فعلى هذا يكون ولاه، فأبدلت الواو همزة كما قالوا في وشاح إِشاح، ووسادة إِسادة. وقال الرازي وقيل إنه مشتق من ألهت إلى فلان، أي سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال الله تعالى**{ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ }** الرعد 28 قال وقيل من لاه يلوه إذا احتجب. وقيل اشتقاقه من أله الفصيل أولع بأمه. والمعنى أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال، قال وقيل مشتق من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به، فألهه، أي أجاره، فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه لقوله تعالى**{ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ }** المؤمنون 88 وهو المنعم لقوله تعالى**{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ }** النحل 53 وهو المطعم لقوله تعالى**{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ }** الأنعام 14 وهو الموجد لقوله تعالى**{ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ }** النساء 78 وقد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق ألبتة، قال وهو قول الخليل وسيبويه، وأكثر الأصوليين والفقهاء، ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه منها أنه لو كان مشتقاً لاشترك في معناه كثيرون، ومنها أن بقية الأسماء تذكر صفات له، فتقول الله الرحمن الرحيم الملك القدوس، فدل أنه ليس بمشتق. قال فأما قوله تعالى**{ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ }** إبراهيم 1 على قراءة الجر، فجعل ذلك من باب عطف البيان، ومنها قوله تعالى**{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }** مريم 65 وفي الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامداً غير مشتق نظر والله أعلم. وحكى الرازي عن بعضهم أن اسم الله تعالى عبراني لا عربي، ثم ضعفه، وهو حقيق بالتضعيف كما قال، وقد حكى الرازي هذا القول، ثم قال واعلم أن الخلائق قسمان واصلون إلى ساحل بحر المعرفة، ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة، فكأنهم قد فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون، فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال، فتاهوا في ميادين الصمدية، وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلائق كلهم والهون في معرفته، وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال لأن الخلق يألهون إليه، بفتح اللام وكسرها، لغتان. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع لاها، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس لاهت. وقيل إنه مشتق من أله الرجل إذا تعبد، وتأله إذا تنسك، وقرأ ابن عباس ويذرك وإلاهتك وأصل ذلك الإله، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أولها للتعريف، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا في اللفظ لاماً واحدة مشددة، وفخمت تعظيماً، فقيل الله. الرحمن الرحيم اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا، وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك كما تقدم في الأثر عن عيسى عليه السلام أنه قال والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة، وزعم بعضهم أنه غير مشتق، إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم، وقد قال**{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }** الأحزاب 43. وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد أن الرحمن اسم عبراني ليس بعربي. وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن وقال أحمد بن يحيى الرحيم عربي، والرحمن عبراني فلهذا جمع بينهما. قال أبو إسحاق وهذا القول مرغوب عنه. وقال القرطبي والدليل على أنه مشتق ما خرّجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول **" قال الله تعالى أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته "** قال وهذا نص في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، قال وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله، وبما وجب له، قال القرطبي ثم قيل هما بمعنى واحد كندمان ونديم، قاله أبو عبيد، وقيل ليس بناء فعلان كفعيل فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك رجل غضبان للرجل الممتلىء غضباً، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو علي الفارسي الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى**{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }** الأحزاب 43 وقال ابن عباس هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة، ثم حكي عن الخطابي وغيره أنهم استشكلوا هذه الصفة، وقالوا لعله أرفق كما في الحديث **" إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، وإنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف "** وقال ابن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" من لم يسأل الله يغضب عليه "** وقال بعض الشعراء | **اللّهُ يغضبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤالَهُ وبنيّ آدمَ حينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ** | | | | --- | --- | --- | وقال ابن جرير حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العزرمي يقول { الرحمن الرحيم } قال الرحمن لجميع الخلق، الرحيم قال بالمؤمنين، قالوا ولهذا قال**{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ }** الفرقان 59 وقال**{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ }** طه 5 فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته، وقال**{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }** الأحزاب 43 فخصهم باسمه الرحيم. قالوا فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسم به غيره كما قال تعالى**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ }** الإسراء 110 وقال تعالى**{ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ }** الزخرف 45 ولما تجهرم مسيلمة الكذاب، وتسمى برحمن اليمامة، كساه الله جلباب الكذب، وشهر به، فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب، فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب. وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكدّ به، والمؤكد لا يكون إلا أقوى من المؤكَّد، والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد، وإنما هو من باب النعت، ولا يلزم فيه ما ذكروه، وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره ووصفه أولاً بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره كما قال تعالى**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ }** الإسراء 110 وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به، ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة. وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره، قال**{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }** التوبة 128 كما وصف غيره بذلك من أسمائه كما قال تعالى**{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً }** الإنسان 2 والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم الله والرحمن والخالق والرازق، ونحو ذلك، فلهذا بدأ باسم الله، ووصفه بالرحمن لأنه أخص وأعرف من الرحيم، لأن التسمية أولاً إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص. فإن قيل فإذا كان الرحمن أشد مبالغة، فهلا اكتفى به عن الرحيم، فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن، جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى، كذا رواه ابن جرير عن عطاء، ووجهه بذلك والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ }** الإسراء 110. ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي **" اكتب { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } "** فقالوا لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري وفي بعض الروايات لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. وقال تعالى**{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً }** الفرقان 60 والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن، قال ابن جرير وقد أنشد بعض الجاهلية الجهال | **ألا ضربَتْ تلك الفتاةُ هجينَها ألا قَضَبَ الرَّحْمٰنُ رَبي يَمِيْنَها** | | | | --- | --- | --- | وقال سلامة بن جندب الطهوي | **عَجِلْتُمْ عَلَيْنا إِذْ عَجِلْنا عَلَيْكُمُ وما يَشَإِ الرَّحْمٰنْ يُعْقَدْ ويُطْلَقِ** | | | | --- | --- | --- | وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال الرحمن الفعلان، من الرحمة، هو من كلام العرب. وقال { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } الرفيق الرقيق لمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها. وقال ابن جرير أيضاً حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال الرحمن اسم ممنوع. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، تسمى به تبارك وتعالى. وقد جاء في حديث أم سلمة **" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته حرفاً حرفاً { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } "** فقرأ بعضهم كذلك، وهم طائفة، ومنهم من وصلها بقوله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }. وكسرت الميم لالتقاء الساكنين، وهم الجمهور، وحكى الكسائي من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة، فيقولون { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـٰنِ الَّرحِيْمَ الحَمْدُ لِلَّهِ رب العَالَمِينَ } فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها، كما قُرىء قول الله تعالى**{ الۤمۤ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُو }** آل عمران 1 ـ 2 قال ابن عطية ولم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
اختلف أهل العلم هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في أولها، أو هي كذلك في الفاتحة فقط دون غيرها، أو أنها ليست بآية في الجميع وإنما كتبت للفصل؟ والأقوال وأدلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك. وقد اتفقوا على أنها بعض آية في سورة النمل. وقد جزم قرّاء مكة، والكوفة بأنها آية من الفاتحة ومن كل سورة. وخالفهم قّراء المدينة، والبصرة، والشام، فلم يجعلوها آية لا من الفاتحة ولا من غيرها من السور، قالوا وإنما كتبت للفصل والتبرّك. وقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه { بسم الله الرحمٰن الرحيم }. وأخرجه الحاكم في المستدرك. وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن أم سلمة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وغيرها آية». وفي إسناده عمرو بن هارون البلخي، وفيه ضعف، وروى نحوه الدارقطني مرفوعاً عن أبي هريرة. وكما وقع الخلاف في إثباتها وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة. وقد أخرج النسائي في سننه، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة «أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم»، وصححه الدارقطني، والخطيب، والبيهقي، وغيرهم. وروى أبو داود، والترمذي عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بـ { بسم الله الرحمن الرحيم } قال الترمذي وليس إسناده بذلك. وقد أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس بلفظ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بـ { بسم الله الرحمٰن الرحيم } ، ثم قال صحيح. وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كانت قراءتُه مدّاً، ثم قرأ { بسم الله الرحمٰن الرحيم } يمدّ بسم الله، ويمدّ الرحمٰن، ويمدّ الرحيِّم. وأخرج أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه عن أم سلمة أنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته { بسم الله الرحمٰن الرحيِّم الحمد لله ربّ العالمين. الرحمٰن الرحيِّم. مالك يوم الدين } وقال الدارقطني إسناده صحيح. واحتجّ من قال بأنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة بما في صحيح مسلم عن عائشة قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ { الحمد لله ربّ العالمين }. وفي الصحيحين عن أنس قال «صليت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ { الحمد لله ربّ العالمين }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولمسلم لا يذكرون { بسم الله الرحمن الرحيم } في أول قراءة، ولا في آخرها. وأخرج أهل السنن نحوه عن عبد الله بن مُغَفّل. وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة، وجماعة من الصحابة. وأحاديث الترك، وإن كانت أصح، ولكن الإثبات أرجح مع كونه خارجاً من مخرج صحيح، فالأخذ به أولى، ولا سيما مع إمكان تأويل الترك، وهذا يقتضي الإثبات الذاتي، أعني كونها قرآناً والوصفي أعني الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة. ولتنقيح البحث، والكلام على أطرافه استدلالاً، وردّاً، وتعقُّباً، ودفعاً، ورواية، ودراية موضعٌ غير هذا. ومتعلق " الباء " محذوف، وهو أقرأ، أو أتلو لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له، فمن قَدَّره متقدماً كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل، ومن قدره متأخراً كان غرضه الدلالة بتأخيره على الاختصاص، مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم، والإشارة إلى أن البداية به أهمّ، لكون التبرّك حصل به، وبهذا يظهر رجحان تقدير الفعل متأخراً في مثل هذا المقام، ولا يعارضه قوله تعالى**{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ }** العلق 1 لأن ذلك المقام مقام القراءة، فكان الأمر بها أهمّ، وأما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسماً أو فعلاً فلا يتعلق بذلك كثير فائدة. و " الباء " للاستعانة أو للمصاحبة، ورجح الثاني الزمخشري. واسم أصله سمو، حذفت لامه، ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في أوّله الهمزة إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن، وهو اللفظ الدَّالُّ على المسمَّى ومن زعم أن الاسم هو المسمى كما قاله أبو عبيدة، وسيبويه، والباقلاني، وابن فورك، وحكاه الرازي عن الحشوية والكَّرامية والأشعرية، فقد غلط غلطاً بيَّناً، وجاء بما لا يعقل، مع عدم ورود ما يوجب المخالفة للعقل لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من لغة العرب، بل العلم الضروري حاصل بأن الاسم الذي هو أصوات مقطعة، وحروف مؤلفة، غير المسمى الذي هو مدلوله، والبحث مبسوط في علم الكلام. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة **" إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة "** ، وقال الله عزّ وجلّ**{ وَللَّهِ ٱلاسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا }** الأعراف 180 وقال تعالى**{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَى }** الإسراء 110 فله الأسماء الحسنى ــ. والله علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره، وأصله إله حذفت الهمزة، وعُوّضت عنها أداة التعريف، فلزمت. وكان قبل الحذف من أسماء الأجناس، يقع على كل معبود بحق، أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كالنجم، والصعق، فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة، وبعده من الأعلام المختصة. { والرحمٰن الرحيم } اسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة، ورحمٰن أشد مبالغة من رحيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا، ولذلك قالوا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا. وقد تقررّ أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى. وقال ابن الأنباري، والزجّاج إن الرحمٰن عَبْرَاني، والرحيِّم عربي. وخالفهما غيرهما. والرحمٰن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير الله عزّ وجل. وأما قول بني حنيفة في مسيلمة رحمٰن اليمامة، فقال في الكشاف إنه باب من تعنتهم في كفرهم. قال أبو عليّ الفارسيّ الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين، قال الله تعالى**{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }** الأحزاب 43 وقد ورد في فضلها أحاديث. منها ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وابن خزيمة في كتاب البسملة والبيهقي عن ابن عباس، قال استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن { بسم الله الرحمٰن الرحيم }. وأخرج نحوه أبو عبيد، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضاً. وأخرج الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" كان جبريلُ إذا جاءني بالوحي أوّلُ ما يلقي عليّ { بسم الله الرحمٰن الرحيم } ".** وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره، والحاكم في المستدرك، وصححه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أن عثمان بن عفان سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن { بسم الله الرحمٰن الرحيم } ، فقال **" هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين، وبياضها من القرب ".** وأخرج ابن جرير وابن عديّ في الكامل، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخ دمشق، والثعلبي بسند ضعيف جداً عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" إن عيسى ابن مريم أسلمته أمُّهُ إلى الكتاب لتعلِّمه، فقال له المعلم اكتب { بسم الله الرحمٰن الرحيم } ، فقال له عيسى وما بسم الله الرحمٰن الرحيم؟ قال المعلم لا أدري، فقال له عيسى الباء بهاء الله، والسين سناه، والميم مملكته، والله إله الآلهة، والرحمٰن رحمٰن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة "** وفي إسناده إسماعيل بن يحيـى، وهو كذاب. وقد أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات. وأخرج ابن مردويه والثعلبي عن جابر قال لما نزلت { بسم الله الرحمٰن الرحيم } هرب الغَيْمُ إلى المشرق، وسكنت الريحُ، وهاج البحرُ، وأصغت البهائمُ بآذانها، ورُجِمَت الشياطينُ من السماء، وحلفَ اللهُ بعزته وجلاله ألا تُسَمَّى على شيء إلا بارك فيه. وأخرج أبو نعيم، والديلمي عن عائشة قالت لما نزلت { بسم الله الرحمٰن الرحيم } ضجت الجبال حتى سمع أهل مكة دويَّها فقالوا سَحَرَ محمد الجبالَ، فبعث الله دخاناً حتى أظل على أهل مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" من قرأ { بسم الله الرحمٰن الرحيم } موقناً سبَّحت معه الجبالُ إلا أنه لا يُسْمَع ذلك منها "** وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" من قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } كتب الله له بكل حرف أربعة آلاف حسنة، ومحا عنه أربعة آلاف سيئة، ورفع له أربعة آلاف درجة "** وأخرج الخطيب في الجامع عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" { بسم الله الرحمن الرحيم } مفتاح كل كتاب "** وهذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها، والكلام عنها بما يتبين بعد البحث إن شاء الله. وقد شرعت التسمية في مواطن كثيرة، قد بينها الشارع منها عند الوضوء، وعند الذبيحة، وعند الأكل، وعند الجماع وغير ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) قوله عز وجل: { بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } أجمعوا أنها من القرآن في سورة النمل، وإنما اختلفوا في إثباتها في فاتحة الكتاب، وفي أول كل سورة، فأثبتها الشافعي في طائفة، ونفاها أبو حنيفة في آخرين. واختُلِفَ في قوله: { بِسْمِ }: فذهب أبو عبيدة وطائفة إلى أنها صلة زائدة، وإنما هو اللهُ الرحمنُ الرحيمُ، واستشهدوا بقول لبيد: | **إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُما** | | **وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَدِ اعْتَذَرْ** | | --- | --- | --- | فذكر اسم السلام زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما. واختلف من قال بهذا في معنى زيادته على قولين: أحدهما: لإجلال ذكره وتعظيمه، ليقع الفرق به بين ذكره وذكر غيره من المخلوقين، وهذا قول قطرب. والثاني: ليخرج به من حكم القسم إلى قصد التبرُّك، وهذا قول الأخفش. وذهب الجمهور إلى أن " بسم " أصل مقصود، واختلفوا في معنى دخول الباء عليه، ـ فهل دخلت على معنى الأمر أو على معنى الخبر ـ على قولين: أحدهما: دخلت على معنى الأمر وتقديره: ابدؤوا بسم الله الرحمن الرحيم وهذا قول الفراء. والثاني: على معنى الإخبار وتقديره: بدأت بسم الله الرحمن الرحيم وهذا قولُ الزجَّاج. وحُذِفت ألف الوصل، بالإلصاق في اللفظ والخط، لكثرة الاستعمال كما حُذفت من الرحمن، ولم تحذف من الخط في قوله:**{ إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذَّي خَلَقَ }** [العلق: آية1] لقلَّة استعماله. الاسم: كلمة تدل على المسمى دلالة إشارةٍ، والصفة كلمة تدل على الموصُوف دلالة إفادة، فإن جعلت الصفة اسماً، دلَّت على الأمرين: على الإشارة والإفادة. وزعم قوم أن الاسم ذاتُ المسمى، واللفظ هو التسمية دون الاسم، وهذا فاسد، لأنه لو كان أسماءُ الذواتِ هي الذواتُ، لكان أسماءُ الأفعال هي الأفعال، وهذا ممتنع في الأفعال فامتنع في الذوات. واختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين: أحدهما: أنه مشتق من السمة، وهي العلامة، لما في الاسم من تمييز المسمى، وهذا قول الفرَّاء. والثاني: أنه مشتق من السمو، وهي الرفعة لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه من غيره، وهذا قول الخليل والزجَّاج. وأنشد قول عمرو بن معدي كرب: | **إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْراً فَدَعْهُ** | | **وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ** | | --- | --- | --- | | **وَصِلْهُ بِالدُّعَاءِ فَكُلُّ أَمْرٍ** | | **سَمَا لَكَ أَوْ سَمَوْتَ لَهُ وُلُوعُ** | وتكلف من رَاعَى معاني الحروف ببسم الله تأويلاً، أجرى عليه أحكام الحروف المعنوية، حتى صار مقصوداً عند ذكر الله في كل تسمية، ولهم فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الباء بهاؤه وبركته، وبره وبصيرته، والسين سناؤه وسموُّه وسيادته، والميم مجده ومملكته ومَنُّه، وهذا قول الكلبي. والثاني: أن الباء بريء من الأولاد، والسين سميع الأصوات والميم مجيب الدعوات، وهذا قول سليمان بن يسار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | والثالث: أن الباء بارئ الخلق، والسين ساتر العيوب، والميم المنان، وهذا قول أبي روق. ولو أن هذا الاستنباط يحكي عمَّن يُقْتدى به في علم التفسير لرغب عن ذكره، لخروجه عما اختص الله تعالى به من أسمائه، لكن قاله متبوع فذكرتُهُ مَعَ بُعْدِهِ حاكياً، لا محققاً ليكون الكتاب جامعاً لما قيل. ويقال لمن قال " بسم الله " بَسْمَلَ على لُغَةٍ مُوَلَّدَةٍ، وقد جاءت في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة: | **لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلَى غَدَاةَ لَقِيتُهَا** | | **فَيَا حَبَّذا ذَاكَ الْحَبِيبُ المُبَسْمِلُ** | | --- | --- | --- | فأما قوله: " الله " ، فهو أخص أسمائه به، لأنه لم يتسَمَّ باسمه الذي هو " الله " غيره. والتأويل الثاني: أن معناه هل تعلم له شبيهاً، وهذا أعمُّ التأويلين، لأنه يتناول الاسم والفعل. وحُكي عن أبي حنيفة أنه الاسم الأعظم من أسمائه تعالى، لأن غيره لا يشاركه فيه. واختلفوا في هذا الاسم هل هو اسم عَلَمٍ للذات أو اسم مُشْتَقٌّ من صفةٍ، على قولين: أحدهما: أنه اسم علم لذاته، غير مشتق من صفاته، لأن أسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات، فلم يكن بُدٌّ من أن يختص باسم ذاتٍ، يكون علماً لتكون أسماء الصفات والنعوت تبعاً. والقول الثاني: أنه مشتق من أَلَهَ، صار باشتقاقه عند حذف همزِهِ، وتفخيم لفظه الله. واختلفوا فيما اشْتُقَ منه إله على قولين: أحدهما: أنه مشتق من الَولَه، لأن العباد يألهون إليه، أي يفزعون إليه في أمورهم، فقيل للمألوه إليه إله، كما قيل للمؤتمِّ به إمام. والقول الثاني: أنه مشتق من الألوهية، وهي العبادة، من قولهم فلان يتألَّه، أي يتعبد، قال رؤبةُ بن العجاج: | **لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ المُدَّهِ** | | **لَمَّا رَأَيْنَ خَلِقَ الْمُمَوَّهِ** | | --- | --- | --- | | **سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألهِي** | | | أي من تعبد، وقد رُوي عن ابن عباس أنه قرأ: { وَيَذَرَكَ وءالِهَتَكَ } أي وعبادتك. ثم اختلفوا، هل اشتق اسم الإله من فعل العبادة، أو من استحقاقها، على قولين: أحدهما: أنه مشتق من فعل العبادة، فعلى هذا، لا يكون ذلك صفة لازمة قديمة لذاته، لحدوث عبادته بعد خلق خلقه، ومن قال بهذا، منع من أن يكون الله تعالى إلهاً لم يزل، لأنه قد كان قبل خلقه غير معبود. والقول الثاني: أنه مشتق من استحقاق العبادة، فعلى هذا يكون ذلك صفة لازمة لذاته، لأنه لم يزل مستحقّاً للعبادة، فلم يزل إلهاً، وهذا أصح القولين، لأنه لو كان مشتقّاً من فعل العبادة لا من استحقاقها، للزم تسمية عيسى عليه السلام إلهاً، لعبادة النصارى له، وتسمية الأصنام آلهة، لعبادة أهلها لها، وفي بطلان هذا دليل، على اشتقاقه من استحقاق العبادة، لا من فعلها، فصار قولنا " إله " على هذا القول صفة من صفات الذات، وعلى القول الأول من صفات الفعل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وأما " الرحمن الرحيم " ، فهما اسمان من أسماء الله تعالى، والرحيم فيها اسم مشتق من صفته. وأما الرحمن ففيه قولان: أحدهما: أنه اسم عبراني معرب، وليس بعربي، كالفسطاط رومي معرب، والإستبرق فارسي معرب، لأن قريشاً وهم فَطَنَةُ العرب وفُصَحَاؤهم، لم يعرفوهُ حتى ذكر لهم، وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم:**{ ... وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً }** [الفرقان: 60]، وهذا قول ثعلب واستشهد بقول جرير: | **أو تتركون إلى القسّين هجرتكم** | | **ومسحكم صلبهم رحمن قربانا** | | --- | --- | --- | قال: ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم، ليزول الالتباس، فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم الرحيم على الرحمن لعربيته، لكن قدَّم الرحمن لمبالغته. والقول الثاني: أن الرحمن اسم عربي كالرحيم لامتزاج حروفهما، وقد ظهر ذلك في كلام العرب، وجاءت به أشعارهم، قال الشنفري: | **أَلاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا** | | **أَلاَ ضَرَبَ الرًّحْمنُ رَبِّي يَمِينَهَا** | | --- | --- | --- | فإذا كانا اسمين عربيين فهما مشتقان من الرحمة، والرحمة هي النعمة على المحتاج، قال الله تعالى:**{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }** [الأنبياء: 107]، يعني نعمةً عليهم، وإنما سميت النعمةُ رحمةً لحدوثها عن الرحمة. والرحمن أشدُّ مبالغةً من الرحيم، لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه، والرحيم لا يتعدى لفظه، وإنما يتعدى معناه، ولذلك سمي قوم بالرحيم، ولم يتَسَمَّ أحدٌ بالرحمن، وكانت الجاهليةُ تُسمِّي اللهَ تعالى به وعليه بيت الشنفرى، ثم إن مسيلمة الكذاب تسمَّى بالرحمن، واقتطعه من أسماء الله تعالى، قال عطاء: فلذلك قرنه الله تعالى بالرحيم، لأن أحداً لم يتسمَّ بالرحمن الرحيم ليفصل اسمه عن اسم غيره، فيكون الفرق في المبالغة، وفرَّق أبو عبيدة بينهما، فقال بأن الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم. واختلفوا في اشتقاق الرحمن والرحيم على قولين: أحدهما: أنهما مشتقان من رحمة واحدةٍ، جُعِل لفظ الرحمن أشدَّ مبالغة من الرحيم. والقول الثاني: أنهما مشتقان من رحمتين، والرحمة التي اشتق منها الرحمن، غير الرحمة التي اشتق منها الرحيم، ليصح امتياز الاسمين، وتغاير الصفتين، ومن قال بهذا القول اختلفوا في الرحمتين على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرحمن مشتق من رحمة الله لجميع خلقه، والرحيم مشتق من رحمة الله لأهل طاعته. والقول الثاني: أن الرحمن مشتق من رحمة الله تعالى لأهل الدنيا والآخرة، والرحيم مشتق من رحمتِهِ لأهل الدنيا دُون الآخرة. والقول الثالث: أن الرحمن مشتق من الرحمة التي يختص الله تعالى بها دون عباده، والرحيم مشتق من الرحمة التي يوجد في العباد مثلُها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ ٱلْفَاتِحَةِ
Meccan
بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ بسمِ اللَّهِ } أبدأ بسم الله، أو بدأت بسم الله، الاسم صلة، أو ليس بصلة عند الجمهور، واشتق من السمة، وهي العلامة، أو من السمو. (الله) أخص أسماء الرب لم يتسم به غيره**{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }** [مريم: 65] تسمى باسمه، أو شبيهاً. أبو حنيفة: " هو الاسم الأعظم " وهو علم إذ لا بد للذات من اسم علم يتبعه أسماء الصفات، أو هو مشتق من الوله لأنه يأله إليه العباد: أي يفزعون إليه في أمورهم، فالمألوه إليه إله، كما أن المأموم [به] إمام أو اشتق من التأله وهو التعبد, تأله فلان: تعبد، واشتق من فعل العبادة فلا يتصف به في الأزل، أو من استحقاقها على الأصح فيتصف به أزلاً { الرَّحْمَن الرَّحِيمِ } الرحمن والرحيم الراحم، أو الرحمن أبلغ، وكانت الجاهلية تصرفه للرب سبحانه وتعالى، الشنفري: | **إلا ضربت تلك الفتاة هجينها** | | **ألا هدر الرحمن ربي يمينها** | | --- | --- | --- | ولما سُمي مسيلمة بالرحمن قُرِن لله تعالى الرحمن الرحيم، لأن أحداً لم يتسم بهما،، واشتقا من رحمة واحدة، أو الرحمن من رحمته لجميع الخلق، والرحيم من رحمته لأهل طاعته، أو الرحمن من رحمته لأهل الدنيا، والرحيم من رحمته لأهل [الآخرة]، أو الرحمن من الرحمة التي يختص بها، والرحيم من الرحمة التي يوجد في العباد مثلها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |